قضيّة الفقه الجديد


فئة :  قراءات في كتب

قضيّة الفقه الجديد

"قضيّة الفقه الجديد" للكاتب المصري جمال البنّا صدرت طبعته الأولى عن دار الشّروق (القاهرة) عام 2009، وهو أحد مؤلّفات هذا الكاتب التي فاقت المئة كتاب. ويلتقي هذا الكتاب "قضيّة الفقه الجديد" مع كثير من كتبه الأخرى في محور الدّعوة إلى التجديد والتنوير على غرار كتاب "الأصلان العظيمان: الكتاب والسنّة (رؤية جديدة)، الصادر عام 1982، وكتاب "نحو فقه جديد... الجزء الأوّل: منطلقات ومفاهيم... فهم الخطاب القرآني" (1996)، وكتاب "نحو فقه جديد...الجزء الثاني: السنة ودورها في الفقه الجديد" (1997)، وكتاب "نحو فقه جديد... الجزء الثالث: منطلقات ومفاهيم أصول الشريعة (1999)، وكتاب "تثوير القرآن" (2001).

ويمتدّ هذا الكتاب على 190 صفحة، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء يضمّ كلّ منها بابين. وكلّ باب، إمّا يقوم على ثلاثة فصول، وإمّا على أربعة فصول.

يتكوّن الباب الأوّل من الجزء الأوّل، وهو باب موسوم بـ"منطلقات ومفاهيم" من أربعة فصول:

الفصل 1: البراءة الأصليّة ودائرة الحلال والحرام

الفصل 2: التمييز بين العقيدة والشريعة والفقه

الفصل 3: النشأة التاريخية لنشوء وتطوّر فقه العبادات

الفصل 4: الاجتهاد هذا المعلوم المجهول

ومن المهمّ أن نشير إلى أنّ موضوع هذا الكتاب شغل ذهن صاحبه حسب اعترافه في مقدّمة الكتاب، منذ أن ضمّن كتابه "ديمقراطية جديدة" (1946) فصلاً بعنوان "فهم جديد للدين" درس فيه فكرة المصلحة عند نجم الدّين الطوفي. وظلّ موضوع تجديد الفقه هاجسا يشغل الكاتب إلى أن ألّف بين 1995 و1999 كتاباً في ثلاثة أجزاء بعنوان "نحو فقه جديد". ولمّا كان حجم هذا الكتاب كبيرا يبلغ قرابة 700 صفحة، ارتأى صاحبه أن يلخّصه في هذا الكتاب "قضيّة الفقه الجديد"، وأن ينشره للمرّة الأولى خلال 1422هـ/2001م.

يضمّ الباب الأوّل مقدّمة وبابين رئيسين، وقد تطرّقت المقدّمة إلى أهمّية إعادة النظر في أصول الفقه التي وضعت منذ أكثر من ألف عام. وفي الفصل الأوّل، اعتبر الكاتب أنّ عبارة "البراءة الأصليّة" من أثمن العبارات في الفكر الإسلامي؛ فأهمّيتها لا تقتصر على جانب الحلال والحرام، بل تمتدّ إلى التعبير عن فهم الإسلام للإنسان والطبيعة البشريّة. وطبقا لها، فالإنسان بريء أصلا إلاّ أنّه يمكن أن ينزلق إلى الخطإ، إذا تهيّأت دواعي ذلك والدّليل على ذلك قصّة آدم الذي عاش في البراءة الأصليّة، حتّى خدعه الشيطان فغوى ولكن أدرك خطأه فتاب. وممّا تولّد عن مبدإ البراءة الأصليّة اعتبار أنّ الأصل في الأشياء الإباحة، وأن يكون الاستثناء من هذا بدليل ثابت لا يرقى إليه الشكّ.

وبناء على هذا، يميّز جمال البنّا بين مستويين من التحريم:

1) التحريم المنزل فيه قرآن صريح غير قابل للتأويل أو الذي قرّرته سنّة مؤكّدة لا شائبة لضعف فيها (ص16).

2) تحريم أدنى من التحريم السابق منزلة، يتمثّل في ما توصّل إليه الأئمّة والفقهاء والمجتهدون من أحكام وتحريم قياسا على القرآن والسنّة.

لئن كان المستوى الأوّل من التحريم ثابتا، فإنّ المستوى الثاني متحرّك متغيّر بتغير المكان والزمان والظروف؛ لذلك، فإنّ التسوية بين المستويين يعدّ نوعا من الشرك حسب الباحث اعتمادا على الآية "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" (التوبة 31). وهذا الموقف فيه بعض التعسّف في نظرنا، لأنّ اجتهادات الفقهاء والمفسّرين يظلّ لها اعتبارها لكن من الضروري تنسيبها وفهم خلفيّات نشأتها. أمّا الآية التي عضد بها الكاتب رأيه، فهي تتعلّق في أسباب النزول بغير المسلمين؛ لذلك، ففي اعتمادها في سياق الحديث عن فقهاء الإسلام بعض الإسقاط الذي قد لا يستقيم.

وقد بيّن الكاتب ظاهرة تهميش الفقهاء لمبدإ البراءة الأصلية، رغم أنّه أكثر شمولا من نظريّة "الحقوق الطبيعيّة" ومن الأصل القانوني "لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنصّ". والسبب في ذلك في نظره طغيان المنهج الفقهي؛ فقد "كان يمكن للبراءة الأصلية أن تقوم بدور كبير في الفقه الإسلامي لو أحلّها الفقهاء محلّها، وهم يضعون أطر الحلال والحرام. ولكن مسلكهم كاد يعكس القضيّة، وأصبح على المسلم أن يتريّث أوّلا قبل أن يفعل أيّ شيء ليعلم هل هو حرام أم حلال (ص 17).

إنّ هذا الموقف تبرّره خشية الفقيه من تقليص مبدإ البراءة الأصليّة لدوره خاصّة بعد أن صاغ الشافعي الموقف النظري الذي اعتبر أنّ كلّ فعل بشري فيه حكم لازم يتعيّن معرفته والوصول إليه.

وبناء على هذا، ذهب جمال البنّا إلى "أن اعتبار البراءة الأصليّة" أصلا من أصول الفقه الإسلامي، يمكن أن يغيّر الصّورة السائدة تماما، حيث يعدّ كلّ شيء حلالا ومباحا ما لم يصدر بشأنه تحريم" (ص18).

كما يستخلص الكاتب أنّ محاولات الفقهاء إدخال تصنيفات ما بين الحلال والحرام محلّ "العفو" الذي أكّدته السنّة النبويّة، هو مما يدخل في باب الصناعة الفقهية ورغبة المشرّع في الإحاطة بكلّ تصرّفات الأفراد، وهو ما رفضه الرسول وآثر أن يدع النّاس (في ما أحلّه الله أو حرّمه في كتابه) إلى ضمائرهم وإلى خالقهم.

في الفصل الثاني، ركّز الكاتب على مسألة مهمّة في نظره هي التمييز بين العقيدة والشريعة والفقه، وأشار في هذا الصّدد إلى موقف الشيخ الأزهري محمود شلتوت الذي قرّر أنّ العقيدة هي الأصل، وأنّ الشريعة فرع. وكتب في هذا الشّأن كتابه المعروف "الإسلام عقيدة وشريعة". وقد انتقد فيه التعريف المشهور لمقاصد الشريعة، وأنّها تضمّ أوّلا حفظ الدّين ذلك أنّ هذا المقصد لا يدخل في نظره في الشريعة، ولكن في العقيدة لأنّ الشريعة لا تستطيع بالقوانين أو أجهزة الدولة أن تحفظ الدّين، وإنّما يحفظه إيمان النّاس. كما انتقد شلتوت في كتابه المذكور إخراج الفقهاء كلّ ما يخصّ العقيدة من إطار الفقه ووضعها في علم الكلام، لأنّ الإيمان بالله هو مركز العقيدة، وإقصاؤه من إطار الشريعة إلى علم الكلام يجرّد عقيدة معظم الناس من عمق الإيمان بالله.

وبناء على هذا، اقترح البنّا في الفصل الثاني:

1- ضمّ علم التوحيد والكلام إلى الفقه وإقامته على المنهج القرآني لا على منهج المنطق اليوناني ووضعه تحت اسم "فقه العقيدة".

2- استبعاد موضوع الإمامة من كتب الكلام والتوحيد وضمّه إلى الشريعة.

3- استبعاد كلّ ما يتعلّق بالعبادات من الشريعة وضمّه إلى العقيدة، وهكذا تقتصر الشريعة على المجالات الدنيوية وعلاقاتها الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية، ويطلق عليها فقه الشريعة.

4- اعتبار العمل مكوّنا من مكوّنات الإسلام لا يقلّ عن العقيدة والشريعة، لأنّه إلى حد ما تطبيق لها.

وفي الفصل الثالث الموسوم بـ"النشأة التاريخية لظهور وتضخّم العبادات"، نظر الكاتب في عوامل تضخّم فقه العبادات وتطرّق إلى العبادات في زمن الرسول، وما اتّصفت به من بساطة تغيّرت بعد وفاته وتحوّل الخلافة إلى ملك مستبد. ففي تلك العهود ساهم الفقهاء في مقاومة استبداد السلطة السياسيّة لكنّهم هزموا فلم يكن أمامهم من ملجإ سوى التشبّث بالعبادات. وهكذا تضخّم فقه العبادات.

وفي الفصل الرابع "الاجتهاد هذا المعلوم المجهول"، لاحظ الكاتب أنّ باب الاجتهاد لم يغلق بأمر سلطاني ولكنّه انغلق بسبب حالة البلبلة والاختلاف بين الفقهاء في المسألة الواحدة وفي البلد الواحد؛ لذلك كان الحلّ إغلاق باب الاجتهاد كلّه والاقتصار على عدد محدود من المذاهب أثبتت كفايتها.

واعتبر الكاتب أنّ الصّورة القديمة للاجتهاد التي كانت تتيح للمجتهد أن يسلّط اجتهاده على كلّ المسائل، فقدت معناها بعد التوسّع الكبير لمجالات الاجتهاد الدنيوية والدينية. كما انتقد مبدأ "لا اجتهاد مع النص" معتبرا أنّ أكبر مجال للاجتهاد – بالمعنى العام- هو النصّ. وبيّن أنّه، رغم كثرة الحديث عن فتح باب الاجتهاد، فإنّ كلّ محاولات التجديد في الفقه الإسلامي لم تستهدف الاجتهاد حقّا، بل عملت على جمع الأحكام المذهبيّة المختلفة وتصنيفها. ويرى الكاتب أنّ الصّورة المثلى للاجتهاد تتمثّل في تكوين مجامع تجمع الفقهاء مع الخبراء والفنيين لما في ذلك من تحقّق الاجتهاد بالشورى. وكلّ هذا في نظر الكاتب لا يثمر إلاّ بعد إعادة النظر في أصول الفقه، حتى لا يكون الاجتهاد مظهرا للحكم ولكن منشئا له.

وفي الباب الثاني "فهم الخطاب القرآني" درس الكاتب في الفصل الخامس "مسألة فهم الخطاب القرآني أيّام الرسول". والهدف من هذا الفصل المختصر، إثبات أنّ تلاوة القرآن وحدها كانت كافية لتحويل المشركين إلى مؤمنين. ويترتّب على ذلك امتلاك القرآن قوّة عجيبة –سمّاها العرب سحرا- للهداية ولخلق الإنسان خلقا إيمانيا جديدا.

وتطرّق الكاتب في الفصل السادس إلى "فهم الخطاب القرآني بعد المرحلة النبويّة حتّى الفترة المعاصرة"؛ فقد شغلت عمليّة التفسير علماء الأمّة على امتداد القرون واعتبر التفسير من أشرف ما يشتغل به، وكثرت التفاسير حتّى أضحت "غابة كثيفة حجبت القرآن تماما" (ص 31). وتوقّف الكاتب أيضا عند الكتابات المتعلّقة بإعجاز القرآن وعند التفاسير الحديثة بدءا من الشيخ محمد عبده الذي تميّز تفسيره باستبعاد الإسرائيليات ومرورا بمحاولات محمد شحرور ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد. وقد وجّه إليهم سهام نقده اللاذع، لكنّه حرص على استبعاد اتّهامهم بالتكفير، لأنّ الله هو المفوّض بالحكم عليهم.

وفي الفصل السابع "فهم الخطاب القرآني كما يجب أن يكون"، بيّن جمال البنّا أنّ القرآن هو معجزة الإسلام، لأنّه موجّه إلى كلّ الناس، ولأنّه يمثّل نهاية عهد المعجزات الحسيّة. وتقصى الكاتب عناصر الإعجاز القرآني التي مكّنته من تحقيق رسالته، فتوقف عند التصوير الفنّي والنظم الموسيقي والمعالجة السيكولوجية.

ولعلّ ما يجدر الاحتفاظ به في هذا الباب، نقد التفاسير التي حجبت حقيقة القرآن؛ فهي في نظره ليست تفسيرا للقرآن بقدر ما هي رؤيتهم الخاصة المرتبطة بحالاتهم الذاتية، وبالواقع الذي يحيون فيه. وهذا الموقف، وإن كانت فيه بعض الوجاهة، فإنّه يبدو مثاليا، لأنّ مقاربة القرآن وفهمه دون تفاسير يبدو أمرا مستعصيا على خاصّة النّاس فما بالك بعامّتهم؟

اختار الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب أن يدرس مسألة "السنّة ودورها في الفقه الجديد"، ويبرّر دراسته هذه بأن السنّة هي مادّة الفقه؛ لذلك فهي تستحقّ أهمّية خاصّة في نظره.

وقد خصّص بابين لهذا المبحث تطرّق في أوّلهما إلى السنّة في الفقه التقليدي، وفي الثاني نظر في السنّة في الفقه الجديد.

يميّز الفصل الأول من الباب الأوّل بين مفهومي السنّة والحديث، مبيّنا أنّ السنّة هي العمل والسيرة والطريقة في حين أنّ الحديث هو القول. أمّا الفصل الثاني، فهو ينظر في الموقف من السنّة بين المتحفّظين عليها والمسلّمين بها. فمن أصحاب الموقف الأوّل الخوارج والشيعة والمعتزلة. ومن أصحاب هذا الموقف من المحدثين توفيق صدقي الذي نشر مقالا في العددين السابع والثاني عشر من مجلّة المنار تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده" استبعد فيه حجيّة السنّة. ومنهم أيضا أحمد أمين الذي نقد التركيز على السنّة دون المتن. واعتبر الكاتب أنّ نقده لا يعدّ شيئا أمام ما جاء في كتاب "أضواء على السنّة المحمّدية" الذي أصدره الشيخ محمود أبو رية سنة 1958.

وعرّف الكاتب بالدكتور إسماعيل منصور وكتابه "تبصير الأمّة بحقيقة السنّة"، حيث بيّن تفشّي ظاهرة الوضع في الحديث، حتى أنّه لم يصحّ في نظر البخاري إلاّ حديث واحد من بين كلّ مائتين وخمسين حديثا، ذلك أنّه نصّ في مقدّمة صحيحه على أنّه جمع أحاديثه "وهي أربعة آلاف حديث بغير المكرّر... من ستمائة ألف حديث رويت له وكانت بين يديه" (ص 65).

وقد انتقد إسماعيل منصور تركيز المحدّثين على السند دون المتن كما حمل على عدد من الأحاديث لمخالفتها مقتضيات العقل.

أمّا موقف المسلّمين بالسنّة، فقد تطرّق إليه من خلال عرض كتابين؛ أحدهما يمثّل المنهج القديم في الدّفاع عن السنّة والآخر يمثّل المنهج الحديث، والأوّل هو "الروض الباسم في الذب عن سنّة أبي القاسم" لابن الوزير اليمني، والثاني هو "السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للشيخ مصطفى السباعي.

 وقد ردّ الكتاب الأوّل على كلّ ما أثير من شبهات على صحّة أحاديث البخاري، واعتبر كلّ الصحابة عدولا، ودافع عن رواية أصحاب الصّحاح لمن أطلق عليهم "فسّاق التأويل وكفّار التأويل" من قدريّة أو مرجئة وغيرهم. أمّا الكتاب الثاني، فقد تصدّى للردّ على الشيخ محمود أبو رية، وقد استعرض البنّا بعض عناصر هذا الردّ مبيّنا عدم رضاه على بعض مواقف من ذلك اعتبار دفاعه عن حديثين ممّا لا يستساغ (ص 75).

 ويتجلى في هذا السياق منهجه القائم على عدم الاعتقاد في عصمة صحيحي البخاري ومسلم، وهو ما يتيح له نقد ما ورد فيهما، إن كان لا ينسجم مع معطيات العقل والمنطق السليم. يقول في هذا الشّأن: "والحديثان يتناولان أمورا من الغيب ولا يقدّمان طائلا أو أمرا مفيدا، وواضح تماما أنّهما قريبان من مواعظ القصاص بقدر ما هما بعيدان عن حديث الرسول. وليس هناك أيّ مبرّر للدفاع عنهما أو تقبّلهما، إلاّ أنّهما جاءا في الصحيحين كأنّ البخاري ومسلم معصومان، وكأنّ الصحيحين منزلان ولا يقول بهذا إلا أسرى الإسناد ومن تحكّمت في عقولهم ربقة التقليد والاتباع" (ص 76).