لاعقلانية التجربة الحدسية

فئة :  أبحاث محكمة

لاعقلانية التجربة الحدسية

لاعقلانية التجربة الحدسية

تمهيد: من العقل إلى اللاعقل

إن ما يُمَثِّلُ مشكلةً في العقل هو علاقته باللاعقل؛ فسيادة نمط ما من التفكير يجعل ما يخالفه من الأنماط لاعقليّاً؛ أي دون العقل، كأنه مغالطة أو تضليل أو حتى ضرب من الجنون[1]. وهذه هي كبوة العقل؛ إذ إن منظوره خاصٌّ ونمطيٌّ لا يستوعب ما يقابله، بقدر ما يُخضعه للمقارنة بما هو عليه ويجعله معياراً للتعقل والمعقولية ومحكّاً لهما، غير باحثٍ فيه إلا عما يتماهى وهيكل حدوده الثابتة، الشيء الذي كان محركاً لذلك الصراع الذي وسم السجالات والمحاورات التي دارت بين سقراط وأفلاطون وأرسطو والسوفسطائيين، إلا أن ظفر العقل التاريخي وهيمنته، بوصفه تفكيراً عقلانيّاً، ليسا دليلاً قاطعاً على إحكامه القبضةَ على ما هو كائن، ولا على استنفاذ كل مُمْكنٍ إدراكيٍّ عداه. فالعقل مجرد مجموعة معايير مُنشأة، تقوم على التعريف والحد، وتأبى أن يَحُدَّها أيُّ حَدٍّ، وكونيتها تجعل العقل لا يعترف بغيره متجاوزاً مجاله الخاص إلى مجال آخر لاعقلي أيضاً، واصفاً إياه باللاعقلي بِلِحَاظ تجاوزه للعقل، وليس لأنه أدنى منه. من هنا، نجد أن أهم مظاهر غياب التعقل تطبيقُ أحكام العقل ومبادئه على ما لا تستقيم فيه المعرفة العقلية. إن للعقل حدوداً ينبغي الانضباط لها، لكن في سياقها الخاص. وللقلب والحدس مجموعة من المحددات والضوابط أيضاً، ذات طبيعة تتجاوز الحد إلى الوجد، والمعرفة إلى العرفان؛ وكل محاولة عقلٍ لها فيها إجهازٌ وتطاول عليها، لتتحول إلى مساس مُغرض بالمعقولية نفسها. ولعل هذا الإشكال هو المطب الذي وقع فيه العقل ومعه المذاهب العقلية.

يكمن خلل الفلسفات العقلية، حسب برغسون، في استسلامها للجاهز من الأفكار والتصورات المتواترة، والتي من أجل تصنيفها في حاقِ المعقول رُفِعَ عنها الشك وباتت ثوابت مقدسة؛ فعادة العقل والتعقل، كما يقول باشلار، قد تُشكل اضطراباً للعقل نفسه[2]، وهو ما يتنافى مع روح التفلسف القائم على الحس الثوري والنقدي، وعلى البحث والفحص والتساؤل، وإخضاع جميع الأفكار لمحك الواقع، والنظر إليها نظرة نقدية بعيداً عن ضروب التسليم والطمأنينة العقلية. وهكذا، فإن «الثورة الكبرى التي أحدثتها الفلسفة البرجسونية في عالم الفكر، إنما تتمثل أولاً وقبل كل شيء في تمردها على الكسل العقلي الذي تنطوي عليه سائر النزعات العقلية المطلقة»[3]. وهذا لا يعني أنها دعوة إلى تأسيس فلسفة 'لاعقلية' أو 'ضد العقل'، بل هي دعوة إلى تفلسف عقلاني مختلف، طابعه الانفتاح والحركية والتجدد، ثائر في وجه البناءات العقلية الجاهزة والجامدة. إنها فلسفة عقلية حيوية ومرنة، تعطي الأولوية للواقع، وتواكبه في جدته وصيرورته، ما يجعل منها تَعَقُّلاً داخل التجربة، أو حدساً واقعيّاً ملموساً. إنها «جهدٌ قوامه الرؤية la vision، أو رؤية قوامها الجهد؛ وهي بطبيعتها أعدى أعداء المذهب والمذهبية والتحجّر المذهبي»[4].

يَدِين تيار نقد العقل في الفلسفة المعاصرة لجملة من المفكرين والفلاسفة، لعل أبرزهم برغسون بفرنسا، ونيتشه بألمانيا، ووليام جيمس بأمريكا، فضلاً عن اسم ألماني آخر يعتبر الأب الروحي للاتجاه اللاعقلاني المعاصر، وهو شوبنهاور[5]. ويمثل هذا التيار موقفاً غير متوقعٍ آنذاك، في لحظة تاريخية وُصفت بالفاصلة، بلغ فيها العقل مرتبة السيادة والريادة، ليس لأنه استطاع الإجابة عن أسئلة الإنسان الكبرى، وإنما تحت طائلة ما مارسه من إغراء بما أتى به من فتوحات علمية وتقنية، رفعت أسهم الثقة فيه إلى مستويات غير مسبوقة. إن تيار نقد العقل لا يبخسُ العقل قيمته؛ وإنما يعيد الاعتبار لباقي ما يؤثث الوجود الإنساني الواقعي، من وجدان وحدس وقلب وفعل، والذي نُبِذَ وأُقْصِيَ باسم عقلانية لا تؤمن إلا بنفسها، فبات ما نجده في المذاهب الصوفية والرومانسية والفنية، على سبيل المثال لا الحصر، من إعمالٍ للشعور والقلب والذوق والوجدان، ضرباً من اللاعقلانية.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] - Foucault, Michel, Histoire de la folie à l'âge classique, Editions Gallimard, Paris (1977). p: 269 في إطار السلطة التي تتمتع بها المعرفة، فإن العقل غالباً ما يحتل المركز ويتم ربطه بكل معاني الحقيقة والصدق والمعقولية والثبات؛ وبذلك فكل ضروب النظر الأخرى التي تختلف عنه تُوصَفُ بأنها نوع من اللاعقل، ولا مناص من الزج بها في الهامش. هنا يتحدث ميشيل فوكو عن سلبية négativité

[2] - Bachelard, Gaston, Le rationalisme appliqué, 3 ème édition, PUF, Paris (1966). p: 13

[3] - برجسون

[4] - برجسون

[5] - Mueller, F.L, L'irrationalisme Contemporain, Editions Petite Bibliothèque PAYOT, Paris (1970). p: 5 ثمة مجموعة من الفلاسفة الآخرين الذين يمكن إدراجهم ضمن هذا الاتجاه، على غرار كيركغور وباسكال وسارتر وفرويد وغيرهم؛ فضلاً عن بعض الاتجاهات أو المدارس الفلسفية المعاصرة التي يمكن اعتبارها لاعقلانية -وهذا الأمر غير اتفاقي- أو على الأقل أنها جاءت لتقويض بعض الاتجاهات العقلانية، ومن بينها الفلسفة الوجودية والفلسفة الفينومينولوجية والفلسفة التأويلية والفلسفة البراغماتية والفلسفة التفكيكية... وغيرها من الاتجاهات المعاصرة التي تصدّت لانغلاق العقلانيات الكلاسيكية.