ما فائدة الخطابة/ البلاغة في حقل التربية؟


فئة :  مقالات

ما فائدة الخطابة/ البلاغة في حقل التربية؟

ما فائدة الخطابة/ البلاغة في حقل التربية؟

اشريف مزور

مما لا شك فيه أن بيرلمان Ch.Perelman يعتبر من مجددي الإرث البلاغي المنحدر من أرسطو. ولئن عرف بأبحاثه الرصينة في هذا المجال مع تيتيكا L.O.Tyteca في إطار ما يسمى بمدرسة بروكسيل (بدأت الأبحاث المرتبطة بالحجاج في هذه المدرسة مع E.Dupréel)، فإننا نريد هنا في هذه الورقة، تسليط الضوء على علاقة التربية بالخطابة (البلاغة الجديدة) عنده، من خلال مقال له يحمل نفس العنوان (الخطابة والتربية)([1]). صحيح أن البحوث الآن في علوم/فلسفة التربية ذهبت بعيدا في اتجاه التأكيد على عدة عناصر، لابد من أخذها بعين الاعتبار لتحسين جودة الفعل التربوي (النموذج البيداغوجي، المقاربات البيداغوجية، الطرائق البيداغوجية، الممارسات التعلمية والتدريسية...)، لكن يظهر من مقالة بيرلمان أن هناك جوانب جديرة باستثمارها في ميدان التربية. فكيف ذلك؟ يحسن بنا في هذا المقام قبل ذلك، التنبيه إلى أن مجال الخطابة/الحجاج* الآن صار يستثمر بشكل غير مسبوق في عدة ميادين؛ منها تعزيز الديموقراطية والحد من العنف والحوار بين الثقافات...

يرى بيرلمان أن الخطابة عموما، تتحدد بكونها فن التحدث بشكل جيّد، في مقابل المنطق الذي يعرف بكونه فن التفكير بشكل جيّد، ولا يخفى أن مبحث الخطابة تعرض للإهمال والقدح طيلة قرون عدة ولأسباب مختلفة، إهمال وقدح يظهر كلّيا بأنه غير مبرر ويعزى إلى الجهل وعدم الفهم([2]).

بحسب بيرلمان، وبالعودة إلى التقليد الأرسطي، فالخطابة ليست فقط هي فن التعبير بشكل جيّد، ولكنها أيضا -وهذا هو الأهم- فن التعبير بطريقة إقناعية من خلال التأثير على المخاطبين؛ أي إنها نظرية وممارسة للإقناع المعقول([3]). في نفس السياق وفي موضع آخر، يرى بيرلمان أن موضوع الحجاج هو "دراسة تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم"([4])، "فأنجح الحجاج هو ما وفق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب، أو هو ما وفق على الأقل في جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة"([5]). تبعا لذلك، وبالنظر لما تتمتع به الخطابة/الحجاج من مقومات، فقد تحمل الكثير بالنسبة إلى التربية وما تطرحه من مشاكل.

جدير بالإشارة إلى أن حديث بيرلمان في هذه المقالة، ينصب على مختلف أطراف العملية التربوية من مدرس وتلميذ وكذا الهدف من التربية، لذلك يؤكد في البداية بأن المدرس الذي يبحث عن تكوين ذهن وتعديل سلوك التلميذ لا ينبغي أن يباشر ذلك عن طريق الإكراه بقدر ما يجب أن يفعل ذلك بكيفية إقناعية، في هذا المستوى، لا مناص من اعتماد التقنيات الحجاجية التي بواسطتها يصبو الخطيب إلى تحصيل موافقة الآخر على الأطروحات التي يعرضها عليه.([6])

ارتباطا بذلك، نلفي بيرلمان يعقد مقارنة (تمييز يتأسس على أمرين: الأطروحات المقدمة، ومقاصد من يعرض الأطروحات ويريد الإقناع بها)([7]) بين المربي (l’éducateur) والدعائي (le propagandiste)، فإذا كان الأول يراهن على توضيح وتنوير من يتوجه إليهم بالخطاب (التلاميذ)، فإن الثاني يركز على الفوز برضا مخاطبيه حول قضيته. وقد يحدث أحيانا أن يصبح كل مجهود للإقناع مصطبغا بشكل من أشكال الدعاية (مثال القس البروتستانتي في وضعية التربية الدينية وفي وضعية الدعاية الدينية)؛ حيث لا يمكن اعتبار كل تربية جديرة بالثناء وكل دعاية كاذبة، لذا لابد من أن يرتكز التمييز على التقنية التي بها نقنع، والتي ترتبط بدورها بشروط من نظام اجتماعي، وكذا مراعاة المقام التداولي الذي يتم فيه فعل الإقناع، وهنا تدخل الخطابة على الخط، حيث تسهم بصورة واضحة في تحديد المظاهر الأساسية للتربية([8]). من لزومات ما سبق، أنه وبمقابل التربية، الدعاية (la propagande) تتوجه غالبا إلى مخاطب غير مقتنع بمشروعية فعل الكلام منذ البداية، ولرفع اللبس بين الوضعيتين؛ يشير بيرلمان إلى أنه في مجال التربية ولتحقيق التفاعل بين الخطيب (المربي) والمجموعة (التلاميذ)، لابد من حد أدنى من التفاهم، بصيغة أخرى، لابد من أن يكون المتلقي مستعدًّا للإنصات، ولابد للخطيب من هدف يتمثل في الحصول على انخراط مخاطبيه حتى ينجح خطابه. لهذا الغرض بالذات، يبدو من المناسب أن توضع بعض الشروط المؤسساتية رهن إشارة الخطيب تسهل عليه أخذ المبادرة، ومنها المؤسسات السياسية والقضائية والتربوية التي تمكن من توفير ظروف اللقاء بين الجانبين، ومن ثم حصول الإقناع، مما يشي بأن التربية هنا فعل مؤسساتي ينضبط لقواعد ولمعايير تحميه من الانزلاق إلى خوارم الفوضى والعشوائية. أكثر من ذلك، يذهب بيرلمان إلى القول بأن المربي يوجد في وضعية مخالفة للدعائي؛ فهو لسان حال الجماعة والمنافح عن وجهات نظرها وقيمها، مما يجعل مخاطبيه يعترفون له بسلطته ولا يعادونه أبدا. بإجمال، خطاب المدرس (لأنه خطاب تربوي) يتمتع بامتياز ومشروعية (حتى وإن تم أحيانا بشكل قاس)، ولذا لا يوضع موضع سؤال، ما دام أنه (المدرس) عضو في جماعة لا يتحدث إلا بما هو مهم عندها أمام أعضائها المقتنعين بأن محتوى ملفوظاته أساسي ومحوري([9]).

بعد أن يميز بين وضعية الدعائي والمربي، يولي بيرلمان لحجة السلطة أهمية خاصة، ولاسيما في مرحلة التعليم الابتدائي (في المدرسة الابتدائية المربي هو المؤهل أكثر من غيره لقول أؤكد لكم، يمكنكم الثقة بي...)؛ لا يتعلق الأمر هنا بمراقبة الأذهان، ولكن بمعرفة كيفية تقديم خطاب مفيد يتبأر حول تنمية الحكم المستقل والذهن النقدي. في الواقع وفي مجال التعليم، لا يوجد هنالك تعارض حقيقي بين حجة السلطة والاختبار الحر. في هذا الصدد، يتولى المدرس في البداية تقديم معارف التي بمجرد استدماجها يتمكن المتعلم من ممارسة ملكاته النقدية، وبمجرد ما نصعد في سلم التدريس، تصير حجة السلطة أقل أهمية؛ بيد أنها في البدء أساسية؛ إذ تكسب الطفل عدة معارف تمكنه لاحقا من تكوين رأي شخصي. عموما، قبل القدرة على الانتقاد، لابد من اكتساب المعرفة عبر وساطة المدرس (حجة السلطة)([10]).

ولبيان ما ذكرناه سالفا حول حجة السلطة في التدريس، نلفي بيرلمان ينخرط في مناقشة بعض نظريات التربية المنحدرة بالخصوص من ديكارت وروسو. برأيه، هذه النظريات موجهة ضد سلطة الأستاذ وضد مشروعية المؤسسات.

يرى بيرلمان أن نقد السلطة التقليدية في فلسفة التربية الروسوية (نسبة إلى روسو) أدى في عصرنا إلى نتائج ضارة بالتربية، فقد تم النظر إلى المدرس كحامل وكناقل للأحكام المسبقة، بل اعتبر مشوها ومحرفا (déformateur) للعقل (فطري) الذي يجب تركه يتفتح من دون تحريفه. في هذا التصور، المربي المثالي ليس هو من يتكفل بنقل تقليد معين وبتكوين عقول التلاميذ، وظيفته تنحصر في استخدام ملكاتهم وحمايتها بمنأى عن الآراء المخادعة، بصيغة أخرى، دوره هنا سلبي يتجلى في وقاية الطبيعة الخيرة للطفل-المزودة منذ ولادته بملكة تؤهله لمعرفة الصحيح والخير-من أن تنحرف وتصير مشوهة من خلال العلاقة بالأحكام المسبقة في مجتمع ما([11])*.

ولأن الأمر كما يشي بذلك عنوان مقالة بيرلمان يرتبط بعلاقة الخطابة بالتربية، يصل صاحبنا إلى تحديد ثلاثة استخدامات مختلفة للخطابة:

- واحدة خاصة بالدعائي الذي يبحث عن الإقناع والتكيف مع مخاطبيه في أفق الفوز بموافقتهم على أطروحته أو قضيته.

- ثانية خاصة بالتربية التقليدية، حيث نطالب التلاميذ بالثقة في المدرس الذي يتحدث بسلطة.

-ثالثة منحدرة من النظريات الجديدة للتربية التي تفترض وجود نفس الملكة، نفس العقل يتقاسمه التلميذ ومدرسه، وهو فطري يمكن التلميذ من المعرفة بمجهوده الخاص، في هذه الحالة أفكار الطبيعة والعقل والتجربة تصير وسائل للإقناع تعوض حجة السلطة السابقة([12]).

يصل بيرلمان إلى تأكيد فرضيته التي انطلق منها؛ فالخطابة كنظرية للإقناع والحجاج تستطيع أن تحمل الكثير لنظريات التربية. إن مسار التربية والتكوين يفترض قبلا استخدام حجة السلطة، لكن بمجرد ما يكتسب الطفل عدة معارف، فإنه تدريجيا يشرع في التخلي عنها (حجة السلطة) في أفق الوصول إلى مرحلة الفكر النقدي والحكم المستقل. بصيغة أخرى، إن النظريات الأحادية الجانب للتربية، والتي تمنح الأولوية، إما للتربية عبر حجة السلطة أو للتكوين الذي يفترض عقلا وطبيعة إنسانية معطاة لا تنير إلا مظهرا من المشاكل التي تطرحها التربية، وحده التعاون والاستخدام المتزن للمنهجين معا يمكننا من تكييف دور المدرس مع درجة نضج تلميذه. يختم بيرلمان بالقول بأنه في مجال التعليم يجب الوصول إلى وسط عادل بين حجة السلطة وفكرة حرية التعلم بالنسبة إلى الطفل([13])*.

[1]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, in, Revue Belge de psychologie et de pédagogie, Décembre 1952-Tome 14. n’ 60

* الحجاج عند بيرلمان غير الخطابة عند أرسطو من وجهين:

ـ من جهة نوع الجمهور: الخطابة ترتبط بجماعة ما مجتمعة في ساحة ما تستمع إلى الخطيب. الحجاج جمهوره عام قد يكون حاضرا أو غائبا، كما يمكن أن يكون بين شخصين اثنين متحاورين، أو بين المرء ونفسه.

من جهة نوع الخطاب: الخطابة حصرت خطابها فيما هو شفوي. الحجاج خطابه قد يكون منطوقا أو مكتوبا (أمثلة بيرلمان كلها مأخوذة مما هو مكتوب)، وهذا لا يعني أن الكاتب حين يكتب لا يستحضر الجمهور، ولا يكيف ما يكتبه وفق هذا الجمهور.

[2]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.129

[3]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.129

[4]- Ch.Perelman et L.O.Tyteca, traité de l’argumentation-la nouvelle rhétorique, Editions de l’univérsité de Bruxelles, 1970. P.5

[5]- Ibid. P.59

[6]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.130

[7]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.130

[8]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.131

[9]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.132

[10]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.133

[11]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.136

* من المعلوم وعلى غرار الأنواريين، ينطلق روسو من ضرورة استخدام العقل، لذا يؤكد في مجال التربية كما عرض ذلك في كتابه Emile على ضرورة مصاحبة الطفل منذ لحظة ولادته إلى لحظة الرشد، ولا تعني المصاحبة هنا القيادة بقدر ما تعني تهييء الشروط المناسبة (Mise en scène) لتربية الطفل بعيدا عن منطق السلطة. ومن المفيد التذكير بأن روسو يولي عناية كبيرة لما سماه بالتربية السلبية (عدم تلقين الطفل معارف وإنما توجيهه حتى لا تنحرف استعداداته عن مسارها الطبيعي، حتى لا يتم إفساد طبيعته، حماية ذهنه من الوقوع في الأخطاء وتجنيبه الرذائل)، في مقابل التربية الإيجابية (بعد أن يصل عمر الطفل إلى 12 سنة) التي يتم فيها التركيز على تكوين ذهن الطفل وإعطائه معرفة علمية وعقلية..

[12]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.136

[13]- Ch.Perelman, Education et rhétorique, op.cit, p.138

* بخصوص السلطة التربوية نشير في هذا المقام، إلى أن عدة فلاسفة ناقشوا هذه المشكلة، من بينهم كانط الذي قارب التربية من زاوية المفارقات التي تطرحها. للتوسع أكثر ينظر: عبد الحق منصف، الأنوار وسلطة الخبير البيداغوجي، دراسة في نظرية الثقافة والتربية عند كانط، أفريقيا الشرق، 2011، من ص 262 إلى ص276