محمد عابد الجابري ومسألة تطبيق الشريعة


فئة :  مقالات

محمد عابد الجابري ومسألة تطبيق الشريعة

تمهيد:

لقد تشكل الفكر العربي المعاصر في خضم توترات بينه وبين موضوعاته وأشيائه. وهذه العلاقة أدت بالمشتغلين في هذا المجال الفكري إلى التوجه نحو دراسة المواضيع الأكثر اتصالا بالثقافة والسياسة والحضارة، التاريخ والإيديولوجيا. والتي ركزت على سؤال الثرات والهوية، وعلاقة الشرق بالغرب. من وسط هذا السياق التاريخي، ظهرت روافد فكرية اهتمت بمسألة النقد، سواء نقد التراث والواقع، أو الحداثة والعقلانية.

مسألة نقد الثرات استدعت بالضرورة مسألة نقد العقل، باعتباره أداة إنتاج المفاهيم والتصورات. وفي خضم عملية تصفية الحساب هاته مع الثرات توجه محمد عابد الجابري إلى مجموعة مواضيع كبرى، نختار منها في عرضنا هذا مسألة جزئية. لكن كون الموضوع جزئي لا يعني بأنه مُهمَل، بل على العكس من ذلك، فهو يشكل لبنة أساسية في بناء صرح الثقافة العربية الإسلامية. ويتعلق الأمر بـ: مسألة تطبيق الشريعة.

1. الصحوة والتجديد:

يقول الأستاذ الجابري بأنه انتشرت مؤخراً عبارة الصحوة الإسلامية، وارتبطت بمسألة الدعوة إلى تطبيق نظام إسلامي من طرف بعض الجماعات والتنظيمات. على أن يشمل تطبيق الإسلام هذا مختلف مناحي الحياة من سياسة واقتصاد ومجتمع. لكن الدكتور الجابري يعيب استخدام عبارة "الصحوة" لكونها لا تحقق المعنى المطلوب، وأنها توحي ضمنياً بأن الإسلام كان نائماً أو غائباً. لكن ذلك لم يحث، لأن الإسلام كان حاضراً دائماً في وجدان المسلمين، باعتباره عقيدة بل الأكثر من ذلك نموذجاً للحياة. إضافة إلى أن المسلمين اليوم في حاجة إلى فعل وليس انفعالا. وكلمة الصحوة بمفهومها تعبر عن الانفعال وليس عكس ذلك. بالمقابل يفضل الدكتور الجابري استخدام كلمة تجديد عوض صحوة، ويرجع هذا الاختيار للعديد من الأسباب منها كون الثانية دخيلة على الثقافة العربية الإسلامية؛ أي دخيلة على الثرات. إضافة إلى كون كلمة "تجديد" تُحيل على عمل بعيد الأغوار يرمي إلى إنزال ثقله على المستقبل.

يقصد الدكتور الجابري بالفعل في زمننا المعاصر، الفعل العقلي. أما باقي أشكال الفعل الأخرى، فلم تعد تجدي نفعاً اليوم. وفي هذا السياق، يستشهد الدكتور بالإمام الشاطبي كمثال لدُعاة النظر إلى التجديد من جهة ما يجلب من مصلحة لا من جهة كونه كان غائباً في عهد الصحابة. وفي نهاية حديثه، يؤكد الدكتور الجابري أن حضارتنا ليست وليدة لعهد السلف، وليست امتداداً مباشراً له. بل على العكس من ذلك هي حضارة من صناعة غيرنا، ولا نلعب فيها سوى دور التابع لا الفاعل في جميع المجالات: العلم، التقنية، الفكر والإيديولوجيا. وبالتالي، فالحاجة ليست إلى الصحوة والمتابعة، بل إلى تجديد العقول من أجل القدرة على مسايرة الحياة الجديدة.

2. السلفية أم التجربة التاريخية؟

يقول الدكتور الجابري بأن صورة الشخص السلفي ارتبطت في الذهنية المغربية، إبان الثلاثينيات من القرن الماضي، بالرجل المناهض للشعوذة، المواظب على الشعائر الدينية، والمعادي للعديد من العادات والتقاليد الشعبية. لكن في نفس الوقت لم يكن هناك من لقب يمكن أن يلقب به رجل ما أشرف من لقب السلفي. ذلك لكون تلك التسمية تضم داخلها حمولة دينية خالصة ووطنية أيضاً.

لكن بالنظر إلى تلك الحركات السلفية عبر التاريخ الإسلامي، نجد أنها كانت عبارة عن محاولة لإعادة التوازن الذاتي لمسار التاريخ العربي الإسلامي؛ أي أن السلفية كانت في العهد الذي وصلت فيه الحضارة العربية الإسلامية أوجها، عبارة عن استمرار الوجود أثناء الأزمات وأثناء تفشي الأمراض ذاتية المنشأ. لكن مع تراجع الحضارة العربية الإسلامية، وطغيان الحضارة الغربية عن طريق تقنياتها وسلعها وأسلحتها، أصبح النموذج السلفي غير كافٍ أبداً. بل يجب عليه أن يقدم بدائل تشمل التجربة التاريخية لأمتنا، مع الاستفادة من التجارب التاريخية للأمم الأخرى. وخصوصاً تلك الأمم التي كانت مثلنا يوماً ما وتطورت الآن.

وهنا يقترح الدكتور الجابري اللجوء إلى أمرين اثنين: العقلانية والنظرة النقدية. العقلانية في تدبير الحياة العامة كالاقتصاد والسياسة، والنظرة النقدية نحو جميع مناحي الحياة. ويقارن الدكتور هذه النظرة بالاتجاه السلفي الذي يعتبر الحياة كلها عبارة عن مجرد قنطرة للعبور نحو الآخرة، ويقول بأن هذه النظرة لم تعد صالحة في زمن التقنية والعلم. لكن في نفس الوقت يمكن حصر المنطق السلفي في مجال السلوك الإنساني في علاقة المرء بربه. وينتهي الدكتور الجابري إلى أن المسألة ليست متعلقة بسؤال صلاح الدين لكل زمان ومكان، بل السؤال هو هل يصلح المسلمون لهذا الزمان؛ أي هل بإمكانهم مواكبة ومسايرة العصر بتقدمه اليومي. إن العصر عصر الخلف وليس عصر السلف.

3. التطرف: يميناً ويساراً

يؤكد الدكتور الجابري بأن وصف تيار الإسلام السياسي بالتطرف أمر خاطئ؛ ذلك لأن التيار يضم داخله شريحة كبيرة من الرأي العام العربي المعاصر يميناً ويساراً. كما يقول بأن تقديم مفهومي اليمين واليسار لا ينطبق والتصنيفات الغربية. لأنه ليس كل حداثي تقدمي، وليس كل إسلامي رِجعي. إذن، فالتسمية إجرائية فحسب. ويقول الجابري مجددا بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن قيام التطرف في اليمين يكون ضداً على التيار اليساري. ويتبع قوله بأنه دائماً ما يقع الغريم اللدود لأحد التيارين داخل التيار نفسه؛ أي أن ما سماه الجابري بالجماعات المتياسرة قامت بتقديم نفسها، باعتبارها بديلا للتيار اليساري. كذلك ومثال بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، فقد قامت ضد التيار الوسطي المعتدل. ويسوق الجابري مثالا لتيار الخوارج الذي كان في صفوف علي، لكنه قدم نفسه باعتباره خارجاً على عليٍ نفسه. بعد ذلك يقول الدكتور الجابري بأن الخاسر في هذه المعركة يكون هو التيار نفسه، أي تكون الضربة موجعة للجهة التي خرج منها التطرف لفائدة الجهة الأخرى. وهذا الأمر يؤدي بالجهة المتطرفة إلى الجنوح للهامش وتنتهي بالتفتت والذوبان.

في ختام القول يؤكد الدكتور الجابري بأنه لم يحصل يوما أن حققت الجماعات المتطرفة شيئاً يُذكر. وأن صناعة الفارق غالباً ما تكون من طرف القوى المتصارعة في الوسط، أي التيارات المعتدلة. وأن التيار السلفي يحقق وجوده واستمراريته بسبب غياب الديمقراطية. وعموماً، فإن التطرف الديني ينشأ من رحم السياسة دائماً.

4. التطرف بين العقيدة والشريعة:

يبسط الدكتور الجابري في القول السابق؛ أي تبعية التطرف الديني للسياسية. وهنا يقرر قائلا: "إن التطرف في الإسلام كان دائما نوع من التعبير عن موقف سياسي معين". وسبب ذلك كامن في الارتباط الوثيق بين السياسة والدين عبر التاريخ العربي الإسلامي. لكن الفرق بين التطرف القديم والتطرف اليوم هو مستوى الممارسة. لأن التطرف قديماً مورِس على مستوى العقيدة، واليوم يمارس على مستوى الشريعة. يسوق بعد ذلك الدكتور الجابري أمثلة لدعم رأيه مستشهداً بالخوارج والحركات الباطنية وغيرها. ويقول بأن سبب هذا التحول من التطرف على مستوى العقيدة إلى الشريعة، هو سبب تاريخي محض. وقد طُرح المشكل العقدي لتعدد الأنظمة الفكرية الدينية مع وحدة النظام الاجتماعي.

ينهي الدكتور الجابري قوله بأن التيار المتطرف تاريخياً انتهى وتفتت عندما استطاع المذهب الأشعري أن يقوم في الوسط السني. وما قام به آنذاك التيار الأشعري هو إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة، انطلاقاً من المقاصد المعاصرة. ويقترح الجابري أخيراً أن الحل هو في إعادة تأصيل الأصول لا الاجتهاد في استئناف الفروع. اذن فالحل دائماً لدى الجابري حل عقلي محض، بدون عقل جديد لا يقوم اجتهاد جديد.

5. لكل عصر ضرورياته الخاصة:

يقول الدكتور الجابري بأنه من الواضح أن ما يميز عصرنا الراهن هو التغير والتبدل. وبغض النظر عن نوع التغير هل هو إيجابي أم سلبي، يظل السؤال قائماً: ماذا نأخذ من ثراتنا وماذا يجب أن نأخذ من قوانين عصرنا؟ يجيب الجابري عن هذا التساؤل قائلاً بأنه لم يعد في إمكاننا الاختيار اليوم، وكل ما أمامنا هو التأقلم مع ما الأمور المعاصرة التي نواجه. أي القيام بعملية التوفيق بين متطلبات العصر وبين قيم وتشريعات الثرات.

6. التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية:

يؤكد الجابري بأن قضية التطبيق الكامل للشريعة لم تحدث أبداً في تاريخ الإسلام. ويعزز قوله هذا بالعديد من الدلائل من نذكر بينها: أولا، في عهد الرسول لم تطبق الشريعة كاملة فعلاً، لأنها كانت تتنزل على مراحل وليس دفعة واحدة. وأن الرسول لم يعش سوى واحد وثمانين يوماً بعد نزول آية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ...} سورة المائدة، الآية 3. هذا على اعتبار أن القرآن هو المصدر الأول للشريعة. أما بأخذ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها المصدر الثاني للشريعة، فهي أيضاً لم تتم إلا بعد وفاة الرسول. ثانياً، لم يتم تطبيق الشريعة كاملة أيضاً في عهد الخلفاء الراشدين، وذلك لأنه واجهتهم العديد من النوازل التي لم تكن في عهد الرسول. وما كان آنذاك من حل سوى الاجتهاد والاستشارة، وأخيراً اللجوء إلى الإجماع.

يختم الجابري قوله بأن مسألة "الكمال" في تطبيق الشرائع لا يمكن أن يكون أبداً كمالاً مطلقاً، سواء في زمن الأنبياء أو التابعين. إن الحل في نهاية المطاف هو التوجه إلى الآيات من ناحية أسباب نزولها آنذاك، أي وضعها في سياقها التاريخي. والنظر أيضاً إلى المستقبل نظرة تاريخية ترى الكمال صيرورة، وليست شيئاً جامداً وجاهزاً.