العمارة وتخطيط المدن والتمدن في عالم التطرف ومواجهة التطرف


فئة :  مقالات

العمارة وتخطيط المدن والتمدن في عالم التطرف ومواجهة التطرف

العمارة وتخطيط المدن والتمدن في عالم التطرف ومواجهة التطرف

إلى أي مدى يكرس الفنّ المعاصر القائم اليوم في عالم المسلمين في مواجهة أو تكريس التطرف والإرهاب؟ تواصل هذه المقالة المقاربات التي طرحت في سلسلة من المقالات التي سبق نشرها من قبل "الفن في عالم الإسلام اليوم، والحالة الفنية مستدلا عليها بالفن، وماذا يمنح الفن فهمنا للدين، والتقدم أو التخلف مؤشرا عليه بالعمارة والموسيقى والشعر، والفن في مؤشرات التقدم، .."

وأعني بالفنّ في هذه المقالة، وفي سلسلة المقالات السابقة واللاحقة الدراما والسينما والمسرح والرواية والقصة والشعر والكتابة والتأليف والترجمة والنشر وأدب الأطفال والعمارة والفنون والموسيقى والفنون التشكيلية والنحت والتصميم...

إن الجمال هو السلوك الفردي والمؤسسي والمجتمعي والاقتصادي القائم على التمييز بين الحسن والسيئ، وعلى هذا الأساس (التمييز بين الحسن والسيئ) يمكن تقديم ملاحظات ومراجعات حول العمارة وتخطيط المدن وتصميم البيوت والطرق والمرافق والخدمات، وكذلك الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية.

ونفترض بطبيعة الحال، أن العلاقة بين الجمال وبين الكراهية والتطرف عكسية، بمعنى أن وجود مستوى جمالي متقدم ومؤثر يؤدي بالضرورة إلى انحسار التطرف والكراهية، وفي المقابل، فإنه يمكن التوقع أن غياب البعد الجمالي أو ضعفه يعني بالضرورة فرص نمو وانتشار الكراهية والتطرف، يقول هيغل: "لقد وضعت الأمم في الفنون أسمى أفكارها"، والفن كما الدين والفلسفة تعبير عن الروح وحاجاتها، وإعطاء تلك الأفكار الرفيعة تمثيلا حسّيا يضعها بين أيدينا.. وكثيرا ما يشكل الفن الوسيلة الوحيدة لفهم ديانة شعب من الشعوب. لذلك، فإننا في ملاحظتنا للفنون (بما هي عمارة وشعر وموسيقى وتصميم ورسم..) يمكن أن نقدر أن تقدم انحسار الاعتدال والتسامح ونمو أو انحسار الكراهية والتطرف.

وبما أن الفنون تعبر عن الخيال والحدس والشعور، فهي أيضا مقياس لوعي وأفكار الأمم والأفراد؛ فالفن يجعل هذا الخيال والعقل الباطن ظاهرا محسوسا يمكن ملاحظته وتقييمه، ويساعدنا الفن أيضا في جسر أو ملاحظة وقياس الفجوة بين الواقع وبين الأهداف والتطلعات، .. يقول هيغل في كتابه "علم الجمال": "يستخدم الفن الغنى العظيم لمضمونه ليكمل من جهة أولى تجربتنا بحياتنا الخارجية، وليستحضر من الجهة الثانية، وبصورة عامة المشاعر والعواطف والأهواء؛ وذلك حين لا تجدنا تجارب الحياة عديمي الحس، وحتى تبقى حساسيتنا منفتحة على كل ما يجري خارج انفسنا، والحال أن الفن يتوصل إلى ذلك التحريك لأوتار الحساسية، لا بواسطة تجارب واقعية، وإنما بواسطة ظاهرها فحسب، بإحلاله اعتمادا على ضرب من الوهم، منتجاته محل الواقع، وإمكانية أن يرفعها إلى علو كل ما هو نبيل وسام وحقيقي وأن يحفزنا إلى حد الإلهام والحماسة، كما يستطيع أن يغرقنا في أعمق حسية وفي أخس أهواء، وأن يغمرنا في جو من الشهوانية، وأن يتركنا حيارى مسحوقين إزاء لعب مخيلة منفلتة من عقالها، تزاول نشاطها بلا قيد او كابح، إن الإنساني لغني بالخير والشر، بالأشياء السامية والدنيئة على حد سواء، ولهذا يقدر الفن على أن ينفخ فينا الحماسة والحمية للجمال والسمو، قدرته على الانحطاط بنا وإثارة أعصابنا، بتهييجه الجانب الحسي والشهواني منا، .. و"على هذا الأساس يمكن أن يقال إن هدف الفن تلطيف الهمجية بوجه عام، وبالفعل يشكل هذا التلطيف للطباع لدى شعب، ما يزال يحبو على طريق الحياة المتمدنة، الهدف الرئيس المعزو إلى الفن، وفوق هذا الهدف يقع هدف تهذيب الأخلاق الذي اعتبر لردح طويل من الزمن أسمى الأهداف."

العمارة وتخطيط المدن:

يقتضي وجود المجتمع نشوء ثقافة تنظمه فلا مجتمع بلا ثقافة، وهذه الثقافة تنشئ في محصلتها الجمال، باعتباره فلسفة عمل وحياة يميز بها الإنسان القبيح من الحسن في الأفكار والأعمال والتقييم والمحاسبة والنظر إلى الذات والآخرين والعمل الاجتماعي والسياسي، وهذا الجمال هو الذي ينظم إدارة الأمكنة والمدن وتخطيطها والتفاعل بينها وبين المجتمعات، وما يتبع ذلك من أفكار في التمدن والإبداع والعلاقات الاجتماعية والثقافية ومشكلات في الهجرة والاستيطان والخدمات.

فالتقدم يقوم أساسا على قيم جمالية تعلم الناس كيف ينظمون مواردهم ويطورونها، كيف يجعلون بيوتهم وطرقهم وأحياءهم ومدنهم وبلداتهم ملائمة لحياتهم، وكيف تبنى وتصمم لتوفر لهم الدفء والتهوية والإضاءة والخصوصية بذاتها، وليس بتكاليف وتدخلات مرهقة ومكلفة، وكيف يجعلون من حياتهم اليومية وأمكنة إقامتهم وعملهم بذاتها وبطبيعة علاقتهم بها مصدرا للرضا والتكافل وتنظيم الاحتياجات الأساسية.

وعلى هذا الأساس، تكون البيوت والمدن والأحياء أكثر استجابة لحاجات الاستقرار والإضاءة والتهوية والتدفئة واستخدام الموارد والبيئة المتاحة (مثل الشمس والمياه والرياح والفضاء أو هدرها، فمدننا وبيوتنا وأحياؤنا تكون وعاء للحياة الأفضل بمقدار ما نمتلك من طاقات الجمال، والموارد والنفقات تدار أيضا بالجمال، كيف نجعل الشمس مصدرا للحياة المريحة في الصيف والشتاء؟ كيف نحصل على الماء من الطبيعة بأقل قدر من التكاليف؟ كيف تخطط الأحياء والطرق على النحو الذي يجعل الحياة مصدرا للسعادة بلا تكاليف وجهود إضافية؟

وبكلمة يجب أن تعكس المدن والأحياء والبيوت احتياجات الساكنين وتطلعاتهم، الإضاءة والتدفئة والتهوية والتبريد والخصوصية والراحة والسكن، المساجد والحدائق الاندية الرياضية المدارس المكتبات العامة الأسواق الخدمات والحرف والمهن الأساسية والضرورية...

لقد نشأت الرواية والمسرحيات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية والسينما والدراما، باعتبارها تشكيلاً اجتماعياً وثقافياً اقتضته عمليات التمدن ونشوء المدن وتطورها، وكانت على مدى التاريخ وفي جميع الحضارات أداة المدن والمجتمعات لأجل تحقيق الانسجام والسلام في الحياة والعلاقات، ولتعويض الروابط التي تشكلت في مجتمعات زراعية ورعوية، ذلك أن المدن تقوم على طبقات من المهنيين والمثقفين وأصحاب الأعمال وقادة الحكم والإدارة، والمؤسسات العامة والتجارية، وتتشكل علاقاتهم الاجتماعية بناء على الأعمال والقيم والأفكار والمصالح المشتركة؛ ففي الأندية والمقاهي والبيوت تكون الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والرياضة هي المجال المشترك للأصدقاء والجيران والزملاء الذين لا تربطهم ببعض روابط القرابة، وتنتمي معرفتهم ببعض إلى الحياة المدينية والعملية المشتركة، وفي الفضاء المشترك والمزدحم تتشكل الحاجة إلى السكون والخصوصية والثراء، فيحمي أهل المدن أنفسهم من "الخواء" الروحي والاجتماعي بالفردانية، وفي هذه الفضاء الروحي والاجتماعي يتشاركون في الأسواق والأندية والمرافق والخدمات العامة والمرافق والمتنزهات والأندية، وفي الوقت نفسه ينشئون أنماطاً من السلوك والقيم تجعل كل واحد منهم يشعر أن الفضاء له وحده بسبب منظومة السلوك والإشارات والرموز التي تحمي الإنسان، وتكون المدن وحياتها اليومية قائمة على هذا التشكيل الاجتماعي والثقافي ومستمدة منه.

وبالطبع، فإن التمدن لا ينشأ تلقائيا، ويظل معرضا للانتكاس والتراجع كلما أصيب العقد الاجتماعي للمدن بالخلل، بعكس الروابط القرابية والدينية والإثنية والطائفية؛ الصلبة والمتماسكة بذاتها، وهكذا فإن التطرف والخواء ينشآن بسهولة وتلقائية، وأما منظومة التمدن فتظل أسسها معنوية ورمزية (عملية وثقافية وقانونية)، وهنا تكون وظيفة الفنّ هي الحفاظ على هذه المنظومة وحمايتها وصيانتها باستمرار.

خطورة عدم التحول الثقافي والاجتماعي في المدينة بما يتفق مع هذا المسار المفترض أنه يحول حياة المدن وعلاقاتها إلى حالة من القلق والفراغ والخواء الشديد، ففي المجتمعات الصغيرة والقرابية تحمي هذه الروابط الفرد من الضياع والخوف والقلق والانحراف، هذا الانتماء يحمي الفرد، ولكن المدينة لا تستطيع أن تمنح ساكنها هذه الحماية، وعندما تتريف، أي تهيمن عليها الروابط الريفية من غير عشائر حقيقية تكون الجماعات والأفكار الدينية هي البديل، إنها تشكل ملجأ وحماية للقادم الى المدينة او المغترب القادم من بعيد، أو العاجز عن الاندماج في قيمها وعالمها... أو يكون المسار الآخر الانحراف والاكتئاب والادمان، ويزيد الإقبال على المحتوى الإعلامي والثقافي والفني الهابط، بما هو هروب من الحياة المدينية.

ولكن الحياة الثقافية والاجتماعية ليست مجرد ترفيه وتسلية أو تمضية للوقت، وفي حالة انفصالها عن مقتضيات الحياة وأساليبها المفترضة فإن حلقة في سلسلة الحياة تضيع، وبضياعها تتعرض السلسلة نفسها للانهيار، مثل سبحة ينفرط عقدها، ذلك أن الناس في التسلية والترفيه والنشاط الاجتماعي والثقافي والرياضي وتمضية الوقت والزيارات يعيدون تشكيل أنفسهم وحياتهم وأعمالهم لتكون أفضل، ولتتغير احتياجاتهم نحو الأفضل

أيضاً، وهكذا فإن الحياة الثقافية والفنية المزدهرة في المدن في البيوت والمقاهي والمسارح والأسواق تؤشر على قدرة على تطوير الأعمال وتحسين حياة الناس ومرافقهم، وقدرتهم على جعل أسلوب حياتهم وأعمالهم يؤدي إلى مزيد من التقدم.

وتمضي حالة الانفصال والخواء إلى مراحل جديدة، فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح والحسن وتتمسك بحاكمية المنطق على الأعمال والحياة لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون، .. وكذا الطعام والطرق والنقل، ثم تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والأفكار، .. إنها جميعها تتقدم نحو الصواب والتقدم والأفضل بناء على ما يملك الناس من جمال ومنطق، وهما (الجمال والمنطق) محصلة الثقافة المنظمة لحياة الناس والمحيطة بها، وبغيرهما لا يقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة بين الأفكار والسلع والأعمال ولا معرفة ما يريدون وما يحتاجون إليه، وما يريدون أن يكونوا، وكيف يراهم الآخرون وكيف يرون أنفسهم. فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة تتحدد بالقدرة على تصميمها وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها، وهي نهاية تقررها القدرة على الرؤية والخيال، أي الجمال، فحياتنا إذن تكون على النحو الذي نتخيله ونراه، وهي في ذلك في تقدمها وتخلفها بمقدار قدرتنا الجمالية والرؤيوية، وبذلك يكون الخواء ليس مجرد أزمة نفسية، ولكنه حالة اجتماعية جديدة كاسحة ينمو فيها التطرف والكراهية.

التمدن:

تمثل الثقافة في الحياة والعمل والاقتصاد والإنتاج مساحة أكبر بكثير مما يبدو في التفكير الانطباعي السائد، ويمكن اليوم ملاحظة هذه المقولة بوضوح في اقتصاد المعرفة القائم على الفكرة والتصميم والإبداع والذي يشكل معظم الاقتصاد السائد اليوم.

ولم يعد مستهجنا الربط بين التقدم الاقتصادي والثقافي، فقد كرس التقرير العالمي للتنمية البشرية هذه المقولة على نحو بدأ يغير في خطط وإستراتيجيات التنمية في العالم، ولكن الأمر يحتاج ربما لتوضيح وتأكيد متواصل ومتكرر للقدرة على الربط بين الثقافة والتقدم أو بين الثقافة والفشل أو لتشكيل تجمعات ومشروعات للتقدم قائمة على أساس الثقافة.

الثقافة هي منظومة الأفكار التي تعبر بها المجتمعات عن وعيها لذاتها من اللغة والإبداع والآداب والفنون والتراث والعمارة، والقيم والعادات والتقاليد، فيكون السؤال كيف تؤدي إلى التقدم الحركة الثقافية والفكرية من الإنتاج الأدبي والإبداعي والترجمة من الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي واللغات والفنون البصرية والسماعية، وحركة النشر بعامة من الكتب والمجلات والدوريات ومعارض الكتب والمطابع والمكتبات ومواقع الإنترنت والمدونات، وأنماط الحياة في السلوك الاجتماعي والانتماء والمشاركة والعادات والتقاليد والتعليم والعمارة واللباس والطعام؟

إن قيمة أية سلعة أو منتج تحددها ثقافة الناس، فلو اعتبروا على سبيل المثال أن الذهب شيء تافه فسيتحول إلى نفايات. لماذا كانت روايات هاري بوتر على سبيل المثال ناجحة؟ لأنها أعجبت القراء وأقبلوا على شرائها بمئات ملايين النسخ، ماذا لو أن أحدا لم يقرأ الرواية؟ هل سنقول عنها ناجحة؟ بالطبع ثمة أعمال في الفكر والإعلام والثقافة والفن بالغة الأهمية والعبقرية، ولكنها ببساطة فاشلة حتى هذه اللحظة على الأقل لأن الجمهور لم يقبل عليها، فالقارئ هو الذي يحدد أهمية ونجاح المنتج الثقافي والفكري، وكذلك السلع والمنتجات، ولذلك يقولون إن المسوقين يفهمون حاجات الناس وتطلعاتهم أكثر من التنمويين، ولكن أين يصنف عمل ومصير الأعمال والمنتجات التي تقع في بقعة تتداخل فيها التنمية مع التسويق، والإصلاح مع التجارة والاستثمار، والثقافة مع الاستهلاك؟

ولذلك، فإن المجتمعات في تنظيمها لمصالحها ووعيها لذاتها تحتاج إلى معرفة وفحص ثقافتها وتطوير هذه الثقافة لتكون استجابة صحيحة لتشكل المجتمعات حول أهدافها ما تريد أن تكون عليه من تقدم حضاري واجتماعي واقتصادي، وأن تشكل ثقافتها على النحو الذي يمكنها من التوافق الصائب ثقافيا واجتماعيا مع البيئة المحيطة والموارد والتقنية وسبل الحياة والرفاه، وعلى النحو الذي ينشئ الناس به كفايتهم ويحققون الأمن والاستقرار والرضا والسعادة والانسجام مع متطلبات حياتهم وتطلعاتهم وآمالهم بحياة أفضل.