لا إله إلا الله: من المقدمة الجمعية إلى النتائج الفردية


فئة :  مقالات

لا إله إلا الله: من المقدمة الجمعية إلى النتائج الفردية

واحدة من أعمق الإشكالات التي تُعاني منها قاعدة التوحيد الرئيسة في الدين الإسلامي ( = لا إله إلا الله)، هو اعتبارها بمثابة (مقدمة) حتمية ومصيرية على المستوى الجمعي، في حين الأصح أن تأتي كـ (نتيجة) غير مُلزمة إلا على المستوى الفردي؛ أي الإبقاء على [قد] كبُعد تكويني على مستوى النتائج. فـ "لا إله إلا الله":

1- [قد تأتي] كنتيجةٍ لحراك معرفي بين الإنسان وبين قاعدة التوحيد كما أقرها المُشرّع الإسلامي، واعتبارها وثيقة تربطه على المستويين الديني والدنيوي بالله.

2- [قد لا تأتي] كنتيجةٍ لحراك معرفي بين الإنسان وبين قاعدة التوحيد كما أقرّها المُشرِّع الإسلامي، وبالتالي ينتقض العقد الذي كان يمكن أن يقوم بين الإنسان والله وفقاً لهذه القاعدة.

بمعنى أن "لا إله إلا الله" [قد تأتي] كنتيجة لرحلةٍ إيمانية فردية، يكون العقل حاضراً فيها، و[قد لا تأتي]. وإذا ما أتت لأحدٍ ما، فلا يعني أن تأتي لأحدٍ آخر، وعليه لا ينبغي تعميم تجربة الإيمان الفردية في حال تمثلها لـ "لا إله إلا الله". وفي هذا المجال سينشأ إشكال آخر من نوعٍ آخر، لناحية تكوين الروح الجمعية للأمة الإسلامية. أليست بحاجةٍ –أعني هذه الروح- إلى رابطٍ قوي، لكي يربطها ربطاً لا يستعصي على الفصم فحسب، بل ويجعلها قادرة على مواجهة روابط الأمم الأخرى أيضاً؟

هذا السؤال يضعنا أمام الإشكال الثاني الذي تعاني منه قاعدة التوحيد "لا إله إلا الله"، المتمثل بإقرار هذا الرابط منذ اللحظة الأولى، سواء في:

1- لحظة التأسيس على المستوى الجمعي.

2- لحظة الولادة على المستوى الفردي.

ففي تمظهرات لحظة التأسيس الأولى للدين الإسلامي اعتُبرت قاعدة "لا إله إلا الله" نقطة انطلاق وانتهاء دفعة واحدة؛ أي أن المجتمع لم يخض تجربة الجدل بينه وبين هذه المقولة لكي يصطلح عليها -أو لا يتم الاصطلاح- الناس بالتقادم وتتحوّل من ثمّ إلى رابط روحي للأمة الجديدة، بل تمّ إقرار "لا إله إلا الله" من اللحظة الأولى إقراراً قاطعاً وغير قابل للجدل، فليس ثمة آلهة إلا الله، فالله واحد لا شريك له، لذا ينبغي القبول بهذه المقولة كمقولةٍ مبدئية غير قابلة لأيّ نقاش. لذا لم يكن الرابط العقدي الذي يربط الأمة الإسلامية لناحية توحيد الله، رابطاً حراكياً خاض فيه الناس جدلاً لاهوتياً كبيراً حول طبيعة الله وتعالقاته مع الناسوت الأرضي، بل تمّ إقرار حضوره الوحداني من لحظة التأسيس الأولى، حتى ساعة حدث الجدل بين المعتزلة وخصومهم حول طبيعة الله وصفاته، كان ثمة إقرار مبدئي بـ "لا إله إلا الله"، وكل ما دار من جدل كان تحت سقف هذه المقولة، ولم يتجاوزها. فلحظة التأسيس كانت قد حسمت الجدل وأقرّت إقراراً أخيراً –تحت وطأة العقاب الشديد- أنْ "لا إله إلا الله"، واعتبر هذا الإقرار بمثابة الآصرة التي سيجتمع تحت سقفها المجتمع الإسلامي، ويُؤسس لرابطته العقدية التي تُشكّل معالم روحه الجمعية.

وإذا كان للحظة التأسيس أن تضع حجر الأساس فيما يتعلق بالرابطة العقدية التي يقوم عليها معمار روح الأمة الإسلامية، فقد كان للحظة الثانية ( = لحظة الولادة) أن تُعمّق هذه الرابطة، فكل مولود يولد في الإسلام يقع عليه الإيمان الكامل بمقولة "لا إله إلا الله" ابتداءً من اللحظة الأولى، دون أن يكون له الخيرة من أمره، وأية محاولة للتعريض النقدي بقاعدة التوحيد التأسيسية سيلقى رفضا كبيراً، قد يصل في كثير من الأحيان إلى القتل.

وشيئا فشيئا، تعاضدت لحظة التأسيس مع لحظة الولادة في ترسيخ قاعدة التوحيد "لا إله إلا الله" وتحويلها من ثمَّ إلى رابطة عقدية تربط الأمة بعضها ببعض. فلحظة التأسيس هي لحظة ولادة جمعية، في حين أن لحظة الولادة هي لحظة فردية، ومعا شكّلا الرابط الذي يربط الأمة ويمنحها جوهرها داخليا وقوتها خارجيا.

لكن المُلاحَظ هو تحوّل هاتين اللحظتين إلى لحظتين إكراهيتين، الأولى ( = لحظة التأسيس) على المستوى الجمعي، والثانية ( = لحظة الولادة) على المستوى الفردي. لذا ثمة خلل مبدئي في الرابط العقدي الذي أسّس لروح الأمة. فاللحظة الأولى لم تستقم بالتقادم، نتيجة لحراكٍ معرفي عميق حول مفاهيم أساسية يمكن أن تساهم في بلورة سياق جمعي يصطلح عليه الناس لغاية تكوين أساس أو رابط لروحهم الجمعية، بل تمّ الاصطلاح على مقولة "لا إله إلا الله" ليس كلحظةٍ زمانية، بل كلحظةٍ مُطْلَقة حلّت في الاجتماع السياسي بوساطة شخص النبي، لذا لم يكن ثمة مجال للنقاش حولها، أو بالأحرى حول إمكانية اعتبارها لحظة يُؤسّس عليها أو لا يُؤسس عليه، بل تمّ التأسيس عليها مباشرة.

وربما تبادر للذهن أن "لا إله إلا الله" كانت نتجية طبيعية لجدالٍ قديم ابتدأ بالديانة اليهودية، والتطور الحادث في سيرورة الله في الزمن والمكان، وموضعته في صورة "يهوه"، ومروراً بالديانة المسيحية وعقيدة التثليث وما جرى على هامشها من مناوشات وجدالات حول طبيعة المسيح، ومن ثم الوصول إلى الديانة الإسلامية التي أقرت صيغة "لا إله إلا الله" كصيغةٍ نهائية وأخيرة.

لم يكن ثمة إقرار إسلامي بالجدل اللاهوتي حول طبيعة الإله اليهودي أو الإله المسيحي؛ فالله واحد في الديانات الثلاث. لكن ما وصل منه من النصين التوراتي والإنجيلي، لحظة التأسيس الإسلامية، كان مُشوّها وغير صحيح. لذا لم يتم التوصل إلى "لا إله إلا الله" على مراحل بل تمّ التوصّل إليها دفعة واحدة، حتى وإن كان ثمة إمكان للبحث عن سيرورة التطوّر اللاهوتي في الديانتين اليهودية والمسيحية.

وعليه، فعندما تمّ إقرار مقولة "لا إله إلا الله" كعمودٍ أساسي في الدين الإسلامي، لم تكن المسألة ناتجةً أو متمخضة عن جدالٍ كبير داخل سياق الديانات الإبراهيمية ابتداءً بالديانة اليهودية ووصولاً إلى الديانة الإسلامية، مروراً بالديانة المسيحية. فالحاصل في النسختين اليهودية والمسيحية من تطوّر لتاريخ الله، ليس صحيحاً بطريقةٍ أو بأخرى، نظراً للتزوير الحادث في بنية النصين المُؤسسين لتينك الديانتين. وإذا كان ثمة جدلٍ حول طبيعة الله وتطوره في السياقين التوراتي والإنجيلي بصيغتيهما الحالية، فهو أمر مرفوض إسلامياً، على اعتبار عدم موثوقية هذه المصادر. فالله لم يتطور أصلاً بل الله هو هو أزلاً أبداً، ولم يقع عليه أي تبدّل أو تغيّر. لذا فإن اعتماد "لا إله إلا الله" جاء كلحظةٍ مُطْلَقة في الزمن، أي أن الإكراه المبدئي الذي طال الإنسان وفقاً لهذه اللحظة هو إكراه تغييبي أو تعطيلي بالأحرى، إذ تمّ تعطيل قدرة الإنسان على إنشاء جدل حول قضية ما وتنمية السجال حولها والوصول من ثمّ إلى رفضها أو قبولها كمدماكٍ تأسيسي تربط روح الأمة بعضها ببعض. بل ثمة من قرّر عن هذا الإنسان ليس بشكل مبدئي فحسب، بل بشكل مُطْلَق بالأحرى، لناحية اعتبار "لا إله إلا الله" مقولة قصوى يُبنى عليها مادياً وروحياً، فهي الناظم لمجمل العلاقات البشرية في الاجتماع الإنساني كمرحلةٍ أولى، وفي العالَم الآخر كمرحلةٍ ثانية.

وسيتم تعزيز هذا الإقرار الإكراهي بإقرارٍ إكراهي آخر، يتم إعلانه لحظة الولادة. فولادة الإنسان داخل الإسلام هي ولادة مُطْلَقة تحجر على خيارات الإنسان الدينية، وليست ولادة ناسوتية تجعله يختار ما يشاء دونما تعرّض لأي إكراهات مبدئية. وسيكون التحرّر من هذه الولادة أو التجاسر عليها، سواء بالانتقال من:

1- مرحلة الإيمان بـ "لا إله إلا الله" إيماناً كاملاً، إلى مرحلة إخضاع مقتضيات هذه القاعدة لجدلٍ مُتنامٍ، والتحقّق في [قد] التي أشرتُ إليها أعلاه.

2- مرحلة قبولها كرابطٍ روحي يربط عموم العالم الإسلامي، إلى البحث عن رابطة أقوى يكون للإنسان دور أكبر في اختيارها. أو بلغة أخرى، الانتقال من مرحلة الإكراه إلى مرحلة الاختيار.

3- مرحلة قبولها إلى مرحلة رفضها، والخروج من ثمّ من الدين الإسلامي برمّته.

سيكون هذا الانتقال عملا مُكلفاً على المستويين الجسدي والمعنوي. فالمخاطرة بنقض هذه الوثيقة الراسخة رسوخاً كاملاً ليس في أذهان المسلمين فقط، بل وفي وجدانهم ومعيشهم اليومي أيضاً؛ سيكون ثمنه باهظاً سيكولوجيا واجتماعياً وقانونياً وعقدياً، لكنه سيكون أحد القرارات الحُرّة التي يمكن للإنسان أن يتخذها في حياته، إذ ينتصر لمُكوّنه الروحي ويعيد تشكيله من جديد، بعيداً عن أي أطر إكراهية تسلبه حقّه في تقرير مصيره الروحي حتى قبل أن يُولَد.

إذن، نحنُ أمام إشكال جوهري اعتبرت وفقاً لمقتضياته قاعدة التوحيد الرئيسة ( = لا إله إلا الله) رابطا روحيا يربط مكونات العالم الإسلامي بعضها ببعض. وقد نتج عن هذا الإشكال الجوهري إشكالاً أكثر جوهرانية، تمثّل في الحَجْر على حرية الإنسان في الاعتقاد، فـ [قد] لا معنى لها في السياق اللاهوتي الإسلامي. فـ "لا إله إلا الله" هي مقدمة مطلقة لا تستلزم أية نتائج إلا ما انطلق منها وأقرّ بها بشكل كامل. مع العلم أن الأصل هو تفعيل [قد] بالنسبة لـ "لا إله إلا الله" في مرحلة النتائج، إذ [قد تأتي] كنتيجةٍ لحراك معرفي إيماني بين الإنسان والإله، و[قد لا تأتي]. مع الأخذ بالاعتبار عدم تعميم نتائج [قد تأتي/ قد لا تأتي] على أي أحد آخر غير الخائض لغمار تلك التجربة، والإبقاء على الرابط الروحي في إطاره الفردي، وعدم تعميمه، والانتقال من حرية الاعتقاد والممارسة الدينية إلى عبودية الامتثال. والبحث من ثمّ عن رابطٍ جمعي تُجمع عليه الأمة، بعد سجال طويل وعميق معه، غير هذا الرابط العقدي، لما يُشكّله من خطورة على قيم الإنسان العليا ويجعل منه محض كائن سلبي، لا حظّ له إلا التلقي السلبي. ففي النهاية ليس أكثر مأساوية من حصر العلاقة بين الإنسان والإله في أطر أقرّت قديماً من قبل أناس كانت لهم تصوراتهم ورؤاهم عن هذا الإله، لم تأخذ طابعاً أبدياً فحسب، بل وطابعا عقابياً لكل من لا يمتثل لمقتضيات تلك الأبدية.