مراجعة "تطور المنطق العربي" للمستشرق نيقولا ريشر


فئة :  قراءات في كتب

مراجعة "تطور المنطق العربي" للمستشرق نيقولا ريشر

تمهيد

تعدّ الفلسفة الإسلامية تراثا إنسانيا مشتركا، تفاعلت في إخراجه إلى حيز الوجود أفكار ينتمي أصحابها إلى حضارات مختلفة، وهو إلى جانب ذلك أيضا، موضوع للدراسة من قبل باحثين ينتمون إلى بقاع مختلفة من العالم.

من هذا المنطلق، لا يمكن إنكار الدور البارز الذي لعبه المستشرقون في توجيه الأبحاث والدراسات التي اهتمت بالفلسفة الإسلامية ورسم الآفاق أمامها، لذلك لا يمكن من وجهة نظرنا الخاصة أن تتم دراسة هذه الفلسفة وهذا التراث، دراسة حقيقية، بمعزل عن هذه الجهود.

ضمن هذا السياق، تندرج هذه المراجعة التي تسلط الضوء على واحد من أهم المصادر التي اهتمت بالفلسفة الإسلامية، خصوصا في جانبها المنطقي. نقصد بذلك كتاب "تطور المنطق العربي The Development of arabic logicللمستشرق والفيلسوف الألماني- الأمريكي نيقولا ريشر Nicholas Rescher، [1] وهو كتاب يقع في 576 صفحة، ترجمه إلى العربية وقدم له ودرسه وعلق عليه الدكتور محمد مهران.[2]

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنه صدر للمؤلف قبل هذا الكتاب كتاب آخر، وهو بمثابة مقدمة للكتاب الذي بين يدينا، وقد جعله بعنوان: "دراسات في تاريخ المنطق العربي Studies in the history of arabic logic وقد جاء الكتاب الذي نتناوله اليوم كخلاصة لبحث مدعوم بمنحتين؛ الأولى سنة 1959 والثانية سنة 1961، وكان غرض الباحث هو الإحاطة بتاريخ المنطق العربي وأعلامه وأعمالهم المنطقية، لأنه لم يحظ حسبه بالدراسة الكافية مقارنة بالطب العربي أو الفلك والرياضيات العربية، وأكد الباحث أنه رغم المجهود الكبير المبذول، إلا أن هذا العمل التأريخي لا يمكن أن يكتمل، ليس فقط بسبب نذرة الدراسات، بل لأن الإرث المتحدث عنه لا يزال قدر كبير منه مخطوطا؛ لم يُحقَق بعد.

سنحاول تقريب مضمون هذا الكتاب المترجم إلى القارئ سالكين في ذلك مسلك الاختصار والتلخيص، حيث سنخصص المحور الأول للحديث عن أبرز النقاط التي وردت في مقدمة ودراسة المترجم التي شغلت جزءا مهما من الكتاب، فيما سنخصص المحور الثاني للحديث عن الكتاب، سواء الجزء الأول الذي عُنون بـ "دراسة استقصائية للمنطق العربي"، أو الجزء الثاني الذي يتضمن "سجل بالمناطقة العرب"، قبل أن نختم القول ببعض النقاط المستفادة من مراجعة الكتاب ككل.

المحور الأول: حول الكتاب وإشكالات البحث في المنطق العربي وتطوره[3]

سيثير مترجم الكتاب مجموعة من الإشكالات المهمة التي ارتبطت بالنقاش الذي فتحه المناطقة والفلاسفة المسلمون حول المنطق وقضاياه، خصوصا في الفترة الممتدة من بداية الخلافة العباسية حتى القرن العاشر هجري، ويمكن تقريب هذه الإشكالات من خلال ما يلي:

1. إشكالية التسمية (المنطق العربي).

سيرتد الدكتور محمد مهران بهذه المشكلة إلى النقاش الذي دار بين السيرافي ومتى بن يونس حول طبيعة المنطق، هل هو واحد مرتبط بالفكر، أم إنه مرتبط باللغة ومتغير بتغيرها؟ وهو النقاش الذي خلده أبو حيان التوحيدي في كتاب "المقابسات".

إن المنطق كما صاغه أرسطو Aristote علم عقلي واحد عند جميع الأمم، وإن شئنا البحث عن حل وسط، قلنا إن المنطق نحو العقل، والنحو منطق اللغة. وينبغي أن يفهم من مسمى منطق عربي حسب الدكتور مهران مجموع الأعمال التي كتبت باللغة العربية في هذا المجال، بما هي تفاعل من أعمال قام بها آخرون، فنحن أمام تراث إنساني مشترك.

2. مشكلة المنطق بين العلمية والآلية

ترتد هذه المشكلة حسب الدكتور محمد مهران إلى اختلاف موقع المنطق في علاقته بالفلسفة بالانتقال من أرسطو إلى المدرسة الرواقية Stoïcisme، فإذا كان الأول جعله منفصلا عنها، فإن الرواقيين اعتبروه جزءا لا يتجزأ من الفلسفة، حيث تنقسم لديهم إلى العلم الطبيعي، ثم الجدل فالأخلاق.

لقد نشأ خلاف بين المفهوم المشائي والمفهوم الرواقي للمنطق، وكان له أثر بارز في أعمال المناطقة العرب وفلاسفة الإسلام، وقد وصف الخوارزمي هذا الوضع قائلا: "ومعنى الفلسفة علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح، وتنقسم إلى قسمين: أحدهما الجزء النظري، والآخر الجزء العملي، ومنهم من جعل المنطق جزءاً آخر غير هذين، ومنهم من جعله جزءا من أجزاء العلم النظري، ومنهم من جعله آلة الفلسفة، ومنهم من جعله جزءا منها وآلة لها"[4].

من تم يتضح أن العرب اعتبروا المنطق آلة للعلم، واعتبروه أيضا علما مستقلا، ولم يحسموا هذه المسألة، ويمكن القول إن المنطق في علاقته بذاته علم، وفي علاقته بغيره من العلوم آلة، متبعين في ذلك رأي نصر الدين الطوسي في شرحه لمؤلف "الإشارات والتنبيهات"، ويبقى الموقف من المنطق متغيرا بتغير تصور كل واحد للفلسفة.

3. مشكلة المنطق بين المادية والصورية

ترتد هذه المشكلة كذلك حسب الدكتور محمد مهران إلى أرسطو والتأويلات التي أعطيت لأعماله المنطقية، فقد جعل المنطق علما بما هو كلي؛ أي أنه يعتني بالصور المجردة التي هي انعكاس لصورة الأشياء في العقل. رغم هذا الطابع الصوري، فإن الصورية لا تعني الفراغ من كل مضمون، وهذا هو الرأي الذي ساد لدى أوائل العرب الذين اهتموا بالمنطق الأرسطي، قبل أن يتبنى المتأخرون موقفا حاولوا من خلاله تجريده من مادته التي تتخذ تارة صبغة برهانية، وتارة أخرى صبغة جدلية أو خطابية أو شعرية.

4. الأورغانون بين أرسطو والعرب

أكد الدكتور محمد مهران خلال مناقشته لهذه القضية، أن الإسكندر الأفروديسي Alexandre d'Aphrodise هو الذي حدد المنطق بالأورغانون، وتركب لديه من كتب ستة هي:

- المقولات Categoria، وهو كتاب يتناول مفاهيم المنطق الأساسية

- العبارة Perihermenias ينظر في تحليل القضايا وأحكامها

- التحليلات الأولى Analytica Priora يدرس نظرية القياس

- التحليلات الثانية Analytica Posteriora ينظر في البرهان

- الجدل Topica يدرس قضايا الاحتمال

- السفسطة De Sophisticis Elenchis وينظر في المغالطات السفسطائية

اعتبر الدكتور مهران أن هذا الترتيب ليس زمانيا، وإنما تمت فيه مراعاة الانتقال من البسيط إلى المركب ومن المبادئ إلى تطبيقاتها، فتراكب المقولات يشكل العبارة، وتراكب العبارات يعطي قضايا، تتوالد من بعضها بالقياس، وهو توالد قد يتخذ نفحة برهانية أو جدلية أو سفسطائية مغالطة.

وسيُضَاف إلى هذه الكتب الستة كتابان، هما:

- الخطابة أو الريطوريقا الذي يعالج الأقيسة البلاغية المقنعة لعامة الجماهير.

- الشعر أو البويطيقا الذي ينظر في القياس الشعري وعوامل جودة الشعر.

يعود فضل إضافتهما إلى رواد مدرسة الإسكندرية، خصوصا سمبليقيوس Simplicus وأمونيوس Ammonios Saccas، وتابعهم في ذلك المناطقة العرب الذين أضافوا أيضا كتاب "المدخل" لفورفوريوس Porphyre.

5. قضية التقسيم الثنائي للمواد المنطقية

بعد إثارته لهذه القضايا، سينتقل الدكتور محمد مهران في تقديمه لكتاب "تطور المنطق العربي" لمناقشة قضية أخرى، تتعلق بالتقسيم الثنائي للمواد المنطقية لدى المناطقة العرب، إذ تنقسم لديهم إلى تصورات وتصديقات.

- التصورات

يعرّف التصور بكونه إدراك معنى مفرد "الإنسان أو الناطق أو الضاحك"، ويتم الوصول إليه بالتعريف، سواء أكان بالحد أو الرسم. وتشمل دراسة التصورات دراسة الألفاظ، وقد برع المناطقة العرب في دراسة هذه الأخيرة من زوايا مختلفة، منها:

- زاوية دلالة اللفظ على المعنى: حيث يكون للفظ معنى في ذهن قائله، ومفهوم في ذهن المستمع، وقد تكون هذه الدلالة على شكل مطابقة أو تضمن أو التزام. بناء على هذا، يرجح البعض أن يكون المناطقة العرب هم من ابتدع علم الدلالة.

- زاوية عموم اللفظ وخصوصه: حيث لا يقبل الخصوصي الشركة التي يقبلها العمومي، بل يطلق على واحد بعينه.

- زاوية مرتبة اللفظ في مراتب الوجود: وقد بين الغزالي هذا الأمر في "معيار العلم"، حيث أكد أن الوجود يكون في الأعيان، ثم الأذهان، ثم الألفاظ ثم كتابة، حيث قال: "فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان"[5].

- زاوية دراسة اللفظ من حيث الإفراد والتركيب: حيث المفرد لا يدل جزء منه على معنى الكل، والمركب هو الذي يتكون من جزأين ويسمى قولا مثل: "حيوان ناطق".

- زاوية نسبة الألفاظ إلى المعاني: حيث قد تدل الألفاظ على معاني مشتركة، أو على معاني مترادفة، أو متواطئة وقد تكون متباينة.

هكذا يمكن القول على حد تعبير الدكتور محمد مهران، أن المناطقة العرب والمسلمين فهموا المنطق على ضوء خصائص لغتهم، وحاولوا تحريره من خصائص اللغة اليونانية، وهذا هو أساس النقاش الذي تم الخوض فيه عبر دراسة علاقة المنطق باللغة.

هذا الاهتمام اللغوي بالمنطق، سيقود المناطقة العرب إلى دراسة "المدخل" لفورفويوس الصوري دراسة مفصلة، حيث سيبحثون في الكليات الخمس (الجنس، النوع، الفصل ثم العرض الذي ينقسم إلى خاصة وعرض عام). وبما أن فرفوريوس حاول التوفيق بين أفلاطون Platon وأرسطو شأنه في ذلك شأن باقي فلاسفة مدرسة الإسكندرية، فإنه كان قريبا من المسلمين روحا وزمانا.

لقد تفاعل المناطقة العرب والمسلمون مع كتاب الإيساغوجي أو المدخل تفاعلا كبيرا ترجمة وشرحا، وقد أضاف إخوان الصفا حسب الدكتور محمد مهران للكليات الخمس "الشخص" لتصير ستة، والشخص هو "المشار إليه بهذا ويكون واحدا بعينه"، ولم يستعملوا مصطلح الكليات وعيا منهم بإشارة الشخص إلى ما هو جزئي.

تولد نقاش مهم بخصوص بعض القضايا المرتبطة بهذا الكتاب، منها قضية طبيعة الأجناس والأنواع، هل هي قائمة بذاتها أم مجرد إدراكات ذهنية، وإن كانت قائمة بذاتها هل هي حسية أم غير حسية؟ وقد كان هذا النقاش سببا في انقسام فلاسفة العصور الوسطى بخصوص هذا الأمر إلى اسميين وواقعيين وتصوريين، وحاول المناطقة العرب إيجاد حل لهذه المسألة قائلين بوجود ثلاثة أنواع من الوجود الخاص بالكليات، الكلي المنطقي والكلي الطبيعي ثم الكلي العقلي.

من بين أبرز أجزاء مبحث التصورات حسب الدكتور محمد مهران، نجد أيضا مبحث التعريفات، ويسمى التعريف بالحد أو الرسم، وقد يكون الحد تاما كقولنا "الإنسان حيوان عاقل"، وقد يكون ناقصا كقولنا "الإنسان هو الناطق". كذلك بالنسبة إلى الرسم قد يكون تاما كقولنا "الإنسان حيوان ضاحك"، أو ناقصا كقولنا "هو الضاحك". فالحد يكون بذكر الجنس والفصل أو الفصل وحده، والرسم يكون بذكر الجنس والخاصة أو الخاصة وحدها.

طور المناطقة العرب هذا النقاش ومزجوا فيه بين ما جاء به أرسطو وما جاء به فلاسفة الإسكندرية والرواقيون مع أخد خصوصيات النحو العربي بعين الاعتبار، وقد أضاف أبو البركات البغدادي التعريف بالمثال، وهو "تعريف الشيء بنظائره وأشباهه، والكل المعقول بأجزائه وأشخاصه ومحسوساته"[6].

- التصديقات

يتناول هذا المبحث حسب الدكتور محمد مهران موضوعين هما القضايا والاستدلال. تعرّف القضية بكونها جملة خبرية تحتمل الصدق والكذب، وقد أطلق عليها العرب اسم القول الجازم، وتنقسم إلى بسيطة ومركبة، تتألف الأولى من موضوع ومحمول وتسمى بالقضية الحملية، كقولنا "الشمس طالعة"، فيما تتألف الثانية من قضيتين حمليّتين أو أكثر، وتكون مرتبطة بأداة شرط، لذلك تسمى بالقضية الشرطية، وتنقسم إلى شرطية متصلة كقولنا "إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود"، وشرطية منفصلة كقولنا "إما أن يكون العدد زوجا أو فردا".

أما الاستدلال، فينقسم عند المناطقة العرب إلى قياس واستقراء وتمثيل، فأما القياس فهو قول مؤلف من أقوال إذا سُلم بما فيه من قضايا لزم عنه قول آخر. وأما الاستقراء فهو إثبات حكم كلي موجود في جزئياته، وأما التمثيل، فهو حكم على جزئي بما في جزئي آخر.

6. الطرق التي عالج بها المسلمون المنطق

سينتقل الدكتور محمد مهران بعد هذه التوضيحات المهمة إلى الحديث عن الطرق التي عالج بها المسلمون موضوعات المنطق، وقد جعلها كالتالي:

- طريق الترجمة والنسخ: وكانت الترجمة تتم من اليونانية مباشرة أو عبر السريانية، ويليها النسخ الذي كان يتم في دور الوراقة، ويعدّ حنين بن إسحق أبرز المشرفين على هذه العملية والقائمين بها.

- الشروح المنطقية: وقد أخذت صورتها مع مدرسة بغداد، حيث انقسمت إلى مختصرة ومتوسطة وكبيرة.

- النظم: حيث كان يتم التعبير عن الموضوعات المنطقية بالشعر، ومن بين ما تم نظمه نجد: "قصيدة في المنطق" لمحمد بن زكريا الرازي، و"القصيدة المزدوجة في المنطق" لابن سينا...إلخ

- الحواشي: وهي شرح عن شرح لكتاب أصلي، مثل شرح نصر الدين الطوسي لإشارات ابن سينا.

- المختصرات: وتميزت عن الشروح الصغيرة بكونها تعالج موضوعات المنطق جميعها دون الدخول في التفاصيل.

- التشجير: وهو طريقة لتوضيح الأفكار بشكل مختصر ودقيق، يكون على شكل شجرة.

أما بخصوص دخول المنطق إلى العالم الإسلامي والعربي، فقد اقترن حسب الدكتور محمد مهران بالطب، وانتهى به المطاف مقترنا بعلم الكلام، ذلك أن جالينوس Claude Galien أكد أن دراسة الرياضيات والمنطق شرط مسبق لفهم الكتب الطبية فهما واعيا، فكان المنطق بمثابة تعليم أولي يسبق دراسة باقي العلوم، وقد انتقل هذا التقليد إلى العرب في المشرق والمغرب، ونجده عند ابن سينا وابن ميمون Moïse Maïmonide، وقد ساهم بيت الحكمة في العصر العباسي في توفير الكتب المنطقية التي تلازمت مع ترجمة الكتب الطبية والفلكية.

صار المنطق أكثر ارتباطا بالثقافة الإسلامية بظهور الغزالي الذي ربطه بعلم الكلام، حيث صُنف الكلام إلى برهاني وجدلي وخطابي ومغالط وشعري، وصار المنطق من علوم الوسائل لا من علوم المقاصد.

ختم الدكتور محمد مهران تقديمه لكتاب "تطور المنطق العربي" بذكره لعدد مهم من المناطقة الذين أغفلهم نيقولا ريشر، ومن بين هؤلاء محمد العامري المتوفى سنة 381 هجرية صاحب مؤلف "إنقاذ البشر من أهل الجبر والقدر"، وأبو الحسن النسوي صاحب "المدخل إلى علم المنطق"، وابن جماعة المتوفى سنة 819 هجرية صاحب "حاشية على مطالع الأنوار في المنطق"، والمصنفك المتوفى سنة 875 هجرية صاحب "حل الرموز وكشف الكنوز"، ثم الشبستري المتوفى 915 هجرية صاحب "موزون الميزان"، وهو تائية في نظم إيساغوجي...إلخ

المحور الثاني: نيقولا ريتشر وتطور المنطق العربي

ينقسم كتاب "تطور المنطق العربي" إلى جزأين، ويمكن القول إن الثاني منهما متضمن في الأول، لأنه بمثابة سجل بأسماء المناطقة العرب المذكورين في الجزء الأول وأعمالهم المنطقية وتأثيراتها، من ثمة يمكننا القول إن ما ورد مفصلا في الجزء الأول، جاء مختصرا في الجزء الثاني من الكتاب.

لقد تتبع الدكتور نيقولا ريشر تطور المنطق العربي قرنا بقرن، وخصص فصلاً للحديث عن كل قرن من هذه القرون بما يحتاجه من تفصيل، بناء على ذلك انقسم الجزء الأول من الكتاب إلى ستة فصول، سنعمل على تقريبها من خلال المحاور الآتية.[7]

1. القرن الأول: من 800 إلى 900 ميلادية

بدأ الدكتور نيقولا ريشر حديثه عن هذا القرن بتأكيده أن المنطق العربي لا علاقة له بما سماه الفلسفة الشرقية، بل هو تقليد يوناني انتقل من خلال الأرسطية المتأخرة إلى العالم العربي الإسلامي، وقد شكل القرن المتحدث عنه الإطار الزمني لهذا الانتقال، حيث ازدهرت حركة الترجمة وبلغت أوجها مع حنين بن إسحق وتلامذته.

لعبت بعض الطوائف المسيحية دورا مهما في هذا الانتقال، خصوصا النساطرة واليعاقبة، حيث كانتا على دراية باللغة السريانية، وتمتعتا بحماية الدولة الإسلامية، فقد اهتمتا بدراسة التعاليم الإسكندرية وبالرياضيات والفلك والطب، وقد وضعت الأكاديمية النسطورية منهجا تعليميا للدراسة، احتل فيه المنطق البرنامج التمهيدي الذي يسبق الدراسات المتخصصة (الفلك، الطب، اللاهوت...).

بناء على ذلك، سيصير نقل الكتب المنطقية ضرورة علمية، وسينتقل تنظيم المنطق الأرسطي إلى العرب بوساطة سريانية على النحو الآتي:

- المدخل أو الإيساغوجي Isagoge

- المقولات Categoriae

- التفسيرات أو العبارة De Interpretatione

- التحليلات الأولى أو في القياس Analytica priora

- التحليلات الثانية أو في القطعيات والبرهان Analytica posteriora

- الجدل Topica

- المغالطات أو السفسطة De sophisticis Elenchis

- الخطابة Rhetorica

- الشعر Poetica

لقد لعب النساطرة دورا مهما في نقل المنطق إلى العرب، إذ تتلمذ جبريل بن بختشوع في أكاديميتهم، وهو الذي كان طبيبا لهارون الرشيد، وأنشأ بأمر من الخليفة المأمون بيت الحكمة حوالي 830 ميلادية، وتدرب على يده خليفته في إدارة البيت حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين، وقد ضم هذا البيت عددا مهما من النساطرة، الذين ساهموا في نقل المعارف اليونانية من الإسكندرية إلى بغداد.

لقد لقيت العلوم من التشجيع في العصر العباسي ما لم تلقه في العصر الأموي، حيث عُرف عن المنصور اهتمامه بعلم الفلك والطب، خصوصا بعد مرضه، وقد واصل هارون الرشيد الذي حكم بين 786 و809 ميلادية دعمه للعلوم، وأنشأ المأمون الذي حكم بين 813 و833 ميلادية بيت الحكمة وكان يعطي وزن الكتاب المترجم ذهبا، واستمرت هذه العناية مع الخليفة المعتمد الذي حكم ما بين 869 و892 ميلادية، ومن بعده المعتضد الذي واصل الحكم إلى حدود سنة 902 ميلادية.

أما بخصوص الأعمال المنطقية التي تم الاهتمام بها في هذه الفترة، فهي تقريبا أعمال أرسطو جميعها، وإن كان ذلك بدرجة متفاوتة بالانتقال من كتاب إلى آخر من كتب الأرغانون، حيث قدمت وشرحت الكتب الأربعة الأولى من الأورغانون في العشرية الثانية من القرن المذكور، وذلك على يد محمد بن عبد الله ابن مقفع، وهو ابن مترجم "كليلة ودمنة".

توالت الترجمات بعد ذلك، غير أنها كانت حرفية عن السريانية مما جعل مدرسة حنين بن إسحق تراجعها بناء على قواعد دقيقة، أهمها الرجوع إلى النص اليوناني قصد التعامل مع أجود ترجمة سريانية، ثم المقارنة بين المخطوطات والارتكاز على ترجمة المعنى لا على النقل الحرفي، وهكذا أعيدت ترجمة كتب الأورغانون جميعها تحت إشراف حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين، كما ترجمت الشروح اليونانية عن كتب أرسطو، خصوصا أعمال الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس Thémistios وفيلوبونس (يحي النحوي) John Philoponus.

جاءت بعد هذه المرحلة مرحلة الشروح والدراسات المستقلة التي بدأها الكندي، ومن بعده ثابت بن قرة، وأحمد بن محمد الطيب السرخسي وحبيب بن بهريز، كما اهتم أبو بشر متى بمتابعة الأعمال المنطقية لمدرسة حنين، رغم أنه لم يكن ضمنها.

2. القرن الثاني: من 900 إلى 1000 ميلادية

تعتبر هذه الفترة حسب نيقولا ريشر فترة الازدهار الفعلي للمنطق العربي، حيث تجاوزت حدود الترجمة والمراجعة إلى الإبداع الذي تجسد مع مناطقة مدرسة بغداد، وقد حصرهم المستشرق الألماني ماكس مايرهوف Max Meyerhof الذي تابع بتفصيل نهاية مدرسة الإسكندرية في عدد مهم، أولهم أبو بشر متى الذي عاش ما بين 870 و940 ميلادية إلى حدود ابن البغونش الذي عاش ما بين 977 و1052 ميلادية، مرورا بيحي بن عدي، وأبو عبد الله الخوارزمي، وابن النديم، والفارابي، وأبو حيان التوحيدي، وإخوان الصفا، وابن الهيثم...إلخ.

أطلق على مدرسة بغداد بسبب اهتمامها بالمنطق اسم مدرسة المنطقيين، رغم أن أعضاءها اهتموا بفروع أخرى من العلم والفلسفة اليونانيين، وقد تولى رئاستها على التوالي كل من أبي بشر متى، الفارابي ويحيى بن عدي، وقد كان للمدرسة دور تعليمي بارز، وهو السر وراء جعل الشروح صغيرة، ثم متوسطة فكبيرة، حيث يكون التقدم في التربية بالتعمق لا بتحصيل مواد جديدة. وقد كان أبو بشر متى آخر الناطقين باليونانية. أما خلفاؤه بمن فيهم يحيى بن عدي، فكانوا يتقنون السريانية فقط. أما الفارابي، فلم يتقن غير العربية.

انتشرت الدراسات المنطقية في العالم الإسلامي بشكل واسع خلال النصف الثاني من القرن العاشر ميلادي، خصوصا بعد ظهور أقطاب سياسية ومعرفية جديدة كبلاد فارس ودمشق والقاهرة وقرطبة.

هكذا ساهم القرن العاشر بقسط وافر في تطور المنطق العربي في العالم الإسلامي، حيث صارت الدراسات قائمة على نصوص رصينة، وشُرحت الأعمال المنطقية ببراعة فائقة تكشف عن نفسها من خلال أعمال الفارابي، وبدأ المنطق في نهاية هذا القرن يلبس لباسا إسلاميا باقترابه من إشكالات علم الكلام وخصوصيات النحو العربي.

3. القرن الثالث أو قرن ابن سينا: ما بين 1000 و1100 ميلادية

سمى نيقولا ريشر القرن الثالث من قرون تطور المنطق العربي بقرن ابن سينا نظرا للركود الذي شهدته الدراسات المنطقية في هذه المرحلة، حيث كان عدد المناطقة قليلا، وكان كل واحد منهم منعزلا بنفسه عن الآخرين باستثناء بعض تلاميذ ابن سينا، ومن أبرز مناطقة هذه المرحلة، بالإضافة إلى ابن سينا الذي عاش ما بين 980 و1037 ميلادية، نجد ابن حزم الأندلسي الذي عاش ما بين 994 و1064 ميلادية، ثم أبو حامد الغزالي الذي عاش ما بين 1059 و1111 ميلادية.

سيؤكد نيقولا ريشر أن ابن سينا منطقي من العيار الثقيل، فهو حسبه لا يقارن بمناطقة الفترة التي عاش فيها، بل هو من حجم الفارابي وابن رشد، وقد كان صاحب تأثير وبراعة كبيرين، وقد تأثر به مناطقة القرن جميعا باستثناء ابن حزم الذي نشأ بعيدا في الأندلس.

ارتبط المنطق خلال هذا القرن بالفلسفة والطب والفلك كما كان حاصلا من قبل، واستجد ارتباطه بعلم الكلام مع الغزالي، فصار المنطق إلى جانب العربية والقرآن وعلم الكلام والفقه أساس المنهاج الديني الإسلامي.

تميزت الرسائل المنطقية خلال هذه المرحلة بأن صارت كتبا مدرسية مستقلة، وأفضلها رسائل ابن سينا التي ستصبح مواضيع للشرح والتعليق خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر ميلاديين.

4. القرن الرابع أو قرن ابن رشد: من 1100 إلى 1200 ميلادية

يعتبر هذا القرن حسب نيقولا ريشر أكثر إنتاجا مقارنة بالقرن الماضي، وقد لعبت بلاد الأندلس في ذلك دورا بارزا، وهي البلاد التي عاش فيها أعظم مناطقة هذه المرحلة أبو الوليد ابن رشد.

يبدأ هذا القرن بإدخال محمد ابن عبدون تقليد مدرسة بغداد إلى الأندلس، وهو الذي عاش ما بين 930 و990 ميلادية ومن بعده جاء عدد مهم من المناطقة بداية بالحمار مرورا بابن بدر، وابن البغونش، وابن حزم، والدارسي، وأبو الصلت، وابن حسداي، وابن باجه، وابن زهر، وابن رشد، وابن ميمون، وابن بندود وصولا إلى ابن طملوس وابن سبعين الذي عاش مابين 1218 و1270 ميلادية.

يعدّ ابن رشد الوجه الساطع للمنطق خلال القرن الثاني عشر ميلادي، حيث بدأ تفسيراته لكتب أرسطو حوالي 1150 ميلادية، في وقت أصبح فيه هذا النشاط مهجورا، وكان بذلك خليفة حقيقيا للفارابي ومتمما لجهود ابن باجه الذي قدم دراسة دقيقة لمؤلفات الفارابي.

ساهم مناطقة القرن الثاني عشر ميلادي من الناحية البيبليوغرافية بأعمال قيمة، إذ بالإضافة إلى شروح ابن رشد المفصلة، نجد الأجزاء المنطقية من موسوعة ابن ملكا الفلسفية ورسائل فخر الدين الرازي المنطقية، وهما معا معارضان لمنطق ابن سينا في المشرق.

تحدث الدكتور نيقولا ريتشر في هذا السياق، عن بداية تحرر المنطق من الفلسفة خصوصا بعد الصراع الذي استمر طويلا بين الاتجاه السلفي والفلسفة، حيث كان سببا في اضطهاد المناطقة وإحراق كتبهم، مثل ما حصل مع الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا والرازي، وقد صور ابن طملوس هذا العداء في "المدخل لصناعة المنطق" مؤكدا أن المناطقة كان ينظر إليهم ككفار وزنادقة.

عانى فلاسفة ومناطقة الغرب الإسلامي من هذا الاضطهاد أيضا، وتكررت باستمرار عبارة "من تمنطق تزندق". غير أن القرن الثاني عشر شكل بداية لتحرر المنطق، وهو الأمر الذي يعود الفضل فيه إلى الغزالي الذي عمل على تقريب المنطق للمجال التداولي الإسلامي، دون أن ننسى في هذا السياق ذكر كتاب "التقريب لحد المنطق" لابن حزم.

لقد بدأ ينظر إلى المنطق كآلة للبحث العقلي العام، يحتاجه الطبيب والرياضي والقاضي والمتكلم لا الفيلسوف وحده، وهو ما أكده ابن رشد في كتاب "فصل المقال"، وشدد عليه ابن خلدون بعد ذلك في "المقدمة"، ليصير جزءا مهما من المنهاج الدراسي لطلاب الدراسات الدينية. وقد كان لهذا الأمر، جانب سلبي تمثل في تراجع تطور المنطق من الناحية النظرية، حيث أصبح دراسة نمطية لمشكلات اعتيادية.

5. القرن الخامس أو قرن تصادم المدارس: من 1200 إلى 1300 ميلادية

يعتبر القرن الثالث عشر ميلادي حسب الدكتور نيقولا ريشر عصرا ذهبيا بالنسبة إلى المنطق العربي من الناحية الكمية، ويعود سبب ذلك إلى السلام الذي حققه المنطق مع الإسلام، فقد ظهرت فيه مباحث جديدة ذات صلة بالدراسات الفقهية والكلامية، غير أنه من الناحية الكيفية لم يكن هنالك جديد كثير، إذ كانت أكثر الكتب مشتقة من سابقاتها.

يمكن القول أيضا حسب الدكتور ريشر إن هذا القرن هو قرن بلاد فارس، إذ لم تساهم بلاد الأندلس أو إسبانيا الإسلامية خلال هذه المرحلة سوى بمنطقيين اثنين؛ هما ابن طملوس وابن سبعين، ويعود الفضل في ذلك إلى تصالح الاتجاه السلفي بالمنطق كما أشرنا إلى ذلك، مع استمرار رؤيته كجزء من الحكمة الأجنبية بالأندلس.

من بين الخصائص التي ميزت هذا القرن أيضا حسب المؤلف، انقراض الشرح عن أرسطو، تحت تأثير ابن سينا وحملته ضد مدرسة بغداد، ويستثنى من ذلك ما قام به عبد اللطيف الذي عاش ما بين 1126 و1231 ميلادية، منتصرا لتقليد الفارابي، فكان آخر من درس المنطق من كتب أرسطو. هكذا صارت الدراسات المنطقية على شكل رسائل محلية منفصلة عن الأرغانون.

لقد شكل الصراع بين ابن سينا ومدرسة بغداد عاملا سيقود إلى تشكل مدرستين منطقيتين، الأولى مشرقية تابعة لابن سينا، وأخرى غربية انتصرت لآراء مدرسة بغداد وتجمعت حول الفارابي، هي التي يمثلها بشكل بارز مناطقة الأندلس.

استمر هذا النزاع بين الشرقيين والغربيين في القرن الثالث عشر في صورة صراع بين أتباع فخر الدين الرازي الذي عاش ما بين 1148 و1209 ميلادية، وهو تلميذ لابن ملكا المتشبع بتقليد مدرسة بغداد وآراء الفارابي، وبين كمال الدين بن يونس الذي عاش ما بين 1156 و1242 ميلادية وتلميذه نصر الدين الطوسي الذي عاش ما بين 1201 و1274 ميلادية.

تميزت هذا المرحلة عموما بنهاية زمن المطولات المنطقية وسيادة المختصرات سواء ذات النزعة الشرقية أو الغربية، وقد رسم ملامح هذه المرحلة مناطقة كثر نذكر منهم على سبيل الإجمال لا الحصر: سيف الدين الأمدي الذي عاش ما بين 1156 و1233 ميلادية وصولا إلى ابن تيمية الذي عاش ما بين 1263 و1368 ميلادية، وبينهما كمال الدين بن يونس، وابن طملوس، عبد اللطيف، القفطي، ابن العسال، الأبهري، نصر الدين الطوسي، ابن النفيس، ابن سبعين، القزويني الكاتبي، قطب الدين الشيرازي، الشهرزوري...إلخ

6. قرن الوفاق وعصر المعلمين من 1300 إلى 1550 ميلادية

سيؤكد الدكتور نيقولا ريشر في الفصل السادس والأخير من الجزء الأول من كتابه "تطور المنطق العربي" أن الحقبة المتحدث عنها في هذا الفصل هي الحقبة الأخيرة للمنطق العربي، وهي تتجاوز حدود القرن التي رُسمت في الفصول السابقة بسبب التماثل بين خصائصها، فقد ازدهر الشرح والتفسير في القرن الرابع عشر ميلادي، وكثرت الشروح والشروح على الشروح في النصف الأول من القرن الخامس عشر نتيجة الاستخدام التعليمي للمنطق في بلاد الإسلام.

مثال ذلك أن كتاب "مطالع الأنوار" للأرموي، شرحه التحتاني، ووضع له علي بن محمد الجرجاني حاشية وشرحا على شرح التحتاني، ووضع داود الشرواني على حاشية الجرجاني حاشية أخرى، وكذلك حصل مع رسائل منطقية أخرى.

كانت النصوص الأساسية التي تدخل في تعليم المنطق في هذه المرحلة، هي:

- كتاب "الموجز" وكتاب "الجمل" للخونجي

- كتاب "مطالع الأنوار" للأرموي

- كتاب "حكمة العين" و"الرسالة الشمسية" للقزويني الكاتبي

- كتاب "هداية الحكمة" للأبهري

تجدر الإشارة إلى أن المتأخرين من المناطقة، لم يجدوا أنفسهم حسب الدكتور نيقولا ريشر منشقين بين تقليد غربي وآخر شرقي، نظرا للجهد التوفيقي الذي قام به التستري وتلميذه التحتاني، ويجد أصله في الكتاب الذي كان مفقودا لابن سينا، وهو "كتاب الأنصاف"، فقد شرحت كتب المدرستين الشرقية والغربية بالتوازي.

كانت للمنطق خلال القرن الرابع عشر ميلادي ارتباطات مهمة بالدراسات الإسلامية، وانفتح بواسطته بعض المناطقة على علم الفلك خصوصا قطب الدين الشيرازي وابن مبارك شاه، كما ارتبط بعلم الكلام خصوصا مع الدواني، الذي كان شيعيا أثنا عشريا وكان متأثرا بالسهروردي، وارتبط المنطق أيضا خلال هذه الفترة بالنحو مع السكاكي والقزويني الكاتبي، ويضاف إلى هؤلاء المناطقة مناطقة آخرون، رسموا ملامح هذا القرن ونذكر منهم على سبيل المثال كلا من، الجوزية، التفتازاني، قاضي زاده، ابن خلدون، الخضري، نور الدين الجرجاني...إلخ

أما مناطقة القرن الخامس عشر والنصف الأول من السادس عشر ميلاديين، فنذكر منهم كذلك على سبيل الإجمال لا الحصر كلا من شمس الدين الحسيني، داود الشرواني، علاء الدين الطوسي، محمود الشيرازي، النيسابوري، صدر الدين الشيرازي، التبريزي، البردعي، ابن كمال باشا، غياث الدين الشيرازي، الأصفهاني، الكيلاني، الصفوي، الأخضري...إلخ

هكذا انتهت رحلة المنطق العربي في بلاد الإسلام بأن صار ضمن قائمة العلوم الإسلامية وابتعد عن دائرة العلوم الأجنبية، واستخدم كمادة تعليمية أولية حيوية تأتي بعده الدراسات المتخصصة. وقد شغل هذا المسح التاريخي الذي قام به الدكتور نيقولا ريشر الجزء الأول من الكتاب، وهو مسح سيبني عليه الجزء الثاني منه، إذ هو بمثابة سجل بالمناطقة العرب وأعمالهم المنطقية ورصد لمكانتهم في تطور المنطق العربي.[8] هكذا ستتكرر الأعلام المذكور سلفا بنوع من التفصيل في هذا الجزء، ويضاف إليها أعلام كثيرة لم نذكرها، مما يشي بالجهد الكبير المبذول الذي قام به الدكتور نيقولا ريشر في التنقيب والبحث عن المصادر.

تجدر الإشارة إلى أن الدكتور ريتشر يُدخل ضمن دائرة المناطقة العرب أي شخص كتب بالعربية أو ترجم إليها نصا منطقيا، سواء كان هذا النص موجودا أم روي عنه، وفي بعض الأحيان يشمل هذا الوصف المعلمين الذين أثروا في بعض رواد المنطق العربي، كما أنه يستثني بعض العرب الذين ألفوا كتابات في مواضيع أخرى مهدوا للحديث عنها بالمنطق مثلما فعل عضد الدين الإيجي في كتابه القصير "المواقف في علم الكلام".

بدأ الأستاذ نيقولا ريشر سجله بترجمة طيماثاوس (جاثليق نسطوري) الذي عاش ما بين 728 و823 لكتاب الجدل من السريانية إلى العربية، بطلب من الخليفة المأمون، وكان من أوائل من ترجموا نصا منطقيا يونانيا إلى العربية عبر اللغة السريانية، ليضع بذلك الحجر الأساس لتعريب المنطق اليوناني.

سيمضي الأستاذ نيقولا ريشر في رسم ملامح سجل المناطقة العرب، متتبعا أعمال كل واحد من المناطقة الذين ذكرناهم أو أولئك الذين لم نذكرهم لكثرة عددهم وقلة شهرتهم، وهو الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد على ضرورة التفكير في التراث المنطقي والفلسفي الإسلامي خارج أعلامه البارزة: الكندي، حنين ابن إسحق، الفارابي، ابن سينا، ابن حزم، الغزالي، ابن باجه، ابن رشد، ابن ميمون، وصولا إلى ابن طملوس وابن سبعين. لأجل أن تكتمل لدينا صورة هذا التراث الذي لازالت جل كنوزه الفكرية والفلسفية والمنطقية مخطوطة أو مفقودة كما يُصرح بذلك الأستاذ نيقولا ريشر نفسه.

خاتمة

هكذا نأتي إلى خاتمة هذه المرجعة التي عملنا من خلالها على تقريب أبرز أفكار الكتاب القيم الذي ألفه الدكتور نيقولا ريشر تحت عنوان "تطور المنطق العربي"، وهو كتاب كما تبين لنا من خلال محاور هذه المراجعة، ومن خلال فصوله يتتبع تطور المنطق العربي، أي المنطق المكتوب بلغة عربية، سواء أكان فعل الكتابة هذا ترجمة أو شرحا أو تلخيصا أو رسائل أصيلة، سواء أكان الكاتب عربيا مسلما أو غير عربي.

يدعونا هذا الأمر إلى التأكيد من جديد على أن التراث العربي الإسلامي تراث إنساني مشترك، لا يصح بأي وجه من الأوجه تجنيسه، لأن تجنيس الفكر والثقافة من وجهة نظرنا الخاصة أس من أسس الصراع والركود المعرفي.

لا بد إذا من قراءة التراث العربي الإسلامي بهذه الروح، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمنطق، لأنه في جانب كبير منه علم آلي، لا تختص به ملة من الملل، بل هو نتاج للعقل الإنساني الذي هو أعدل قسمة بين الناس على حد تعبير رائد الفلسفة الحديثة رنيه ديكارت René Descartes.

من أبرز الخلاصات التي يمكن الركون إليها أيضا في هذا السياق، أن قراءة التراث العربي بمعزل عن المجهودات القيمة التي قام ويقوم بها المستشرقون، سيكون فعلا ناقصا نظرا لرصانة ودقة الأبحاث التي ينجزها هؤلاء.

يستفاد أيضا من هذا المؤلف القيم، أن معرفتنا بتراثنا معرفة غير مكتملة، فكثير من الأعلام والمؤلفات التي يذكرها الدكتور نيقولا ريشر في هذا الكتاب هي مجهولة وغائبة أو مغيبة عن ثقافتنا المعاصرة.

من ثمة لا يشكل هذا الكتاب نهاية لجهد كان من الممكن أن يقوم به باحث آخر، بل هو بداية ممكنة لعدد مهم من الأبحاث الفلسفية النظرية أو العملية التطبيقية أو الكوديكولوجية والبيبليوغرافية، فالكم الهائل من الأعلام المذكورين والمؤلفات الكثيرة المشار إليها تستدعي تدخلا بحثيا كبيرا تقوده فرق متخصصة، وما من شك أن عملا من هذا القبيل سيجعلنا نتعرف أكثر فأكثر على ثقافتنا الإسلامية وعلى فلاسفتها ومناطقتها وعلمائها، حتى يكون بإمكاننا فيما بعد تقديم جواب دقيق عن سؤال لماذا تأخرنا؟

[1] العنوان الأصلي للكتاب هو:

- Nicholas Rescher, The Development of Arabic logic, University of Pittsburgh press, 1964

[2] نورد فيما يلي الإحالة العلمية للترجمة العربية:

- نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق محمد مهران، تصدير زكي نجيب محمود، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأولى 1985

تجدر الإشارة إلى أن الكتاب أعيد طبعه سنة 2005، وتورد هنا أيضا الإحالة العلمية لهذه الطبعة.

- المستشرق نيقولا ريشر، تاريخ علم المنطق عند العرب: مراحله، مدارسه وسجل شامل بفلاسفة المنطق ومؤلفاتهم، ترجمة ودراسة وتعليق محمد مهران، تصدير زكي نجيب محمود، منشورات أسمار، باريس، 2005

[3] سنخصص هذا المحور للحديث عن أبرز القضايا التي أثارها الدكتور محمد مهران أثناء تقديمه ودراسته للكتاب التي شغلت حوالي 90 صفحة، وتوزعت على محاور نوردها، فيما يلي:

- أولا: قضايا عامة

- ثانيا: التقسيم الثنائي للمادة المنطقية

- ثالثا: الطرق التي عالج بها المسلمون موضوعات المنطق

- رابعا: المنطق العربي بين الطب وعلم الكلام

- خامسا: هذا الكتاب "تطور المنطق العربي"

[4] الخوارزمي، مفاتيح العلوم، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، بدون تاريخ الطبع، ص 79، نقلا عن محمد مهران.

[5] الغزالي، معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، دون تاريخ الطبع، ص 45، نقلا عن محمد مهران.

[6] أبو البركات البغدادي (ابن ملكا)، المعتبر في الحكمة، الجزء الأول، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1357 هجرية، ص 48، نقلا عن محمد مهران

[7] عنوان نيقولا ريتشر هذا الجزء بـ "دراسة استقصائية للمنطق العربي"، وهو يشغل حوالي 100 صفحة، وينقسم كما قلنا إلى ستة فصول، على النحو الآتي:

- الفصل الأول: المنطق العربي في قرنه الأول

- الفصل الثاني: أول ازدهار للمنطق العربي

- الفصل الثالث: قرن ابن سينا

- الفصل الرابع: قرن ابن رشد

- الفصل الخامس: تصادم المدارس

- الفصل السادس: فترة الوفاق وعصر المعلمين

[8] وضع الأستاذ نيقولا ريشر للجزء الثاني من الكتاب "سجل بالمناطقة العرب" عنوانا، وقد شغل هذا الجزء حولي 330 صفحة، خصصها لوضع سجل عرف فيه بكل منطقي عربي على حدة، مع ذكر أعماله المنطقية ومقدار مساهمته في تطور المنطق العربي.