مراحل الإسلام السياسي ومثال التجربة التونسية


فئة :  مقالات

مراحل الإسلام السياسي ومثال التجربة التونسية

مراحل الإسلام السياسي ومثال التجربة التونسية[1]

بقلم: د. محمد الخراط

تمهيد:

ما أكثر ما كتب في موضوع الإسلام السياسي وما أكثر من كتب فيه. ليس لأن هذا الموضوع من أكثر المواضيع راهنية وحضورا في المشهد العالمي سياسيا وثقافيا واجتماعيا ومن أكثر الظواهر تعقيدا فحسب، بل لأن هذا الموضوع يطرح على المحك بشكل سافر وعنيف النضالات الطويلة من أجل العلمنة لجزء كبير من شعوب هذه المعمورة.

ومع ذلك، فإن الإسلام السياسي حقيقة لا مراء فيها، بل هي الواقع العياني الذي يفرض نفسه محليا ودوليا، ويستوجب الموقف إزاءه بعض الحكمة. فكثير من الأحزاب والحركات الإسلامية صارت إلى الحكم بعد طول اعتقالات ومنافي ونضالات ضد الاستبداد، وهذا يعني حقها في أن تخوض غمار التجربة السياسية ملتزمة بقواعد اللعبة الديمقراطية. ويبدو أن هذا الإسلام السياسي المهيكل قد ارتضى قواعد العملية الديمقراطية، وانتهى به الأمر إلى سدة الحكم في كثير من البلاد العربية. لكن وجوده في أعلى الهرم السياسي لم يخل من التوتر والهزات إن مع شرائح من الشعب، وإن مع الأحزاب السياسية المناوئة، وإن مع بعض الجمعيات والمنظمات. ونحن نزعم أن هذا التوتر يرجع إلى أسباب يعود بعضها إلى جذور الإسلام السياسي نفسه، ويعود بعضها الآخر إلى الظروف الإقليمية والعالمية لصعود الإسلام السياسي إلى واجهة الأحداث والفعل، ويرجع بعضها الآخر إلى خصوصية كل تجربة من تجارب الحكم. وسنعطي نموذجاً عليها تقييم حالة، وهي "حركة النهضة" التونسية.

الإسلام السياسي النشأة والمفهوم

لعله من باب البداهات، أنّ الحديث عن الإسلام السياسي يفترض التعريف به بوصفه ظاهرة سوسيو-سياسية. من ذلك أن غراهام إيفوللر قد بيّن أن "الإسلامي" هو ذلك المسلم الذي "يعتقد أن الإسلام بوصفه متناً للإيمان يمتلك شيئاً مهمّاً، ليقوله عن الكيفية التي يجب أن ترتب بها الشؤون السياسية، ويرتب بها المجتمع في العالم الإسلامي المعاصر، وهو يسعى إلى تطبيق هذه الفكرة بطريقة ما أو بأخرى"[2]. ويرى الكاتب نفسه أنّ الإسلام السياسي يضم أصنافاً مختلفة من الإسلاميين ما بين الراديكالي والمعتدل والمسالم، ولكنه يميز بين أفراد الإسلام الأصولي الذين "يتبعون قراءة حرفية وضيقة للقرآن الكريم وسنن النبي محمد (ص)، والذين يعتقدون أنهم يستأثرون بالفهم الصحيح الوحيد للإسلام، ويظهرون عدم تسامح نحو الذين يختلفون معهم"[3]، من التقليديين الذين يعيشون الإسلام الذي يُرى في وجدانهم بشكل معتدل. وهكذا يقرر هذا الكاتب بأن "جميع الأصوليين إسلاميون، ولكن ليس الإسلاميون كلهم أصوليين بأي وجه من الوجوه"[4].

وبصرف النظر عن هذه التعريفات التي ترشح ضبابية شأن حديثه عن "إسلام مسالم" و"إسلام متشدد" و"إسلام معتدل"، مما لا نعرف كيف نحدد معها مفهوم التشدد ومفهوم الاعتدال، وبالنظر إلى أي مقياس، فإننا نؤكد أنّ الإسلامَ السياسي مرتبطٌ بقضايا العصر الإقليمية والعالمية، وفيصل التفرقة في صنوفه هو البعد الحركي والمنزع النضالي.

إنّ حديثنا عن الإسلام السياسي ليس مناسبةً لبحث علاقة الدين بالسياسة؛ لأن معرفة معمقة بالتاريخ تبين أن هذه العلاقة كانت دائماً ظاهرة محايثة للوجود الإنساني معقدة التّجليات بين الثقافات. فلا السياسة يمكن لها أن تغض الطرف عن هذه القوة الإيديولوجية الجبارة والدفق الروحي الرهيب، ولا الدين يمكنه أن يتنكر لهذه الممارسة السلطوية المهيمنة، وإنما هو نوسان بين المهادنة والمواجهة على حسب الحضور النوعي للاجتماع البشري. لكن مصطلح الإسلام السياسي يرتبط سياقياً بالإسلام، ومتى لم يكن الإسلام سياسيا؟، ذلك أن الحديث عن الإسلام ديناً معيارياً هو حديث عن المثال المفارق للتاريخ. والمعيار لا يُرَى إلا إذا تعين في عجينة التاريخ.

منذ البداية، كانت العلاقة بين الإسلام والسياسة ملتبسة، كل واحد من هذا الزوج ينزع إلى تطويع الآخر لمشروع الحقيقة الذي يريد فرضه. وكان التاريخ الإسلامي حافلاً بالصراع على امتلاك هذا الرأس مال الرمزي (الدين)، ولطالما رفعت الشعارات في إطار المزايدة المحاكاتية للدفاع عن الدين الحق والتسويق لفكرة "الفرقة الناجية" في إطار الحركات الطهرية، أو المواقف التبريرية أو سياسات البحث عن المشروعية.

غير أن مصطلح الإسلام السياسي لم يظهر على مسرح الأحداث بمعناه النضالي إلا حين تحولت الإيديولوجية الإسلامية من سدة الحكم؛ أي من إيديولوجية من يمسك بزمام الأمر سياسيا، إلى فضاء المعارضة؛ أي من هو محتج من المحكومين، فتحول من سياق التشريع للنظام إلى سياق الاحتجاج عليه. وكان لابد لهذه الإيديولوجية أن تحمل في طياتها بذور الثقافة الأصلية وبنية العقل المؤسس، وهي ثقافة ذات أصول قبلية تحكمها فكرة العصبية والقائد الملهم وتحكمها رؤية فلسفية للعالم أساسها امتلاك الحقيقة المطلقة ومنطق فقهي ينزع في أعماقه إلى رد الواقع إلى النص والفكر التأسيسي.

وليس الإسلام السياسي في السياقات الحديثة بعيداً من جهة البنية التكوينية والرؤية الفلسفية للعالم عن حركات الإسلام السياسي في الماضي، إلا من جهة مجموع الإجراءات التي يتخذها استراتيجيا للوصول إلى السلطة. فقد كان الهدف الأول دائما هو الإمساك بزمام الحكم بديلاً عن نظام قائم، وهو أمر مشروع لكل حركة سياسية. لكن الاختلاف هو أن الوصول إلى الحكم كان مع الإسلام السياسي يروم إحلال نموذج سياسي ومجتمعي مستلهم من النصوص الدينية ومن تأويلات المواقف الاعتقادية، مما يؤسس لاختيارات فوقية؛ أي لتصورات جاهزة لإجبار المجموعة على تبنيها، وليس على اختيارات تختبرها المجموعة تاريخيا وعمليا، مما يجعل تبني أطروحات الإسلام السياسي موضوع تحديات خاصة في الأنظمة المعلمنة. فإذا تخلى الإسلام السياسي عن هذه الاختيارات الفوقية، فإنه يكون قد تخلى عن المرجعية الأصلية التي يرفعها للدفاع عن مشروعه. وكثيرا ما تتخلى حركات الإسلام السياسي عن مرجعياتها تكتيكياً للإيهام بمواءمتها لمتطلبات العصر، بيد أن هذا التنازل لا يضعف كثيراً من القاعدة الشعبية لهذه الحركات التي تصبح مع الزمن معبأة إيديولوجياً بشكل يجعلها تتغاضى عن تهافت أسس المشروع الذي تحمله أو تتصور أنها تناضل من أجله، وإنما يزيد من حدة الخوف من الأحزاب ذات المرجعية الدينية التي لا يهدأ تقلبها.

يُرجع نزيه الأيوبي ظهور الحركات الإسلامية الحالية إلى "وجود جماهير شعبية مسحوقة في بلدان الشرق الأوسط"[5] تبحث عن آمال أجهضتها مشاريع القومية العربية والتجارب الاشتراكية الفاشلة ونجاح الحركة الصهيونية، فإذا هي تلوذ بالتصورات التراثية تبحث عن سبل للطمأنة. وكان ابن تيمية هو المرجع الفكري لهذه الحركات بما أنه استنكر التدخل الأجنبي المغولي وأفتى بعصيان الحكام الفاسدين، وهو ما وجده أنصار الحركات الإسلامية الحديثة من خلال مقاومة الغرب والتمرد على الحكام المستبدين ومقاومة علماء الدين الموالين للمؤسسات الرسمية الحكومية. وهذا يعني أن هذه الحركات ستستعمل خطاباً دينياً صارماً في نطاق مزايدة محاكاتية على الإسلام التقليدي الذي تقدمه الدولة، تلك التي تحمل مشروعا علمانياً أو تلك التي تحمل فلسفة طهرانية، وهي في العموم حركات تتجاوز موضوع التدين إلى "التديين" أو موضوع الإسلام إلى الأسلمة. ولذلك، فإن الإسلام السياسي لا يصح عمليا إلا على الحركات الأصولية والأصولية الجديدة "على اعتبار أنها ممن يركز على الطبيعة السياسية للإسلام وينضوون في أنشطة مناوئة للدولة بصفة مباشرة"[6].

قد تنطبق هذه التحديدات على بعض حركات الإسلام السياسي، ولكنها لا تصح على بعضها الآخر، ولا سيما تلك التي خرجت للعلن مع نهاية القرن العشرين وخاصة في موضوع المرأة التي تُتخذ المواقف منها بحسب طبيعة المجتمع والمخزون الثقافي وبحسب مدى اختراق العلمنة لنسيج الثقافة والمجتمع في كل منطقة، بل بحسب علاقة هذه الحركات الاسلاموية بالحداثة عموما وقدرتها على تطويع قواعدها للبراغماتية السياسية. لذلك، نرى أهمية أن نعرّف الإسلام السياسي بوصفه تنظيما سياسيا يطلب السلطة، ويحمل خطابا دينيا ومعجما تراثيا يطوعهما للغة الحداثة لتحقيق العدالة كما تتصورها الشريعة.

الإسلام السياسي في أثناء الثورات العربية وبعدها - نموذج تونس

فيما بين 14 ديسمبر/ كانون الأول 2010، و11 يناير/كانون الثاني 2011 استطاع الشعب التونسي أن يزيح من سدة الحكم نظاماً من أكثر الأنظمة استبدادا في التاريخ المعاصر، وأن يسمح للحركات السياسية المعارضة الصورية أو الفعلية، الظاهرة أو المتوارية، سواء بالتهجير أو بالإلجام أن تطفو على مسرح الأحداث، سواء منها تلك التي ساهمت بشكل مباشر في قدح زناد الثورة والتعبئة الجماهيرية أو التي كانت ساكنة تنتظر المصير. وإذا كان من الحق أن معظم حركات المعارضة يمينها ويسارها لم يصنع الثورة، وإنما أتته منقادة تجر أذيالها بواسطة الشباب المحروم في الأطراف المعزولة أساساً، فإن هذه الحركات سرعان ما لملمت حواشيها واندفعت لصناعة الحدث السياسي، وانقضَّت على الفرصة التي وفرتها ظروف محلية وإقليمية وعالمية متداخلة، ومن بين هذه التنظيمات "حركة النهضة" التي كانت فيما مضى تسمى حركة "الاتجاه الإسلامي" بزعامة راشد الغنوشي الذي لم يظهر كفاعل ثوري مباشر في الأحداث. ففي أول بيان لحركة النهضة تعليقا على إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده، لم تطلق "حركة النهضة" خطابا تهجميا على الرئيس زين العابدين بن علي، بل ناشدت القوى السياسية التونسية من أجل إعلان حوار وطني حول أزمة البلاد ومناقشة التدهور المتسارع للأوضاع في تونس. ويمكن أن نلمس ذلك في "عدم إيحاء الشيخ راشد الغنوشي في رسالته التي أرسلها من لندن (18 ديسمبر/ كانون الأول 2010) إلى وجود انهيار وشيك لنظام الرئيس بن علي".[7]

بيد أن مشاركة هذه الحركة في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2011، جعلها تفوز بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، ومكنها من التصويت على الدستور الجديد، حيث برهنت الحركة على سمة من أهم مميزاتها، وهي البراغماتية بما أنها قدمت تنازلات لابأس بها حفاظا على وجودها السياسي، سواء في مستوى صياغة مواد الدستور (الشريعة، المرأة، حرية الضمير...) أو في القيادة السياسية تحت ضغط القوى العلمانية والمجتمع المدني داخليا ومحاصرة الأحزاب والقوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية خارجيا.

اعتلت حركة النهضة، في إطار تحالف الترويكا، سدة السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن المواطن الذي ثار ضد الجور والقهر واستفاق بعد نشوة الثورة، لم ير مطالبه الاجتماعية تتحقق، بل لاحظ بأن انتظاراته آلت إلى سراب، بل ازداد يقينا بأن الفترة الانتقالية التي مرت بها البلاد قد طالت لدرجة كانت توحي عنده بأن الذين يمسكون بزمام الحكم قد سرقوا ثورته "وهو ما خلف حالة من تآكل لشرعية حركة النهضة في السلطة وأدخل المجتمع التونسي في حالة تناقض كبير"[8] بين الوعود الثورية وعجز الطبقة الحاكمة عن الإسراع في تنفيذ تلك الوعود، بين إعلان مشاريع البناء الدستوري واستقلال القضاء ومأسسة الحقوق والحريات، والعجز عن استرداد الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين والتوزيع العادل للثروات.

وهنا نسأل: بأي مقياس يمكن الحكم على تجربة حركة سياسية ما بأنها ناجحة أو فاشلة في تطبيق شعاراتها ومسؤولياتها السياسية بعد نجاحها الانتخابي؟ هل نحكم عليها بمقياس الفاعلية السياسية والنجاعة أم بمقياس القدرة على التعبئة والتجييش الشعبي أم بالأمرين معا؟

كان جيل كيبل قد بين أن "النجاح السياسي لحركة إسلامية أو إخفاقها في بلد ما رهين بمدى قدرة هذا التنظيم على التعبئة الاجتماعية. وهذه التعبئة تكون ناجحة إذا ما استطاعت أن تضم ثلاث فئات مختلفة هي الشباب الحضري الفقير والنخبة المثقفة المضادة وأخيراً البرجوازية الورعة"[9]. وأشار كيبل إلى أن أيا من هذه الفئات لا يمكنها النجاح إلا بمقدار تفاعلها مع الفئتين الاجتماعيتين المصاحبتين. ونستطيع أن نقول في شيء من اليقين إن حركة النهضة في تونس بعد الثورة قد استطاعت أن تستقطب أعدادا مهمة من هذه الشرائح الاجتماعية الثلاث، مما مكنها من اكتساب أغلبية مريحة في المجلس التأسيسيفي البداية ثم بعدد مهم من المقاعد في البرلمان المنتخب بعد ذلك.

كانت مطالب الشباب الحضري اجتماعية بالأساس؛ فهو يريد الشغل والسكن اللائق ويطلب الاحترام، وهذه الرغبات يراها متحققة عبر تفعيل الشريعة التي تمثل بالنسبة إليه نموذجاً للعدالة الاجتماعية. وكانت البرجوازية الورعة تريد السلطة وتنشد ضمَّ النفوذ السياسي إلى منزلتها الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك، فهي تجد في الشباب الحضري المعوز وسيلتها إلى تحقيق مآربها في نشر أيديولوجيتها في الداخل وقد تبعث به إلى الخارج للجهاد تحقيقا لعلاقاتها الخارجية. وكانت مهمة النخبة المثقفة أن تنسج خطابا يمكنه "أن يعبئ كلا من الشباب الفقير الحضري والبرجوازية الورعة"[10].

من هذه الجهة، يمكن أن نقول إن مهمة الحركة السياسية الإسلامية ممثلة في حركة النهضة، قد أتت أكلها واستقام لها ما خططت له منذ زمن غير قريب، إذ يبدو أن استراتيجية حركة النهضة تأسست منذ الثمانينيات من القرن الماضي على محاولة تثوير المدن والعمل بشكل هادئ وحركة صامتة على إعداد المناطق الحضرية استعدادا للالتفاف حول التنظيم مع أول شرارة ثورة أو تمرد، [11] خاصةً وأن هذا الشباب الحضري الذي كان عماد التعبئة ووقودها لم يكن من النوع المؤدلج علميا. لم تجعله ثقافته -كما كان في زمن الإيديولوجيات الكلاسيكية في القرن الماضي- مهووساً بالتنظير الأيديولوجي والالتزام المرجعي الدقيق الذي يفكر في البرامج النظرية والتحركات المدروسة وفق خطط بعيدة المدى. إنه شباب الفايسبوك. ومن شأن مواقع التواصل الاجتماعي أن تعوِّد الدائبين عليها على التحرك السريع والمواقف البراغماتية، وأن تنشئ بداخلهم نوازع المسؤولية الفردية عبر حوار افتراضي يستلزم السرعة ويرسي البرامج حينيا. إن الحوار الذي صنعه "الفايسبوكيون" عبر جهات متباعدة ومن مواقع مختلفة قد ساهم في عملية إنتاج المعنى الثوري وعمَّق هواجس التغيير، وأثار مطامح إدارة الشأن العام لحركة يرون أنها الممثل الشرعي والأخلاقي لتحقيق العدالة المنشودة والتخلص من ربقة الاستبداد. لكن الوصول إلى القمة أسهل من البقاء فيها كما يقال. فمن جهة أولى، وجدت حركة النهضة نفسها في الحكم، وهي تفتقر إلى الإطارات الخبيرة بإدارة الشأن العام؛ فمعظم رجالاتها كان في المنافي أو في السجون، ووجدت الحركة نفسها مضطرة للتعويل على شخصيات تعوزها الكفاءة أو تلوذ بكفاءات النظام القديم مما سمح بعودة المنظومة القديمة بعقليتها البيروقراطية والانتهازية، رغم خبرتها الإدارية. ومن جهة ثانية، وجدت حركة النهضة نفسها مجبرة على احترام التزاماتها مع جماعات الإسلام السياسي الأخرى التي ساعدتها على الوصول إلى السلطة، وكانت أكثر راديكالية في فكرها (جماعة أنصار الشريعة، حزب التحرير...)؛ فهذه الجماعات ذات المنحى الأصولي الواضح باتت عنصرا ضاغطا على سياسة الحركة، وأضحت تطالبها بالإيفاء بوعودها الانتخابية التي تخصها، وأهمها تطبيق الشريعة وإحلال الإسلام دينا ونظاما للدولة، فوقعت بين كماشة الحركات الأصولية من جهة، والمجتمع المدني المتخوف من سلطة الإسلاميين المدافعين عن فكرة الدولة الدينية من جهة ثانية. وكانت التجربة المصرية المتوترة، وحظر العمل السياسي على حركة الإخوان المسلمين، والقلق الدولي إزاء الأحزاب الدينية الإسلامية عموماً، كانت كلها بمثابة إنذار لحركة النهضة دفعها للتخلص تدريجياً - وبشكل صامت- من العناصر المتشددة داخل هياكل القرار (مجلس الشورى) في مرحلة أولى، ودفعها إلى تقديم تنازلات هائلة في جوهر مبادئها "الدينية-السياسية" في مرحلة ثانية. وكان ذلك مطعناً عظيماً في المرجع الفكري الذي تستند إليه، إذ اتهمها خصومها بازدواجية الخطاب، وغياب التّصور النظري المنسجم للحكم، فلا هي أرضتْ قواعدها، ولا هي أرضتْ المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، ولا هي استطاعت الاستجابة لصيحات المحرومين في المناطق المهمشة التي على عاتقها قامت الثورة..

لقد كانت هناك أسباب كثيرة لحالة شدّ الأعصاب التي صاحبت تجربة الإسلام السياسي في تونس بعد الثورة، يمكن ردّها إلى عوامل سياسية وتاريخية وأيديولوجية واجتماعية ونفسية متداخلة يمكن بسطها كالتالي:

أولاً- إن المسألة تتجاوز مستوى الخصومة الأيديولوجية بين الأحزاب، وهو أمر ملحوظ وواقعي، إلى مسألة الإيمان بالديمقراطية بعمق لا في شأن حركة النهضة فحسب، بل في شأن كل مكونات المشهد السياسي التونسي. فالبلاد التي خرجت من الاستعمار بفلسفة النظام الرئاسي ذي الحزب الواحد، والمجتمع المتعود على الانضباط البوليسي، لا يمكنهما أنْ يتمثلا الفكرة الديمقراطية بسلاسة وبشكل طبيعي، فما بالك بالأحزاب الدينية التي تؤمن بالحقيقة الواحدة المطلقة. لذلك، فإن "دسترة" القوانين ومأسسة الحقوق -رغم أهميتهما- لم ينتهيا إلى سلم اجتماعي أو حراك سياسي طبيعي.

لا يمكن للديمقراطية أن تشتغل إلا في مؤسسات قانونية، وهذه المؤسسات لا يمكن أن تكون مثمرة ومجدية إلا بكفاءات قانونية وإدارية تلتزم بتطبيق القانون. وتطبيق القانون يقتضي قوة سياسية فعالة ومجتمعا مؤمنا بعلوية القانون. هل نذكّر بأن الشباب الذي تمرد على النظام الاستبدادي، وأشعل فتيل الثورة لم يستفد شيئاً من هذه الثورة؟ وهل نذكّر بأن الامتثال للقانون رهين بتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم؟وهل نذكّر بأن الشباب الحضري الذي يطالب بالشغل والسكن اللائق والاحترام لم تُجْدِه الشعارات السياسية نفعا؟

ثانياً- لقد فشلت حركة النهضة في إرضاء قواعدها (خاصة الشباب الحضري)، وفي إرضاء المجتمع المدني والشرائح المثقفة من العلمانيين، ولم تجد بدّاً من أن تجعل "التوافق" فلسفة المرحلة الجديدة، التوافق مع الحزب المعلمن عبر تقديم التنازلات، وكلما ازداد ضغط المجتمع المدني زادت الحركة من تقديم التنازلات. ورغم أنها هي التي تحكم البلاد فعليا في الوقت الحاضر، فإن سيادتها على نفسها تضعف ويضعف مستقبلها السياسي.

ثالثاً- إنّ التشنج الاجتماعي والسياسي ينجم عن التعصب الحزبي المتضخم في المشهد السياسي التونسي، سواء من أنصار حركة النهضة أو من أنصار التيارات العلمانية والأحزاب اليسارية والجمعيات العمالية وحتى بين النخب نفسها. وهذا اللاتسامح إزاء الآخر فيه أسباب ذاتية ناتجة عن اعتقادات فردية راسخة، وفيه أيضاً أسباب أخرى تغذيها النخب، ووسائل الإعلام. فبعض التصريحات الصحفية أو المقالات والتعليقات التي يأتيها عناصر حركة النهضة مثلاً، تنطبق عليها ما يسمى في علم النفس السياسي "نظرية السيكما/التنميط"[12] أي رؤية الموقف الفردي لا بوصفه ممثلاً لرؤية شخص بعينه، بل بوصفه موقفاً عاماً، فتنشأ روابط وهمية بين سلوك الفرد وسلوك المجموعة.

رابعاً- تنقسم معايير تقييم الأحزاب في العلوم السياسية إلى ثلاثة هي، المعيار الأيديولوجي، حيث تتركز قوة الحزب في المخزون الفكري والقوة الأيديولوجية، والمعيار الشخصي، حيث تتركز قوة الحزب في كاريزما القائد، والمعيار التنظيمي الذي يتأسس على قوة الانضباط الحزبي والالتزام العملي لكوادر الحزب ومؤسساته. وبالنظر إلى مجموع الأحزاب المكونة للمشهد السياسي في تونس بعد الثورة، يسهل أن نرى أن الحزب الوحيد الذي يتمتع بالانضباط في تسيير شؤونه الداخلية واختياراته الانتخابية والتزام قواعده هو حزب حركة النهضة. أضف إلى ذلك، أنه يتوفر على قائد له صوت مسموع وكاريزما داخل هياكل الحركة قادرة على جعل الجميع يصطف وراء قراراته، وهو مؤسس الحركة راشد الغنوشي، وهذا الاصطفاف يلزمهم في كل تصويت باتباع ارشادات القائد / الرمز ضمن ما يسمى "التماهي الحزبي" (Party identification approach)[13] فضلا عن الأيديولوجية العقائدية التي تصدر عنها الحركة وتلقى تعاطف الكثير من أصحاب النوايا الحسنة.

وهذه المعايير لا تتوفر في الأحزاب الأخرى اليسارية والعلمانية، والتي تمثل القوى الديمقراطية التي ترى نفسها أكثر أهلية لإدارة الشأن العام. وحتى حين يكون لها قائد ملهم له ثقلٌ أدبي ورمزي، فإنها تعجز عن اقناع الجموع الكثيرة من المواطنين، لأنها ما فتئت تتصارع على القيادة، وتفشل في تعبئة الجماهير في حملاتها الانتخابية، وهو ما يسبب لها الشعور بالغَبن ويدفعها إلى كيل الاتهامات للشعب الذي اختار حركة ذات مرجعية دينية وسلفية، وإن ادعت ذات رهانات ديمقراطية، ويجعلها تترصد سقطات الحركة وتطلب إزاحتها.

خامساً- يقسم علمُ النفس الاجتماعي السلوكَ الإنساني إلى حالة نزوعية (Dispositionism)، حيث قرارات الفرد نابعة من ذاته واعتقاداته الشخصية، وحال موقفية، (Situationism) حيث قرارات الفرد نابعة من تأثير الوسط الاجتماعي والبيئة المحيطة بالفرد.[14] ويبدو أن الموقفية هي التي تفسر أكثر حالة التشنج المتصاعد في السياسة التونسية بعد الثورة. فهناك عوامل كثيرة تتدخل لتقوية الصراع وتغذية التعصب ضد المنافسين السياسيين، وذلك عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن بيانات الأحزاب في اجتماعاتها مما يجعل المواطن رهين لعبة الحجاج والسجال، وتصبح الفضاءات العامة إطارا لتضخم المعارك السياسية وامتدادا لما يراه الفرد عبر شاشات التلفاز وما يقرأه في المواقع الافتراضية من سباب واتهامات تتجاوز أحيانا كثيرة أخلاقيات الحوار المألوفة في العمل السياسي.

على سبيل الخاتمة

تنتمي الكتابات التي وضعها راشد الغنوشي (منظر حركة النهضة في تونس) إلى فلسفة الإخوان في الحكم، وهي فلسفة مستمدة من المرجعية الدينية، وتقف على الطرف المقابل، مما يناضل من أجله الفكر العلماني خاصة في مسائل حرية الضمير والمساواة في الإرث بين الجنسين. لكن السياسة العملية لحركة النهضة من خلال تجربة الحكم -وكذا تصريحات بعض قياداتها- تبدو متناقضة مع نصوصها التنظيرية، وهذا ما يقوم شاهدا على هشاشة مرجعها النظري والعجز عن استدعائه فعلياً في أرض الواقع، مما جعلها تختبر الفعل السياسي بشكل لاحق دائما. وهذا الأسلوب يصح معه -في تقديرنا- اعتبار النظر إلى حركة النهضة من وجهة ما يسمى "ما بعد الإسلام السياسي"، خاصةً كما ورد في كتاب "أوليفيه روا" (الإسلام المعولم)[15]، الذي صاغ تساؤلاً مشروعاً عن قدرة الإسلام السياسي على تقديم البديل الواقعي للدولة الوطنية. وهذا ما نلمسه، في قضية المرأة، أو في مسائل الاقتصاد والمشاكل الاجتماعية. وقد أجاب "روا" بالنفي، لأن العمل السياسي لكل حركات الإسلام السياسي كان عملا معلمناً يعجز عن تجسيد الأيديولوجية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية برؤيتها النصية والأخلاقوية في أرض الواقع المعولم، كما يعجز عن حل المشكلات المتشعبة، انطلاقاً من تلك التصورات الدينية التي يقوم عليها. وهذا ما كشفته دينامية الفعل السياسي لحركة النهضة التي ما فتئت تلهثُ وراء مسايرة المستجدات بطرق تلفيقية وارتجالية، وجعلها لا تخرج في رؤيتها العامة عن الاختيارات الكبرى للدولة الوطنية حتى في مسائل الهوية والدين. وكأن الإسلام السياسي الذي أراد أن يحل محل الإسلام التقليدي ولاذ بالجهاد أو بالتعبئة، لم يجد حلاً إلا فيما انتهت إليه حركة النهضة في تونس، وهو الاعتدال في الخيارات السياسية، والإيمان بضغوطات الواقع بعيداً عن طوباوية التنظير والانخراط في المزايدة على الفكرة الديموقراطية. فهل ستدرك حركة النهضة أنّ الديمقراطية ليستْ هي حكم النخب، بل هي حسن تمثل احتياجات الشعب؟ وهل ستنصرف إلى الفعل الديمقراطي عبر إصلاح هيكلي لمنظومتها الفكرية ومرجعياتها، أم ستظل تعمل تكتيكياً على البقاء في السلطة عبر رفع الشعارات من قبيل "فصل السياسي عن الدعوي"؟ أم نقول مع العروي إن الإسلام التقليدي "كان براغماتياً بطبيعته، وأنّ الإسلام الجديد الحركي، كان محاولة لإيقاف الحراك الاجتماعي الطبيعي".[16]

[1]- مجلة ذوات العدد 41

[2]غراهام إي فوللر، الإسلام السياسي ومستقبله، ترجمة: محمد محمود التوبة، مكتبة العبيكان 2006م، ص 16

[3] المرجع السابق ص ص 16-17

[4] المرجع السابق، ص: 17

[5] نزيه أيوبي، أشكال الإسلام الحديث، ضمن الكتاب الجماعي "الإسلام السياسي وآفاق الديمقراطية في العالم الإسلامي "، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى، سنة النشر: 2000، ص: 39

[6] المرجع السابق، ص: 44

[7] قوي بوحنية وعصام بن الشيخ، التجربة السياسية لحركة النهضة التونسية ما بعد الثورة، مداخلة ضمن المؤتمر الدولي "الدين والممارسة السياسية في شمال افريقيا والسودان"، جامعة الجزائر 2، ص: 11

[8] المرجع السابق، ص: 8

[9] جيل كيبل، من أجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية، ضمن الكتاب الجماعي "الإسلام السياسي وآفاق الديموقراطية في العالم الإسلامي"، ص: 46

[10] المرجع السابق، ص: 48

[11] عبد الله العمامي، تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي: أنموذج النهضة، الدار التونسية للنشر (د.ت) ص: 260

[12] علم النفس السياسي، دايفد باتريك هوتون، ترجمة ياسمين حداد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، سنة النشر: 2015، ص: 309

[13] المرجع السابق، ص: 258

[14] Lee Ross and Richard Nisbett, The person and the situation perspectives of social Psycology (Philadelphia, P.A, Temple, University press 1991).

[15] Olivier Roy, L'Islam mondialisé, Paris, seuil, 2002

[16] Laroui, Abdallah, Islamisme, Modernisme, Libéralisme, Centre Culturel arabe. 1987. P150