حوار مع د. أنس الطريقي حول كتابه: استئناف الدولة في تونس ومشكلة المشروعية
فئة : حوارات
حوار مع د. أنس الطريقي حول كتابه:
استئناف الدولة في تونس ومشكلة المشروعية
حاوره د. حسام الدين درويش
تقديم وإشراف على التنظيم: د. ميادة كيالي
د. حسام الدين درويش:
مساء الورد للجميع، وأهلاً وسهلاً بكم في ندوة جديدة من ندوات مؤمنون بلا حدود. بعد فترة من الغياب، ها هي الدكتورة ميادة معنا اليوم، وسأعطيها فورًا الكلمة لترحب بكم جميعًا في هذه الندوة الجديدة، ثم نبدأ الحديث عن تفاصيل الكتاب.
د. ميادة كيالي:
مساء الخير جميعًا، وأهلاً بكم في ندوة جديدة من ندوات يوم الجمعة التي اعتدنا أن نلتقي فيها تحت مظلة مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. يسعدني جدًّا أن نعود اليوم إلى هذه اللقاءات بعد فترة انقطاع منذ آخر نشاطاتنا في لبنان، فنستعيد تقليد "صالون الجمعة" الذي أصبح مساحة عزيزة نجتمع فيها على المعرفة والحوار والفكر الحرّ. أودّ أن أرحّب بكل من انضم إلينا اليوم، وأعبّر عن سعادتي أيضاً بصدور العديد من الإصدارات المهمة التي اشتغلنا عليها، في الفترة الماضية. ولا يفوتني أن أبارك للصديق العزيز الدكتور حسام الدين درويش صدور كتابه الجديد "توسيع آفاق الهيرمينوطيقا الريكورية في أخلاقيات الفهم والحوار والترجمة"، وهو عمل جدير بالاهتمام والإشادة.
ضيفنا اليوم صديق وباحث متميز رافق مؤمنون بلا حدود منذ البدايات، وأذكر أن لقاءنا الأول كان في مدينة سوسة، ضمن إحدى الندوات الأولى التي أعلنت انطلاقتنا، وأسسنا من خلالها لشبكة من الباحثين الذين نفخر اليوم بثمار حضورهم العلمي وصلاتهم الإنسانية. أنس الطريقي: باحث تونسي حاصل على الدكتوراه في الآداب واللّغة العربيّة تخصّص الحضارة الحديثة والمعاصرة ببحث حول الدولة الدينية، والماجستير في الآداب واللغة العربية ببحث حول العَلمانية. يشغل حاليًّا منصب أستاذ محاضر للتعليم العالي في اختصاص الحضارة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس – تونس، وهو عضو سابق في وحدة البحث "المتخيل"، وعضو بمخبر المناهج التأويليّة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. تتوزع اهتماماته البحثية على قضايا التجديد الدينيّ والسياسيّ، والأنسنة، والدراسات الإسلامية، حيث يسعى إلى مقاربة هذه القضايا في ضوء التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية المعاصرة. نشر عددًا من الدراسات والبحوث في مجلات ومنصات فكرية، منها موقع "مؤمنون بلا حدود"، ومن أبرز مقالاته: العقيدة والسياسة في فكر دعاة الإسلام السياسي (2014)، والمتخيّل والعنف: تفسير لصلاحية الحل الهيومي (2017)، والإسلام السياسي ومشكلة الانتماء: هويات ناجزة في عالم متغير (2018)، والتأويل الخلدوني للتاريخ: من دولة الدوران إلى دولة الدوام (2018)، وغيرها. كما أشرف على التحكيم العلمي لبحوث قسم الدين والسياسة في مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، وشارك في إعداد وتنسيق ملفات بحثية متخصصة، ولا يزال من كبار الاستشاريين في دار النشر التابعة للمؤسسة.
أما كتابه الذي سيكون محور لقائنا اليوم، فهو "استئناف الدولة في تونس ومشكلة المشروعية"، الصادر العام الماضي (2024) في ما يقارب522 صفحة، ويمثل امتدادًا لبحوثه حول السياسة والدولة والدين، ويشكّل محورًا أساسيًّا في أعماله الفكرية الراهنة. وهذا الكتاب هو محاولة جادة للتفكير في سؤال الدولة بعد المنعطف الذي شكّله الربيع العربي. لا يكتفي المؤلّف بتشخيص أزمة الدولة الحديثة في تونس، بل ينفتح على الأفق الكوني لمشكلة الدولة، رابطًا بين الأزمة السياسية والأزمة المعرفية في تصورات الإنسان ووجوده. وينقسم الكتاب إلى بابين رئيسين؛ كلّ باب يتضمن فصلين:
الباب الأول: من الإبستيمولوجيا إلى الهيرمينوطيقا، ومن الشرعية إلى المشروعية: أو في البرادايم الجديد لاستئناف الدولة في تونس.
أ- الفصل الأول: الهيرمينوطيقا: من برادايم العقل الحديث إلى برادايم العصر التأويلي للعقل
ب- الفصل الثاني: المشروعية في التفكير الإصلاحي في الدولة أو عودة "البرادايم المفقود"
الباب الثاني: الفكر الإصلاحي واستئناف الدولة: وعي سياسي بالمشروعية من وعي إبستيمولوجي هيرمينوطيقي
أ- الفصل الأول: الفكر الإصلاحي: أنطولوجيا متعددة لمنطق إدماجي هيرمينوطيقي
ب- الفصل الثاني: المشروعية في التفكير الإصلاحي في الدولة: ابن خلدون منوال تحيين أخير
يبدأ الكتاب من نقد برادايم الشرعية كما تشكّل في الدولة الحديثة، ليقترح الانتقال إلى برادايم المشروعية، حيث تصبح الهيرمينوطيقا الفلسفية إطارًا معرفيًّا وجوديًّا يعيد الاعتبار لثراء الكينونة الإنسانية، بعيدًا عن الاختزالات الديكارتية التي حكمت العقل الحديث. ومن خلال قراءة معمّقة للتجربة التونسية، من الإرث السلطاني إلى دولة الحق مرورًا بالإصلاحيّة التونسية، يصل المؤلف إلى أن استئناف الدولة لا يكون إلا باستعادة عمق المشروعية، في ما يتجاوز المحلي إلى الكوني، فيغدو الحلّ الذي يقترحه للتجربة التونسية حلًّا صالحًا لإمكان الدولة في كلّ مكان.
قدّم للكتاب الباحث الدكتور مصطفى بن تمسّك، وهو أيضاً أحد أعلام مؤمنون بلا حدود، له إصداران في مؤمنون بلا حدود؛ الأول صدر عام 2015 ابن رشد السياسة والدين بين الفصل والوصل، والثاني عام 2018 بعنوان الحداثة الأوروبية مسارات التفكيك ونهاية الريادة. تقديمه للكتاب يضعه في سياق المشروع الفكري الأوسع للمؤسسة، ويؤكد قيمة هذا العمل في مسار النقاشات الفكرية والسياسية.
وفي ختام هذه الكلمة، لا يسعني إلا أن أشير إلى أن موضوع استئناف الدولة وموضوع بناء الدولة هما من القضايا المركزية التي تشغلنا جميعاً اليوم، ليس في تونس وحدها، بل في كامل الفضاء العربي والإسلامي، بل والإنساني أيضًا. فهي أسئلة تتعلق بالشرعية والمشروعية، وبالسلطة والمعرفة، وبكيفية بناء دولة قادرة على أن تكون مشروعة في نظر مواطنيها، وأن تفتح أفقًا جديدًا يتجاوز أزمات الماضي. وهذه الأسئلة هي ما يجعل هذا الكتاب جديرًا بالنقاش والتأمل، فهي تفتح المجال أمامنا جميعًا لطرح تساؤلات عميقة حول حاضر الدولة ومستقبلها. وبهذا، أترك إدارة الحوار إلى زميلي وصديقنا الدكتور حسام الدين درويش، الذي سيخوض النقاش مع ضيفنا العزيز د. أنس الطريقي، ويفتح الباب أمام المداخلات والأسئلة التي ستثري هذا اللقاء. شكرًا لكم على انضمامكم إلينا، ومشاركتنا العودة إلى نشاط "صالون الجمعة" كما أطلق عليه الدكتور صابر سويسي؛ أهلًا بكم.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا للدكتورة ميادة، والشكر أيضاً لكل الحاضرات والحاضرين معنا. أما الشكر الأكبر، فموجّه بالفعل إلى الدكتور أنس على هذا النتاج المعرفي المهم، وهو جزء من مسيرته الأكاديمية والمهنية. وبدايةً، سأقول بضع كلمات عن هذا الكتاب الذي أمضيتُ معه الأيام الماضية.
من ناحية أولى، يتَّسم هذا الكتاب بسمة ضرورية لكل كتاب جيّد يمكن أن نقدّره؛ فهو يسعى إلى أن يكون الكتاب؛ أي إنّه يحاول الإلمام بكلّ ما هو مطلوب في موضوعه، والوصول إلى أعلى درجات الكمال الممكنة فيه، من ناحيةٍ، مع إدراكه لعجزه الأكيد عن أن يكون الكتاب، من ناحيةٍ أخرى. وقد قال لي المؤلف: إن الكتاب أتعبه وأرهقه، بمعنى أنه أمضى وقتًا طويلًا في العمل عليه. وخلال البحث انفتحت أمامه آفاق أو مواضيع أو جوانب أو أبعاد لم تكن متوقَّعة، فقلت له: هذه هي سمة الكتابة بوصفها إنتاجا معرفيًّا؛ فأثناء البحث والكتابة تُنتَج المعرفة، وليست مجرد تدوين معرفة سابقة. ومن هذا المنطلق، يسعى هذا العمل إلى أن يكون الكتاب، لكنه – وهذا ليس تواضعاً بالمعنى العام بل بالمعنى المعرفي/ الهيرمينوطيقي، الذي تحدث عنه – يعرف أنه لن يكون الكتاب، وأنه مهما بحث وفعل وكتب، لن يكون إلا كتابًا في هذا الموضوع. غير أنّ هذا التوازن؛ أي السعي إلى أن يكون كتابًا، مع الإقرار بأنه لن ينتج إلا كتابًا، هو سمة كلّ معرفة بحثية رصينة.
من ناحية ثانية، وبالتضاد مع غادامر الذي حاول الابتعاد عن تناول أي موضوع سياسيٍّ، ورأى أنّ السياسة مقتل للفلسفة أو للفكر، يُبيّن هذا الكتاب إمكانية تناول الفلسفةُ المسائلَ السياسية، من دون أن تفقد فلسفيتها أو تُقتل بمعنى ما. فهذا كتاب في الواقع المباشر، في السياسي: في الدولة، في كل دولة عمومًا، وفي تونس خصوصًا، من دون أن يفقد - بل أضاف إلى - البعد الفلسفي الكثير.
ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، يتضمن الكتاب طرحًا لمشكلة واقعية وإشكالية نظرية، ونقدًا للواقع وللتنظير السابق وطرح مقترحات لحلول ما، في إطار رؤية فلسفية وتأسيس فلسفي. فالكتاب يتناول، من جهة أولى، مشكلة واقعية راهنة متعيّنة، وهي مشكلة الدولة عمومًا، وفي تونس خصوصًا. لكنّه في الوقت نفسه وضعها في إطار إشكالية نظريّة عامّة؛ أي في سياق المنظومة المعرفيّة بأسرها، بين الإبستيمولوجيا والهيرمينوطيقا. ووضعها من زاويتين قانونية/ حقوقية، وشرعية/ مشروعية، ولم يكتفِ بالتأسيس الفلسفي للمشكلة، بل حدّد بوضوح المشكلة التي نعاني منها في هذا الخصوص، وطرح ما يسميه هو «فرضية الكتاب»، وأنا أسميها «أطروحة الكتاب»؛ إذ قدّم تصوره لما رأى أنه أفضل الحلول لمعالجة هذه المسألة. وبهذا المعنى، لا تكتفي الفلسفة هنا بالأشكلة، وهو ما يُعرف عنها عادة، بل تحاول أن تقدم أيضًا رؤية لحلول ممكنة، وهذا ما يُحسب للمؤلّف.
وبما أنّكِ، دكتورة ميادة، ذكرتِ الدكتور مصطفى، أودّ أن أشيد بالتقديم الذي أعدّه للكتاب؛ فقد كان، بحقّ، نموذجًا للمعرفة الرصينة، فهذا التقديم ليس مجرد مجاملة أو كلام عام عن الموضوع، ولا مسألة بضع أسطر سطحية، بل عرض، في صفحات قليلةٍ، مضمون الكتاب، وإشكاليته الرئيسة، وأطروحته الأساسية، وميزاته، وقدم، في الوقت نفسه، رؤية نقدية مختلفة تفتح آفاقاً جديدة. فهو لم يقتصر على تكرار ما في الكتاب، بل أضاف إليه إضافة ثمينة سأستند إليها في مناقشتي اليوم لمضمون الكتاب. عزيزي أُنس، لا أقول إنني أحسدكِ، لكن أقول إنني أغبطكِ على هذا التقديم الجيد والإيجابي. لديك ما تريدين قوله، د. ميادة؟
د. ميادة كيالي:
أودّ أن أضيف هنا معلومة: كان بودّنا حضور الدكتور مصطفى معنا، وقد وُجّهت إليه الدعوة، إلا أنّه اعتذر بشدّة، لارتباطه بأمر آخر، ووعد بلقاء مستقبلي بإذن الله، فأوجّه له التحية.
د. حسام الدين درويش:
خطر لي أننا لو التقينا في تونس، ومعه الدكتور أنس، من الممكن أن ننظّم لقاءً حول هذا التقديم وحده، لما فيه من نفس حواري، وزوايا إشكالية مثيرة للتفكير بالفعل، وتعبِّر عن وجهات نظر مختلفة، متداخلة ومتكاملة، ويمكن أن يشكّل موضوع ندوة قائمة بذاتها. لذا، كان حضوره مرغوبًا بشدة.
بالإضافة إلى التقديم، أنوِّه بالمقدّمة الطويلة المهمّة للكتاب. فالكتاب، كما ذكرنا، ضخم، (522 صفحة)، غير أنّ فيه مقدّمة سمّاها المؤلف «دليل قراءة» تساعد القارئ جزئيًّا على تجنّب سوء الفهم ما أمكن، على اعتبار أنّ سوء الفهم جزء أصيل من أيّ فهمٍ، وأن الفهم الكامل ليس فقط غير ممكن، بل ربما غير مرغوب أصلاً، حيث يكفي أحياناً الوصول إلى فهم كافٍ أو مناسب جزئيًّا.
وأرى أن معاناة القارئ مع هذا الكتاب – والمعاناة هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة؛ أي في التفاعل الذي يسعى إلى الإمساك بالمعنى والمعرفة والفهم- ستكون، على الأرجح، مع عدم الفهم لا مع سوء الفهم؛ فهذا الكتاب ليس موجهًا أو متاحًا لفهم العموم، بل هو للمختصين والأكاديميين وأصحاب الثقافة الواسعة والذخائر المعرفية الكبيرة.
وفي تقديم الكتاب، وفي مقدمته، هناك إشارة إلى أن كاتب الكتاب مختص في "الحضارة". وهناك نوعٌ من الدفاع، الضمني أو الصريح، عن هذا التخصّص، من قبل العزيز أُنس: "نحن نعمل داخل تخصص الحضارة، شعبة بحث دون هوية إبستمولوجية واضحةٍ ومعلومةٍ، أبقاها ترحالها بين العلوم والمناهج تحت تبرير فضفاض هو تعددية المناهج أو البين- مناهجية، تُتَّهم أحيانًا بأنّها تخصّص لا وضع له بين سائر العلوم." ص 37. في المقابل ومن منظورٍ براغماتيٍّ، يبدو أن هذا التخصص أشبه بالدراسات الثقافيّة في الجامعات الغربية، وقد أنتج الكثير مما يستحق الإشادة به، ومن بينها كتاب الدكتور أُنس نفسه، الذي يجمع، في الكتاب بين تخصّصات عديدةٍ، الهيرمينوطيقا، والفلسفة عمومًا وفلسفة القانون، والعلوم السياسية، والفكر العربي النهضوي والحديث والمعاصر. فهذا الكتاب يسعى إلى أن يكون جامعًا بين أطرافٍ مختلفةٍ، أشد الاختلاف؛ فما الذي يجمع بين ديكارت وخير الدين التونسي؟ وقد يكون هذا الجمع هو ما يشفع لوجود هذا التخصّص أو الفرع المعرفي "اللا- تخصّصي" لكونه ينتج هذا الشكل من المعرفة البينيّة.
نودّ الآن أن نسمع منك دكتور أنس. فلنبدأ من البداية، بما أسمّيه "قصّة الكتاب": كيف نشأت فكرة هذا الكتاب؟ وهنا يمكن أن نتحدث عن الجانبين اللذين أشرتَ إليهما مبدئيًّا، وهما: المشكلة العمليّة؛ أي الواقع الذي أفضى أو سمح أو سوّغ التفكير في تناول هذا الموضوع وهذه المشكلة، والإشكاليّة النظريّة التي تعود في تأسيسها إلى أفلاطون. فما قصة هذا الكتاب ومسوّغاته؟
د. أنس الطريقي:
شكرًا دكتور حسام على هذا التقديم الجميل. وأودّ أوّلًا أن أشكر مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والتوزيع والنشر" التي احتضنت هذا الكتاب وعرّفت به، كما احتضنتني باحثًا منذ بداياتي في الجامعة، وأخصّ بالشكر الأخت العزيزة الدكتورة ميادة.
بالنسبة إلى هذا الكتاب، في الواقع، الذي حفّز عليه ودفع إليه هو اهتماماتٌ نظريّة علميّة معرفيّة تابعة لتخصّصي في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وانشغالي خاصةً بتجديد النظر في المسألة السياسيّة والدينيّة، ومسألة التجديد عمومًا في هذين المجالين. وقد قدح شرارته واقعة تاريخيّة طارئة، هي أحداث الربيع العربي التي ألمّت بالعالم العربي، وتحديدًا من تونس، والتي أجبرتنا أو أثارت فينا هذا السؤال المتجدّد عن كيفيّة بناء الدولة، واستئناف بناء الدولة في تونس. ونحن نقول "استئناف"؛ لأننا نرى أنّنا ما زلنا في مسار عمليّة التأسيس الدولتي، ونظنّ أنّ هذا لا يقال في شأن الدول العربيّة فحسب، بل إنّ الدولة مسار لا يتوقّف تأسيسه، تمامًا كما أنّ الديمقراطية موضوع يجب أن نتعهّده بالعناية باستمرار، فلا يمكن أن نتوقّف عن عمليّة بناء الدولة؛ لأن الواقع شأن متغيّر بطريقة متسارعة. والحفاظ على هذا الإطار السياسي بكلّ شروطه المعروفة، يتطلّب عملية تعهّد وصيانة يومية بشكل مستمر.
وبعد هذه الانعطافة التي وقعت وسُمّيت بالربيع العربي، صار السؤال: بعد أن أزلنا تقريبًا نظامًا معيّنًا، وانفتحنا على عملية تأسيس الديمقراطية بتعبير صريح وصادق، دون مغالطات تاريخية كما يقع في العادة، يتعيّن علينا أن نبحث بالضبط عن الخطّ الموجِّه لتأسيس هذه الدولة. ما الأدلوجة بعبارة العروي؟ ما الفكرة أو القيمة العامة التي يجب أن يتعلق بها تركيزنا في تأسيس الدولة؟
وأطروحتي في هذا الكتاب هي جواب عن هذا السؤال: كيف نواصل عملية بناء الدولة بعد هذه الانعطافة التاريخية التي عشناها؟ وهذه الإجابة لا تنطلق من فراغ في الواقع، فهناك إجابات سابقة عن هذا السؤال؛ أبرزها في نظري إجابة الأستاذ محمد الحداد في كتابه "الدولة العالقة". فالحداد اعتبر في هذا الكتاب أنّ الوجهة الموجِّهة لاستئناف بناء الدولة في تونس هي مفهوم المواطنة، التي لا تكون إلا بدولة نموذج الشرعية؛ أي الدولة الدستورية القانونية، والتي يكون الولاء الضروري أو أساس الطاعة فيها مرتبطًا بقانونية تركيبة الدولة، وقانونية المسار الموصل إلى حيازة السلطة، وبقانونية الهيئة الحاكمة.وهذه القانونية - بطبيعة الحال- نحن ضبطناها تقريبًا بطريقة حسابية عن طريق الانتخابات؛ فمن له رصيد انتخابي أكبر سيفوز بالانتخابات، وسيحكم هذه المجموعة الوطنية بناءً على عملية حسابية تقريبًا نحكم بها على أهليته للحكم، وهي تتمثّل في ما يحمل له الصندوق من أصوات.
إذن، الحداد اعتبر أنّ النقطة التي يمكن منها أن نعيد استئناف عملية البناء الدولتي هي النقطة الإصلاحية في تاريخ تونس، فالتفكير الإصلاحي -في نظر الحداد - حمل، حسب عبارته بالضبط، «حدوسًا بكرًا» بمفهوم المواطنة؛ لأنه حمل وعيًا بكرًا بالشرعية. وتمثّل هذا الوعي البكر بالشرعية عند الحداد في تعلّق هؤلاء الإصلاحيين بدسترة السلطة؛ أي بالدولة الدستورية القانونيّة، وعبروا عن ذلك خاصة في إشادتهم بالتنظيمات، ودفاعهم الكبير عن التنظيمات العثمانية.
أمّا إجابتي الشخصية في هذا الكتاب، فكانت استدراكًا على إجابة الحداد. فاستئناف بناء الدولة - في نظري -هو استئناف تفكير ينبني على كل أنماط التفكير الأخرى التي بحثت في كيفية هذا الاستئناف. وأنا شخصيًّا تفاعلت كثيرًا مع كتاب الحداد، وقد قدّمنا له قراءة في جمعية «فواصل» التابعة لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود». وكانت إجابتي في شكل استدراك على إجابة الحداد؛ فهو يرى أن الحلّ في استئناف بناء الدولة هو تحقيق الشرعية؛ أي بناء الدولة القانونية، واستكمال عملية التحويل القانوني للكيان السياسي الذي يتعرف فيه كل شيء بواسطة القانون.الحداد يرى أنّ وجهة الاستئناف هي نموذج الشرعية؛ أي هذا النموذج القانوني.
بينما نحن، في استدراكنا، لا نعتقد أنّ عملية التأسيس القانوني للدولة هي التي تجعل هذه الدولة صالحة وجديرة بأن تحكم، بل إنّ نموذج الشرعية - في نظرنا - هو من أهم أسباب مشكلة الاندماج الجماعي، ومن أهم أسباب غياب الولاء الجماعي للدولة في العالم العربي. والسبب - في نظري - هو أنّ نموذج دولة الشرعية هذا ينبني على خلفية معرفية، هي عبارة عن فلسفة في الوجود الإنساني، وهي الخلفية التي أنتجت لنا دولة الحداثة، ثم تحوّلت عندنا إلى دولة قانونية شديدة القانونية وضعيفة الصلة بالواقع. وهذه الخلفية المعرفية هي البرادايم الديكارتي (النموذج المعرفي الذي قدّم للحداثة منطق الوجود الإنساني أو فلسفته، وخطّ "الطريقة" المثلى لهذا الوجود)، والتي في ضوئها صيغت تقريبًا عملية تنظيم كل قطاعات هذا الوجود، من الدولة إلى الاقتصاد والاجتماع وغيرها.غير أنّ هذا البرادايم الديكارتي فقد صلاحيته المعرفية الكلية، والفلسفيّة للوجود الإنسانيّ، نتيجة الكشوفات العلميّة التي قوّضت أسسه المنهجيّة، والعلميّة (أزمة أسس الرياضيّات، تحوّلات الفيزياء المعاصرة، تهاوي مبدأ العليّة أو الضرورة، ظهور الفكر المركّب..) ونتيجة عمليّة النقض ما بعد الحديثة للكوجيتو الديكارتي من قبل الفلسفات البينذاتية، والتحليليّة، والعقلانيّة التواصليّة، وغيرها. وتبعًا لهذا، فإنّ نموذج دولة الشرعية - الذي نعدّه تابعًا لهذا البرادايم- لم يعد صالحًا كذلك.
د. حسام الدين درويش:
دكتور أنس، أنت دمجت قصة الكتاب مع أطروحته. وهنا أذكر أنّ لغة الكتاب بالفعل مكتوبة بلغة يصعب نقلها أو التعبير عنها بصيغ شفهية. لكن اسمح لي أن أقرأ فقط ثلاثة أسطر من فرضية الكتاب الأساسية: "إنّ جوهر صلاحية الفكر الإصلاحي لاستئناف الدولة في تونس متأتٍ من كونه فكّر على محور المشروعية لا الشرعية، على الرغم من تعلّقه بالدسترة، وأنّ قيمة المشروعية بالنسبة إلى الشرعية في المستوى السياسي، هي من قيمة الهيرمينوطيقا قياسًا إلى البرادايم الديكارتي في المستوى الإبستمولوجي".
د. أنس الطريقي:
بالنسبة إليّ، اعتبرت أنّ استئناف الدولة في تونس يكون عن طريق تغيير نموذج الشرعية وتعويضه بنموذج المشروعية. ما معنى نموذج الشرعية ونموذج المشروعية؟ وما صلاحية هذا الاستبدال الذي أقدّمه؟ وما مبرراته المعرفية خاصة؟
كان عليّ - في الباب الأول - أن أقدّم مبررات عملية الاستبدال التي أقترحها، والتي أقول فيها: لابد من استبدال المشروعية بـ الشرعية، تمامًا كاستبدال الهيرمينوطيقا بالديكارتية. لماذا بالضبط؟ لأنني اعتبرت أنّ نموذج الشرعية تابع لنموذج المعرفة الديكارتي المؤسّس للمعرفة وللدولة الحديثة على برادايم العقل الرياضيّ تقريبًا (ولا ننسى أنّ الرّياضيّات في هذا البرادايم مثّلت النموذج الأعلى للصدقيّة، ولذا فإنّ واحدًا من أبرز مؤسّسي نظريّة الدولة الحديثة، هو هوبز، أراد بحسب قوله أن يكون إقليدس السياسة؛ أي أن يجعل الدولة كسائر شؤون الحياة خاضعة للنموذج الرياضيّ)، بينما نموذج المشروعية تابع للبرادايم الجديد الذي قام ليتجاوز أو ليصحّح فلسفة الوجود الإنساني استنادًا إلى نقد هذا البرادايم الديكارتي. كان عليّ إذن - في الباب الأول - أن أقدّم عملية برهنة على هذه الصلاحية المعرفية الاستبدالية التي تعوّض فيها الهيرمينوطيقا البرادايم الديكارتي، وأن أبرز هذا التلازم/التوافق الذي ادّعيته بين الشرعية والنموذج الديكارتي، وبين المشروعية والهيرمينوطيقا.
خصصتُ الباب الأول لهذه البرهنة، لأبيّن مدلول هذه الهيرمينوطيقا التي بموجبها حكمتُ بأنّ المصلح حمل وعيًا هيرمينوطيقيًّا يمكن أن نقتدي به في عمليّة بناء الدولة. وجعلته أيضا لهذه البرهنة التي قابلت فيها بين الهيرمينوطيقا والبرادايم الديكارتي، ثم بين الشرعيّة والمشروعيّة.
أمّا الباب الثاني من الكتاب، فكان تطبيقيًّا تقريبًا، فسّرتُ فيه الكيفية التي يمثّل بها الفكر الإصلاحي فكرًا يحمل وعيًا هيرمينوطيقيًّا على المستوى المعرفي في فصلٍ أول. ثمّ في فصلٍ ثانٍ، اهتممت بشرح الكيفيّة التي يعبّر بها عن التعلّق بالمشروعية بوصفها تجلّيًا سياسيًّا لهذا الوعي الهيرمينوطيقي. في النهاية، يقوم الكتاب على فكرة أساسية، هي أنّه، بسبب انتهاء صلاحية برادايم معرفي عام حدّد فلسفة الوجود الإنساني، وهو البرادايم الديكارتي، يتعيّن علينا أن نبحث عن البرادايم المعرفي الجديد الذي نعيش به حياتنا ونؤسّس عليه سائر قطاعات الحياة. الكتاب يعتقد أنه لم يعد ممكنًا الاعتماد على البرادايم الحديث وأساسه الديكارتية في تصور قطاعات حياتنا أو في تصور الدولة، وأنه لابد من برادايم جديد للحياة، وهو عبارة عن فلسفة وجود، فلسفة للوجود الإنساني وكيفية العيش، تمامًا كالطريقة الديكارتية التي قدمت لنا منهاجًا للعيش ولبناء العلوم. فقد تصور ديكارت أن طريقته يمكن من خلالها بناء كل علومنا، حتى الفنون تُبنى بهذا المنهج. وهذه الطريقة هي طريقة للعيش أيضًا (هذا قدّمه في مجمل أعماله بداية بحديث الطريقة، وقواعد لتوجيه الفكر، وغيرها). وبما أن هذه الطريقة فقدت صلاحيتها بسبب اكتشافات علمية كثيرة جدًّا، وبسبب فلسفات عديدة نقضتها أو أظهرت تهاويها، بل عمّقتها أو جذّرتها، أو استعادت المنسي من هذا البرادايم، بحثنا عن البرادايم الجديد البديل الذي يستثمر كل الاكتشافات المعرفية في الرياضيات والفيزياء والفكر والفلسفة، لإدراجها في فلسفة للوجود الإنساني يمكن على أساسها تنظيم قطاعات حياتنا.
اعتبرتُ أن هذا البرادايم المطلوب هو البرادايم الهيرمينوطيقي. وفي ضوئه اعتبرتُ أن الدولة تُبنى بنموذج المشروعية، لا بنموذج الشرعية .ما الفرق بين هذين المصطلحين؟
نموذج الدولة الشرعية تمثّله الدولة الحديثة كما أخبرنا بذلك ماكس فيبر في كتابه "الاقتصاد والسياسة"، حيث تحدث في الجزء الأول عن ثلاثة أنماط لتأسيس الطاعة؛ أي لتبرير الطاعة السياسية؛ أي التي تجعل الناس يطيعون أوامر سلطة سياسيّة ما، ويقبلون بالخضوع إليها، والتنازل لها عن نصيب من حقوقهم وحرّيتهم : أولها الشخصية الكاريزمية، حيث يمكن للكاريزما أن تكون سببًا كافيًا لإقناع المحكومين بالحاكم، وثانيها الدعوة الدينية. أمّا الثالث، فهو القانون؛ أي قيام هذه السلطة عليهم بطريقة قانونيّة، وتصريفها لأمورهم بمقتضى القانون المعبّر عن إرادتهم العامّة. وهذا النموذج الثالث لتأسيس الطاعة؛ أي الذي يمنحها مرتكزاتها ومبرّراتها، هو الموجود في دولة الحداثة، فهذه نموذجها لتأسيس الطاعة هو القانون: نحن نطيع الحاكم؛ لأنه وصل إلى السلطة بطريقة سليمة قانونيًّا. ومعيار هذه السلامة القانونية للوصول إلى السلطة هو معيار حسابي، يعتمد أساسًا على ما يقدّمه الصندوق، فنحن نحكم على الأهلية استنادًا إلى هذه القانونية، التي هي في النهاية قانونيّة حسابية.
أما نموذج دولة المشروعيّة، فليس هناك تنظير له، وإنّما الأمر أن الأصل في السلطة وفي الدولة هو أن تكون حاملة للمشروعيّة. ومعناها أنّ أساس السلطة الذي يجعلها مقبولة عند النّاس هو الولاء الوجداني الضميري لهذه السلطة، فنقول: إنّ هذا الشخص له مشروعيّة للحكم؛ لأنّه يحظى بثقة ضميرية، أو بولاء وجداني ورضا من قبل المحكومين. وما أقوله أنا: إن الأهلية للحكم لا تكون بأن تكون لك شرعية الحكم بسبب قانونيّة حكمك، وإنما تكون الأهلية بأن يكون لديك هذا الولاء الوجداني الضميري أو الاقتناع. فدونه قد لا تكون قيمة للقانون الذي سيتّخذ صيغة الإكراه، بدل أن يقع اعتناقه من قبل الأفراد والدفاع عنه، ولن يكون القانون كما ظنّ روسّو معبّرًا عن الإرادة العامّة.
د. حسام الدين درويش:
لديّ سؤال سريع وملحٌّ هنا: كيف يمكن وينبغي التعبير عن هذا الولاء والاستناد إليه؟ أليس من خلال القوانين والانتخابات والعملية الديمقراطية؛ أي من خلال الشرعية؟ قد يبدو حديثك عن المشروعية، أحيانًا، وكأنه حديثٌ عن مسائل أو جوانب نفسية وأخلاقية؛ بمعنى أنه موجود في الضمائر والنفوس والعقول، إلى آخره. في الدولة الشرعية، يُعبّر عن هذا الولاء من خلال الآليات الانتخابية؛ فما مأخذك على هذه الآليات؟
د. أنس الطريقي:
هذا صحيح، نحن لا نقول إنه يجب أن نستغني عن القانون؛ فمن دونه لن تكون لنا آلية إجرائية نحتكم إليها. ما قلته، وبموجب البرادايم الهيرمينوطيقي، هو أن نموذج الشرعية نموذج يستند إلى هذا الوعي الديكارتي، الذي يرى الإنسان مفصولًا عن كلّ ارتباطاته الوجودية التي تحدّده، وتتحكّم فيه، ويراه عقلًا مفكّرًا رياضيًّا. تلك الارتباطات بالأشياء، أو إن شئنا بكلّ الأعراض التي ينغرس فيها الوجود الإنسانيّ، التي جمعناها تحت عبارة الآخريّة؛ أي كلّ ما هو غير الذات، أو هو جزء منها كالذاكرة والخيالات والمعتقدات، يلقى بها من قبل البرادايم الديكارتي، لصالح إنسان سيّد بعقله المفكّر القادر على اكتشاف الحقائق فطريًّا. ونموذج الشرعيّة، يتبنّى هذه الصورة للإنسان، حين يعتبر أنّ القانون الذي يكتشف عقليًّا هو المعبّر عن كليّة حياته وقرارها. ولهذا، فهو - كما قلت- ينقصه اتصال القانون بواقع الناس، بالمفهوم الجذري لهذا الواقع؛ أي في تذرّره الأنطولوجي العصيّ على الحصر والتعيين؛ وذلك بمقتضى أنّه قانون نابع من عقلانيّة رياضيّة لا تدرك من الواقع إلاّ ما كان قابلا للإحصاء والتكميم، أو بلغة أخرى ما كان معطى للعقل الإحصائي.
كيف يمكن إذن إصلاح القانون في نموذج الشرعيّة ووصله بهذه الأعماق السحيقة للإنسان بعبارة تايلور؟ يتم ذلك عبر عملية "تجذير" القانون، حيث تكون القوانين، وحتى الإجراءات الانتخابية، نابعة من واقع الناس. لا نستغني عن القوانين، وإنّما نجعل هذه القوانين متأصّلة في الحيوات، بعملية تيقظ مستمرة من قبل المشرّع إلى حياة الناس الواقعية الملموسة، وليس في شكل معياريات عامّة تنظم الحياة كالمساطر أو المربعات الجامدة التي إذا خرجت عنها تكون خارج السرب.
الإشكال في برادايم الشرعية أنه يظن أنّ القانون يقوم بعملية مطابقة كليّة للواقع. عندما نصوغ القواعد القانونية، نظنّ أنها تتطابق مع حاجيات الواقع في كلّ تفاصيله. ولكنّ هذا مستحيل؛ فالواقع متشظّ، متذرّر، ومتحرّك إلى أقصى حدّ، بينما القاعدة القانونيّة جزئيّة، رؤيويّة، وتصير ثابتة في الزمن، خلافًا للواقع المتحرّك، بمجرّد صياغتها لغويًّا. وليس كاللّغة حاجبًا للواقع، لهذا تمنّى اليونانيّون لو أنّها لم تكن.
د. حسام الدين درويش:
سنناقش هذه المسألة، لاحقًا، لكن السؤال حاليًّا هو: كيف وجدت أن نموذج المشروعية متوفر في فكر ثلاثي الإصلاح التونسي؟
د. أنس الطريقي:
لكي نقول إن هذا النموذج الفكري حاضر في فكر هذا الثلاثي، لا بدّ أوّلاً من الحديث عن الوعي الهيرمينوطيقي؛ فهذا الوعي لا يفصل الإنسان عن ارتباطاته التاريخية والوجوديّة، بل ينظر إليه بوصفه كُلّية، وليس عقلًا فحسب، وهو أيضا لا ينظر إلى العالم بعقل رياضيّ إحصائيّ مفكّر، إنّما هو يوظّف كلّ ملكات الذهن من تصوّر، وتخيّل، واعتقاد، إجمالًا هو يدرك ولا يفكّر فحسب، وهو يلاحق المعنى بتقنية الالتقاط (captation)، ويستجمعه، من كلّ شيء حوله. نحن إذن إزاء كليّة هي كليّة الإدراك الإنسانيّ، التي تلاحق المعنى في كليّة الموجود. فهذه الكلية من جسد وحواس وذاكرة ومخيّلة ومعتقدات، والتي هي ليست عقلًا صرفًا حسابيًّا كما ظنّ ديكارت، تنظر إلى الإنسان بوصفه كليّة؛ أي بوصفه كائنًا مغروسًا في أبعاد وجوديّة مختلفة، زمانية ومكانية، وهو مغروس في المناخ، يحمل تاريخًا، وذاكرة، وتقاليد، وهو محدد باللغة مثلما قال التحليليون، ومحدد بالآخر مثلما قال ليفيناس، وبالمجتمع. إذن هذا الإنسان موجود في كلّية. والوعي الهيرمينوطيقيّ هو هذا الإدراك الكليّ للكليّة التي ينغرس فيها الوجود الإنساني فتحدّده. هو وعي يذهب إلى الأشياء ذاتها بالتعبير الفينومينولوجي، ويتعقّبها، ليحصّل المعنى، ويحصّل الحكمة لا مجرّد المعرفة.
وعندما ذهب المصلحون إلى أوروبا، تحلّوا بهذا الوعي الهيرمينوطيقي. وحين نظروا إلى الأوروبي، لم ينظروا إلى السطح الخارجي من هذا الآخر، من زاوية منجزاته الفكريّة أو قوانينه فحسب، وإنما نظروا إليه في كليّته، فتعقبوا كل تفاصيل حياته، جذّروا النّظر إليه حين عمّقوا نظرهم فيه ونظروا إليه في كلّ ارتباطاته، لم يعتبروه عقلاً أنتج علومًا فقط، بل ذهبوا إلى كلّ تفاصيل حياته، بعبارة جذريّة نظروا إلى كلّ أعراض وجوده، حتّى الألوان، والأحجام، والأبعاد، والأصوات، والحركات...انتبهوا إليها ليخرجوا بالمعنى.
هذا الفهم الدقيق لأوروبا، القائم على وعي هيرمينوطيقي، جعلهم يتشبثون بمفهوم المشروعية في تأسيس السلطة. فما معنى المشروعية هنا؟ يجب أن يحظى الحكم، والحاكم الذي يحكمنا بولاء ضميري. من أين يأتي هذا الولاء الضميري؟ عندما يكون الحاكم ممثلاً لكليّة وجودنا؛ فنحن امتداد، موجودون في كليّة ولنا تاريخ مثل ما قال غادامر، وتقاليد مستمرة فينا، ولا يمكن إلغاؤها من وجودنا، فلنا ذاكرةٌ، وهذه الذاكرة سماها مثلًا غوليلمو فيريرو عبقريات المدينة اللامرئية، هاته التي تترسخ في الأذهان وفي الضمائر، ولا يمكن نزعها. والمصلح عبّر عن تعلقه بالمشروعية؛ أي بتأسيس هذا الولاء الضميري، عندما لم يقطع تلك الاستمرارية التاريخية السياسية التي ينتمي إليها، والتي تمثّلها دولة الخلافة، إلاّ أنّه التزم بواقعه الملموس، وبتحيينها في هذا الواقع الذي مثّلته الدولة السلطانيّة. وبهذا عبّر عن ولائه للدولة الإسلاميّة، دولة الخلافة، إلاّ أنّه أحلّها في موقعها من التاريخ، وقال إن الخلافة انتهت، ولكنّها تبقى ذكرى فاعلة ضامنة للاستمراريّة؛ مستمرّة في الدولة السلطانيّة. وفعل هذا بواسطة تفكير ابن خلدون. لم يقطع المصلح مع دولته السلطانية، رغم إعجابه بدولة الحداثة ومنجزاتها، وهذا عبّر عن تعلق بالمشروعية من ناحية أنه لم يسعَ إلى جلب شكلٍ سياسي غريب عن وجدان هذا الشعب الذي كان يخاطبه، عندما حاول أن يقدّم له شكلًا سياسيًّا يربط بين هذا الشكل الحديث للسلطة والشكل القائم والمُحيَّن للخلافة الذي مثّلته الدولة السلطانية.
المصلح تعلق بالمشروعية؛ لأنه لم يستغنِ عن سلطانه، في الوقت الذي كان فيه يدافع عن تونس بوصفها دولة مستقلة؛ لأنّ السلطان كما الملكة في المملكة البريطانيّة، علامة على الاستمراريّة، والانتماء إلى التاريخ.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، أظن هكذا عُرضت الأفكار أو الفكرة الأساسية للكتاب، سواء أطروحته أو مضامينه. سأسأل بعض الأسئلة السريعة، ثم نفتح المجال لمن لديه تعليقات أو أسئلة من الحاضرات والحاضرين.
سأبدأ من الفصل الأول ومحاولتك التأسيس النظري أو الفلسفي الهيرمينوطيقي الذي يتضمن تحويل الهيرمينوطيقات إلى هيرمينوطيقا، والحديث عن الهيرمينوطيقي. بطريقة واحدية وربما أحادية. وفي التقديم، تساءل الدكتور مصطفى عن مدى شمولية هذا التوجه التجميعي للهيرمينوطيقا. وسبق لريكور، في نقاشه مع غريماس، أن أقر بإمكانية وجود ما سمَّاه "امبريالية هيرمينوطيقية"، وأعلن رفضه لها. فهناك اعتراف بما هو غير هيرمينوطيقي لدى كل الهيرمينوطيقيين تقريبًا. طبعًا، أنا أفهم الاتجاه الذي يجعل الهيرمينوطيقا نموذجًا معرفيًّا عامًّا، لكنني أرى ضرورة الإقرار بوجود ما هو مغاير له، وبوجود تمايزات أو اختلافات أساسية ومهمة بين الهيرمينوطيقات. هذه هي الإشكاليات الأساسية التي يمكن وينبغي أن تُناقش، في خصوص الفصل الأول.
د. أنس الطريقي:
هذا الفصل، الفصل الأول الخاص بهذا الكتاب، ومثلما تحدثت أنت سابقًا عن تخصص الحضارة القائم أساسًا على هذه البينية، نحن مجبرون فيه على أن نطلع على كل ما يتعلق بالظاهرة الإنسانية من تخصصات. بطبيعة الحال، الادعاء بأننا نلمّ إلمامًا عميقًا جدًّا بهذه العلوم غير جائز مطلقًا، إنما نحن نحاول على الأقل ألا نقع في الخطأ. ورهاني في هذا الكتاب بسيط جدًّا. أنا كنت أفكر في منوال التفكير في الدولة: كيف يمكن أن أفكر في الدولة؟ بأيّ منوال للتفكير؟ وعندما قرأت كتب ديكارت، حين كنت أحاول فهم الحداثة من المنابع الفلسفية خاصة، اكتشفت أن ديكارت قدم في مجموعة كتبه، وعلى رأسها حديث الطريقة، فلسفة للوجود الإنساني سماها طريقة، وقال حرفيًّا: "هدفي هو أن أقدّم منهجًا لعقلي كي أقيه من الخطأ في الحياة وفي إنتاج المعارف".
بعد ذلك، قرأنا كيف أن هذا المنوال الديكارتي أثر تأثيرًا كبيرًا في ميلاد الدولة الحديثة، أو في صياغة قالبها العام، خاصة مع النظرية القانونية في الدولة، لا سيما مع الكلسنيّة، نسبة إلى هانس كلسن الألماني، الذي تمثل نظريته القانونية في الدولة التصور القانوني للدولة، وهو التصور الرائج تقريبًا الآن، والمطبق في العديد من الدول العربية. وقلنا: كيف يمكن أن نجدد التفكير في الدولة من خارج هذا المنوال الحديث الذي بسطه ديكارت، والذي تبناه فلاسفة كثيرون كانوا من المنظرين البارزين؟ لابد لنا من منوال تفكير شامل كامل، تمدنا به أساسًا الفلسفة؛ فالفلسفة إن شئنا هي الحاكمة على ادعاءات المعرفة التي تقدّمها سائر العلوم، ولكنها هي الشجرة الجامعة، المعرفة الأم، فهي الفكرة الأولى للمعارف، أو الأساس الأول للمعارف.
وعندما بحثنا عن هذا المنوال في أول دراستنا، وجدنا أنّ التأويلية تقدّم براهين كثيرة على قدرتها على استثمار كل الاكتشافات العلمية التي هزّت أسس الباراديم الديكارتي، مثل أزمة أسس الرياضيات، وتحولات الفيزياء الكمية والنسبية، لتمكّن الفلسفة من مواكبة التطوّر العلمي الحاصل. ومكّنتنا دراستها المعمّقة من معرفة أنّها مثّلت عمليّة التقويض أو التصحيح للمنوال الديكارتي بداية من هوسرل وصولا إلى جون غرايش الذي تحدّث عن منوال أو عصر تأويليّ للعقل. وهذا هو عنوان أحد أهمّ كتبه في الموضوع. كما تحدّث ريتشارد رورتي عن كونها البديل عن الرّاهن عن الإبستمولوجيا في كتابه الإنسان ومرآة الطبيعة. من هذه القراءة المعمّقة، وجدنا أنّ الهيرمينوطيقا أو التأويليّة لا التأويل هي البرادايم الرّاهن الأكثر صلاحيّة كي يمثّل منوالا لا للعلوم الإنسانيّة فحسب كما فكّر دلثاي، وإنّما هي كذلك لكلّ العلوم؛ لأنّها تستعيد الوجود المنسيّ المشكّل للوجود الإنسانيّ الذي استبعد بالكوجيطو الديكارتي، وتستوعب كلّ الكشوفات العلميّة والفلسفيّة المصحّحة للمعرفة بهذا الوجود.
نعم، نحن تحدّثنا عن الهيرمينوطيقا بصيغة المفرد، لا بصيغة الجمع، رغم أنّنا نعلم أنّنا إزاء مشاريع هيرمينوطيقيّة، صنّفها غرايش في الكوجيتو المجروح (المنشور من قبل مؤمنون بترجمة ممتازة أنجزها فتحي إنقزّو) إلى مدرستين ألمانيّة وفرنسيّة، وهناك مدرسة إيطاليّة أيضا. ولجون غروندان عرض لهذه الهيرمينوطيقات في كتابه "الهيرمينوطيقا" باللّغة الفرنسيّة. ولجورج غوسدورف تاريخ للهيرمينوطيقا منذ بواكيرها الفيلولوجيّة الإسكندريّة. ما كان يشغلنا هو تحديد عناصر هذا المنوال، أو واجهتيه الأنطولوجيّة والمنطقيّة، بوصفه فلسفة في المعرفة، هي بعد فلسفة الوعي، فلسفة أو نظريّة في الوجود الإنساني. لهذا غامرنا بتعيين تعريف جامع تتقاطع فيه كلّ الهيرمينوطيقات أو المشاريع الهيرمينوطيقيّة جعلناه تحت عنوان "مداخل متقاطعة من أجل مفهوم موحّد للهيرمينوطيقا". والحقّ أنّنا وجدنا خيطا رابطا، كحكمة التعريف الجامعة لمفهوم جامع للهيرمينوطيقا في مقال كريستيان برنر (وهو أحد تلامذة غرايش) عنوانه الموقف الهيرمينوطيقي. هذا المقال وفّر لنا على الخطّ الفلسفي الذي حدّده ريتشارد رورتي، فرصة هذا التعريف، الذي لم نجد في سائر الهيرمينوطيقات ما يتعارض معه، بل إنّ هذا التعريف يقطع ويربط كلّ الهيرمينوطيقات ويجد لها موضعًا فيه. هو في النهاية تعريف إجرائيّ، هو فرضيّة عمل، تبقى صالحة ما لم يطرأ عليها ما ينقضها.
د. حسام الدين درويش:
لكن دعني أذكر هنا أنك استندت طبعًا إلى رورتي بشكل كبير. رورتي، منذ السبعينيات أو الثمانينيات، تحدث عن ضرورة الانتقال من الإبستيمولوجيا إلى الهيرمينوطيقا. لكن، هنا مقارنة بين توجهك وتوجه رورتي: الغرض عند رورتي كان في الأصل نفي هذه النزعة التأسيسية؛ أي أن يكون هناك أساس حقيقي يُبنى عليه، وبدل هذه الرؤية العمودية للمعرفة التي تنطلق من أساس وتبني تراكمًا، كانت لديه رؤية أفقية؛ بمعنى المعرفة تكون من خلال الحوار والمحادثة والمناقشة. لكن، طبعًا، رورتي نفسه بعد ذلك خاف من نفسه، ومن النزعة الشمولية في الهيرمينوطيقا، والتي وجدها عند غادامير، فقد مارس بعض النقد الذاتي، وقال إنه ينبغي الحد منها؛ بمعنى أنه ينبغي أن يكون هناك نقد لذلك الادعاء الضمني أو الصريح بالشمولية.
فمقارنة مع الذي قدمته: أنت تستخدم الهيرمينوطيقا للتأسيس؛ أي وضع أساس نظري للمجال السياسي، بينما هو يستخدمها لنقد التأسيس. فبأيّ معنى يمكن للمعرفة الهيرمينوطيقية أن تكون أساسًا أو لا تكون؟ هل هي أساس كقائم وكائن مسبقًا أم هي الأساس الذي ينبغي أن يكون ويؤسسن عليه في المجالين المعرفي والسياسي؟
د. أنس الطريقي:
صحيح دكتور، أنت ذكرت رورتي. أنا عندما حاولت تعريف الهيرمينوطيقا، حاولت العثور على تعريف متقاطع. أخذت من كلّ واحد من الهيرمينوطيقيّين الكبار وجها من الهيرمينوطيقا. لم آخذ من رورتي فكرة التأسيس. نعم، رورتي ضدّ فكرة التأسيس أصلًا للمعرفة، هو تقريبًا تواصليّ حدوثي، يتحدّث عن محادثة مفتوحة، هي المنتجة للقيمة والمعنى. أنا أخذت منه فكرة إحلال الهيرمينوطيقا بدل الإبستيمولوجيا. فكرة التأسيس فكرة دلثاي أبو العلوم الإنسانية، وإعادة هذا الوجه التأسيسي للمعرفة في تعريف الهيرمينوطيقا هي من هناك، ولكنّها أيضا من البرادايم الديكارتي الذي أردت مواجهته بالهيرمينوطيقا التي حضرت في أعمال الكبار على أنقاض البرادايم الديكارتي، حتّى عند رورتي. ولهذا، أنا استعدت تقريبًا البرادايم الديكارتي بواجهتيه المنطقية والأنطولوجية؛ المنطقية التي توفرت في كتابه "قواعد لتوجيه الفكر"، حيث تحدث عن 21 قاعدة لتوجيه الفكر، وتحدث أيضًا عن تركيبة الحي في كتب أخرى، وعن حقيقة الوجود، أو أنطولوجيا الوجود، وعن العقل بوصفه الأساس الأنطولوجي والمنطقيّ للوجود، أنا عقل أفكر؛ "أنا أفكر، إذن أنا موجود" أي في الكوجيتو الديكارتي.
أنا استعدت هذا الدور التأسيسي الذي وجد عند دلثاي، الذي أراد أن يجعل الهيرمينوطيقا منوالًا للعلوم الإنسانية. وكما كتب كانط منوالًا للعلوم الصحيحة تقريبًا، فإن دلثاي أراد أن يكتب منوالًا لعلوم الروح أو الفكر في كتابه Introduction au sens de l’esprit؛ مدخل إلى علوم الروح أو الفكر. ونحن نعلم أنه أراد أن يقدم منهجًا يضمن به صدقية علوم الروح أو الفكر، تمامًا كما قدم ديكارت ثم كانط منوالًا يضمن صدقية هذه العلوم. أنا استعدت ذلك الرهان، ليس على الصدقية، وإنما على الصلاحيةvaliditéالتي أستعملها باستمرار؛ لأنّنا في الهيرمينوطيقا لا نتحدث عن الحقيقة والباطل أو غير الحقيقة، نحن نتحدث عن تأويلات في نهاية المطاف.
د. حسام الدين درويش:
مع أن عنوان كتاب غادامر هو "الحقيقة والمنهج".
د. أنس الطريقي:
الحقيقة والمنهج، إلا أن غادامر لا يريد الحقيقة.
د. حسام الدين درويش:
ومن هنا نقد هابرماس بأن إشكالية الحقيقة هي "حصان طروادة" في الهيرمينوطيقا؛ لأنها لا تتناول الحقيقة.
دعني أنتقل إلى مسألة الاستبدال. ومن الناحية اللغوية ثمة خطأ شائع في استخدام هذا التعبير، والخطأ موجود في الكتاب. فاستبدال سين بعين، يعني أن سين حلَّ محل عين؛ لأن الباء تدخل على المتروك، لكن في الكتاب هناك حديث عن استبدال الشرعية بالمشروعية والإبستيمولوجيا بالهيرمينوطيقا. وهذا خطأ قد يثير سوء فهم وينبغي الانتباه إليه والتنبيه له.
سؤالي الآن عن الاستبدال؛ أي بمعنى إحلال محل. لماذا هذا المنطق المثنوي؟ لماذا نحن أمام طريقين أو منهجين أو رؤيتين أو نموذجين؟ لماذا ينبغي علينا أن نختار هذا أو ذاك، سواء كان الحديث عن الهيرمينوطيقا والإبستيمولوجيا، أو الحديث عن دولة الشرعية ودولة المشروعية؟ فلا أتخيل وجود معرفة من دون شيء من الإبستيمولوجيا، ولا يمكن تخيل وجود دولة جيدة أو غيرها من دون وجود الشرعية. فلماذا هذا الإصرار في الكتاب على أنه علينا أن نختار بين هذا أو ذاك، ولا يمكن الجمع بين الطرفين أصلاً؟ ألا يمكن إقامة جدل يجمع بين الطرفين؟
د. أنس الطريقي:
مسألة الصحّة اللّغويّة أوافقك فيها. وقد توقّفنا عندها بالتفكير فترة إعداد الكتاب. ورأينا العمل بالاستعمال الذي صار فيه المذكور الأوّل هو المتروك في المعنى.
نحن نتحدث عن استبدال الهيرمينوطيقا بالديكارتية، لا على معنى أن الديكارتية يجب أن تُرمى في سلّة المهملات، فلا قطيعة في العلوم. الأمر الثاني، أن هذا الاستبدال لا يعني التغيير، بما أن الهيرمينوطيقا في الواقع تعميق للديكارتية، واستعادة للمنسي الذي أغفلته الديكارتية في تنظيرها للوجود الإنساني؛ هذه الروابط المحددة للوجود الإنساني التي استبعدها ديكارت، تستعيدها الهيرمينوطيقا، لهذا تحدّثنا بعبارة إدغار موران عن برادايم مفقود. وهذا ما جعلني أتحدث عن جانب أنطولوجي للهيرمينوطيقا، وجانب منطقي أيضًا، تمامًا كما فهمت ذلك من البرادايم الديكارتي.
الهيرمينوطيقا هي تعميق واستعادة لذلك المنسي؛ فديكارت قال إن الإنسان كائن عاقل معزول في التاريخ، قادر على الوصول إلى المعارف بعقله المجرد. وهذا العقل المستقل هو الذي عُوّل عليه بوصفه سيد الكون، وقادرًا على فهم الحياة وبناء المعرفة بتطبيق المنهج الرياضي خاصة. وجاءت الفلسفات التالية للديكارتية لتكذب ذلك، منذ نيتشه، وهيوم، حيث جاءت الفلسفة البيذاتية مع ليفيناس لتؤكد أن الإنسان ليس معزولًا، بل موجود بالآخر، وجاءت التحليلية لتوضح أن الإنسان محدد باللغة، فهذا العقل ليس عقلاً سيدًا يمكن التعويل عليه، فالإنسان محدّد بكلّ ما يحيط به، ومحدد بأشياء كثيرة. هو منذ فرويد عقل محكوم بما لا يقدر على التحكّم فيه (نقصد اللاوعي عند فرويد..)
إذن، الهيرمينوطيقا تستعيد علاقة الإنسان بالجسد، كما قال ميرلو-بونتي؛ لأنها تستثمر الفينومينولوجيا، وتقوم على هذا المبدأ الأساسي: الذهاب إلى الأشياء في ذاتها. لابد من تعميق النظر، واستعادة هذه الروابط المؤسسة للوجود الإنساني.الديكارتية لا نستغني عنها؛ فالإنسان هو مركز التفكير؛ لأن الديكارتية أسست لنا الذاتية. وجعلت الإنسان هو المركز، هو مركز الوجود. نبحث عن فلسفة الوجود، وهي فلسفة الوجود الإنساني؛ لأننا دخلنا في الفلسفة، في فلسفة الوعي. مع ديكارت. والمشروعية كذلك لا تستغني عن نموذج الشرعية، عن نموذج القانونية، وإنما تستعيد المنسي وراء نموذج القانونية شديد الرياضية، شديد الحسابية، شديد المعيارية.
ماذا يقول نموذج المشروعية لنموذج الشرعية؟ يقول له إنك شكل قانوني للسلطة، يرى أن الحاكم مؤهل للحكم حسابيًّا، وهذا الشكل عليه ألا ينسى شيئًا أساسيًّا. عليه أن يكون متجذّرًا في واقع الناس، وأن يفهم أن الإنسان ليس كائنًا عقلًا رياضيًّا يمكن السيطرة عليه بتقنيات رياضية أو حسابية، بل الإنسان مرتبط، مغروس في روابط وجودية متعددة، ولابد أن يكون القانون على وعي بهذه الروابط المكونة للوجود الإنساني.
بالنسبة إلينا، الهيرمينوطيقا لا تلغي الديكارتية، تمامًا كما أن المشروعية لا تلغي الشرعية. الوضع في الحالتين هو تجذير وتعميق للشرعية بالمشروعية، وتعميق للديكارتية بالهيرمينوطيقا.
د. حسام الدين درويش:
دعنا الآن ننتقل إلى مفهوم الدولة نفسه. ربما نحتاج أيضًا إلى ضبط عند المتلقي ليعرف عمّا نتحدث بالضبط، من ناحية أولى لغويًا واصطلاحيًّا. يبدو أن مفهوم الدولة موجود دائمًا: دولة بني أمية، دولة بني العباس، إلخ. لكن من ناحية أخرى، الدولة بالمعنى الحديث أمر مختلف تمامًا. عندما تتحدث عن الدولة، هل هناك، أحيانًا، دولة ممتدة عبر آلاف السنين أو القرون؟ فما المقصود هنا بالدولة؟ إلى أي حد يمكن الحديث عن كون الدولة السلطانية هي أصلًا دولة بالمعنى الحديث؟ هل هناك دولة قانونية ودولة غير قانونية؟ أم إنّ الدولة بالضرورة قانونية؟ وإذا لم تكن كذلك لأسباب مختلفة، نقول هناك شرخ في هذه الدولة، نقص في الدولة؛ لأن الدولة ينبغي أن تكون كذلك؟ بعضهم يجادل بأنه ليس هناك دولة علمانية أو إسلامية، فالدولة إما أن تكون دولة أو لا تكون؛ بمعنى أن جميع المواطنين متساوون أمامه. وبهذا المعنى، إذا كانت الدولة مفهومًا واحدًا محددًا، إلى أي حد يمكن العودة إلى ابن خلدون؛ أي العودة إلى العصبية والمفاهيم السابقة للدولة، أو إلى منظورات ما قبل الدولة لاستئناف الدولة؟ فهل هي الدولة الحديثة أم، كما يبدو أحيانًا، الدولة السلطانية؟
د. أنس الطريقي:
في الواقع، في السابق كنت لا أقول دولة إلاّ عن الدولة الحديثة، واعتبرت أنّ كلّ التنظيمات السابقة للدولة الحديثة لا تمثل دولًا. هذا ما ردّدته عن أبرز المختصّين الأوروبيين في الدولة، أمثال موريس دوفارجاي، ومارسيل بريلو وجاك شوفالييه، وغيرهم. وقد كتبت مقالات كثيرة في هذا السياق بعضها منشور على موقع مؤمنون، وحتى في أطروحتي للدكتوراه اعتبرت فيها أن الدولة إما أن تكون حديثة أو لا تكون. وأنا أعتقد أن هذا خطأ، وليس صحيحًا. في الحقيقة، كان هذا قبل أن أطّلع على النقد ما بعد الحديث للحداثة بداية بليوتار وفوكو وهابرماس وتايلور، وغيرهم، وعلى الدراسات الكولونيالية، واكتشاف النمطيّة الفكريّة والمعرفيّة التي كرّستها الحداثة. فبعد هذا الاطلاع، حاولت أن أبحث عن الجوهريّ في الدولة، خلف تعيّناتها التاريخيّة. ووجدت أنّ الزوج المفهومي الذي استنّه العروي بصفته نوعًا أمثل للدولة أقصد الأدلوجة والجهاز، يقدّم هذا التعريف المتعالي على التعيّنات الممكنة للحكم السياسيّ المرتبطة بالإحداثيّات التاريخيّة المرحليّة. وبهذا التفكير كتبت مقالي: ابن خلدون والدولة من دولة الدوران إلى دولة الدوام. الآن: نقول دولة حديثة ودولة غير حديثة، لكن هل تلك الدولة دولة، والأخرى ليست دولة؟ أعتقد أنه من الحيف الكبير، أن نغبط حقّ العربيّة من كلمة دولة لتسمية أنماط الحكم السابقة للدولة الحديثة، لمجرّد تفكيرنا من داخل مركزيّة غربيّة تتحكّم في تحديد المفاهيم. المنظور الديكُولونيالي الآن ما عاد يسمح بهذا. وكان محمّد شريف الفرجاني قد دعا إلى الخروج من مقولة الاستثناء الغربيّ بتأسيس الدولة في كتاب سمّاه بهذا العنوان. ونظريّة الدولتين التي كرّسها بارتران بادي لم يعد لها مجال في ضوء كلّ هذه الإضافات المعرفيّة والانقلابات على معياريّة الحداثة. وبهذا التفكير؛ أي من خارج معياريّة الدولة الحديثة التي قد تكون أفضل الدول بالنسبة إلينا، فكّرت في استئناف الدولة في تونس على قاعدة تكسر هذه المعياريّة، وتجتمع فيها كلّ أصناف الدول، أو التشكّلات السياسيّة، هي قاعدة المشروعيّة. وبهذا، تكفّ دولة الحداثة عن أن تكون الدولة المثاليّة، أو التحيين الأخير للدولة.
ودون الرغبة في الوقوع في التكرار، أؤكّد وتأكيدي سنداته معرفيّة أن هذا النموذج الحديث للدولة، لو وضعناه على خطّ التاريخ الكليّ كما فعل تايلور مع الحداثة، هو شكل من الأشكال التاريخيّة للدولة لا غير. لقد وُجدت دول حتى ما قبل الحداثة، وكان لهذه الدول منطقها الخاص، التابع لنظام الوجود والمعرفة أو لبرادايم الوجود العام الذي كانت تتناسب معه.
هل دولة الحداثة أكثر شرعية؟ نعم، هي أكثر شرعية من الدولة القديمة، لكن هل هي أكثر مشروعية وولاءً وجدانيًّا من الدولة القديمة؟ أنا صرت أشك في هذا الأمر.
نعم، التسييج القانوني للسلطة يحمي من الاستبداد ويقي من الاضطهاد، وقد يحقّق الحريّة. ولكن هناك توازن اجتماعي داخلي معيّن هو الذي يفرض نمط السلطة الذي يناسبه. فالآن ينظر مثلا إلى العبودية بوصفها جريمة مكروهة، لكن العبودية كان يُنظر إليها قبل القرن التاسع عشر بوصفها ضرورة في المجتمع اليوناني، الذي أنجب لنا الديمقراطية، وكانت العبودية جزءًا أساسيًّا من تركيبة هذا المجتمع، تماما كما النساء لم تكنّ في عداد المواطنين. ولم يمنع هذا من القول إنّ مهد الديمقراطيّة الأوّل كان اليونان. لأجل هذه الدواعي خرجت من فكرة الاستثناء التي تقول إن هذه المنجزات إنما هي استثناء غربي. إنّ الدولة الحديثة استثناء غربي؛ يجب فهمها لا بمنطق المفاضلة بين الثقافات والحضارات، ولا بمنطق تقرير الاحتكار الغربيّ للدولة، الاستثناء محصور في اختلاف طبيعة هذه الدولة. وهي دولة الحداثة؛ لأنّها قامت على عقديّة معيّنة وعلى فلسفة مخصوصة، هي فلسفة الحداثة الغربية، وهضمت تراثًا كاملًا، من المهد اليوناني ثم الروماني، وصولًا إلى فلاسفة الحق الطبيعي، فإلى هوبز ولوك وروسو وغيرهم.
د. حسام الدين درويش:
المستفز فكريًّا على الأقل في هذا الطرح؛ أن نعود في تأسيس الدولة؛ أي حتى بالمضامين إلى عصر أو وقت لم يعد صالحًا الآن، لكن كيف نميز هنا بين الشكل والمضمون، بين الاستئناف بالشكل أو بالمضامين؟ مثلاً، تقول إن الفكر الإصلاحي كوّن دولة أو استأنف دولة قائمة على العدل، طيب، هذا العدل، هل هو مضمون أم شكل، مع أن مضمون العدل في ذلك الوقت، يبدو لنا، حاليًّا، غير عادل على الإطلاق؟
يمكن للكتاب أن يعطي الانطباع بأننا أمام تخيير بين العدالة والحرية؛ نموذج هوبزي قائم على الحرية، بمعنى أن الدولة الحديثة قائمة فيها فكرة الحرية، ولدينا في المقابل نموذج الفكر الإصلاحي القائم على العدل. وفي التقديم، وجَّه الدكتور مصطفى نقدًا، فرفض، من ناحية أولى، القول إن الدولة السلطانية ودولة المصلحين قائمة على العدل، وشدد، من ناحيةٍ ثانية، أن هذا العدل هو بالمعنى الأفلاطوني؛ وهو من منظورنا المعاصر غير عادل؛ لأنه ينطلق من أن لكلّ إنسان مكانة لا ينبغي أن يبرحها، الملك ملك، والعبد عبد، والأجير أجير، والفقير فقير، إلى آخره؛ أي ثمة طبقات على الطريقة الهندية أو الأفلاطونية المعروفة. فهل هناك معقولية فعلًا في هذا الحديث عن استئناف هذا المسار، مسار الدولة السلطانية، التي تبدو بعيدة كل البعد عما يمكن أن نحتاجه في عالمنا المعاصر. هذا من ناحية أولى.
من ناحية ثانية، أعرف أن الفلسفة يمكن أن تعرّف بأنها إعادة قراءة لتاريخها، والهيرمينوطيقا يمكن أن تكون أكثر الفروع الفلسفية ارتباطًا بتاريخها؛ الهيرمينوطيقا والتاريخ، لكن ألا ترى أنه في تونس هناك ارتباط بين تونس والثقافة الغربية الحديثة بقدر ارتباطها بتاريخها القديم وربما أكثر؟ فهل يمثل الغرب الحديث نموذج الشرعيّة والفكر الإصلاحي التونسي يمثل نموذج المشروعية؟ وهل علينا الاختيار بين النموذجين، أم يمكننا الجمع بينهما؟
د. أنس الطريقي:
انظر، أستاذ حسام، من يقرأ الكتاب سيكتشف أنني لم أتحدث عن هذه الثنائيات الضدية؛ لأنني خرجت من المنطق الأرسطي: إما أسود أو أبيض، ما عدا هذا عندي صالحًا، ومبدأ الثالث المرفوع، لا أعترف به. نحن خرجنا من ذلك المنطق، ونتحدث عن أنواع جديدة من المنطق. إمّا العدالة أو الحرية، هذا لا يعبر عن المعنى الذي قلته، ولم أدعُ إلى دولة سلطانية ولا دولة شرعية، بل ما قلته بالضبط هو أنه لا بد من تحيين القيمة الموجِّهة للدولة بحسب طلبات الجمهور أو الشعب أو عامّة الناس أقصد الإنسان، واستعادة ما وقع إهداره من قبل الحداثة الليبرالية وأساسا قيمة العدالة؛ لأن الحداثة الليبرالية ركزت على فكرة الحرية، وأهملت مقابلها فكرة العدالة.وهذا ما دعا الليبرالي الجديد، الذي قلب الدنيا، جون راولز، في كتابه "نظرية العدالة"، إلى استعادة مطلب العدالة في قلب مطلب الحرية، بتصوّر سيكون فيما بعد منطلقًا لحوار الجماعتيين والليبراليين، في الولايات المتحدة الأمريكية.
أمّا في شأن الدولة السلطانية، فنحن لا نريد العودة إلى الدولة السلطانية، نحن نريد أن نستأنفها، لا أن نعود إليها. أنا استعملت حديث المصلح عن دولته السلطانية وتعلقه بها دليلًا على أنه كان يتحلى بوعي متجذر في واقعه، والدليل على ذلك أنه وقع في البين بين، وأنا استعملت تعبير صديقي صابر، الذي كان من قرّائي الأساسيين، وصار يعيّرني به الآن مازحًا، عبارة الازدواج. ماذا قلت بالضبط؟ قلت إنّ هذا المصلح كان مزدوجًا، وهذا الازدواج ليس سيئة في تفكيره، بالعكس، هو مفتوح على آخريته، وليس منكفئًا على ذاته، ليس عقلًا ديكارتيًّا يعتقد أن المعرفة تنقيب في الذات. هو مفتوح على آخريته، يلتقط ما منه يتعلّم من كلّ شيء. والطريف في هذا المصلح أنه أعجب واندهش وعبر عن دهشته من هذا الآخر الأوروبي، وأعجب حتى بالأشياء المحرمة نوعًا ما دينيًّا في ذائقة هذا المصلح، ودعا إلى الاقتباس من هذا الآخر. مفهوم الاقتباس أساسي في الفكر الإصلاحي. ينسجم مع هويّة تونس المركّبة، وهويتها عربية، إسلامية، أوروبية، متوسّطية، رومانية، يونانية، وفندالية؛ كل هذا داخل في هويتها. نحن إن لم نشترك مع الأوروبيين في التفكير، سنشترك معهم حتى في المناخ، والمناخ عامل محدد لهوية البشر. ونحن نتكلم اللغة الفرنسية، واللغة محدد من محددات الهوية، والمصلحون، وخير الدين خاصّة، كانوا يتقنون الفرنسية ويكتبون بها .إذن، ماذا نقول؟ إن هذا المصلح يقدم لنا نموذجًا لهذا الوعي الذي يجب أن نتحلّى به في استئناف بناء الدولة. هذا النموذج يتمثل في أن نعي أننا ننتمي إلى استمرارية تاريخية وزمنية، وننتبه إلى الاستمرارية المكانية؛ أي المجال الجغرافي، والكوني أيضًا، ولا بد أن نكون مفتوحين على العناصر المشكلة لهويتنا، وألا نفكر بمنطق الهوية المعيارية هذه، والأحاديّة: إما أن تكون إسلاميًّا أو عربيًّا أو تكون مغتربًا. وهذا المنطق هو منطق ديكارتي، ومنطق تفكير ديكارتي يعطي للهوية قالبًا أحاديًا، ويصنع فكرة الإنسان ذي البعد الواحد. نحن نريد هذا الإنسان صاحب الأبعاد المتعددة، والهيرمينوطيقا تعرف الإنسان بهذه الصورة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا. تفضل دكتور عبد السلام.
د. عبد السلام شرماط:
مساء الخير للجميع، وأبارك العودة، أحمد عودة، مؤمنون بلا حدود، واستئناف نشاطها بمناقشة كتاب "استئناف الدولة". يبدو أن الدكتور أنس وسّع مفهوم المشروعية ليخرج به من الإطار القانوني والسياسي الضيق نحو بعد فلسفي ومعرفي، وقد استثمر في ذلك الهيرمينوطيقا كأفق بديل، وناقدًا اختزالات الحداثة، مع ربطه بين التجربة التونسية والسياق الكوني الأوسع. في هذا الشق، سؤالي دكتور أنس: إلى أي حدّ يمكن لمفهوم "المشروعية" في إطاره الفلسفي- المعرفي أن يتحول إلى إطار عملي لإصلاح مؤسسات الدولة وبناء الثقة السياسية؟ وهل يمكن ممارسة نقد جذري للحداثة من داخل التجربة التونسية، دون الوقوع في استيراد جاهز لخطابات غربية ناقدة، ودون التفريط في منجزات الحداثة مثل الحقوق والحرّيات؟ من جانب آخر، في كتاب "استئناف الدولة" يحضر القانون، لا كأداة تقنية صورية، بل كإشكال معرفي وجودي مرتبط بمسألة المشروعية؛ فالشرعية التاريخية أو الثورية لا تكفي لضمان استمرار الدولة، مما يستدعي الانتقال إلى دولة القانون. غير أن هذا القانون، إذا ظل منغلقًا في بعده الإجرائي، يبقى قاصرًا عن تحقيق غايته. لذلك، نظرت دكتور أنس، في كتابك، إلى هذه النصوص القانونية كنصٍّ مفتوحٍ على التأويل، وينبغي أن يفهم في إطار إصلاحي يربط السياسة بالإنسان. فالقانون في أفق "استئناف الدولة" ليس مجرد أداة ضبط، بل إطار حيّ لإعادة تأسيس الثقة بين الدولة والمجتمع، والحرية، والكرامة، والطاعة الطوعية، إلى غير ذلك.
السؤال هنا، دكتور أنس: كيف يمكن للقانون، بوصفه إطارًا معرفيًّا وجوديًّا، أن يحقق المشروعية، ويعيد تأسيس الثقة بين الدولة والمجتمع، دون أن يقتصر على كونه أداة إجرائية صورية؟ وشكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا. العزيزة نجلاء، تفضلي، وبعدها الدكتور صابر.
نجلاء نصايرية:
شكرًا للجميع، شكرًا أستاذ أنس. الحقيقة أنني لم أطلع على الكتاب، ولكنني سأطرح السؤال من خلال ما قدمه مشكورًا الأستاذ أنس. الحقيقة أنا اختصاصي فلسفة سياسية، وقع عندي لبس بين مفهوم الدولة الذي تحدثت عنه من حيث معناها الفلسفي السياسي، كيف تحدد مفهوم الدولة؟ الدولة هي مجموعة مؤسسات، الدولة هي مؤسسات: كمؤسسة البيروقراطية، مؤسسة القانون، مؤسسة البرلمان. هذه المؤسسات هي بطبيعتها جامدة، لا نحبها ولا نكرهها، هي مجرد إجراءات تقوم على خدمـة المواطن.مثلاً، نحن لا نحب شركة الكهرباء أو شركة الماء، لكنها تقوم بخدمات، هذه هي الدولة، على ما أظن حسب ما فهمت. أنت تتحدث عن نظام الحكم، نظام الحكم إما أن يكون استبداديًّا أو ديمقراطيًّا، ملكيًّا أو جمهوريًّا. إذا كان هذا هو الحديث، بالنسبة إليّ، عن نظام الحكم.وأنت تتحدث عن النموذج الديكارتي، الذي كان أساسه الذاتية، وكانت مشكلته ومعضلته، وتحول بعد ذلك سياسيًّا إلى نموذج بين-ذاتي منفتح على الآخر بعد الحرب العالمية الثانية.
أودّ أن أسأل هنا: إذا كان الحديث عن نموذج الحكم خاصّة، وأنت خصصت الموضوع؛ أي العنوان، بتونس، أنت تتحدث عن الديمقراطية في تونس بطريقة، أنا رأيتها مواربة، هل تقصد هنا، أن نكشف المسألة بطريقة واضحة جدًّا؟ هل يعني ذلك – وخاصة أنّك استحضرت مصلحين من القرن التاسع عشر، مثل السيد خير الدين باشا، ما سُمّي بالمصلح، وهو في الحقيقة لم يكن مصلحًا. إذن، كيف يمكن أن تستحضر أفكار القرن التاسع عشر لتدغمها في تاريخ القرن الواحد والعشرين، في إطار ثورة، أنت سمّيتها انتفاضة، وأنا أسميها ثورة استطاعت أن تستعيد ليس المصلح خير الدين، ولكن تستعيد أحمد التليلي، المناضل الذي أرسل إلى بورقيبة بعد الاستقلال تلك الرسالة الشهيرة يطالبه فيها بإقامة نظام ديمقراطي، وقتل أحمد التليلي في ظروف غامضة نتيجة تلك الرسالة التي لم تُنشر إلا بعد الثورة. لذلك، أتمنى منك، أستاذ الطريقي، أن توضح بطريقة مباشرة وواقعية، هذا الربط بين ما سميته الدولة - وأنا أسميه نظام الحكم – والثورة التونسية، وشكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، العزيزة نجلاء، وقبل أن أعطي الدور للعزيز أُنس، أود التشديد على أنه لم يكن بالإمكان عرض كتابٍ بهذا الحجم وبهذا المضمون، دون التسبّب في إثارة شكل من أشكال سوء الفهم. وسؤالك، العزيزة نجلاء، مهم لأنّه يمكن أن يسهم في إزالة بعض سوء الفهم. وفي كل الأحوال، الندوات والحوارات لا تحل مطلقًا محلّ قراءة الكتاب؛ بالعكس، هي سبب للقراءة، وتحفيزٌ لها.
سؤالك مهمٌّ وضروريّ ويتناول مسألتين: مفهوم الدولة وتمييزه عن نظام الحكم، ومسألة الربط بين الماضي والحاضر، رغم الاختلاف الهائل بينهما. دكتور أنس، هذه فرصة لتوضيح هذين الأمرين، بعد الإجابة عن سؤال العزيز عبد السلام.
د. أنس الطريقي:
شكرًا للتذكير، أستاذ حسام. هذا الكتاب حملني أثناء استدلالاتي على أفكاري نحو اتجاهات كثيرة جدًّا، وكلّما أردت تقديمه، وجدت مشقة رهيبة جدًّا في محاصرة هذه التوجّهات. المجال الوحيد الذي أجد فيه راحة في محاصرة الكتاب هو المجال الأكاديمي؛ في الأكاديمي أنا آخذ راحتي في الحديث بلغة أكاديمية صرف، تمكنني من عرض الخطوط الكبرى للكتاب بدقّة. أما في هذا المجال - التواصل المباشر - فهو يحتاج مني إلى تبسيط، وفي عملية التبسيط أحيانًا أحتاج للبحث عن اللغة التي سأشكل بها هذه المعاني وأعثر عليها أثناء التفكير في هذه المعاني، التي هي نفسها صعبة التفسير.
بالنسبة إلى سؤال العزيز عبد السلام، بطبيعة الحال نحن لا نستغني عن مكتسبات الحداثة، وعمّا قدمته لنا دولة الحداثة، إنّما نحن نصحح دولة الحداثة التي وقعت، وأنت ذكرت هذا، في صوريّة، في وضعانيّة قانونيّة جافّة صرف. وهذا مثّل موضوع نقد واحد من أبرز المفكّرين القانونيّين الذين حضروا بقوّة في هذا الكتاب الألماني كارل شميت. الديمقراطيات عظيمة جدًّا، نعم، يتمتع فيها الإنسان بحقوق كثيرة، ولكن كل نقاد الحداثة، بدءًا من فيلسوف المطرقة نيتشه، كلهم بينوا أن هذا الإنسان الحديث يعيش في وضع حق صوري؛ بسبب صوريّة قانونية ومعياريّة قانونيّة. ونموذج المشروعية لا ينتقد وجود القانون، بل ينتقد "le légalisme"؛ القانونيّة كما يعبر عنها باللغة الفرنسية.
ما معنى "الصورية القانونية"؟ أن تكون هناك قوانين شكليّة، صحيحة نظريًّا وربّما منطقيًّا لكن لا واقعيًّا؛ أنا أنتقد في صوريّة القانون ومعياريّته هذه الحسابية التي تُمارَس على الوجود الإنساني بواسطة القانون الوضعاني الصوري، غير النابع من واقع الناس، والتي تثير إشكالية معرفية أيضًا. القوانين يجب أن تلاحق أوضاع الحياة المتغيرة، بينما القوانين تكتب بلغة محددة، هل تعكس اللغة الوجود الإنساني؟ لا، يستحيل أن تحاصر اللغة الوجود الإنساني.
هناك أمر آخر ينبغي التذكير به في هذا السياق: في الدولة القانونية، الإجراء القانوني من ناحية تطبيق القانون والحكم على الوضعيات على أنها قانونية أو غير قانونية، هذا الحكم يبقى صوريًا. ليست هناك مطابقة بين العدالة والقانون، لا وجود لهذه المطابقة، العدالة إجرائية تقريبًا، وليست حقوقية، لاستحالة المطابقة بين القانون والواقع. من الناحية الإجرائية هناك ما يُسمّيه كارل شميت القرارية. ما معنى القرارية؟
من يقرّر؟ من يربط هذه الواقعة الموضوعية بالقانون، بهذا القانون أو ذاك؟ من يتكفل بعملية الربط هو الشرطي عون التنفيذ أو القاضي، فهو من يربط بين الأمرين، فيصف هذه الواقعة الحيّة بوصفها واقعة ينطبق عليها هذا القانون أو ذاك، ويطبق عليها الملاءمة والمواءمة بين ما يجري في الحي وفي الواقع والقاعدة القانونية الثابتة في الزمن؛ لأنّها مسجّلة ومدوّنة. ومن يقوم بعملية الملاءمة هو رجل القانون. ثم ماذا تفعل المحاماة؟ المحاماة تثير كلّ الفجوات الموجودة بين الواقع وحقيقة الواقعة من ناحية والقانون الذي اعتبر مطابقًا لها ومنطبقًا عليها، وتثير زوايا النظر الأخرى التي يجب أن ننظر من خلالها إلى الواقعة، والتي لم ينظر إليها القانون ولم ينتبه إليها المشرّع.
ما أقوله بالضبط وأدعو إليه هو أن نموذج الشرعية لا يستغني عن القانون، وما ينقصه أن يجعل القانون نابعًا من واقع الحياة حيًّا، وهذا يتطلب حيوية تشريعية مستمرة.
د. عبد السلام شرماط:
هل يكون للتأويل حضور هنا، دكتور أنس؟
د. أنس الطريقي:
بطبيعة الحال، لأن العملية كلّها تأويلية. وجودنا كلّه وجود تأويليّ هذا ما تقرّر منذ نيتشه. القاضي ماذا يفعل؟ هو يؤوّل. سأعطيك مثالًا: مرةً وقعتُ في إشكالية قانونيّة، وجاء القاضي وتحدّث معي، ونظرت بعد ذلك إلى النص الذي كتبه، وجدت أنّ ما كتبه ليس ما قلته. هو فهِم عنّي شيئا مختلفا عمّا قلت وقصدت؛ لأن الحاجز الذي يفصلنا هو اللغة. أنا قلت كلامًا بلغة، وضعت أفكاري في لغة، واللغة التي استخدمتها لا تطابق أفكاري 100%. ثم هو ماذا سيفعل؟ سيفهم أفكاري من خلال اللغة كما أوّلها بعقله. فالحاجز صار حاجزين: نحن لا نطابق الواقعة عندما نتكلّم عنها، واستحالة المطابقة في القانون للواقع واردة من استحالة أن تقدم اللغة وصفًا مطابقًا للواقع. نحن كائنات نعيش باللغة فهي مسكن وجودنا بعبارة هيدغر، نتواصل ونتعامل باللغة، ونفكّر من خلالها، فلا نرى وندرك إلاّ ما تسمح به اللّغة التي نتكلّمها. ووجود هذه اللغة الحاجز الذي يغطي الوجود يجب أن ننتبه إليه. ودولة المشروعيّة، ماذا تقول؟ تقول: نعم، أريد القانون، ولكن أريده أن يكون نابعًا من واقع الحياة.أنت تعيش في بلدان عربية فيها قوانين كثيرة وجميلة جدًّا، لكنها هل تتناسب مع واقع الحياة الموجود؟ أنا من الأمثلة التي أتحدث فيها مع صديقي صابر؛ من واقعنا الحي هذا التعامل العاطفي الوجداني بين عون تنفيذ القانون والمواطن، خصوصًا مثلاً في المرور. قد يقول لك: «سأسامحك، لقد خالفت، لكني أسامحك لأن معك الوالدة»، احترامًا للوالدة. هنا صار القانون غير عقلاني، وغير محايد، وهو مخالف لحياد القانون الذي تقتضيه دولة الشرعيّة التي تريد أن يكون القانون كالمسطرة التي تقاس بها السلوكيات حسابيًّا، دون اعتبار للوجدانيّات، وللظروف، بل أصبح القانون هنا عاطفيًّا وجدانيًّا. هل هذا خطأ قانوني بمنظور المشروعيّة؟ في نظري هذا ليس خطأ قانونيًّا؛ لأننا متجذّرون في هذه القيم وفي هذه الروحانيّات التي نعيش بها، وتشكّل عناصر انسجام الوجود.، فالقانون يصبح هنا متجذّرًا في الارتباطات الوجوديّة المحدّدة لوجودنا. نحن نعيش بهذه القيم التي نجلّ فيها الأمّ، وهي قيم جامعة توحّد المتغايرين والمتباعدين، وتصنع هذه السرديّات الموحّدة المحقّقة للاندماج الجماعي المطلوب لكلّ دولة. هل فهمتَ يا دكتور عبد السلام، فهذا يُعدّ تعدّيًا على القانون في نموذج دولة الشرعيّة، حيث القانون مربّع أو قالب عقلانيّ ومعيار صامت يطبّق على ذوات صامتة كما لو كانت لا حياة فيها.
د. حسام الدين درويش:
إذا سمحت، هل يمكن أن تنتقل إلى النقطة الثانية، وفيها مسألتان تحتاجان إلى توضيح: مسألة التمييز بين الدولة ونظام الحكم من جهة، ومسألة العودة إلى الماضي من أجل الحاضر.
د. أنس الطريقي:
الأخت نجلاء، أنا عندي مقالات منشورة في «مؤمنون بلا حدود» عرّفت فيها الدولة. وفي أطروحتي كتبت تسعين صفحة عن الدولة، استعرضت فيها كل التعريفات الموجودة للدولة في فلسفة السياسة، وفي التصوّر القانونيّ وخاصّة الكلسنيّ، وفي علم الاجتماع، ثم استنتجت أن أجمل وأوفى تعريف، يحررنا من التحيّزات المعرفية لدولة الحداثة أو الدولة السلطانية، هو تعريف عبد الله العروي الدولة تتكوّن من أدلوجة وجهاز. الأدلوجة هي فكرة المشروع المجتمعي، الفكرة هي القيمة الكبرى التي توحّد جماعة اجتماعية معيّنة. أما الجهاز، فهو الجهاز السياسي المبني لتطبيق هذه الفكرة عمليًّا وواقعيًّا. هذا التعريف الذي يقدمه العروي في كتابه الشهير «مفهوم الدولة» هو تعريف فلسفي، واجتماعي، وتاريخي. ولو نظرتِ إلى أسماء أخرى في فلسفة الدولة والتفكير فيها ستجدين أن هذا هو التعريف. أنا لم أتحدث عن نظام الحكم le système politique مطلقاً، بل تناولته عرضيًّا. أنا تحدثت عن الدولة فكريًّا أو نظريّا؛ أي عن نظريّة الدولة لا عن الأنظمة السياسيّة. ربما عندما تقرئين الكتاب ستفهمين أنني تفاديت هذا الخلط. وهذا حسمته منذ مرحلة الماجستير وإلى الآن.
أما بالنسبة إلى مسألة العودة إلى الماضي أو إلى الدولة السلطانية، فأنا لم أقل إننا سنعود إليه، بل نحن نقتدي بالوعي الإصلاحيّ الذي تفاعل إيجابيًّا مع الدولة السلطانيّة، والذي سميته وعيًا هيرمينوطيقيًّا؛ أي إنه لم يقع في أسر إحداثيات الدولة الحديثة بخصائصها، بل نقل منها ما ينسجم مع طبيعته الثقافية والتاريخية حتى لا يخرق المشروعية. فالمشروعية تتأسس على الاستمرارية. لماذا لم يستغنِ الإنجليز عن مَلِكِهم؟ لأنه يمدّهم بإحساس الاستمرارية في الزمان، وهذا الإحساس بالاستمرارية والانتماء مهم جدًّا للكائن البشري، وللدول. ولهذا أنا تحدثت عن العصبية عند ابن خلدون؛ ففي «المقدمة» يعدّ ابن خلدون العصبية أساس الدول وأساس الحضارات، ويقول ابن خلدون: إنّ أقوى العصبية هي العصبيّة للدم؛ أي للنسب. ولكنّ النسب ليس مقصودا لذات عنده، إنّما هو للتمثيل على قوّة التعلّق الوجدانيّ، ولتقديم نموذج حامل للعصبية، ولكنّ العصبيّة تقوم على هذه الذكرى الموجِّهة، والواصلة بين الإنسان وما هو غيره كالمكان، والإنسان. أنا أحمل تاريخًا إسلاميًّا أنتمي إليه، ولا يمكن أن أتخلص منه، وأحمل تاريخًا رومانيًّا وحاضرًا غربيًّا كذلك. أنا أيضًا فرنسي، لكن لست فرنسيًّا ثقافيًّا بالكامل. نتحدث اللغة الفرنسية التي نفكر بها أيضًا، فاللغة رؤية للعالم، وليست مجرد أداة تواصل. نحن نقتبس ونُدخل على أنفسنا رؤية أخرى للعالم تحملها اللغة، ونعيش بالاستعارات كما قال لاكوف. ونحن نستعمل الاستعارات اللغوية الفرنسية التي ننتمي إليها؛ هذا الفضاء المتوسطي هو جزء من هويّتنا. وتعلّقنا بكلّ هذا هو جوهر عصبيّتنا، عصبيّتنا هي هذا التعلّق الوجدانيّ بما يشكّل عناصر لكينونتنا وهويّتنا بهذا التركيب المكثّف لما لا يمكن حصره من عوامل مؤطّرة للوجود.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا. وحتى الآن جاءت المداخلات من أطراف أكاديمية، مع أن الموضوع لا يقتصر على المجال الأكاديمي، بل يمسّ الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن الطبيعي، بل من المرغوب، أن تتعدد الأبعاد الأيديولوجية والسياسية في مثل هذا النقاش، طالما يتم الحوار بهذا الأسلوب فلا مشكلة، بل هذا هو الغرض، حتى لا تنعزل الأكاديمية بين جدرانها.
فلنبدأ بالصابر التونسي، ثم ننتقل إلى الصابر المغربي. تفضل الدكتور صابر سويسي.
د. صابر سويسي:
شكرًا، بداية أهنئكم على عودة هذه الأمسيات الرائقة يوم الجمعة، كما أهنئ دار «مؤمنون بلا حدود» على هذا الإنتاج الغزير. وأتوقع أن تكون هذه الأمسيات أسبوعية مستقبلًا؛ لأن ثمة إنتاجًا مهمًّا، وجديرًا بأن يُقرأ ويُحاور أصحابه.
تهنئتي أيضاً لصديقي وأخي أنس الطريقي على هذا الكتاب، الذي أزعم أنني أعرف بعضًا من معاناته خلال السنوات التي أعدّ فيها هذا العمل. شهادتي فيه مجروحة، لذلك لن أقدّم شهادة مباشرة، لكن لديّ فكرة أود الانطلاق منها باختصار شديد. في نص كنت شرحته مع الأستاذ أنس الطريقي لطلبة السنة الثالثة في إجازة العربية، استعمل ابن أبي الضياف في توصيفه لباريس عبارة «الغانية»؛ أي المرأة الجميلة التي يغنيها جمالها الطبيعي عن الزينة، وشبّهها أيضًا بالجنة. وكان هذا النص مهمًّا في كتاب أنس الطريقي؛ لأنه أدرك من خلاله أن المصلحين التونسيين لم ينبهروا بنموذج الدولة أو الحضارة الغربية، ولم ينظروا إليها نظرة عقلانية أو سياسية فقط، بل تفاعلوا معها بما سماه هو «الكليّة الإدراكية»؛ تفاعلًا لم يُلغ فيه العقل، بل حضر فيه العقل متناغمًا مع الوجدان، ومع الحواس، ومع الحدس، ومع الخيال، خصوصًا الخيال الحامل لمرجعيات مختلفة، عربية تقليدية وغربية معاصرة، شاهدها المصلحون عيانًا.
من هنا رأى أنس الطريقي في كتابه أن المطلوب ليس مجرد تحصيل معرفة بالآخر أو بدولة الآخر، بل محاولة اقتناص الحكمة أو إدراكها في هذه الدولة الغربية أو في هذه الحضارة الغربية. وعن سبل الاستفادة منها، تحدث عن الازدواج، والالتفات، والتجذير، إلى غير ذلك من مصطلحات كثيرة استوجبت ساعات طويلة من الحوار لفهمها. لكن الفكرة الرئيسة التي أردت الإشارة إليها هي أنه رأى أن النظر إلى الآخر يمثل جسرًا أو مفتاحًا لفهم الذات والإنسان عمومًا. ومن هنا تتنزل أبحاث الأستاذ أنس الطريقي ضمن مباحث الأنسنة، أغلق القوس على هذه الفكرة، وأطرح سؤالًا بسيطًا على الأستاذ أنس الطريقي: اليوم لدينا مجموعة من الكتب حول الدولة؛ مثل «الدولة المستحيلة»، «مأزق الحداثة الأخلاقي»، «الدولة العالقة»، «مأزق المواطنة»… وأنت تتحدث عن استئناف الدولة في تونس، وعن أزمة وفكر الأزمة، وقريبًا ستنشر «مؤمنون بلا حدود» كتاباً للأستاذ علي صالح المولى بعنوان «الدولة الهجينة». ما هي الإضافة التي يفترض الأستاذ أنس الطريقي أنه قدمها أو شدد عليها في هذا الكتاب، خاصة أنه كتاب ملغّم بإشكاليات كثيرة، ومكثّف إلى درجة أنه مفتوح على أسئلة مربكة ومورّطة في علاقة بواقعنا الحالي؟ شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لك، يبدو أن شهادته مجروحة بشهادتك أكثر من جرح شهادتك به؛ فقد تعب وهو يهز رأسه موافقًا على كلّ كلمة قلتها. شكرًا لك د. صابر. دكتور صابر مولاي أحمد من المغرب.
د. صابر مولاي أحمد:
شكرًا جزيلًا العزيز الدكتور حسام، والشكر موصول للدكتورة ميادة، وهنيئًا للصديق الدكتور أنس الطريقي على هذا الكتاب وهذا العطاء. في الحقيقة، موضوع البحث في الدولة كما هو معروف، قَدَرُ العالم الإسلامي أن يقضي قرنًا وزيادة، وهو يدور في دائرة جدل الديني والسياسي: الدولة بأيّ مفهوم؟ هل بالمفهوم الكلاسيكي القديم في الثقافة الإسلامية، أم الدولة بالمفهوم الحديث والمعاصر المتداول في جغرافيات العالم، وبالأخص في أوروبا، أم دولة مركبة من هذا وذاك؟ ويبقى التحدي الأكبر هو: كيف يمكن بلورة نماذج معرفية وفلسفية، كما تفضل العزيز أنس، الذي راهن على التأويل في بلورة مسلك آخر يسهم في التأسيس، وفي الوقت نفسه في نقد الباراديغمات الكلاسيكية القديمة التي استفحلت في العالم الإسلامي. نموذج «داعش» والقاعدة وغيرها من الأصوليات والإسلام السياسي حاضر بقوة، ولا يزال له امتداد، ومفهومه للدولة يحضر فيه الماضي أكثر مما يحضر فيه الحاضر. وهناك اتجاهات أخرى يحضر فيها البعد الجغرافي والتباهي مع الآخر أكثر مما يحضر فيها نوع من البناء والتأسيس، إن استثنينا بعض المشاريع المعرفية في العالم العربي. ويندرج في هذا السياق، المجهود الذي بذله الصديق أنس الطريقي. فنحن في القرن الحادي والعشرين وما زالت معضلة جدل الديني والسياسي لم تُحسم بعد.الإشكال هنا - في نظري - وأتساءل مع العزيز أنس الطريقي: ما هي الآليات المنهجية والمعرفية التي يمكن التعويل عليها اليوم في بلورة نموذج آخر يسهم في ترشيد نموذج الدولة كما هي في الغرب؟
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا لك. ما سألت عنه موجود فعلًا مسبقًا في الكتاب؛ فهو يتضمن اقتراحًا لنموذج جديد، وأنت تسأل عن هذا النموذج.
كان هناك تساؤل عن التقابل أو الصراع بين العلماني والإسلامي، أو العلماني والديني. وفي الكتاب بعض الإشارات في هذا الخصوص، حيث تمت تسمية نموذج الدولة الغربية أو الدولة الهوبزية أو الديكارتية بالعلمانية. أما الدولة المستأنفة عندك، فتتضمن شريعة ودين/ إسلام. كما يوجد في كتابك نقد للتوافق العلماني والإسلامي في تونس، وهو توافق أشاد به كثيرون. ربما تحتاج هذه النقطة إلى توضيح أكثر؛ لأنّ الدكتور صابر سأل عنها أيضًا.
د. أنس الطريقي:
سؤال أخي مولاي أحمد، هو تقريبًا يصبّ في سؤال صابر الثاني: ما الآليات المعرفية والمنهجية التي نعوّل عليها لبناء تصوّر جديد للدولة؟ الكتاب يقترح هذه الآلية المعرفية والمنهجية، وهي مفصّلة فيه، ولولا ضخامة الكتاب وتشعّب خطوط التفكير، لكان الوقت كافيًا لعرضها، لكنها موجودة ومشروحة بإسهاب. ثانيًا، دكتور حسام، أنا لا أضع العلمانية في مواجهة الإسلامية. أنا أتكلم من خارج هذه الثنائية، وأثمّن هذا التفكير الإصلاحي في أمر أساسي، وهو أنه تفكير أراد أن يبني دولته الذاتية انطلاقًا من تاريخه العام، الإسلامي العربي، ومن تاريخه الخاص الراهن، ولم ينظر إلى نفسه بوصفه ذاتًا معزولة عن هذا التاريخ. تاريخه استمرارية حاملة لكل عناصر تاريخ تونس.هذا المجال، مجاله الجغرافي، مجال خصوصي، لكنه حامل لكل خصائص المجال المحيط بتونس، من المتوسطي إلى الأوروبي إلى الكوني عامة. وجدنا هذا في مقدمات الكتابات الإصلاحية التي ابتدأت كتبها به؛ فبيرم بدأ بوصف الكون، والكرة الأرضية وتقسيمها جغرافيًا وصولًا إلى القطر التونسي، فأدرج هذا القطر في استمرارية كلية حاوية له، ولم يعزله عن كونيته، بل نظر إليه في خصوصيته داخل كونيته.
ولهذا، حين ذهب المصلح إلى فرنسا أعجبته الحداثة الأوروبية ومنجزاتها، لكنه أراد أن يكون وفيًا لما يضمن له الاستمرارية التاريخية لتاريخه العام، الذي يعيده - كما قلت في الكتاب- إلى الخط التوحيدي الجامع بعد المحطة التوحيدية التي جمعت بين التراثين الغربي والعربي الإسلامي التونسي، قبل القطيعة الحداثية. هذا الخط التوحيدي الجامع عبّر عنه سياسيًّا بالتشابه بين الأدب السلطاني و«مرايا الأمراء» في الكتابات السياسية المسيحية، التي كتب فيها عزّ الدين العلام كتابًا مهمًّا نشرته المؤسسة. أنا تحدثت عن الشريعة، فالمصلح حين تعلق بها لم يتعلّق بها بوصفها قانونًا، بل بوصفها روحانية عامة. نحن استندنا في الحديث عن تعلقه بالشريعة بهذا المعنى إلى وائل حلاق، الذي وصف كيف كانت الشريعة مندغمة مع حياة الناس ملاحقة لحياتهم اليومية. نحن لا نريد الشريعة بذاتها، بل نريد قانونًا على صورتها مندغمًا مع حياة الناس، متحركًا معها. وصف الحلاق بتميزه المعتاد في كتابه "ما الشريعة"، كيف كانت الشريعة سائلة متغيرة باستمرار، سائرة في الاجتهادات ومشبكة لحياة الناس، كل حياتهم كانت تتدخل فيها الشريعة، وتجد لها الحلول، وهي حلول مستمدة من الأعراف أيضًا؛ أعراف الناس وليست قوانين قرآنية منزلة، وإنما هي مندغمة مع أعراف الناس. أما حين نريد فرض قوانين مستوردة من نمط حياة مختلف بحجة أنها حديثة، ونزرعها في سياق زماني ومكاني لا يناسبها، فإنها تؤدي إلى ازدواجية وتلفيق غير منتجين. نحن نعيش بكثير من القوانين الحديثة، لكن هل نعيش بها فعليًّا؟ نحن ننظم طرقاتنا مثلًا، فهذه من المشاكل، ننظم طرقاتنا بأمثلة هندسيّة حسابيّة محايدة للتهيئة العمرانية، تتضمن قانونًا يعرض الأنهج وكذا طولها، لكن حين تذهب وتشاهد الطرقات، ستجد الاختراقات في كل مكان. فهل هذا عيب في المواطن أم في القانون؟ العيب عيبان، العيب من الجهتين؛ لأن ذلك القانون لم يأخذ في اعتباره علاقة المواطن بالأرض وحركته في المجال. لو فكر بطريقة أسلم، لكان عثر على طرق أفضل، لكي يجعل القانون نابعًا من حياة الناس. هل قرأت رواية "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم؟ قانون يعاقب من يسبح في الترعة في مصر بعشرين قرشًا. وقف المتهم أمام وكيل النيابة، فقال له: "أنت محكوم عليك بعشرين قرشًا؛ لأنك سبحت في مياه الترعة"، فردّ عليه: "لو كان عندي مال لما سبحت في مياه الترعة، وبعد، هذا الماء جلبه الله كي أسبح فيه؛ لأنكم لم تعطوني ماءً". هل يمكن أن يكون هذا القانون الذي يعاقب المواطن الذي ليس له مال على الاغتسال في ماء نهر، نهر النيل، معقولا؟ هل هذا القانون نابع من حياة الناس؟ هل يضمن ولاءهم الوجداني للدولة؟ هل تضمن لي القوانين التي تكون مسقطة على حياتي إسقاطًا نتيجة معايير عقلانية معرفية، من المفروض أن تكون حياتي مستجِيبة لها؟ أنا لا أعيش بالمعرفة، نحن نعيش بالخيال والحدس، وبالذاكرة والإلهام والرغبة؛ فهذه كلها نزوات تعتمل وتدخل فينا. لسنا روبوتات، والقانون يجب أن ينسجم مع طبيعة الوجود البشري. وهذا ما تقرّره الهيرمينوطيقا بصفتها نظريّة أو فلسفة في الإنسان والوجود الإنساني، نقيضًا للبرادايم الديكارتي.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا، أستاذة منيرة البلغوثي، تفضلي.
أ. منيرة البلغوثي:
أردت أن أثير إشكالًا يتعلق بدلتاي الذي أعلن الكاتب أنّه مرجع أساسي لهذا الكتاب. نعرف أن دلثاي لم يكتفِ بانتقاد محدودية التفسير العلمي للوجود الإنساني، بل وضع الهيرمينوطيقا كفلسفة للفهم التاريخي للحياة المعيشة. إذا أخذنا هذا الإطار كمرجع، فإن استئناف الدولة في تونس لا يمكن أن يتم إلا عبر إعادة تأويل التجربة التاريخية والسياسية، كما أشار إلى ذلك الكتاب، عبر فهم معمّق للحياة المشتركة التي لا يختزلها القانون، كما فسّر ذلك باستفاضة الدكتور أنس الطريقي. لكن هذا يثير أسئلة عديدة: هل يكفي أن نفهم التجربة التاريخية لإعادة بناء الدولة، أم إنّ الأزمة التونسية، بما تحمله من أبعاد اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية، تحتاج إلى أكثر من فهم تأويلي بالمعنى الدلتائي؟ ثم سؤال آخر: إذا كانت الهيرمينوطيقا مرجعًا أساسيًّا كما أعلنت في الكتاب، تضع التاريخ في قلب الفهم، فهل ما زال هذا الخيار صالحًا اليوم في عالم لم تعد فيه الدولة كيانًا مغلقًا على ذاته، بل جزءًا من شبكات عابرة للحدود في ظلّ العولمة والانفتاح الهائل؟ وأخيرًا، كيف يمكن لهذا الفهم أن يُترجم إلى مؤسسات وقوانين تعيد بناء الثقة والمشروعية في تونس، فلا يبقى مجرد أفق فلسفي تأويلي، والفلسفة ترسم عالمًا جميلًا؟ بهذا المعنى، أرى أن الكتاب يفتح نقاشًا ثريًا؛ لأنه يذكّرنا بضرورة استعادة ما أهملته الديكارتية، ويدعونا إلى التفكير في الدولة كتجربة تأويلية حيّة، لكنه في الوقت نفسه يضعنا أمام تحدي ترجمة هذا الفهم إلى ممارسة سياسية ومؤسساتية قادرة على مواجهة الواقع المعاصر.وأخيرًا، إذا سمح لي الأستاذ حسام الدين درويش بسؤال خارج الإطار الأكاديمي: بعد كلّ هذه التحولات التاريخية والاستعمارية، كيف يمكن للدولة التونسية أن تعيد بناء مشروعية سياسية تعبّر عن تاريخها المحلّي وتجاربها الخاصة، دون أن تكرر نماذج مفروضة من الخارج، أو تستنسخ ما بعد الاستعمار بطريقة أو بأخرى؟ شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لكِ كثيرًا، قبل أن أعود إلى الدكتور أنس للإجابة عما سألته الأستاذة منيرة، نرجع هنا إلى مسألة الثنائيات والقطبية، أي «إمّا/ أو» المرفوضة. هناك تشديد كبير على مسألة أن تكون الدولة والنظام السياسي ملائمين لحياة الناس، ومعبرين عن روح الشعب، عن روح المجتمع، إلى آخره. لكن، ألا يمكن لهذا التفكير أن يفضي بنا إلى الوقوع في فخ الشعبوية؟ والديمقراطية اليوم ليست مجرد تعبير عن إرادة الشعب، فالديمقراطية الليبرالية محدودة بقوانين وحقوق ومبادئ. فمثلاً، مبدأ المساواة بين الأشخاص أمر مهم، فحتى لو صوّت 99% من الشعب ضد هذه المساواة، لا يجوز إلغاؤها، من المنظور الديمقراطي. وغالبًا ما تسبق القوانين روح الشعب؛ بمعنى أنّ إرادة الشعب ليست كإرادة الزبون في الاقتصاد؛ فالشعب ليس دائمًا على حق، ويمكنه أن يختار أشياء فظيعة. لذلك، يُفترض أن يكون للنظام السياسي والدولي مبادئ ضابطة لهذه المسألة، ومنها القوانين والدساتير.
إذن يمكن الذهاب في اتجاه المشروعية وأهميتها وضرورتها، لكن يجب أن يوضع حد وضابط لهذا الاتجاه. فالقوانين، كما ذكرتَ أنت، ضرورية، وقد تعبّر عن أشياء ليست من روح الشعب ومن أجل الشعب. عندما نقول إن المساواة بين جميع المواطنين واجبة. فحتى إذا رأت أغلبية التونسيات والتونسيين حرمان أهل صفاقس من هذه المساواة وكان ذلك معبّرًا عن روح الشعب، وكانت هناك ضغينة بين كل مناطق تونس وهذه المنطقة، فهذا يجب ألّا يكون، ويجب ألا تكون له لا شرعية ولا مشروعية. فهذه مسائل ينبغي ضبطها لتجنب الخطر الذي تحدث عنه الدكتور مصطفى، وهو أن نقع في الشعبوية: ما يريده الشعب هو الحق. وباختصار ما ضوابط أو حدود المشروعية التي تتحدث عنها وتدعو إليها في كتابك؟
كتابك ليس كتابًا سياسيًّا، لكنه يتضمن إشارات عن الواقع التونسي الحالي، خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية؛ أي منذ 2020 إلى الآن 2025. وفي الكتاب، إشارات إلى أطراف سياسية تبحث عن شرعية، وأطراف أخرى أو طرف آخر يمثّل مشروعية، ويتحدث عن المشروعية. فإلى أي حدّ ترى أن هذه الازدواجية بين الشرعية والمشروعية كانت وما زالت صالحة لقراءة الواقع التونسي والمشهد التونسي الحالي، والبناء عليها، عمليًّا وسياسيًّا؟
د. أنس الطريقي:
شكراً صديقي العزيز، أبدأ منك، أنت من سؤالك عن خطر الشعبوية. أنا لا أتحدث عن شعبوية، أنا أتحدّث عن عبقريات المدينة المرئية عند فيريرو، وروح الشعب عند هيردر كما أعتقد. لكنني لم أتكلم عن شعب، ولم أتكلم بمصطلح ديمقراطية، أنا تكلمت بمصطلحات إنسانية. أنا عدت بمشكلة الدولة إلى الما قبل، إلى المشكلة الأصلية الجوهرية الحاملة للجميع، وهي مشكلة الإنسية: ما الإنسان؟ أنا اعتقدت أنّه لا يمكن تجديد النظرية السياسية إلا بتجديد نظرية الإنسان: ما الإنسان بالضبط؟ الديكارتية أعطته تعريفًا، وأعطته وصفة للحياة ولإنتاج العلوم. الهيرمينوطيقا صححت هذا التعريف وهذه الوصفة للحياة.
أنت تعرف جيدًا، أنّ من مكوّنات أو من مضامين الهيرمينوطيقا الإضافة الهيدغَرية التي أراد أن يقدّمها بصفتها أنطولوجيا أساسية للكائن البشري جديدة، في شكل تجذيريّة radicalisation أو إعادة تعريف جذريّة تتجاوز الأنطولوجيا الديكارتية.هذه الذات التي اعتبرها ديكارت منطلقًا ومبدأ لكل الوجود، بالنسبة إلى هيدغر هي ذات غير موجودة أصلًا، هي حركية مستمرة. وفي "الذات عينها كآخر" سيواصل ريكور في هذا تقريبًا. أنا لم أتكلم عن شخص، أنا تكلمت عن الإنسان، وقلت إن المشروعية هي التي تعيد للإنسان مركزيته في الأنظمة السياسية. القانون جاء لخدمة الإنسان، ولم يكن القانون هو الصانع للإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع القانون. هذا هو تفكيري. وحتى الصديق مصطفى لما ناقشني في هذا الموضوع، تقريبًا كانت إجابتي في هذا الاتجاه، لكن بأفكار أخرى من وحي اللحظة. إلى حدّ الآن أعتقد أنّ أشكلة الدولة حول المشروعيّة والشرعيّة، أشكلة صالحة بقوّة، أنا شخصيًّا أظنها هي الصالحة؛ valable–validité؛ أي إنّها ذات معقولية، ولها مبررات يمكن أن يُدافع بها. ونحن لا نستعمل مفهوم الصحة والخطأ، خرجنا منه منذ مدة لأننا الآن هيرمينوطيقيون.
صحيح، الأستاذة منيرة: هل يكفي الحديث الفكري عن الدولة؟ نعم، هو لا يكفي، لكنّني في الكتاب اهتممت بهذا البعد لمشكلة الدولة، أنا أخذت زاوية نظر جزئيّة، وبطبيعة الحال لم يعد مجال لإهمال المجالات والزوايا الأخرى، ولكن هذا الكتاب بهذا الفرع وحده من التفكير في الدولة استوجب 500 صفحة، فلو فتحت الأبواب على الجيوستراتيجيا وعلى المعادلات الاقتصادية والاجتماعية، لاحتجت إلى موسوعة وقتها. أنا أخذت الجانب الفلسفي البرادايمي. استعملت كثيراً فلسفة العلوم، وخاصة مفهوم البرادايم لتوماس كون، وقلت إننا انتقلنا من برادايم حياة أو يجب أن ننتقل من برادايم حياة إلى برادايم آخر. بطبيعة الحال، هذا الانتقال لا يعني انقطاعًا، لا يعني قطيعة.أنا كتابي عنوانه استئناف؛ لأنّه لا توجد قطيعة. نحن استمرارية، نحن في استمرارية، اللاحق فيها ينبني على السابق، ولا يمكن الحديث عن قطيعة.
هل يمكن أن نحذف ماضينا من عقولنا؟ هذا يستحيل؛ لأنه ليس مرسّمًا في الذاكرة فقط، هو مرسّم في اللغة التي نتكلمها، وهو مرسّم في الجينات بيولوجيًا، وهو مرسّم في الأرض وفي الرموز وفي كل شيء. كيف لهذا الفهم أن يترجم إلى مؤسسات؟ أنا أقول: الترجمة الأساسية بطبيعة الحال، لابد أن تكون هذه المؤسسات الديمقراطية. هذه مكاسب، لكن هذه المكاسب غرقت في الإحداثيات العلموية للحداثة، غرقت في تلك الإحداثيات الديكارتية التي تصورت أنّ الإنسان قابل للقياس والحساب، وأن الحياة يمكن محاصرتها حسابيًّا. أنا أقول: هذه المؤسسات لا بد أن نحتفظ بها، ولكن أن نذكّرها بأنها جاءت أساسًا لخدمة الإنسان، وأن نستعيد الإنسان فيها، الذي هو الأصل، الذي فقد وراء ما ذكرته الأستاذة نجلاء، أقصد البيروقراطية، تكلمت عن البيروقراطية، فالدولة البيروقراطية تقضي على الإنسان، هي أكبر تمثيل للديكارتية في الدولة: البيروقراطية، والتنظيم الحسابي لكلّ شيء، للإجراء، لإدارة المؤسسات القائمة بالدولة.
كيف يمكن للدولة التونسية أن تبني نموذج المشروعية؟ أعتقد أن هذا هو المسار الذي نوجد فيه، هو مسار التعلم. والهيرمينوطيقا المبدأ الذي تقوم عليه هو تعلم التعلم. نحن في تونس محظوظون بأننا بصدد التعلم. وهل نعيش في قلب مشكلة الشرعية؟ نعم، نحن في قلبها. لدينا معارضة سياسية كاملة تقول إن هذا الرئيس غير شرعي، ولدينا رئيس يقول: أنا شرعي. هذه مشكلة الشرعية. هذا الطرف الآخر.. أنا لا أرفض المعارضة، بالعكس، نحن في نظام ديمقراطي لا يكون إلاّ بالمعارضة، لكنّ هذه المعارضة عبث بالدولة عبثًا كبيرًا لمّا كانت في الحكم، وعشنا فعلًا الخوف من إفراغ الدولة من جوهرها. بعض الأطراف في هذا الطرف، خاصة المنتمين إلى الحزب الإسلامي، وقعت منهم أمور، خفنا على الدولة أثناءها. وهذا الطرف الذي عبث بالدولة، أنا أعرفه جيدًا من خلال تخصصي في دراسة تفكير الإسلام السياسيّ. أنا أعلم أن هذا الطرف عبث بالدولة، ولكن عندما وقع إقصاؤه من الحكم قال: أنا صاحب شرعية. يمكن بواسطة نموذج الشرعية أن يقع الإجهاز على الدولة أصلاً. ولذلك، أعتقد أن الاهتمام بمسألة المشروعية، والأداة الأساسية لتحقيق المشروعية، هي القانون. نحن لا نلغي القانون، بل نجذّره في الوجود الإنساني، أن نجعل القانون يبتكر الحلول للإشكاليات، ألا يصبح القانون هو المشكلة. المشرّع وحيوية المشرّع، وهيرمينوطيقية وعي المشرّع بأن الإنسان موجود في كلّ شيء. ذكاء هذا المشرّع الذي يجب أن يتحلى بوعي تأويلي لا بوعي ديكارتي، يذكره بأن الإنسان مغروس في ارتباطات كثيرة جدًّا، وأنه يدرك العالم بخياله. هذا ما يجعله فطنًا في التشريع، في سن القوانين، أو حتى في مطابقة الوضعيات مع القوانين التي تناسبها. يجب أن يكون القانون مطابقًا لحياة الناس. وهذا يتطلّب ثورة تشريعية تكون تأويلية.
د. حسام الدين درويش:
في كتابك، تشديد على أن الشرعية فيها شيء ناقص، إذا لم تتضمن المشروعية. ويمكن باسم المشروعية القضاء على الشرعية، حيث يتم تجاهل حقَّ شخص ما، على الرغم من أنه يحظى بالشرعية القانونية والانتخابية والدستورية، بزعم أنه لا يمثل المشروعية. وهكذا، نكون أمام حالتين خيرتين: شرعية بلا مشروعية، ومشروعية بلا شرعية أو تقضي على الشرعية. وكتابك يتناول الخطر الأول، لكنه لا يولي الخطر الثاني اهتمامًا مماثلًا. ما رأيك؟
أنا لا أطرح التركيز على المشروعيّة بهذا المنطق، إمّا هذا أو ذاك. أنا أتحدّث عن استعادة المنسي والمهدور، في مشروعيّة صوريّة، حينما تصبح مبنيّة على الثقة المطلقة في الحياد القانوني، وموضوعيّة القانون. أن تكون الشرعيّة حاملة للمشروعيّة، ربّما هي الصيغة المثلى للتعبير عن مطلوب كتابي بعبارات الشرعيّة والمشروعيّة. تماما كما أنّ الهيرمينوطيقا لا تلغي الديكارتيّة، بل تجذّرها، وتعيدها إلى الحياة والمعيش بصفتها محدّدات للوجود البشريّ، فإنّ المشروعيّة تعيد الشرعيّة إلى واقع الحياة، إلى المعيش بتعبير الهيرمينوطيقييّن.
د. حسام الدين درويش:
الآن، صار شرعيًّا ومشروعًا أن نختم هذا النقاش؛ لأننا تجاوزنا الساعتين المفترضتين بدقائق طويلة. وأعطي الكلمة للدكتورة ميادة، حتى يكون الختام مسكًا.
د. ميادة كيالي:
أصدقائي، بعد هذا الحوار الغنيّ، أجد من المهم التأكيد أن ما طرحه د. أنس الطريقي في أطروحته الأساسية في هذا الكتاب، هو أنَّ مشكلتنا مع الدولة الحديثة ليست فقط في القوانين والمؤسسات، بل في الفلسفة التي تقف خلفها. فالشرعية، كما نعرفها، تمنح الدولة صفة قانونية، لكنها قد تظل فارغة إذا لم تلامس إنسانية المواطن وحاجاته. أما المشروعية، فهي العمق الذي يمنح القانون معناه وقيمته؛ لأنها تنبع من فهم الإنسان ككائن متعدد الأبعاد، لا مجرد عقل رياضي أو مواطن مطيع.
ولعل المثال الأوضح على ذلك ما عشناه مع القاضي الأمريكي فرانك كابريو الذي رحل منذ أيام قليلة. وهو قاضي بلديات في بروفيدنس، رود آيلاند بالولايات المتحدة. وقد اشتهر ليس فقط بتطبيق القانون، بل بتطبيق العدالة الرحيمة. كان يستمع إلى حالات الأشخاص الذين يمرون بصعوبات، يُراعي ظروفهم، أحياناً يسقط الغرامات أو يُخفف الحكم بناءً على الحالة الإنسانية.
إذا قارنا هذا مع ما جاء في كتاب "استئناف الدولة ومشكلة المشروعية" للدكتور أنس الطريقي، نجد أن كابريو كان يعمل ضمن الأطر القانونية والقضائية الموجودة - القوانين الجنائية والإدارية بحق الناس، المحكمة الرسمية، الحكم القانوني. فالشرعية متحققة في الشكل: القوانين، السلطة، القضاة.لكن ما جعله محبوبًا ومُحترمًا ليس فقط لأنه “شرعي”، بل لأنه جعل القانون يُلامس إنسانية الناس. لقد جعل العدالة تُسقى بالرحمة، وتفهّم الظرف الإنساني. الناس يرونه ليس فقط يحكم بنزاهة، بل يُحقّق معنى للعدالة بتجسيد القيم الإنسانية مثل التعاطف، الكرامة، الفهم، الأخلاق.
لماذا ينسجم ذلك مع أطروحة الكتاب؟ لأنَ الكتاب ينتقد فكرة دولة تقوم على الطاعة المجرّدة للقانون من دون أن تُراعي الإنسان ككائن متعدد الأبعاد (وجودي، معنوي، ثقافي)، ويُظهر أن المشروعية لا تبدأ عند القانون فقط، بل عند استجابة القانون للعدالة الحقيقية، لحاجات الناس، للقيم الأخلاقية التي يشعر بها الفرد والمجتمع. هو يشكل نموذجًا عمليًّا لتمازج بين القانون والأخلاق، بين السلطة والمعنى الإنساني، وهذا بالضبط ما يدعو إليه الكتاب: “برادايم” دولة مشروعية لا دولة شرعية فقط. اشتهر كابريو؛ لأنه لم يكتفِ بتطبيق القانون شكليًّا، بل جعله مشروعًا في عيون الناس، حين راعى ظروفهم الإنسانية، وأضفى على العدالة بُعدًا رحيمًا وأخلاقيًّا. هذا بالضبط ما يدعونا إليه الكتاب: أن نتجاوز الشرعية الشكلية إلى مشروعية تُعيد للإنسان حضوره الكامل في الدولة والقانون.
أرى أن هذا النقاش يفتح لنا جميعًا أفقًا جديدًا لفهم الدولة في حاضرنا، ليس في تونس وحدها، بل في كل مجتمعاتنا التي تبحث عن توازنٍ بين القانون والإنسان، بين الشكل والمضمون. أشكر د. أنس على هذا الجهد الفكري الكبير، وأشكر كلّ من شارك وأسهم بسؤاله وفكرته. دمتم بخير، وإلى لقاء قريب.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لك دكتورة ميادة على هذه الخاتمة المعبرة والموفقة. وشكرًا للدكتور أُنس على تفاعله الإيجابي والمفيد مع كل الأسئلة والملاحظات والتعقيبات. والشكر موصول أيضًا لكل من أسهم بالحضور و/ أو بطرحٍ سؤالٍ أو تعقيبٍ، في هذه الندوة الختامية.
أطيب التحيات للجميع.






