مفكر تنويريّ حداثيّ ضد تيّار اليقينات الراسخة


فئة :  مقالات

مفكر تنويريّ حداثيّ ضد تيّار اليقينات الراسخة

فهمي جدعان...

مفكر تنويريّ حداثيّ ضد تيّار اليقينات الراسخة[1]

بقلم: أوس داوود يعقوب[2]

فهمي جدعان من المفكّرين العرب الذين أسهموا في تأسيس فكر عربيّ إسلاميّ فلسفيّ جديد، بعد قطيعة مع التراث امتدت زمنًا طويلًا، فأولى اهتمامًا كبيرًا في مراجعة هذا التراث، وتفانى في البحث حتى قَصُر حياته عليه. وله يعود الفضل في تأسيس اتجاه في الفكر العربيّ المعاصر، يقوم على أنسنة المقاربات الفلسفيّة، ومنحها طابعًا كونيًّا، في إطار ما يسميه "العقل الوجدانيّ".

ويُنظر إلى المفكّر الفلسطينيّ الأردنيّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ، باعتباره من رواد التيار الإسلاميّ الإنسانيّ الحضاريّ، نظرًا لعنايته الكبيرة بمشكلات الإسلام التاريخيّة والحضاريّة، ومحاولة مَوْضَعَة الإسلام في معرض الحداثة التي أضحت جزءًا من وجودنا. معتمدًا في منهجه الفكريّ "العقلانيّة النقديّة"، دون إهمال الأبعاد الروحيّة واللاعقليّة والمتيافيزيقيّة المرافقة للإنسان.

يقدم صاحب «مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة»، نفسه قائلًا: "أضع نفسي مفكرًا عربيًّا أوّلًا وآخرًا، ولست أعْتَدُّ أبدًا بأيّة نسبة أخرى، مثلما أنّني لا أنسب نفسي لا إلى التسنن ولا إلى التشيّع. وفي أعمالي الفكريّة والعلميّة كان شاغلي الأكبر، وما يزال الفكر العربيّ والفعل العربيّ، ولم تدخل قضايا الإسلام والفكر الإسلاميّ فيها إلا من جهة تخصصي الأكاديمي المبكر المرتبط بالأطروحتين اللتين قدمتهما لجامعة (السوربون) للحصول على دكتوراه الدولة في الآداب: الرئيسة في الفلسفة الإسلاميّة، والفرعيّة في علم الكلام. وهذه القضايا تشخص في أعمالي بما هي "بعض" المكوّنات الأساسيّة للفكر العربيّ والمصير العربيّ". (من حوار أجرته معه عليا تركي ربيعو، "ضفة ثالثة"، 23/11‏/2014).

و"عبر أربعة عقود، حاول (جدعان) أن يمارس النقد والكشف، عن مآلات النهضة وخطاب التقدّم العربيّ، رافضًا أن "يستبد العقل التجريبي الاختباري المجرّد بوجود الإنسان"، وداعيّا إلى الحريّة، فاتجه إلى المناطق المظلمة في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ، وحاول ممارسة جراحةٍ فكريّة ممكنة، ومشروطةٍ بنصب العقل للأحكام، وأظهرت جراحته عمق الأدوات المنهجيّة لديه، وأوضحت عن ميوله نحو التاريخ المرتكز لعقل الفيلسوف". (مهند مبيضين، "العربيّ الجديد"، ‏18/03‏/2017).

دعوة العرب للعودة إلى "الإسلام الأصلي"...

يرى صاحب «خارج السرب..»، أنّ "الفيلسوف أو المفكّر الذي يريد أن يكون (عبدًا) للعقل المعرفيّ المجرد والعقل الأداتيّ، سيفقد الجناح الإنسانيّ التواصليّ، وسيتحول إلى آلة ماديّة مستبدّة". وهو يرفض العلمانيّة والإسلام السياسيّ بذات الوقت، محمّلًا العرب مسؤوليّة تردي أوضاع المسلمين على مر العصور، ويجزم بأنّ الأهواء "غلبت على أفعال العرب، وأنّ انقلاب بني أميّة على عصر النبوة كان بمقتضى الهوى، وكذلك كان انقلاب بني العباس على بني أميّة، وهكذا إلى أيامنا هذه"، وهو يصف في هذا الإطار (النظام الأمويّ) بأنّه "انقلاب على النبوة"، ذاكرًا أنّ الأمويين هم الذين أنتجوا ما سماه "الملك العضوض"، ويطالب بالعودة لما سماه "الإسلام الأصلي" إسلام الحريّة والرحمة والعدل والمصلحة والمقاصد، وليس إسلام الفقهاء الذي تحكمت فيه نزعاتهم ورغباتهم وظروفهم التاريخيّة.

كما يرى د. جدعان أنّ "العقدة الأساسيّة؛ العقدة البنيويّة في مشكل الحركات الإسلاميّة السياسيّة، سواءٌ أكانت ثوريّة راديكاليّة، أم غير ذلك، تكمن في المنهج الإبيستيمولوجيّ الذي يحكم علاقة منظّري هذه الحركات بالنصّ الدينيّ، أعني في طريقة فهمهم للمعطيات الدينيّة أو للمعطيات التاريخيّة ذات العلاقة بأصول دينيّة.

يقوم هذا المنهج، عند هذه الحركات، على المسلّمات التالية: هي أوّلًا ذات نزعة «ذريّة»، بمعنى أنها تجتزئ بالنصوص المفردة وبالوقائع الجزئيّة، وتقوم بعمليّة تجريد وتعميم يخترقان ويتجاوزان المكان والزمان والتاريخ، ولا تلتفت إلى الوجوه العلائقيّة التي تربط بين الجزئيّ وبين الكليّ، أو بين «الذريّ» وبين «الهولستيّ» أو الشموليّ. وهي ثانيًا، لا تأبه بتاريخيّة النصوص التي تسيء بها على الأقل «أسباب النزول». وهي ثالثًا، تتعلق براديكاليّة مسرفة في القراءة «الظاهريّة» للنصوص الدينيّة، ولا تعترف بأنّ في النصوص الدينيّة نصوصًا لا يمكن، ولا يجوز أن تُفهم على ظاهرها، وأنّ فهمها على الظاهر يُلحق إساءات بالغة بالاعتقاد الدينيّ الإسلاميّ، حتى عندما ترفض قراءة آية المحكم والمتشابه والظاهر والمؤوّل قراءة قائمة على مبدأ العطف، لا الاستئناف، أعني القراءة الاعتزاليّة والرشديّة التي تجعل «التأويل» لله وللراسخين في العلم. (من حوار أجراه معه د. موسى برهومة، مجلة "الفيصل" السعوديّة، 27/12‏/2016).

وعن "الانفجار" الذي شهدته المنطقة العربيّة قبل ست سنوات، والذي عرف بـ"الربيع العربي"، يرى صاحب «المقدّس والحريّة..»، أنّ "الأشياء لا تأتي من العدم، وهذا يجري على ما حدث. كان وقوع الانفجار مسألة وقت و"ظروف مواتية"، في مبدئها على الأقل. في عالم حديث تطلب فيه كل الأمم الحريّة والعدالة والكرامة والرفاهيّة، لم يكن من الممكن للاستبداد والفقر والعوز والمهانة والذل والعار والفساد أن تظل سادرة في طريقها دون أن يعترضها حائل، ولم يكن من الممكن ألّا يحدث الانفجار. هذه معطيات أوليّة بديهيّة تثوي خلف الحدث في مظانّه وجذوره الأصليّة وفواعله الذاتيّة؛ بيد أنّنا لسنا في حدود الحالة الثوريّة الفرنسيّة، ولا البلشفيّة. نحن في عصر (ما بعد الاستعمار والكولونياليّة) والعولمة، لا شيء يحدث خارج شبكة العلاقات والمصالح والتناقضات والمنافسات ومشاريع التدخّل والهيمنة التي تحكم القوّى الدوليّة والإقليميّة. ومعنى ذلك، أن "الثورة" المعاصرة لا تشبه الثورة في منطقها الفرنسيّ وفي متعلّقاتها، وأن عنصر "الاستقلال الذاتيّ" والحريّة المطلقة في فعلها لن يتوافر فيها، وهذا ما حدث بالضبط. في البدء، كانت جملة الحالات "نقيّة"، خالصة لفاعليها، لم تحركها فواعل خارجيّة صريحة، باستثناء الحالة الليبيّة التي أدّت فيها "المؤامرة" الخارجيّة التي أقرّ الصهيونيّ، برنار هنري ليفي، بدوره فيها. وعلى الرغم من الأدوار المشبوهة التي أدّتها السفيرة الأمريكيّة في مصر، والسفير الأمريكيّ في دمشق، إلّا أنّ "الفعل الداخليّ" المبادر هو الذي حكم بدايات الانفجار هنا وهناك". (من حوار أجراه معه عمر شبانة، "ضفة ثالثة"، 04/10‏/2016).

وفي ظل الفوضى العارمة التي تعصف بالمنطقة، وتزايد وتيرة العنف في العالم الإسلاميّ، وتصاعد الإسلاموفوبيا في الغرب، يرى صاحب «في الخلاص النهائيّ..»، أنّنا نشهد منذ سنوات ظواهر عنيفة لافتة للنظر تتطلب التنبيه لخطر ماحق ينتظر الإسلام الذي يبدو مختلفًا عن الصورة التي نعرفها تاريخيًا أو نتمثّلها في أذهاننا كدين الرحمة والعدل والانفتاح والتقوى والقيم الأخلاقيّة التي بفضلها حظي بجاذبيّة كبيرة في القرنين الماضيّين وفق ما يسمّيه "الإسلام الجاذب". مشددًا على رفضه "تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا تغرق الدين في السياسيّ وتحول الرسالة السماويّة إلى سلطة دنيويّة هيمنيّة وإلى مكيافيليّة سياسيّة غير أخلاقيّة". مبينًا أنّ "هويّة دين الإسلام الحقيقيّة تكمن في مقاصده، وأن تحقيق هذه المقاصد هو من وظيفة الدولة الإنسانيّة العادلة". وذلك انطلاقًا من إيمانه بأن مستوى الحريّة في الفكر العربيّ المعاصر لا يعود إلى استبداد بالدولة الوطنيّة العربيّة الخارجة من الانتداب أو الاستعمار، وليس ظاهرة مبتدعة أو مستجلبة، بل هو نتاج إرث تاريخيّ حملته وقائع التاريخ وسوغته الثقافة العربيّة والتنشئة التربويّة والنفسيّة التي شكلتها العصبيّات القبليّة والعسكريّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في الفكر العربيّ.

وفي هذا السياق يقول: إنّ "الحريّة أسبق من العدل"، وإنّه "لا وجود لطاغية عادل، لأنّ العدل لا يحتمل أن يجتمع مع نقيضه الاستبداد، فالاستبداد ينقض الحريّة، والحريّة حق طبيعيّ أساسيّ لا يمكن لمبدأ العدل أن ينكره".

ويرى أنّ الدولة العربيّة الحديثة لا تستطيع أن تستمر في الاستناد إلى "مبدأ السيد والعبد" في علاقتها مع مواطنيها، كما أنّها لا تستطيع التشبث بأدبيّاتها في الحكم وتتجاهل الحقائق الثاويّة وراء تقدم العالم الحديث.

قراءة مغايرة لظاهرة «الإسلام السياسيّ»...

من أبرز أطروحات المفكّر التنويريّ د. فهمي جدعان أنّ صورة الإسلام تبدلت من دين إلى سياسة، ومن عقيدة دينيّة إلى أيديولوجيا، موضحًا: "لم يعد الإسلام دينا إلّا عند عامة المسلمين والأتقياء، ولكن لدى التيارات الكبيرة جدًا من الشباب، أصبح أيديولوجيًّا، أصبح حزبًا وجماعات مقاتلة لتحقيق فكرة الدولة الإسلاميّة".

وفي كتابه «تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات» يرى د. جدعان أنّ "الإسلام السياسيّ"، إنّما هو "بدعة أيديولوجيّة حديثة، ونَسجٌ على منوال الأحزاب السياسيّة الحديثة"، وهو في اعتقاده "انحراف صريح عن غائيّة الإسلام الحقيقية التي هي غائيّة أخلاقيّة حضاريّة، لا حركة سياسيّة مكيافيليّة تطلب السلطة والغلبة والإقصاء للمختلف"، وهو في ذلك يخالف مفكّرين عرب من أمثال المفكّر اللبنانيّ الدكتور رضوان السيد، الذي يرى أنّ "الإسلام السياسيّ، إسلام موجود ويتمحور في الحركات الإسلاميّة التي تفرق نفسها عن الإسلام الجهاديّ ولاتنتهج نهجه".

ويبني د. جدعان رؤيته هذه في انكاره "تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا تغرق الدين في السياسيّ وتحوّل الرسالة السماويّة إلى سلطة دنيائيّة هيمنيّة وإلى مكيافيليّة سياسيّة غير أخلاقيّة، وتتمثل الفِعل الإسلاميّ في تشكيل حزبيّ سياسيّ قمعيّ إقصائيّ متزمت". مؤكدًا أنّ "هذا بدعة".

وردًا على سؤال: كيف يقرأ ظاهرة الخطاب الطائفيّ والمذهبيّ في العالم العربيّ، هذا الخطاب الذي يعيث ببلداننا فسادًا وإرهابًا وتكفيرًا وتدميرًا، في ظل تبني هذه الجماعات لخطاب إسلاميّ وإنْ كان شكليًّا؟ يجيب: "أقرأه في حدود التحولات التي جرت في الفكر العربيّ والإسلاميّ الحديث والمعاصر. طبعًا في إطار الفكر الحديث، عندما نتكلم عن جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطاهر حداد، كنّا في إطار تصورات مدنيّة أو تمدينيّة حضاريّة تقدم الإسلام في العالم الحديث على أساس أنّه منظومة من العقائد والقيم الموافقة للعصر الحديث وللقضايا المركزيّة التي يتقلب فيها العالم الحديث... كانت الاهتمامات نظريّة إلى حد بعيد مع اهتمامات حضاريّة: إصلاح اجتماعيّ أخلاقيّ اقتصاديّ وإصلاح سياسيّ ولكن في الواقع السياسيّ لم يكن هو المتقدّم على الاعتبارات الأخرى طبعًا نحن نعلم إنّه في القرن التاسع عشر كله والعشرين تعرّضت الأمة العربيّة لعمليّة ثأر تاريخيّ، بمعنى أنّ الغرب سواء كان في أشكاله العنصريّة أو السياسيّة الاستعماريّة أو في أشكاله الدينيّة المتصلبة، هذا الغرب شعر أو كان يشعر بالوطأة أو الآثار العميقة التي خلفها الوجود الإسلاميّ في عالمه الخاص... كانت هناك فتوحات ولكن في عيون الغرب هي غزو واستعمار بشكل من الأشكال. مناطق كبيرة جدًا كانت خاضعة للتراث اليهوديّ والمسيحيّ أو الرومانيّ الحديث مناطق كبيرة كانت قد دخلت تحت الحكم الإسلاميّ قبل العثمانيّين ومع العثمانيّين، طبعًا الذاكرة الغربيّة لم يكن لها أن تنسى أو تهمل شيئًا من هذا. حدثت ردّة الفعل، فكانت الحركة الاستعماريّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتعزيز هذه الحركة بإيجاد «دولة إسرائيل» في العالم العربيّ تمهيدًا لإضعافه وتمزيقه والسيطرة عليه بشكل أو بآخر". (من حوار أجراه معه عاصم الشيدي، "ثقافات". 23/07‏/2017).

وأمّا موقفه من "السلفيّة"، فيرى صاحب «المحنة - بحث في جدليّة الدينيّ والسياسيّ في الإسلام»، أنّها "سلفيّات، لا سلفيّة واحدة". وفي بحثه "السلفيّة: حدودها وتحولاتها" ميّز د. جدعان بين ثلاثة أنواع من السلفيّة هي: السلفيّة التاريخيّة -أي سلفيّة الجيل الإسلاميّ الأوّل-، والسلفيّة المُحدَّثة، أي سلفيّة "الإصلاحيّين" المسلمين: جمال الدين ومحمد عبده والطهطاوي وخير الدين التونسيّ، والسلفيّة المتعاليّة، التي يمكن اعتبارها "تمهيدًا" لما يسمى اليوم "السلفيّة الجهاديّة"، وهي جميعًا تنسب نفسها إلى "السلف" لكنها جميعًا "مواقف تعكس عقول أصحابها" وظروفهم وأوضاعهم التاريخيّة. ويرى في هذا السياق، أنّ المسلمين مطالبون أو مدعوون إلى أن يقيّموا حياتهم ويقوّموا وجودهم التاريخيّ لا بالرجوع إلى جيل سابق وبشر آخرين، وإنّما بالرجوع إلى أوضاعهم التاريخيّة المباشرة وإلى معطيات وجودهم المشخص، واعتبار ذلك في ضوء "المقاصد" العليا لدينهم، أي "المقاصد" المشتقة من القراءة الشموليّة أو (الهولستيّة) للنصوص الدينيّة، لا من الأفكار والروايات والأخبار التي تنتقل عن هذا الشخص أو ذاك ممّن نجحوا في تاريخ الإسلام. وبحسب المفكّر الفلسطينيّ، فإنّه ينبغي أن تكون هذه القراءة موافقة لمتطلبات الواقع المباشر ولأحكام الزمن الذي يجري.

وعن طرحه حول "إصلاح الدين" كما ورد في في كتاب «تحرير الإسلام..»، يُبيّن د. جدعان أنّه لم يقصد هنا "إصلاح الدين" في ذاته، من جهة ما ينصرف إلى مضمون النصّ الدينيّ ومتعلقاته وغاياته، لأنّ مثل هذا القصد يعني أنّ في بنيّة النصّ خللًا ينبغي إصلاحه. وهذا ليس اعتقاده أبدًا. إنّما ما ذهب إليه هو أنّ "النصّ، الذي هو في (اللوح المحفوظ)، يعرض له في الواقع المتشخص في "المؤمنين"، البشر، اختلالات كثيرة صادرة عن التمثّلات البشريّة، الخاضعة لألف علّة وعلّة، لأنّ الإنسان كان أكثر شيء جدلًا. وهذا يلقي بظلاله على فهم النصّ وتمثّله وتحقّقه في الواقع المعيش والمتصوّر. ودين الإسلام قد عرضت له عوارض واختلالات لا عدّ لها ولا حصر، وهذا هو الذي ينبغي مواجهته والتحرر منه".

لافتًا إلى أنّ "الاختلالات التي فجّرتها الأصوليات الدينيّة هي اليوم أبرز مظاهر المشهد، لكن ثمّة اختلالات أخرى عميقة تمثّل إساءات حقيقيّة لصورة الإسلام الكونيّة، قد وقفت عند بعضها في «تحرير الإسلام..»، وهي ممّا ينبغي التشدد في نقده وإنكاره وفي إصلاح أمره، تمامًا مثلما يجب ذلك في أمر الرؤية الأيديولوجيّة - السياسيّة الجذريّة لدين الإسلام."

ويشدد صاحب «رياح العصر..»، على انشغاله بالفكر والعقل العربيّين، مؤكدًا أنّ علاقته بالفكر الإسلاميّ أملاها فقط موضوع التخصص في (السوربون). غير أنّ هذا لا يقطع مع إيمانه بمحوريّة الدين في مختلف جوانب الحياة، مشددًا على بعده من العلمانيّة، لكنه يرفض مفهوم "الإسلام السياسيّ"، إذ يرى أنّه لا ضرورة له "فحيثما ظهرت أمارات العدل ثمّ شرع الله".

ويُحمّل د. جدعان العرب في كتابه «تحرير الإسلام..» الحال المترديّة التي وصل إليها الإسلام، معلنًا أنّه ليس راضيًا ولا مبتهجًا بـ"الفِعل التاريخيّ" الذي أنجزه العرب، قديمًا وحديثًا. يقول في هذا السياق: "لا أرتاح أبدًا للمسكونين بهَوَس "العقل العربيّ" الجاهز، الذي يُحَمّل كل مثالب الدنيا وجرائر الخليقة، لأنّ ما هو عند العرب موجود أيضًا وبأقدار أعظم في كثير من الحالات عند غيرهم. لا شك في أنّ "الأهواء" غلبت على أفعالهم، وأنّ انقلاب بني أميّة على "عصر النبوة" كان بمقتضى "الهوى"، وكذلك كان انقلاب بني العباس على بني أميّة. وهكذا إلى أيامنا هذه. ولا شك في أنّ العقلانيّة التي أعلى من شأنها أبو بكر الرازي والكندي ومسكويه والمعري والسجستاني وابن رشد قد تم احتقارها وإقصاؤها، وأنّ العقلانيّة الأداتيّة الفاعلة لم تُعَمّر عند العرب طويلًا، وأنّ الغرب الحديث هو الذي تمثّلها وفجّرها وغيّر العالم بها، وأنّ العرب لم يقربوها حتى اليوم، لكن لا شيء، بنيويًا، يدعو إلى اليأس، لأنّني لا أقبل دعاوى الاستشراق العرقي، والجابري وثلة من دعاة "النظريّة النقديّة" المعاصرين الذين يتسولون عند موائد الفكر الغربيّ، ويستوردون بضاعتهم ثمّ ما يلبثون أن يُلبسوا "العقل العربيّ" ثياب العجز والقصور". (من حواره مع عليا تركي ربيعو).

رؤية مختلفة للتراث ووظائفه...

يُعرف د. جدعان بدعوته للتفريق بين التراث الإسلاميّ والوحي، ويأخذ عليه منتقدوه عدم تبيّنه التراث إلّا من دلالته الجماليّة والتاريخيّة فقط، وهو ينفي أن يكون "هيغليًا" نسبة للفيلسوف الألمانيّ "هيغل"، مؤكدًا أنّه لا ينطلق من الفلسفات الغربيّة، بل من الواقع الإسلاميّ المشخص، وأنّه يأخذ على المفكّرين في المغرب وتونس انطلاقاتهم من الفكر الغربيّ لكنّه يستدرك بالقول: "لسنا وحدنا في العالم.. لسنا أحرارًا في هذا الوجود.. العولمة في بيوتنا".

ومن أطروحاته الفكريّة حول التراث ووظائفه، يرى صاحب «الماضي في الحاضر..»، أنّ تلك الوظائف تقسم إلى ثلاث هي: أوّلًا: "الوظيفة النفسيّة"، ومن ثمّ "الوظيفة الجماليّة"، وأخيرًا "وظيفة الاستخدام".

و"الوظيفة النفسيّة" - كما يراها استنادًا إلى أنّ التراث يعمل كحافز للتحرر من الذل والهزيمة لتجاوز تحديات العصر-، هي آليّة دفاع نفسيّة تعني التعويض وتبديل الواقع المرير بالذكريات المجيدة للحفاظ على توازن وتماسك الذات التي تواجه كل هذه التحديات. وتبدو هذه "الوظيفة" للتراث بديهيّة ومطلوبة، إلا أنّنا سرعان ما نكتشف تناقضاتها الداخليّة، إذ سرعان ما يتحول هذا الحافز إلى عزاء ووعد بالانتصار القريب الذي تروج له بعض الاتجاهات للهرب من تحديات الواقع. فتصبح آليّة نفس - فكريّة تشهد على التراث ولا تشهد له، وهي أيضًا كأداة، قضيّة خلافيّة في بناء وإنجاز المشروع الحضاريّ العربيّ الذي يحتاج لروافع وحوامل حقيقيّة تستند على الواقع الموضوعيّ، وتنهض به ومنه.

أمّا الوظيفة الثانية "الجماليّة"، والتي تعني استلهام القيم الجماليّة والفنيّة من المعطى التراثي، "التي لم تفقد مع مرور الزمن طلاوتها وسحرها وروعتها"، وهي أنجع وظائف التراث - إن كان له وظيفة - وأقربها للواقع الراهن. فاستقراء الواقع الثقافي العربيّ يؤكد صدق النتائج التي توصل إليها د. جدعان؛ فما من مبدع عربي إلّا واستلهم جانبًا ووظف جمالياته في عمله الإبداعي، بعد تجريد تلك الجماليات من سياقها الموضوعي ووظيفتها وشروطها الاجتماعيّة، خاصة تلك النصوص والأعمال التي تجاوزت تاريخها واخترقت الزمن عصرًا بعد عصر، إلى أن وصلت إلينا عن جدارة واستحقاق، محمّلة بالدهشة والعجائبيّة والجمال. كالنصوص الصوفيّة وألف ليلة وليلة وشعر المتنبي وعدد لا يحصى من الشخصيّات التاريخيّة الملهمة. وعلى مستوى القيم الفكريّة يمكن استلهام بعض العناصر المهمة عند جابر بن حيان وابن الهيثم والمقدمة الخلدونيّة والشاطبي والسرخسي والجرجاني والتوحيدي وغيرهم. إلّا أنّ جهود هؤلاء الأعلام ابتذلت أو ضخمت على غير العادة بفعل القراءة الأيديولوجيّة لتسويغ أعمالهم دعمًا لخطاب الهويّة الذي ينشد المغايرة والاختلاف والمفاضلة لتحقيق السبق والريادة على الآخر معيار التقدّم ومحقّقه.

وثالث هذه الوظائف، وظيفة "الاستخدام" وهي التي يسميها د. جدعان بالجدوى؛ فهي وظيفة عمليّة تعني توظيف بعض عناصر التراث الحيّ في علم الفقه أو علم الكلام ودمجها في البنى الفكريّة المعاصرة. غير أنّه يؤكد رفعًا للإبهام والتناقض أنّ هذا التوظيف لا يعني الاستلهام، وإنّما الاستخدام وتبني بعض المواقف والقضايا والاستئناس ببعض آراء القدماء. وهذا النوع من التوظيف يعني استخدام مواقف أو حلول أو أحكام محددة وواضحة بشأن قضيّة مطروحة نبحث لها عن حكم أو حل.

وأمّا أداة د. جدعان لتنويرنا بالتراث وإنتاج ثقافة حيّة - كشرط منطقيّ موضوعيّ - تتحول إلى تراث حيّ عند الأجيال القادمة، فهي "العقلانيّة النقديّة" دون إهمال الأبعاد الروحيّة واللاعقليّة والمتيافيزيقيّة المرافقة للإنسان.

من السيرة والمسيرة العلميّة ...

ولد الدكتور فهمي بن راجح جدعان عام 1940 في بلدة "عين غزال" جنوب مدينة حيفا الفلسطينيّة المحتلّة، وفي عام 1948 هُجرت أسرته قسرًا من فلسطين فلجأت إلى الأردن واستقرت هناك.

درس الفلسفة في جامعة دمشق، وأثناء دراسته في العاصمة السوريّة اتصل بإحدى الجماعات الإسلاميّة لكنّ خطها الفكريّ لم يرق له فتخلى عنها، ثمّ سافر إلى باريس لدراسة الفلسفة بجامعة (السوربون) العريقة. وهناك حصل عام 1968على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب: الرئيسة في الفلسفة الإسلاميّة، والفرعيّة في علم الكلام. ورغم انبهاره بالحداثة الباريسيّة، فإنّ أعماله الأولى التي كتبها بالفرنسيّة تمحورت حول إثبات الذات أو الدفاع عنها.

شغل د. جدعان عضويّة مجلس إدارة معهد العالم العربيّ بباريس في مرحلة التأسيس (1980 - 1984)، كما كان عضو مجلس أمناء "مؤسّسة مؤمنون بلا حدود"، وباحث زائر في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، درّس في الجامعات الأردنيّة وجامعة الكويت، وعمل أستاذًا زائرًا في جامعة باريس (السوربون الجديدة) وكذلك في (الكوليج دي) بباريس.

ألف عددًا كبيرًا من الكتب الفكريّة والأبحاث العلميّة باللغتين العربيّة والفرنسيّة، منها: «أسس التقدّم عند مفكّري الإسلام في العالم العربيّ الحديث»، ط1، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 1979؛ ط3، دار الشروق، عمّان 1988 (646 ص). «المحنة – بحث في جدليّة الدينيّ والسياسيّ في الإسلام»، ط1، دار الشروق، عمّان 1989؛ ط2، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2000 (502 ص). «الطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربيّة المنظورة»، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 1996 (452 ص). «الماضي في الحاضر: دراسات في تشكّلات ومسالك التجربة الفكريّة العربيّة»، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 1997 (602 ص). «رياح العصر: قضايا مركزيّة وحوارات كاشفة»، (9 بحوث ومقالات)، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2002 (498 ص). «في الخلاص النهائيّ: مقال في وعود الإسلاميّين والعلمانيّين والليبراليّين»، الشروق للنشر والتوزيع، عمّان 2007 (404 ص). «المقدّس والحريّة – وأبحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث»، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2009 (401 ص). «خارج السرب- بحث في النِّسْويّة الإسلاميّة الرافضة وإغراءات الحريّة»، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2010 (280 ص). «تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات»، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2014 (466 ص). و«مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة»، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2016 (512 ص).

ونذكر من بحوثه العلميّة: "الكتاب والحكمة"، "الطريق الملكي"، "معنى السلفيّة"، "العالم بين حدّين"، "نظريات الدولة في الفكر الإسلاميّ المعاصر"، "المعطيات المباشرة للإشكاليّة الإسلاميّة المعاصرة"، "نظرة طائر: بانوراما الفلسفة العربيّة"، "الفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده"، "هوميروس عند العرب"، "المرْكَب والمجاز"، "نظر في التراث"، "فكرة التقدّم عند المفكّرين العرب في القرن التاسع عشر"، "ابن خلدون في الفكر العربيّ الحديث"، "الإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة"، "الإسلام وتحولات الحداثة"، و"المستقبل العربيّ في ضوء قيمة التواصل".

وأمّا البحوث التي أعيد نشرها في كتاب "الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكريّة العربيّة"، فهي: "هواجس الأزمة وأحكام الفعل"، "الثقافة الكونيّة والنظم الثقافيّة العربيّة"، "الحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل"، "الديمقراطيّة من منظور تنويريّ"، "في العدالة والشورى والديمقراطيّة"، "السلفيّة: حدودها وتحولاتها"، "الطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام"، "أسئلة المستقبل"، "الحركات الإسلاميّة المعاصرة".

مُنح فهمي جدعان جائزة "سعف النخيل" من الأكاديميّة الفرنسيّة عام 1986، ووسام "القدس للثقافة والآداب والفنون الفلسطينيّة" عام 1991، وجائزة الدولة التقديريّة للعلوم الاجتماعيّة في الأردن عام 1993. كما تم اختياره لعنوان الشخصيّة الفكريّة لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافيّة في عمّان.

 

مصادر ومراجع

الكتب:

  1. فهمي جدعان، «المحنة – بحث في جدليّة الدينيّ والسياسيّ في الإسلام»، ط2، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2000
  2. فهمي جدعان، «تحرير الإسلام ورسائل زمن التحوّلات»، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2014
  3. فهمي جدعان، «مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة»، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2016

المقالات:

  1. زياد أبو لبن، "د. فهمي جدعان: الثقافة الكونيّة من منظور جديد"، موقع صحيفة "الدستور" الأردنيّة [www.addustour.com]، نشر بتاريخ: ‏18/04‏/2008
  2. أحمد ارتيمة، "فهمي جدعان.. «تحرير الإسلام ورسائل زمن التحوّلات»"، موقع "عربي 21" [www.arabi21.com]، نشر بتاريخ: ‏22/03‏/2016
  3. محرر الموقع، "فهمي جدعان.. لا إلى الإسلاميّين ولا إلى العلمانيّين"، موقع "الجزيرة نت [www.aljazeera.net]، نشر بتاريخ: ‏12/10‏/2016
  4. محرر مجهول، "فهمي راجح جدعان، مفكر ومؤرخ عربي"، موقع "ويكيبيديا – الموسوعة الحرّة" [www.wikipedia.org]، نشر بتاريخ: ‏15/10‏/2016
  5. مصطفى نافع، "الفكر الإسلاميّ في مواجهة الهيمنة الغربيّة"، موقع "اضاءات" [www.ida2at.com]، نشر بتاريخ: ‏19/02‏/2017
  6. إبراهيم العريس، "أين تبخّرت النهضة العربية الثانية؟"، موقع صحيفة "الحياة" اللندنية [www.www.alhayat.com]، نشر بتاريخ: ‏23/02‏/2017
  7. مهند مبيضين، "فهمي جدعان... والبحث في مصائر التقدّم العربيّ"، موقع صحيفة "العربيّ الجديد" [www.alaraby.co]، نشر بتاريخ: ‏18/03‏/2017
  8. عبد الله العليان، "فهمي جدعان: بين نقد الفعل ونقد العقل"، موقع صحيفة "عُمان" العُمانية [www.omandaily.om]، نشر بتاريخ: 20/03‏/2017
  9. عبد الله العليان، "فهمي جدعان وتقلّباته الفكريّة والأيديولوجيّة"، موقع صحيفة "الرأي" الأردنيّة [www.alrai.com]، نشر بتاريخ: ‏14/04‏/2017
  10. عواد علي، "'خارج السرب' لفهمي جدعان"، موقع صحيفة "العرب" اللندنية [www.alarab.co.uk]، نشر بتاريخ: ‏2/08‏/2016
  11. عزيزة علي، "'مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة' للمفكر فهمي جدعان: رؤى واجتهادات للواقع العربيّ خلال خمسة عقود"، موقع صحيفة "الغد" الأردنيّة [www.alghad.com]، نشر بتاريخ: ‏28/08‏/2016

الحوارات:

حوار مع فهمي جدعان "الإسلام السياسيّ" بدعة أيديولوجيّة وانحراف عن غائيّة الدين، حاوره: د. موسى برهومة، موقع مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" [www.mominoun.com]، نشر بتاريخ: 16/06‏/2013فهمي جدعان: هويّة الاسلام الحقيقيّة تكمن في "مقاصده"، حاورته: عليا تركي ربيعو، موقع "ضفة ثالثة" [www.alaraby.co.uk]، نشر بتاريخ: 23/11‏/2014فهمي جدعان: تحليل الواقع يعتمد على قول المفكّر لا على رغبة المثقّف، حاوره: د. موسى برهومة، موقع مجلة "الفيصل" السعوديّة [www.alfaisalmag.com]، نشر بتاريخ: 27/12‏/2016فهمي جدعان: لم يكن ممكناً تفادي حدوث الانفجار- الثورة، حاوره: عمر شبانة، موقع "ضفة ثالثة" [www.alaraby.co.uk]، نشر بتاريخ: 04/10‏/2016المفكر فهمي جدعان: الغرب يثأر الآن من العالم العربيّ، حاوره: عاصم الشيدي، موقع "ثقافات" [www.thaqafat.com]، نشر بتاريخ: 23/07‏/2017

[1] - نشر هذا البورتريه بمجلة ذوات العدد41

[2] - كاتب وإعلامي فلسطيني.