مفهوم الإصلاح من خلال كتــاب "أفكار مهاجرة" لعلي أومليل


فئة :  قراءات في كتب

مفهوم الإصلاح من خلال كتــاب "أفكار مهاجرة" لعلي أومليل

يعتبر مفهوم الإصلاح، من المفاهيم المركزية التي لم يتجاوزها الفكر العربي المعاصر منذ بداية القرن 19م، حيث يعاد طرحه إلى جانب مفاهيم أخرى كلما طرأت تحولات وحدثت ارتجاجات على المستويين السياسي والاجتماعي، استدعت تدخل فئة علماء الدين أو المثقفين لإعطاء موقف أو إبداء رأي في هذه النازلة أو تلك.

وقد يقف المتتبع لتاريخ الفكر العربي، على أن الإصلاح لم يعد استجابة لضغوط خارجية (الاستعمار)، كما هو الشأن في القرن 19م، في مغرب ومشرق العالم العربي، ولا مفهوما يضيق بمجال دون المجالات الأخرى، إنه أصبح اليوم رغبة ذاتية ملحة استدعتها التطورات المتسارعة والتحولات العميقة في بنية المجتمعات العربية، جعلت رجل الدولة ورجل السياسة يستشعران مدى أهمية الضغوطات التي يمارسها الشارع بمختلف فئاته وطبقاته، مستعينا بآليات الثورة التكنولوجية في خلق الرأي العام، وخاصة بعد ما يسمى "بالربيع العربي" ومآلاته التي لم تتحدد معالمها بعد.

ولم يعد مفهوما مرتبطا بمجال دون آخر، حيث لم يعد يقتصر على تحديث الجيش والدعوة إلى التجديد في المجال الديني كما هو الشأن في القرن ما قبل الماضي، بل أصبح يشمل كل المجالات بدءا بالإصلاح السياسي والاجتماعي مرورا بالإصلاح الاقتصادي وانتهاءا بالتجديد الديني لتجنب آفة التطرف والانغلاق العقائدي.

من هذا المنطلق يأتي كتاب علي أومليل "أفكار مهاجرة"[1]، ليعيدنا إلى طرح مفهوم الإصلاح من منظور مغاير. فإذا كان أومليل يقارن في كتاباته السابقة، بين المفاهيم المستحدثة في الثقافة العربية والمفاهيم المؤسسة للفكر الغربي، فإنه في هذا المؤلف اتجه نحو مقارنة مفهوم الإصلاح ودواعيه في المجتمعات الشرقية، الصين واليابان خاصة، ليخرج بخلاصة مفادها: أنه في غياب فكر سياسي في تراثنا الفلسفي القديم، لابد من الدعوة إلى تأسيس فكر سياسي عربي حديث. إن مثقفي اليوم الذين: "يريدون تحديث السياسة، لن تجديهم الفلسفة "السياسية" لقدماء فلاسفتنا، كما لن يجديهم بطبيعة الحال تراث الفقهاء، عليهم إذا أن يؤسسوا تأسيسا الفكر العربي الحديث"[2].

كتاب "أفكار مهاجرة" في فصوله الستة، حاول تتبع هجرة الأفكار، من موطنها الثقافي الأصلي إلى موطن ثقافي آخر، باحثا عن دواعي هجرتها واستقبالها من طرف الآخر.

فالهجرة هنا بالنسبة للمؤلف، كانت دائما قديما وحديثا من الغرب إلى الشرق، من اليونان قديما ومن أوروبا حديثا. غير أن هجرة الأفكار الأوروبية الحديثة في نظر المؤلف "قد هاجرت في ركاب الغزو الأوروبي لبلدان الشرق، فهي أفكار هاجرت في ركاب القوة والسيطرة"[3]، المبنية على القوة العسكرية والاقتصادية ونظام الدولة، مما جعل المتلقي الشرقي يقتنع بأن هذه الأفكار هي التي مكنت الغرب من التفوق العسكري والسياسي والاقتصادي.

لكن هذا التفوق لا ينجو من نزعة استعمارية مهيمنة، دفعت الشرقي إلى وضع الثقافة الغربية موضع سؤال، وطرح التراث في مقابلها، أفرزت مواقف من التراث ومن الثقافة الغربية في الوقت نفسه، عند العرب كما عند اليابانيين والصينيين. لكن أومليل يرى في مقارنته بين مواقف العرب، ومواقف اليابانيين والصينيين، اختلافات قد تكون محددة في الإصلاح.

الاختلاف الأول: يتعلق بجوهرية المسألة الدينية عند العرب، ومركزيتها في الفكر الإصلاحي العربي. في حين يتمركز الفكر الإصلاحي عند اليابانيين والصينيين حول الحضارة أكثر من الدين. "فالإصلاح عندهم حضاري وليس مناطة المسألة الدينية كما هو عندنا"[4]. فهم يتحدثون عن الحضارة كعلامة فارقة بين متحضر وبربري، وليس بين مؤمن وكافر، مما جعل الصين واليابان في نظر المؤلف يحققان تقدما اقتصاديا هائلا، لكنهما في المقابل لم ينتجا ثقافة وأفكارا كبرى. كما هو الشأن عند الغرب. ربما لأن اكتساب ثقافات إنتاج السلع أسرع من إنتاج المعرفة وإبداع الأفكار[5].

هذا الفهم للإصلاح عند العرب انعكس على فهمهم واستيعابهم لفكر الأنوار عامة ولفكرة الفردانية خاصة. فمفهوم الفرد له مرجعية تاريخية وثقافية غربية، فهي وليدة الإصلاح الديني مع ظهور البروتستانية. وتطور الملكية الخاصة قانونيا واعتباريا، وكذلك ظهور الفرد بمفهومه القانوني والأخلاقي المعنوي وبحقوقه الأساسية في المواطنة، وهو أساس العقد السياسي، والنظام الديمقراطي الليبرالي[6].

ومفهوم الفرد في الثقافة العربية الموروثة أقل قيمة من الجماعة، قبيلة كانت أو طائفة أو أمة، لأن المدلول الشائع للفرد والفردانية مدلول سلبي كما يرى أومليل، إذ يعني الانعزال والأنانية والمنفعة الشخصية الضيقة. "فالفرد هو عنوان الحداثة السياسية، فهو أساس الثقافة على النظام الاجتماعي والسياسي، وهو مالك حقوق مدنية وسياسية؛ ومبدأ المساواة في المواطنة، هو مساواة بين أفراد مواطنين بغض النظر عن اختلاف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم"[7].

إن علاقة المثقف العربي بفكر الأنوار تتلخص في نظر أومليل في مفهوم "التقدم" أو ثنائية التقدم/ التأخر، وهذه الثنائية هي التي وجهت الفكر العربي النهضوي نحو اختزال التفكير في الإصلاح في مؤسسة الدولة وجهازها العسكري أساسا، وليس في بنيتها وهيكلها.

فمفهوم التقدم باعتباره فكرة مهاجرة عند مفكري النهضة، لم يكن مستوعبا ولا مرتبطا بأخواته المفاهيمية كالديمقراطية والحرية والمساواة... الخ باعتبارها مفاهيم مؤسسة لفكر الأنوار: "لا نجد من بين مفكرينا من كانت له رؤية متكاملة لفكر الأنوار، ولا كان له مشروع واضح لتبنيه، كل ما هناك هو دعوات إلى التنوير ضدا على شيء غير محدد، قد يشمل أصحاب الفكر الظلامي والغارقين في التقليد واجترار الماضي، مع إشادة وإحياء لكتابات أعلام ما يسمى عندنا النهضة، الذين دافعوا عن إعمال العقل والإشادة بالحرية"[8].

إن غياب رؤية متكاملة لفكر الأنوار عند الإصلاحيين العرب بالنسبة لأومليل، هو ما جعلهم يغيبون الموقف النقدي الجذري من المسألة الدينية، وأقصى ما ذهبوا إليه هو تخليص الدين من الخرافة، ومحاولة التوفيق بين العلم والدين، ودعوة إلى إلغاء الوسائط بين النص وشراحه ومؤوليه القدامى، وذلك بنية فتح باب الاجتهاد لإعادة قراءة النص واستيعاب نوازل العصر[9]. بينما النقد لدى فكر الأنوار قد أخضع له كل شيء بما في ذلك الفكر الديني.

إن الإصلاح في حدوده القصوى عند العرب في نظر الكاتب، وقف عند مفهوم التقدم من باب إصلاح الدولة، والدعوة إلى المستبد العادل.

يعود بنا المؤلف في الفصل الأول إلى مقارنة الفكر الإصلاحي العربي، بمثله في اليابان والصين. والدافع الأساسي في الفكرين معا، في نظره لم يكن بفعل حركية ذاتية، بل بفعل مواجهة الخطر الاستعماري الخارجي، مما خلق وعيا لدى "الإصلاحيين عندنا وعندهم، أن وراء القوة العسكرية للغرب تفوقا علميا وثقافيا، وتقدما اقتصاديا، وتنظيما للدولة ومؤسساتها، ونظاما للحقوق والحريات"[10].

إن عوامل التقدم والقوة عند الغرب أنتجت في نظر أومليل، وعيا مزدوجا لدى الإصلاحيين العرب ونظرائهم اليابانيين والصينيين: وعي بالحاجة إلى الإصلاح لمواجهة قوة المستعمر، ووعي بالانتماء إلى حضارة عريقة، وفي هذين الوعيين، سؤال مضمر يتعلق بكيفية الخروج من وضعية التخلف. فكيف تعامل كل من الإصلاحيين العرب والإصلاحيين اليابانيين والصينيين مع مسألة الإصلاح؟

- I الإصلاحيون العرب:

يميز علي أومليل عند الإصلاحيين العرب، بين الإصلاح عند السلفيين التقليديين والإصلاح عند المحدثين.

بالنسبة للأولين، كان مفهوم الإصلاح يدور في مدار الفكر الديني، "وبالتحديد علاقة مجتمع المسلمين بالإسلام". لذلك كان مفهوم الإصلاح عندهم لا يتعدى عتبة السلف الصالح، مرتبطا بالماضي وليس المستقبل، تتحكم مواقف الأموات في مستقبل الأحياء. فالإصلاح بهذا المعنى هو "إصلاح الفساد الحاصل في المجتمعات الإسلامية بإعادتها إلى نصوص حاكمة لا تتبدل بالزمان، وإلى حقبة مثالية، ولو أنها حدثت في الزمان فإنها فوق الزمان وضدا "عليه"[11]، بهذا يكون إصلاح الفساد من داخل الإسلام، بمعنى أن الإسلام يصلح ذاته بذاته، من دون حاجة إلى إصلاح من خارجه، مستغنيا بذلك عن كل إصلاح مصدره الغير.

أما مفهوم الإصلاح عند المسلمين في العصر الحديث، فقد فرضته صدمة الاستعمار أو بتعبير أدونيس "صدمة الحداثة"، خلقت عند المسلمين المحدثين وعيا بالتأخر الحضاري اتجاه الغرب، الشيء الذي لم يحدث عند الإصلاحيين السلفيين في نظر أومليل، رغم الغزوات العديدة التي تعرضت لها أرض الإسلام. إن الوعي بالتأخر في العصور الحديثة أدرك معه الإصلاحيون المسلمون "أن وراء القوة العسكرية لأوروبا تقدما علميا وتقنيا، وتطورا في الإنتاج الاقتصادي، وتنظيما متطورا للدولة بمؤسساتها الإدارية والسياسية، وتقييدا للسلطة بالدستور، والمساواة أمام القانون"[12]. بهذا الإدراك عند المسلمين بدأ مفهوم الإصلاح ينظر إليه من خلال ثنائية التقدم/ التأخر، وليس من خلال ثنائية الإصلاح / الفساد، كما كان الشأن عند الإصلاحيين السلفيين. بهذا الوعي والإدراك أصبح لمفهوم الزمان مدلولا وتصورا جديدين، بحيث أصبح اتجاه الإصلاح هو المستقبل، وليس العودة إلى حقبة من الماضي". دخل الزمان الأوروبي بعدا أساسيا في تكوين الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث"[13].

لم يكن الإصلاح عند المسلمين برغبة ذاتية أملتها التطورات الظرفية والتحولات الداخلية، بل كانت دوافعها مرتبطة بمقاومة الغزو الأوروبي للبلاد العربية والإسلامية، خاصة مع بداية تفكك الإمبراطورية العثمانية أكبر قوة إسلامية آنذاك، وناتجة عن اختلال التوازن بينها وبين القوة العسكرية الأوروبية، لهذا ظهرت ثلاثة أقطاب للإصلاح في المنطقة: قطب اسطنبول وقطب القاهرة وقطب تونس. أعطت كلها أهمية لإصلاح الجيش باعتباره دعامة أساسية لمواجهة القوة العسكرية الأوروبية، ما يعني أن التحديث في المنطقة بدأ أولا، بإصلاح القوة العسكرية نتيجة للهزائم التي منيت بها جيوش الإمبراطورية العثمانية أمام حداثة وقوة الجيوش الغربية، بهذا كان أول لقاء بالحداثة لقاء المواجهة والاصطدام. فلا غرابة أن نجد في كتابات ومواقف التقليديين من الحداثة والتحديث بعدا هوياتيا، يحميهم من "الغزو" الغربي، لا يقتصر فحسب على الجانب العسكري، بل يشمل كل ريح آتية من الغرب بدعوة محاربة التغريب والدفاع عن العقيدة.

وبجانب الدعوة لإصلاح الجيش بعد هزيمة العثمانيين في حرب "القرم" سنة 1856م، كان ولابد أن يمتد الى إصلاحات أخرى. اضطر العثمانيون والعرب، وفي غالب الأحيان تحت الضغط الأوروبي وبعثاته التبشيرية من أجل تأمين تجارتها وضمان أمن رعاياها، إلى إصلاح التعليم وإنشاء مدارس لتخريج الأطباء والموظفين، وإرسال البعثات إلى الخارج، والقبول باختلاف الأديان، حيث أمر السلطان عبد الحميد المساواة بين الملل.

وفي مصر قام محمد علي بإصلاح الإدارة ونظام الضرائب، وإنشاء دار للترفيه، وإصلاح نظام الأوقاف، وأصدر جريدة رسمية، وأصلح نظام التعليم التقلدي بإدخال مواد علمية كالطب والهندسة والرياضيات...الخ. كما قام ابنه إبراهيم باشا بعد توليه السلطة في الشام بإصلاحات من أهمها: إقامة نظام جديد للحكم، ونظام للضرائب، وإصلاح القضاء والتعليم، وحماية القانون والأمن، والمساواة في الحقوق الدينية والمدنية[14]. وعمل كذلك على نشر المدارس الابتدائية للبنين والبنات في جميع أنحاء البلاد، وأنشأ مدارس ثانوية في المدن الرئيسية، وما ميز حكمه هو الاعتدال والتسامح، مما فتح الباب أمام البعثات التبشيرية الغربية خاصة من فرنسا وأمريكا[15]. كل هذه الإصلاحات وخاصة في مجال التعليم كان لها وافر التأثير على الجانب الثقافي، حيث تأسست مطبعة في القسطنطينية سنة 1816م، وأخرى في القاهرة سنة 1822م لتجاوز الركود الثقافي.

وفي تونس أصدر محمد باي "عهد الأمان"، وبعده بثلاث سنوات أصدر "القانون السياسي" سنة 1860 معتبرا إياه دستورا للبلاد، كان الهدف منهما المساواة بين جميع الديانات، على أساس مبادئ الحرية، والعدل، والأمان. ويعتبر عهد محمد باي والصادق باي عهد إصلاح بامتياز: تكونت لجنة للإصلاح، أنشئ مجلس بلدي في تونس، أعيد تنظيم الإدارات سنة 1860، أنشئ المجلس الأعلى وتأسيس المحاكم، ثم أخيرا الإعلان عن الدستور "وهو النص الأول من نوعه في الإمبراطورية العثمانية وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي"[16].

وفي المغرب اضطر محمد الرابع وبعده الحسن الأول، بعد هزيمة إيسلي أمام الجيش الفرنسي، وهزيمة تطوان أمام الجيش الإسباني، إلى إدخال إصلاحات لتحديث الجيش، وإنشاء مدرسة للمهندسين، وإرسال بعثات إلى الخارج، وقام بإصلاح جبائي، وأقام دارا لسك العملة ودارا لصنع الأسلحة "الماكينة". كما كانت نصائح الممثل البريطاني بالمغرب جون دارمون هاي التي جسدها في مذكرة طويلة إلى المولى عبد الرحمن، وكانت هذه المذكرة توضيحا مبسطا لأساسيات الاقتصاد الليبرالي، كان يرمي من ورائها دعوة المخزن المركزي لقبول مقترحاته لإصلاح الهياكل الاقتصادية للدولة المغربية، واستطاع دارموند هاي إقناع المخزن وفرض مقترحاته تحت معاهدة [17]1856.

ولم يخل هذا الإصلاح من معارضين، حيث تشكل تحالف موضوعي بين الأهالي المتضررين والفقهاء، كانت مبررات الأهالي أن الإصلاحات أفقرتها، لم يستفد منها إلا الوسطاء والسماسرة. وكان هدف الفقهاء مواجهة المد التحديثي الذي كان يهدد مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية. خلص معه علي أومليل إلى أن رد الفعل الجماهيري المضاد للإصلاح، "عزز مركز القوى المحافظة كمدافعة عن مصالح الناس وعقيدتهم وقيمهم الموروثة"[18].

بهذه الإصلاحات التي عرفتها المنطقة العربية ومقاومتها من طرف الأهالي والفقهاء، كيف تعاملت الشعوب الصينية واليابانية مع الإصلاح وبالتالي مع التحديث؟

-IIالإصلاحيون اليابانيون والصينيون:

عرفت اليابان عملية التحديث منذ أواسط القرن 16م، منذ وصول البرتغاليين والألمان إليها، إما عن طريق التبشير المسيحي، أو عن طريق التجارة، حيث أنشأ الألمان ورشة لصناعة السفن في ناغازاكي، كما أنشؤوا ما سمي "الدراسات الألمانية"، التي كانت مدخل نخبة من اليابانيين إلى التعرف إلى الأفكار والعلوم الأوروبية، فأسفر ذلك عن تكوين تيار فكري سمي بمدرسة (ميتو)، التي وضعت مشروع "تاريخ اليابان الكبير"[19].

اهتمت هذه المدرسة بتحصين الحضارة اليابانيةـ بإحياء النزعة الدينية والقومية اليابانية، من خلال اعتماد الكونفوشية ديانة قومية تتجسد في شخص الإمبراطور باعتباره قطبا يقود الأمة والدولة، والجامع في شخصه المقدس وحدة الدولة والدين[20]. وفي الوقت نفسه اكتساب واقتباس العلوم والتقنيات الغربية باعتباره سببا من أسباب قوة الغرب. فكان التحديث في اليابان يوجهه التوفيق بين الحفاظ على مقومات الحضارة اليابانية من خلال إحياء النزعة القومية، وبين السعي إلى اكتساب التقنية التي هي مصدر الغرب؛ فكانت بوابة النخبة اليابانية للتعرف على أفكار الغرب الحديث، أفكار فلسفة الأنوار.

لقد دعت هذه النخبة إلى إحياء الـ "كوكوتاي"، وهي تعني سياسة قومية، تدعو إلى تعزيز التخلق بالقيم الكونفوشية، القيم التي تدعو إلى وحدة اليابان عن طريق "توحيد مللها وأديانها ووحدة الدولة وجعل الإمبراطور كافلا لوحدة اليابانيين دينا ودولة"[21].

كانت هذه القيم والمبادئ هي التي وجهت الإصلاحيين اليابانيين كالإصلاحي "آيزاوا" وهو من إنتاج مدرسة "ميتو"، أو أسرة "الميجي" التي كان شعارها هو: "جيش قوي وبلد غني"، فأنتجت إصلاحاتهم نظاما اقتصاديا وعسكريا قويا؛ لهذا يستنتج أومليل أن اليابانين ومعهم الصينيين تكمن قوتهم اليوم في إنتاج السلع وليس في إنتاج الأفكار.

اتجه الإصلاح في الصين نحو الحفاظ على التراث مع اقتباس العلوم وتقنيات الغرب، مثل ما دعا إليه الاصلاحيون اليابانيون. فالحفاظ على التراث نابع من الاعتزاز بالحضارة الصينية العريقة المحتضنة للديانة الكونفوشية، التي تقوم على مبادئ ضبط النفس، ومحاسبتها بنقد ذاتي مستمر، والطاعة، واحترام الأسلاف والتراتبية بحكم السن ومرتبة السلطة، والعلم بالتعاليم[22].

لكن بعد الضغوط الاستعمارية في القرن 19م، بفرضها معاهدات الهدف منها فتح أسواق الصين أمام تجارتها، وإذعان الإمبراطور لهذه الضغوط، وهزيمة الصين في حرب الأفيون 1839/1842، نشبت عدة ثورات وانتفاضات في عدة مناطق من البلاد، قامت على إثرها حركات إصلاحية تدعو إلى تجديد الثقافة الكونفوشية مع اكتساب العلوم والتقنيات الغربية.

ويعد "وإي يوان" أحد رواده، كان هدفه من الإصلاح إقامة دولة قوية، وقد سار على نهجه تلميذه "فينغ غويقن"، حيث دعا إلى تأصيل علوم الغرب الحديثة في الثقافة الصينية لمواجهة التفوق الغربي، وإلى إصلاح دستوري واقتصادي لتقوية النظام الداخلي.

لكن حركة 4 مايو 1919، سوف تشكل في نظر أومليل منطلقا لتحول جذري في الفكر الإصلاحي الصيني، حيث نشأت حركات فكرية وأدبية تميزت برفض التراث الكونفوشي باعتباره سببا من أسباب التخلف في الصين. فنشأ تياران سياسيان: وطني بقيادة ّ "سون ياتسين"، وشيوعي بزعامة "ماوتسي تونغ"، وكانت غلبة التيار الثاني بداية لتحديث الصين. "بإيديولوجية غربية لم تبدأ على نطاق واسع إلا مع الماركسية ونظامها الذي أحدث تغييرا عميقا في البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية"[23]. ساهمت في هذا التحول الثورة الثقافية بزعامة ماو.

ومن الخلاصات التي يستنتجها علي أومليل من مقارنته بين الإصلاح عند العرب والإصلاح عند اليابانيين والصينيين، أن الدافع إلى الإصلاح هنا وهناك هو التهديد الاستعماري الغربي حيث تبين أن تفوق الغرب ليس عسكريا فحسب، بل وراءه تقدم في نظام الحكم، وفي قوة الإنتاج الاقتصادي، وفي قيم ومبادئ المواطنة والحقوق المدنية والسياسية للمواطنين.

وإذا كان هذا الدافع هو المشترك الذي تلتقي فيه الإصلاحية العربية بالإصلاحية اليابانية والصينية، فهناك في نظر أومليل اختلافات جوهرية تفصل بينهما، يتمثل الاختلاف الأول في تمحور الإصلاح العربي حول الفكر الديني باعتباره عاملا أساسيا في تشكيل الهوية، في حين أن الهوية عند اليابانيين والصينيين تتمركز حول الحضارة أكثر من الدين.

لذلك يرى أومليل أن للدين عندنا دورا مركزيا في تصور الإصلاح أكثر مما هو لدى اليابانيين والصينيين. "فالدين عندنا مركز الهوية يدور حول التراث، فهو سلاح للدفاع عن الهوية الجماعية والعامل الأول في معادلة الإصلاح. في حين أن الهوية لدى اليابانيين والصينيين حضارية أكثر منها دينية، والدين عندهم قيم وأخلاقيات وتصور لكون أبدي غير قابل للفناء أكثر مما هو شريعة"[24].

ويتمثل الاختلاف الثاني، في وحدة الدولة والأمة عند اليابانيين والصينيين بخلاف تصور العرب والمسلمين لهذه الثنائية، فإذا كانا متطابقين في اليابان والصين، فهما غير ذلك في الفكر الإصلاحي العربي، فالدولة الوطنية هي عائق أمام تحقيق الدولة القومية الكبرى بالنسبة للقومي العربي، وبالنسبة للعرف الإسلامي أن الأمة الإسلامية هي أوسع من أي دولة من دول العالم الإسلامي.

ويتعلق الاختلاف الثالث، بغياب الفكر الاقتصادي في حركة الإصلاح العربي سواء لدى التراثيين أو لدى دعاة الحداثة، بخلاف الإصلاح لدى اليابانيين والصينيين، حيث قادت الدولة في اليابان عملية بناء اقتصاد قوي عملا بالشعار المركزي في الإصلاح "الميجي": "جيش قوي ودولة غنية"، حيث قادت الدولة الإصلاحية عملية التحديث الاقتصادي، وبنفس الاهتمام قام الإصلاح في الصين بعد الثورة، حيث أعطيت الأولوية لتغيير البنية الاقتصادية، فتحقق بذلك إثبات الهوية القومية من خلال بناء اقتصاد وطني قومي.

بينت هذه الاختلافات مدى الفرق بين الإصلاحيين في اليابان والصين، ونظرائهم في العالم العربي والإسلامي، وبالتالي تجاوز النظرة التراثية عند الأوليين، وهيمنة المواقف التراثية التقليدية عند الآخيرين، حيث التشبث بدين الفطرة والبعد عن اتخاذ موقف نقدي من الدين، لأنه في نظر أومليل يمثل هوية جماعية دفاعية ضد الآخر. فما قام به الإصلاحيون العرب في نظره، لم يتجاوز محاولة تخليص الدين من الخرافات.

المراجع

- علي أومليل: أفكار مهاجرة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2013

- جورج أنطونيوس: يقظة العرب تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، دار العلم للملايين بيروت، الطبعة السادسة، 1980

- أندري ريمونA. Raymond: الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إشراف أوديل مورو، ترجمة خالد بن الصغير، دار أبي رقراق، الطبعة الأولى، 2014


[1] علي أومليل: أفكار مهاجرة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2013

[2] نفس المرجع، ص 197

[3] نفس المرجع، ص 11

[4] نفس المرجع، ص 14

[5] نفس المرجع، ص 15

[6] نفس المرجع، ص 16

[7] نفس المرجع، نفس الصفحة.

[8] نفس المرجع، ص 18

[9] نفس المرجع، ص نفس المرجع، ص 19

[10] نفس المرجع، ص 33

[11] نفس المرجع، ص 35

[12] نفس المرجع، ص 37

[13] نفس المرجع، ص 38

[14] جورج أنطونيوس: يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، دار العلم للملايين بيروت، الطبعة السادسة 1980، ص 91

[15] نفس المرجع، ص97

[16] أندري ريمونA. Raymond: الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إشراف أوديل مورو، ترجمة خالد بن الصغير، دار أبي رقراق، الطبعة الأولى، 2014، ص 39

[17] نفس المرجع، ص 105

[18] علي أومليل: أفكار مهاجرة، مرجع سابق، ص 41

[19] نفس المرجع، نفس الصفحة.

[20] نفس المرجع، ص 42

[21] نفس المرجع، ص 43

[22] نفس المرجع، ص 47

[23] نفس المرجع، ص 51

[24] نفس المرجع، ص 57