مفهوم المواطنة: تحدّيات في ظلّ عالم متغيّر


فئة :  مقالات

مفهوم المواطنة: تحدّيات في ظلّ عالم متغيّر

تمثّل المواطنة مفهوماً مهمّاً في علم السياسة لارتباطه الوثيق بمفاهيم كثيرة من قبيل الدولة والديمقراطيّة والقانون وهويّة الأفراد والأقلّيات وحقوق الفرد وواجباته. ومن أبرز ما يميّز هذا المفهوم عدم استقراره واختلاف وجهات النظر حوله. فما أن يتمّ إقرار تعريف للمواطنة، حتّى تظهر في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة تغيّرات تمتدّ آثارها إلى المفاهيم القريبة منه وتنعكس عليه، وتتحدّى ذلك التعريف، وتدفع أصحابه إلى مراجعته وتعديله في ضوء تلك التغيّرات، حتّى يستجيب ومتطلّبات الحياة الجديدة. وحتّى القوانين التي تضبط شروط المواطنة تختلف من بلد إلى بلد، وهي في التقاليد الغربيّة تظلّ متأثّرة بمقاربتين للمواطنة مختلفتين، نعني بذلك المقاربة الليبرالية أو ما يعرف "بنظريّة الحدّ الأدنى" التي تشدّد على الفرد، باعتباره فاعلاً اجتماعيّاً مستقلاًّ، ومن ثمّ تقدّم حرّية الفرد على سائر الحقوق، وقد ترتّب على هذا التصوّر اللّيبيراليّ للحقوق، القول بأنّ دور الدولة يتمثّل في حماية حرّية المواطنين، وأساساً في حماية حقّ الفرد في الملكيّة، وفي السعي إلى رفع الحواجز والعراقيل الحائلة دون التبادل الحرّ للسلع والمنتوجات في الأسواق.

وواضح أنّ التصوّر اللّيبيراليّ للمواطنة يرى العضويّة المدنيّة مجرّد وضع قانونيّ، ويحمل بالاستتباع نظرة سلبيّة للمواطنة لا ترى من حقوق الفرد إلاّ الحرّيات، ولا تنطوي في المقابل على ما يجعل المواطنة مقترنة بمعنى المسؤوليّة الجماعيّة ومعنى المشاركة في الحياة السياسيّة. أمّا المقاربة الجمهوريّة، فتحمل تصوّراً للمواطنة يجمع بين الحقوق والمشاركة في الحياة السياسيّة في سبيل مصلحة الجماعة وتحقيق المنفعة العامّة. وهذا ما يجعل للمواطنة وفق هذا التصوّر بعداً عمليّاً واضحاً يفسح المجال أمام المواطنين للصراع والحقّ في المطالبة المستمرّة من أجل توسيع مجال الحقوق التي يتمتّعون بها.

وإلى جانب هاتين المقاربتين، ظهرت مقاربات أخرى لعلّ من أبرزها المقاربة المجتمعيّة التي تقدّم الجماعة على الفرد، وتفهم المواطنة على أنّها أساس ينهض عليه مجتمع منسجم ينتظم حول جملة من القيم المشتركة يدعى الأفراد إلى المصادقة عليها والالتفاف حولها.وراء ذلك تصوّر يرى المجتمع الناجح والصالح هو الذي ينبني على علاقة دعم وتأييد متبادل بين الفرد والجماعة، وعلى العمل الجماعيّ، لا على الاختيارات الفرديّة وحرّية الفرد. ومن هنا فالانصياع للمجتمع مقدّم على الحقوق، ما دام الهدف البعيد يتمثّل في بناء جماعة قويّة تنهض على هويّة مشتركة وعلى روح المشاركة والتبادل والاندماج.

ومهما اختلفت مقاربات المواطنة، فإنّ القضايا التي تثار في هذا الصدد لا تخرج في تقديرنا عن أسئلة كبرى تظلّ قائمة، وتبقى أجوبة الدارسين عنها متنوّعة غير ثابتة. وهذه الأسئلة هي: من هو الفرد الذي يتمتّع بصفة المواطن؟ ومن هي الجهة المخوّل لها منح هذا الحقّ؟ وما هي الحقوق التي تترتّب على التمتّع بصفة المواطن؟

لا شكّ في أنّ أوّل سؤال تجابهه الجماعة السياسيّة - أيّة جماعة سياسيّة- مداره على الأفراد الذين لهم الحقّ في أن يتمتّعوا بجملة من الحقوق. ولا بدّ من التذكير ههنا بأنّ الحقوق في معناها العامّ ليست حكراً على المواطنين. فللإنسان - مواطناً كان أو غير مواطن- حقوق لا يمكن لأحد أن يسلبها منه. وللأفراد في كثير من الدول حقوق يتمتّعون بها، رغم كونهم ليسوا من مواطني تلك الدول. ولكنّ التمتّع بالحقوق الكاملة يظلّ مقتصراً على المواطنين الذين يحقّ لهم دون غيرهم إدخال تعديلات على حقوقهم ورفع سقفها. ويكون ذلك مسموحاً به في الدول الديمقراطيّة.

والمواطنة في معناها الأوّلي تحيل على ضرب من العضويّة والانتماء داخل جماعة سياسيّة، وهي في عبارة أدقّ علاقة تقوم بين الفرد ودولة ذات سيادة. ومن هنا يصحّ لنا أن نتحدّث عن مواطن تونسيّ وآخر مغربيّ وثالث جزائريّ. ولا يجوز أن نتحدّث عن مواطنة في إطار مؤسّسة أو منظّمة خاصّة. والمواطنة يتمّ التعبير عنها وتجسيدها عبر جملة من الرموز، لعلّ من أبرزها جواز السفر والوثائق التي تُثبت هويّة الأفراد التي تصدرها سلطات الدولة وأجهزتها القائمة على هذا الشأن. والأفراد يُحرزون على المواطنة منذ الولادة، ويكون ذلك وفق القوانين التي تضبط إجراءات الحصول على الجنسيّة. والأفراد عادة ما يُمنحون جنسيّة البلد الذي يولدون فيه. وفي حالات أخرى يحصل الفرد على المواطنة استناداً إلى جنسيّة أمّه أو أبيه. أمّا الذين لم يولدوا في البلد ويريدون الحصول على الجنسيّة، ليكونوا مثل مواطنيه، وهذا حال عدد من المهاجرين، فالمواطنة يحصلون عليها من خلال ما يعرف بالتجنّس (طلب الجنسيّة)، وهو ما يقتضي من جملة ما يقتضي قضاء فترة زمنيّة معيّنة في ذلك البلد، والقيام بما يعرف بيمين الولاء. وفي ذلك دليل على أنّ المواطنة علاقة قانونيّة بين الفرد والجماعة السياسيّة، وأنّ منح الدولة الجنسيّة على أساسي النسب ومكان الميلاد لا يعني صمود ذينك المقياسين أمام حالات كثيرة تُضطرّ فيها الدولة إلى مراجعة قوانينها وسياساتها لمجابهة عدد من المسائل الشائكة، من نحو الجنسيّة المزدوجة والهجرة والتجنّس.

وإذا كان التصوّر السائد يعتبر الدولة هي الطرف الوحيد المخوّل له منح الأفراد حقّ المواطنة استناداً إلى جملة من القوانين تحدّد بها الدولة هويّة مواطنيها؛ فذلك لا يعني غياب حالات يتدخّل فيها القانون الدوليّ والمنظّمات العالميّة لحماية أفراد وجدوا أنفسهم جرّاء الحروب يُسلبون من مواطنتهم. وهذا ما حدث فعلاً في الحرب العالميّة الثانية التي شرّدت ملايين الأفراد ودفعتهم إلى الانتقال من بلد إلى آخر، ليواجهوا بعد ذلك مشكلة الهويّة، ويجرّدوا من جنسيّتهم التي كانوا عليها. وقد تدخّلت الأمم المتّحدة في هذا الشأن، وعالجت هذه المشكلة من خلال المادّة الخامسة عشر من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان التي نصّت على أنّ لكلّ فرد حقّ التمتّع بجنسيّة مّا، وأنّه لا يجوز حرمان شخص من جنسيّته تعسّفاً أو إنكار حقّه في تغييرها.

والمواطنة قبل هذا وذاك، تحيل على جملة من الحقوق والواجبات، وتحديداً على عدد من الواجبات السياسيّة التي لا تعني أنّ الفرد يكتفي بطاعة قوانين الدولة، بل هو يشارك في العمل السياسيّ. ولا شكّ في أنّ هذه الفكرة تفضي بنا إلى القول بأنّ المواطنة يتّصف بها الأفراد الذين ينتمون إلى أنظمة ديمقراطيّة لما توفّره لهم من آليّات تمكّنهم من المشاركة في المسار السياسيّ للدولة. وعلى خلاف ذلك، يمكن للفرد في الدول غير الديمقراطيّة أن يكون مواطناً وفق القانون الذي تضبطه الدولة، ولكنّه لا يستطيع أن يكون طرفاً فاعلاً وقادراً على أن يفرض جملة من التغيّرات داخل الدولة التي ينتمي إليها، مثلما يجري الأمر في الدول الديمقراطيّة.

وواضح أنّ الحقوق التي يتمتّع بها المواطنون اليوم كثيرة ومتنوّعة لا شكّ في أنّها لم تكتسب دفعة واحدة، بل تمّ الاعتراف بها على التدريج وبعد صراعات طويلة وحركات من المطالبة والاحتجحاج غير منتهية. ويمكن توزيع هذه الحقوق إلى ثلاثة أصناف: حقوق مدنيّة من نحو تساوي الأفراد أمام القانون، وحقّهم في الامتلاك والبيع والشراء، وحقّهم في توقيع عقود ملزمة، وحرّيتهم في التعبير وفي المعتقد. ومدار الصنف الثاني على عدد من الحقوق السياسيّة للفرد، مثل حقّه في الانتخاب وحقّه في الترشّح. أمّا الصنف الثالث، فمجموعة من الحقوق الاجتماعيّة تضمن للمواطن الحدّ الأدنى من العيش الكريم والرفاه الاقتصاديّ.

ولاشكّ في أنّ العولمة وما تولّد عنها من ارتفاع نسق الهجرة وتيسير انتقال الأفراد والسلع من بلد إلى بلد، كانت من الأسباب التي جعلت النظام الدوليّ لحقوق الإنسان يحلّ محلّ الدولة أحياناً، ليصبح الطرف الذي يأخذ على عاتقه مهمّة ضمان الحقوق المدنيّة لجميع الأفراد في مختلف أنحاء العالم. ولا شكّ أيضاً في أنّ الحقوق التي تترتّب على الإحراز على صفة المواطن ليست ثابتة، بل هي تتغيّر مثلما تغيّر الدول سياساتها في موضوع المواطنة وتعدّل قوانينها المنظّمة لكيفيّة الحصول عليها. وأحسن مثال على ذلك الحقوق الاجتماعيّة التي يتمتّع بها المواطن، والتي كانت منصبّة في عدد من الدول وإلى حدود ثمانينيات القرن العشرين على استحقاقات إعادة توزيع الثروة الوطنيّة، لتتّجه بعد ذلك إلى التنصيص على الاندماج الاجتماعيّ وتكافؤ الفرص، وهو تغيّر لا يمكن عزله عن التغيّر الذي شهده مفهوم الدولة ونوع الواجبات المناطة بعهدتها تجاه مواطنيها.

فقد كان التصوّر السائد يرى أنّ من أهمّ واجبات الدولة أن تضمن العيش الكريم لمواطنيها، وذلك من خلال ما توفّره لهم من الاستحقاقات الاقتصاديّة الأساسيّة. ولكن هيهات أن تقنع الدولة اليوم بمثل هذا الدور في عالم اكتسحته التغيّرات، ودكّت حدوده العولمة، وتوفّرت للأفراد فيه فرصة اختيار الخدمات التي يرغبون في الحصول عليها من دول وجهات متعدّدة من غير أن يُجبرهم أحد على طلب تلك الخدمات من الدولة التي يتبعونها. وهيهات أن تظلّ الدولة ـ وهي تواجه مسألة المواطنة- في غفلة عن هذه الحركة السريعة والممتدّدة التي أمست من أبرز ما يميّز العالم المعاصر، سواء تعلّق الأمر بالأشخاص أو بالبضائع ورأس المال أو بالأفكار. فمن عساهم يكونون هؤلاء الأفراد الذين انتقلوا من بلدانهم الأصليّة إلى بلدان أخرى استقرّوا فيها، وصاروا يُعرفون بالجاليات، وأضحوا يهتمّون بالشأن السياسيّ في البلدان التي يقيمون فيها، بل ويشاركون في الحياة السياسيّة محافظين في الوقت نفسه على صلات متينة ببلدانهم التي جاؤوا منها؟ وكيف ستنظر الدولة إلى أولئك الأفراد الذين يحافظون على علاقات تجمعهم بعدد من الجماعات السياسيّة، ويحملون جنسيّة مزدوجة، ولهم الاعتراف القانونيّ الكامل بكونهم أفراداً ينتمون إلى تلك الجماعات السياسيّة؟

لا شكّ في أنّ مثل هذه الإلزامات الأخلاقيّة والسياسيّة العابرة للأوطان، والتي تزداد أهمّيتها يوماً بعد يوم، ولا شكّ في أنّ ارتفاع مطالب الأفراد في أن يكون لهم حقّ الانتماء والعضويّة في عدد من الجماعات السياسيّة، لا شكّ في أنّ ذلك سيحرج الذين يتمسّكون بأنّ الدولة ذات السيادة وذات الحدود الجغرافيّة المضبوطة، ستظلّ هي المصدر الوحيد الذي ينشأ منه المجتمع المدنيّ. ولا شكّ أيضاً في أنّ مثل هذه التحدّيات، إن كانت ستُحرج الدولة وستدفعها إلى إعادة التفكير في مسألة المواطنة، فإنّها حسب بعض الدارسين لن تجرّد الدولة من دورها الذي كان لها، وستظلّ محتفظة به، نعني بذلك أنّ الدولة ستبقى هي الإطار الحاضن للمواطنة. وحتّى الأصوات التي ترتفع مطالبة بمواطنة كونيّة في عصر العولمة، لا تنفع كثيراً أولئك المهاجرين الذين يهمّهم أوّل ما يهمّهم الحصول على وضع قانونيّ يكونون بمقتضاه مواطنين في الدول التي هاجروا إليها، لأنّهم بذلك فقط يحصلون على حقوقهم الكاملة داخل تلك الدولة.

على هذا النحو، تناول الدارسون المواطنة مفهوماً حاولوا إيجاد تعريف له يتّفقون عليه، ووجدوا أنفسهم أمام عدد من القضايا التي تفتح السبيل على مفاهيم أخرى كثيرة هي بدورها عرضة للتغيّر والتطوّر من نحو الدولة والقانون والهويّة. وكانت الغاية من ذلك معرفة المواطن من يكون، ومعرفة الطرف الذي يحقّ له أن يمنحها لأفراد ويحرم آخرين منها، ومعرفة الحقوق التي يتمتّع بها المواطنون دون سواهم. وقد رأينا أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة لم تكن هيّنة، وأنّ التحوّلات التي يشهدها العالم تلقي بظلالها على مفهوم المواطنة، وتضع الدارسين أمام تحدّيات كثيرة تحوجهم إلى إعادة التفكير في معنى المواطنة وما يتّصل بها من قضايا الانتماء والهويّة، عسى ذلك أن يساعدنا على فهم طبيعة الروابط الجديدة التي تقوم بين الأفراد والجماعات التي تحتضنهم، والتي بدأت في التشكّل جرّاء موجات الهجرة المتصاعدة وحركات اللّجوء السياسيّ المتواصلة وقيام هيآت ومنظّمات مثل الاتّحاد الأوروبيّ، تجاوز حدود الأوطان، وتجعل للمواطنة معنى جديداً ومدى بعيداً.