"مقالات في السياسة الشرعية" لفهد الحمودي


فئة :  قراءات في كتب

"مقالات في السياسة الشرعية" لفهد الحمودي

صدر الكتاب الموسوم بـ "مقالات في السياسة الشرعية" للدكتور فهد الحمودي عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت سنة 2014. وكان صاحب هذا الكتاب قد تحصل على درجة الماجستير من قسم السنة وعلومها من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وكانت رسالته بعنوان "حماية البيئة والموارد الطبيعية في السنة النبوية"[1]، ثم أحرز على درجة الدكتوراه من جامعة ماكجيل، مونتريال، كندا، وقدّم من أجل ذلك رسالة موسومة بـ "نقد نظرية المدار"[2]، وهي دراسة نقدية للنظريات الغربية حول التشريع الإسلامي خلال الفترة المتراوحة بين 1950 و2005م.

وقد نشر لهذا الكاتب - إضافة إلى الكتابين السابقين - كتاب بعنوان "التنوع الديني والثقافي في أمريكا من وجهة نظر سعودية" ضمن منشورات معهد الحوار بجامعة تمبل سنة 2011، ونسخة وكيع بن الجراح (تحقيق ودراسة).

عمل الأستاذ الحمودي محاضرا بجامعة ماكجيل بكندا وأستاذا زائرا بجامعة ملبورن بأستراليا وجامعة تامبل وجامعة لويولا بأمريكا.

ويشتمل كتابه "مقالات في السياسة الشرعية" على خمس مقالات؛ اثنان منها لصاحب الكتاب. أمّا الثلاثة الأخرى، فهي ترجمة لمقالات كتّاب آخرين، وتشترك هذه المقالات في بنية واحدة، تتمثل في عرض سيرة ذاتية لمؤلف المقال يليها عرض المقال، ويجمع بين هذه البحوث المحور السياسي، فصاحب الكتاب تطرق في مقاله الأول إلى موضوع مشورة النساء في السنة ثم بحث مسألة "الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة"، وفي المقال الثالث لأوري روبين نلفي دراسة لموضوع الأنبياء والخلفاء والأسس التوراتية للسلطة الأموية، وفي المقال الرابع لوائل حلاق درس الباحث السلطة القضائية والدولة والأزمة الفقهية للإسلام في العصر الحديث، أمّا المقال الخامس والأخير للباحث أبراهم حاكم، فإنّه تركّز على صراع المرجعية بين سنة محمد وسنة الخليفة عمر.

في المقال الأول الموسوم بـ "مشورة النساء في السنة"، وهو منشور سابقا في مجلة العلوم الشرعية بجامعة محمد بن سعود الإسلامية في سنة 2009، حاول الباحث أن يتفاعل مع واقعه السعودي، فقد كانت فكرة مشاركة المرأة آنذاك مرفوضة فأوصى بتشريكها في مجلس الشورى بعد أن ساق الأدلة المؤيدة لذلك من السنة النبوية.

وينقسم هذا البحث إلى اثني عشر مبحثا فرعيا، انطلق فيها من عرض بعض الأخبار والآثار العامة الواردة في مشورة النساء، ثم تطرق إلى ما عرفت به عدد من الصحابيات من العقل والرأي اللذين كانا مدعاة لاستشارة النبي لهنّ، ثمّ أفرد بالذكر تلك الآثار الواردة في مشورة النساء جامعا كل جملة منها على حدة بدءا بالمبحث الثالث باستشارة النساء في مسائل السياسة والقضايا العامة، ثم في المبحث الرابع ما ورد في استشارتهن في أمور الدين والدعوة إلى الله.

وتعلق المبحث الخامس باستشارتهن فيما يتعلق بالمغازي والقضايا العسكرية، ودا المبحث السادس على ما ورد في استشارتهن في قضايا الأسرة والبيت وأمور النساء. أمّا المبحث السابع، فقد درس فيه صاحب المقال تمثيل المرأة للنساء أمام النبي لسؤاله عن الأحكام الشرعية وما يتنزّل به الوحي بخصوصهنّ، وكذلك لسؤاله بصفته إماما للمسلمين عن الأحكام والحقوق والواجبات التي لهنّ أو عليهنّ. وورد المبحث الثامن خاصا باستشارة المرأة في ما يتعلق بحياتها الخاصة. وفي المبحث التاسع، جمع الكاتب النصوص المشهورة في ردّ مشورة النساء مبتغيا من ذلك إبراز ضعف هذه الأخبار.

وعرض في نهاية البحث رأي المغالين في مساواة المرأة بالرجل مساواة تامة في الشرع الإسلامي مخصصا لذلك المبحث العاشر، أمّا المبحث الحادي عشر، فقد جعله لوضع المرأة والشورى أو المجالس البرلمانية أو التشريعية، ثم تطرق أخيرا إلى المرأة والشورى في المملكة العربية السعودية في ضوء الأحاديث والآثار الواردة عن النبي وصحابته.

استهلّ الكاتب مقالته ببيان بعض الأدلة العامة على مشورة النساء منها الآية 159 من سورة آل عمران "وشاورهم في الأمر"، ورغم اختلاف المفسرين في جمع المذكر مثل صيغة "وشاورهم" هل تشمل الرجال والنساء أم لا؟ فإن صاحب المقال يعتبر أنّ من عموم المشاورة أنها تشمل الرجال والنساء معا.

وعلى الرغم من اختلاف العلماء المذكور في شمول جمع المذكر للنساء، فإنهم لم يختلفوا في دخولهنّ تحت مدلول لفظ الناس مثل حديث "أشيروا عليّ"[3]، وحديث الأذان أن النبي (ص) استشار الناس[4]، وبين الكاتب أن كتب السياسة الشرعية حين تذكر شروط أهل الشورى، فإنها لا تخرج منها النساء من ذلك ما ذكره الماوردي (ت 450هـ): "على أن كل من صحّ أن يفتي في الشرع جاز أن يشاوره القاضي في الأحكام، فتعتبر فيه شروط القاضي فيجوز أن يشاور الأعمى والعبد والمرأة"[5].

ومن المدعمات التاريخية لمشورة النساء، اتصاف صحابيات كثيرات بالرأي والعقل والعلم في مقدمتهن - حسب الكاتب - زوجات الرسول فقد عرفت خديجة بأنها وزيرة صدق واشتهرت عائشة بكونها أفقه الناس وأعلمهم وأحسنهم رأيا في العامة.

وتوجد عدة شواهد تاريخية عن اعتناء الرسول بمشورة النساء وقبول رأيهن، ويروى في هذا الصدد عن الحسن قوله: "كان النبي يستشير حتى المرأة، فتشير عليه بالشيء فيأخذ به"[6]. وقد روى البيهقي عن ابن سيرين قوله: "كان عمر بن الخطاب يستشير حتى إنه كان يستشير المرأة وربّما أبصر في قولها الشيء فيأخذ به"[7].

ويورد الباحث أخبارا كثيرة تثبت أنّ مشورة النساء حقيقة تاريخية ليوظفها في خدمة حاضره ودعوة النساء إلى ضرورة المبادرة بإبداء الرأي وتقديم المشورة إن في دائرتهن الضيقة الخاصة بالأسرة، وإن في الدائرة الواسعة الخاصة بالشأن السياسي وغيره من المصالح العامة للمسلمين. ولا تقتصر استشارة النساء حسب الكاتب على مسائل الدنيا، بل تشمل كذلك مسائل الدين، وقد ساق في هذا السياق أخبارا عدّة استنتج أنّها تؤكد مكانة النساء وأهمية الاستنارة برأيهن حتى في أكثر الأمور أهمية كأمر انقطاع الوحي.

يتواصل استثمار الكاتب للتاريخ خدمة للحاضر من خلال مبحث "استشارة النساء في القضايا المتعلقة بالبيت والقضايا العائلية"، من ذلك أنّه لمّا أراد عبد الله بن عمر ألاّ يتزوج أشارت عليه أخته حفصة أم المؤمنين، فقالت: "تزوج فإن ولد لك ولد فعاش بعدك دعا لك" فاستجاب لمشورتها وتزوج ورزق بأبناء[8].

ويستخلص صاحب المقال من هذه الأخبار وغيرها من الروايات أنه من اللازم اعتبار رأي المرأة؛ لأنها الأعلم بما يناسبها ويناسب ابنتها ويلبي حاجاتها ورغباتها، "فإذا انضاف إلى ذلك حرص ولي أمر المرأة على ما ينفعها كان بناء الأسرة مستقيما ومتينا ولما رأينا نسب الطلاق في ازدياد كما هو الحال في كثير من بلاد المسلمين اليوم"[9].

ويحرص الكاتب على التأكيد على خاصية المساواة بين المرأة والرجل في الإسلام اعتمادا على أسباب النزول تارة وعلى التفسير تارة أخرى، فعلى الصعيد الأول أورد خبرا رواه عكرمة عن أم عمارة الأنصارية يفيد أنها أتت النبي (ص) فقالت: ما أرى كل شيء إلاّ للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية "إنّ المسلمين والمسلمات"[10]، ويمكن اعتبار هذا الخبر من المحاولات المبكرة في الدفاع عن حقوق النساء وفي البحث عن المساواة.

أمّا على الصعيد الثاني، فقد ذكر ابن عاشور في تفسير هذه الآية ما يفيد المساواة بين الجنسين في نظر الشريعة، يقول: "المقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء، وأمّا ذكر الرجال فللإشارة إلى أنّ الصنفين في هذه الشرائع سواء، ليعلموا أنّ الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصا بالرجال إلاّ الأحكام التي لا تتصور في غير النساء"[11].

ومن الواضح أن الكاتب فهد الحمودي، يسعى إلى تأصيل حقوق المرأة لا في الدين فحسب، وإنما في التاريخ العربي الإسلامي أيضا، من ذلك أنّه يفيدنا أنّ عقود الزواج الواردة في البرديات العربية لا يكاد يخلو عقد منها من الإشارة إلى أنّ المرأة البالغ تلي نفسها ومالها[12]، ومن ذلك وثيقة من القرن الثالث ورد فيها: "وهي إذّاك امرأة بكر بالغ تلي نفسها ومالها".

يشير فهد الحمودي إلى أنّ الأخبار الواردة في مشورة النساء جاء ما يعارضها لكن أغلبه موضوع على غرار "شاوروهن وخالفوهن"[13]، و"هلكت الرجال حين أطاعت النساء"[14]. وقد توقف الكاتب أيضا، عند مسألة كثيرا ما يثيرها مناصرو المرأة والمناضلات النسويات، وهي المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ويذكر في هذا السياق آمنة ودود معتبرا أنها أشهر المسلمات الداعيات إلى منهج المساواة المطلقة بين الجنسين في الغرب من خلال كتابها الموسوم بـ "القرآن والمرأة"، وهذه المساواة تشمل الحقوق السياسية وتولي قيادة الدولة لذلك، عندما تطرقت إلى مثال بلقيس ملكة سبأ ذكرت أنّ القرآن "لم يستخدم ألفاظا تقضي بأنّ وظيفة الحاكم لا تناسب المرأة، بل إنه أشاد ببلقيس لحكمتها الدينية والسياسية"[15].

وهذا الموقف لم يعجب صاحب المقال، والغريب أنه لم يجد حجة يؤيد بها موقفه يستقيها من واقعه وعصره فلجأ إلى حجة أصولية وموقف ينتمي إلى القرن الخامس للهجرة، فأمّا الحجة الأولى فإنها تتمثل في انعقاد الإجماع على أنّ الإمامة العظمى لا يجوز انعقادها للمرأة، ولم يكلّف الكاتب نفسه أن يتساءل إلى أي مدى يعدّ هذا الإجماع ملزما لأبناء عصرنا؟ خاصة أن كثيرا من الدول نجد على رأسها امرأة ومنها دول إسلامية.

والظاهر أنّ إشهار سلاح الإجماع لإقصاء المرأة من المشاركة السياسيّة ومن تولّي منصب الإمامة كان إحدى الآليات التي اعتمدها الفكر السنّي لمواجهة خصومه غير السنّيّين أثناء الصّراع السياسي والدّيني بين دولة الخلافة ومناوئيها. والدليل على ذلك، أنّ خروج المرأة إلى فضاء العمل السياسي كان مسألة خلافيّة بين من يمنعه تماما، ومن يمنعه على أمّهات المؤمنين دون غيرهنّ. يقول عبد القاهر البغدادي: "يقال للشبيبية من الخوارج أنكرتم على أمّ المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة مع جندها الّذين كلُّ واحد منهم مَحرَم لها لأنّها أمّ جميع المؤمنين في القرآن. وزعمتم أنّها كفرت بذلك وتلوتم عليها قول الله تعالى: "وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" (الأحزاب 33/32) فهلاّ تلوتم هذه الآية على غزالة أمّ شبيب وهلاّ قلتم بكفرها وكفر من خرج معها من نساء الخوارج إلى قتال جيوش الحجّاج؟"[16]. يخبر هذا الشاهد أنّ فرقة الشبيبية لا تقيس وضع النّساء على وضع زوجات الرّسول اللّواتي لهنّ وضع خاصّ بيّنته بعض الآيات القرآنيّة.

أمّا الحجة الثانية التي عوّل عليها الحمودي، فهي قول ابن حزم: "واتفقوا أنّ الإمامة لا تجوز لامرأة"[17]. لكن من الضروري الانتباه إلى أن موقف ابن حزم هذا لا يعني اعتقاده بأن الدافع إليه اعتقاده بتفوق الرجل على المرأة بخلاف فريق من الفقهاء كانوا يذهبون إلى أنّ أفضليّة الرّجل على المرأة هي التي تجيز له تولّي السلطة وتحرم المرأة منها؛ لذلك أراد ابن حزم تفنيد ذلك قائلا: "ليس امتناع الولاية فيهنّ بموجب لهنّ نقص الفضل؛ فقد علمنا أنّ ابن مسعود وبلالا وزيد بن الحارث لم يكن لهم حظّ في الخلافة، وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم، والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك وبينهم في الفضل ما لا يجهله مسلم"[18].

أثار الكاتب أيضا، اختلاف العلماء المسلمين في حكم مشاركة المرأة في المجالس البرلمانية، مبينا أنّ النصوص الشرعية لا تمنع صراحة من هذه المشاركة. وفي المبحث الأخير "المرأة والشورى في المملكة العربية السعودية" أوصى الكاتب بتشريك المرأة في عضوية مجلس الشورى؛ فالوقت قد حان لتنفيذ هذه الخطوة في رأيه.

في المقال الثاني "الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة تعارض أم توافق" تطرق الحمودي إلى إشكالية مهمة صاغها في السؤال التالي هل يمكن أن تتوافق الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة أم أن هذين النظامين بينهما تعارض متأصل وموروث؟ يعمد الكاتب إلى تقييم المحاولات التي قام بها أطياف من القادة السياسيين والدينيين منذ القرن التاسع عشر إلى وقتنا الحاضر للوصول إلى تسوية لهذه العلاقة "من التمسك بنبذ كافة النظم التشريعية والسياسية الغربية إلى الغلو بالإقصاء التام للشريعة الإسلامية"[19].

بدأت الدراسة بتوضيح تعريفات علمية ذات علاقة بالموضوع، ثم عرض تاريخ ظهور تلك المصطلحات، وقام الكاتب بعد ذلك بعرض الآليات الثلاث التي تمّ بها تنصيب الخلفاء الأربعة وأدوارهم في تشكيل الدولة الإسلامية. ركّز الكاتب عقب ذلك على نقطتي تحول في تاريخ الدولة الإسلامية هما بداية الخلافة الأموية من جهة ونهاية الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، وحاول في الأثناء بيان الطريقة التي دخل بواسطتها نظام الدولة الحديثة إلى الدولة الإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية مع أمثلة من دساتير تلك الدول.

تطرق صاحب الكتاب بعد ذلك، إلى أهم الحركات الإصلاحية الإسلامية سواء أكانت الحركات التي تمثل الجماعات الإسلامية كالإخوان المسلمين والوهابية أو الحركات التحررية (الليبرالية). وفي الختام، حاول الكاتب الخروج بمنهجية يصفها بالجديدة تجمع بين الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة.

لقد سعى الكاتب إلى اتخاذ موقف وسط بين موقفين متطرفين أحدهما ينبذ الدولة الحديثة والآخر يقصي الشريعة الإسلامية؛ فمنطلقه عدم معارضة الإسلام للتقدم، ويستنتج من ذلك أنّ إعادة صياغة القانون الإسلامي بما يتفق مع الفكر الجديد ليس ممكنا فحسب، بل إنه مستحسن لكن السؤال المهم هو كيف نجمع بين الحداثة والإسلام؟ يجيب الكاتب بأنّ الحل يمكن استمداده من السيرة النبوية، فقد كان الصحابة يفرقون بين شخصية الرسول النبوية التشريعية وشخصيته القيادية التنفيذية؛ أي بين ما يتعلق بالدين وما يتصل بالدنيا، وقياسا على هذا ترك الكاتب للقائد السياسي الصلاحية للحكم في القضايا المعاصرة السياسية والمدنية وحقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة طالما كانت في مجال سلطته، ولم تذكر في المصدر التشريعي لذلك فإنها لا تعتبر قضايا دينية.

يضمّ الكتاب بعد ذلك مقالة مترجمة كتبها أوري روبين بالإنجليزية، ووسمها تحت عنوان "الأنبياء والخلفاء: الأسس التوراتية للسلطة الأموية"، وقد قام أوري بتأليف عدد من الكتب من أولها كتاب "عين الرائي: حياة النبي محمد كما صورها أوائل المسلمين"، وكان صدر خلال سنة 1995. كما قام أوري روبين بترجمة القرآن إلى اللغة العبرية سنة 2005.

حاول الباحث في دراسته هذه، أن يدرس التاريخ باعتباره مصدرا من مصادر السلطة الشرعية في الإسلام مع منح عناية خاصة بالطريقة التي استخدم بها الأمويون الماضي لإضفاء الشرعية على حكمهم المتوارث.

ينظر الإسلام إلى نفسه، باعتباره الممثل الأكثر أصالة للديانة العالمية والفوقومية التي شكلت مكونا موروثا للإنسانية منذ اللحظة الأولى للخلق. وهذه الفكرة هي التي أصبحت المبرر للقيام بالفتوحات خارج الجزيرة العربية.

ويرى الباحث أن من المظاهر التي توضح أن الإسلام ممثل لديانة عالمية فوقومية حضور الأحاديث المتعلقة بالفطرة؛ أي الديانة الطبيعية أو الفطرية.

تطرق صاحب المقال في مقام ثان إلى موضوع الأنبياء قبل القوميين في التاريخ الإسلامي، معتبرا أن هذا النموذج العالمي أصبح هو الصورة المنتشرة الأساسية للإسلام، ومما ترتب على ذلك ظهور نوح في الإسلام، باعتباره مؤسسا لبعض المفاهيم الأساسية التي توصف باعتبارها جزءا من وصيته الأخيرة. ويوجد حديث يفيد أنّه أعطى أبناءه أمرين ونهيين؛ يتمثل الأمران في: قولهم لا إله إلا الله، وهذا هو المكون الأول للشهادة في الإيمان الإسلامي، أمّا الأمر الثاني فهو قولهم الحمد لله. ويتمثل النهيان في الشرك والكبر. ويشير أمر نوح بقول الشهادة - وفق الباحث - إلى التطابق بين الإسلام وبين الدين قبل القومي الذي أصبح الإسلام نموذجه الأساس.

وتوصف عدة ديانات قديمة بأنها ديانات إسلامية في عدد من الأخبار من نحو خبر لابن عباس يقول فيه: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" ويظهر هذا الحديث فترة ما قبل الطوفان بوصفها العصر الذهبي للديانة الإسلامية قبل القومية.

ويتوقف صاحب البحث عند فكرة التوارث التي أخذها التاريخ الإسلامي من فترة ما قبل الطوفان، وهي فكرة انتقلت من جيل إلى جيل في نسب وراثي، وهكذا أصبح الجانب الوراثي المظهر الأكثر حسما للديانة قبل القومية ممكنة الإسلام من إمكانية ربط الرسول بسلسلة الأنبياء وجعله الوريث الأبرز لهم.

وقد صنع هذا الربط بين الإسلام وبين الديانات القديمة قبله البنية الأدبية للكتب التاريخية المبكرة التي وصلتنا، فهي لم تبدأ بتاريخ محمد، وإنما بدأت من آدم فصاعدا، وفي هذا حسب الباحث رغبة في الإشارة إلى أن الإرث الإسلامي لمحمد كان مطابقا للإرث الإلهي الذي انتقل من جيل إلى جيل منذ آدم.

ينتهي هذا المقال إلى رأي مثير للنقاش يفيد أن العلاقة بين الإسلام والديانة العالمية الفوقومية صمّمت لتأكيد شرعية السيطرة الإسلامية على المجتمعات القديمة أي اليهود والنصارى؛ فقد رأى النصارى باندهاش زوال هيمنتهم على العالم بفعل الفتوحات الإسلامية، لذا وجب على ممثلي الإسلام تثبيت أصول هذا الدين في الماضي القديم قصد تبرير هذا التغير الجذري في موازين القوى الذي أدّى إلى الاستيلاء على الإمبراطوريات القديمة.


[1] نشرت بالرياض عن دار إشبيليا سنة 1422هـ/ 2001م.

[2] نشرت بألمانيا عن دار فيرليج للنشر سنة 2008، وأعيد نشرها ببيروت في سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

[3] رواه ابن حبان، انظر علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط2، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1993م.

[4] ابن ماجة، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دط، القاهرة، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، د.ت.

[5] الماوردي، أدب القاضي، تحقيق محيي هلال، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1971، 1/264

[6] ابن قتيبة، عيون الأخبار، تحقيق محمد الإسكندراني ن ط1، بيروت، 1997، 1/82

[7] البيهقي، السنن الكبرى ن بيروت، دار المعرفة، 1992، 10/113

[8] رواه ابن أبي شيبة في المصنف ن تحقيق عامر الأعظمي، ط1، بومباي – الهند، الدار السلفية، 1981، 4/48

[9] فهد الحمودي، المرجع المذكور، ص 30

[10] الحديث رواه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، 48ن باب 34، رقم 3211، 5/330

[11] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 22-20

[12] اعتمد الكاتب في هذا المجال كتاب جاسر خليل أبو صفية، حقوق المرأة في البرديات العربية، ط1، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2007، ص 25

[13] انظر السيوطي، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، رقم 226، ص 172

[14] الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، رقم 436، 1/625

[15] آمنة ودود، القرآن والمرأة إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي، ترجمة سامية عدنان، ط1، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1426هـ/2006م، ص 34

[16] البغدادي، المرجع المذكور، ص 92

[17] ابن حزم، مراتب الإجماع، بيروت، دار الكتب العلمية، د.ت، ص 126

[18] ابن حزم، الفصل، 3/56

[19] الحمودي، المصدر المذكور، ص 47