من التراث إلى الإبداع


فئة :  مقالات

من التراث إلى الإبداع

من التراث إلى الإبداع

1- تعدّ قضية "التراث" من بين جملة من القضايا الكبرى التي واجهت النخب العربية المثقفة والحاكمة في العصر الحديث، والتي بقيت إلى حدّ بعيد عصيّة على التجاوز والحسم في المستويين النظري والإجرائي. بقي موضوع "التراث" إلى جانب مسائل: الوحي واللغة والتاريخ وقضايا الدولة والمجتمع والتنمية مرتبطاً بإشكالية تأخر العالم الإسلامي من جهة، ومعبّراً بصورة أخص من جهة أخرى عن خصوصية منهجية اصطبغت بطابع إيديولوجي، يركّز بالأساس على الوصول إلى تغيير ما في الواقع السياسي الاجتماعي.

إنّ ما بحثه المفكرون العرب المسلمون من أسباب تقهقر العالم الإسلامي، لم يكن بدافع علمي موضوعي محض، بل كان مسعى هادفاً للتغيير والخروج من دائرة الهيمنة الاستعمارية. هذا ما يتيح القول إنّ سؤال التراث كان سؤالاً إيديولوجياً؛ أي أنه ما كان ليطرح إلا نتيجة رفض التأخر بالنسبة إلى "أمجاد الماضي ومعارف الأسلاف". لذلك عبارة التراث لا تدل دلالة محايدة عن الآثار المكتوبة التي خلفها السابقون والمتصلة بالعلوم العقلية والنقلية وعن الأنماط الخاصة من الحياة والوجدان والتفكير. التراث يعني هذا ويعني أيضاً موقفا مُسبقا منه وغاية مضمرة في التعامل معه.

2- لم يكن سؤال التراث "بريـئـاً" ولا "استثنائياً وخاصاً" بالعرب والمسلمين. لقد طرحت الشعوب في مراحل مفصلية وتأسيسية السؤال ذاته وللغاية ذاتها، وإن اختلفت خصوصيات الإجابة من شعب إلى آخر. فقد طرحت أوروبا منذ قرون على نفسها السؤال الخاص بعلاقتها بمعارف القرون الوسطى ومؤسساتها وتصوراتها. عندئذ كان على مفكرّي النهضة والتنوير الأوروبيين أن يكتشفوا ما يسمح لهم بمزاحمة الكنيسة والإقطاع في كفاءتـهما قصد إبطال هيمنتهما على الفكر والوجدان والمجتمع. ثم أعادت أوروبا طرح سؤال "التراث المسيحي" من جديد منذ سنوات، وهي تصوغ لنفسها مساراً اتحادياً جديداً تريد تحديد صلتها به وبماضيها البعيد.

المؤكد أنّ موقف أوروبا من تراثها القروسطي والكنسي كان على الدوام تـقويضياً وقاطعاً من أجل تأسيس تصور جديد للكون ولمنزلة الإنسان فيه، لكن هذا يرجع للخصوصيات الحضارية المميزة للتجربة التاريخية الأوروبية. إنه ليس قانوناً عاماً شاملاً لكافة المجتمعات الإنسانية في علاقتها بموروثها الحضاري.

3- اللافت للنظر في الفضاء العربي الإسلامي هو أنه إزاء سؤال التراث الذي لا مفر من أن يكون إيديوليجا وقع التعاطي معه بجواب "غير علمي وغير موضوعي"، ممّا أدّى إلى تكريس الفكر التقليدي التمجيدي الذي يأسر الواقع العربي المعاصر، ويزيد من الإقبال التوظيفي على التراث، باعتباره خزّان حلول جاهزة لا تستدعي أي جهد.

جرّاء هذا التعامل اكتسب التراث في عموم الوعي العربي صفتين متناقضتين، شكّلتا أهم مفارقات الفكر العربي الحديث والمعاصر: أصبح التراث لدى العديد عينَ الهوية؛ فهو الذات الوطنية وهو المكوّن الأساس لاجتماع الأمة والضامن لاستمرارها وحصانتها. عند القلة الباقية لم يكن التراث في أفضل الحالات سوى إبداعات حققتها الأمة لمواجهة معضلاتها المستحدَثة في أزمنة مختلفة وبمؤثرات ثقافية متباينة.

هو لدى الجماعة الأولى المرجع الأوحد، وهو مصدر الشرعية ومجال التعرف على الذات، في حين هو بالنسبة إلى الفئة الأخرى كمٌّ لا يمكن أن يعنينا اليوم، لأنه لا يستجيب لمقتضيات المرحلة الحالية ولأنّ نجاعته، إن أقررنا بوجودها، هي مناسبة للشروط الفكرية والحضارية التي انقضت، ولم يبق لها وجود اليوم.

4- على ذلك، فمفارقة الوعي العربي الإسلامي آلت إلى أنّ تراثه اليوم غدا عِبْئاً عليه؛ هو بين من لا يملك إلا أن يلوذ به دون أن يستطيع صياغة البدائل المستجدة والمطلوبة منه في الواقع الجديد وبين القاطعين معه مع أنّ خيار هؤلاء لم يفضِ إلا إلى استلاب ثقافي وانتكاسة في الوعي وتفسخ للذات الفاعلة.

بذلك طرحت مفارقة الوعي العربي الحديث سؤالاً أساسياً آخر في المسألة التراثية، وهو: هل يمكن وضع معالم تمشٍ آخر مغاير في علاقته مع التراث تختلف نوعياً مع طبيعة المقاربات المأزومة التي تعوق التراث عن كل إبداع وتجديد؟

بالعودة إلى الوعي العربي القديم، نجد أنّ العرب عاشوا أزمة استقطاب الماضي لهم استقطاباً كاملاً قبل ظهور الإسلام. كانت أهم خصوصيات تلك اللحظة التاريخية هي تمحور النفس العربية حول زمن واحد هو الزمن الماضي؛ هو المرجع والملاذ، فلا معرفة تستـقـّر ولا مشاعر أو روابط تحيا إلاّ إذا كان لها سند منه. أكثر من ذلك : لقد انقلبت مرجعية الماضي إلى نمطية تقولب الفكر والمشاعر والعلاقات محوّلة الطموحات العربية إلى حروب أهلية طاحنة لا يعرَف لها مبتدأ ولا منتهى. عبّر عن هذه الدائرة المفرغة والقاتلة شاعران قديمان كبيران؛ هما عنترة العبسي حين أكد دوران الشعراء في المعاني نفسها وحول النماذج نفسها:

هل غادر الشعراء من متـردم؟

أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

وزهير ابن أبي سلمى، إذ قال هو الآخر:

ما أرانا نقـــول إلا معـارا

أو مُعــادًا من لفظنا مكرورا

أصبح الشاعر مدفوعاً إلى صور وأخيلة مقَوْلَـبَـة، لا يزيد إبداعه فيها عن تخيّر ألفاظ "جديدة" تجسّدها.

5- من هذا المثال، ندرك كيف حوّلت الروح الاتباعيّة الزمن الماضي إلى أفق الفعل والخيال والتصوّر، مما أفقد الحاضر كلّ معنى أو وجهة أو تساؤل، وممّا حكم على المستقبل أن يؤول إلى فضاء راكد متجهِّم. لذلك كانت أهم التحديات التي واجهها الخطاب القرآني هي عقليّة التمحور على الزمن الواحد أو لا تاريخيّة الفكر العربي، لذلك كان يجيب الرافضين لكلّ تمايز بين الأزمنة الذين يقولون: "إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون"، كان يجيبهم قائلاً: "أوَلوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون".

النمطيّة العربية القديمة كانت تعتبر هي أيضاً الزمن الماضي وتراثه عينَ الهويّة؛ فلا تقبل التفريط فيه، لأنه يعصمها من التفكك. تحدياً لها كان الخطاب القرآني المجدد للذات يرفض التطابق بين الزمن المنصرم والذات الفاعلة، ذات الأمّة الصانعة للوعي المتجاوِز للزمن والمستوعِب لتجاربه.

بذلك أمكن تجديد الذهنيّة العربيّة في جانب جوهري من خصوصيّاتها التقليديّةّ‎: بمبدإ "تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون". هكذا أتاحت تعدّديّة الأزمنة وتمايزها للعربيّ المسلم مجالاً جديداً للإنشاء، فيها يتـنـزّل فعله الحضاريّ ومنها ينبثق وعيه بالتطوّر وقدرته على الإبداع.

6- عندئذ أعيد الاعتبار للإنسان وواقعه في الجزيرة العربيّة وما حولها من العالم المفتوح، وأصبح المستقبل مجالاً بِكراً يستطيع الإنسان من خلاله تجاوز مأساة إعادة إنتاج العلاقات نفسها والفعل نفسه والحكمة نفسها. من ثمَّ برز الحاضر بعد أن كان زمناً مفقوداً، وانتفت عن الماضي صفة الملاذ والمرجعيّة المطلقة، فأمسى طوراً من الأطوار يمكن تفسيره وتمثّله؛ أي تجاوزه، وأضحى المستقبل كاشفاً يبدع حاضراً جديداً متوهّجاً، ينهي العلاقة مع طابع الرتابة وموت الوجهة. بهذا التعاطي أبدع الخطاب القرآني زمناً جديداً من أجل وعي فاعل ينهي الصلة مع الذات المنكفئة على نفسها المعادية لكلّ من عاداها إلى هويّة منفتحة ومتألقة بهذا التجدد.

من هذه الدورة الحضاريّة التي شهدتها الجزيرة العربيّة، يتبين أنها لم تهمل التراث القديم لكنّها حدّدت من خلال الوعي الجديد منهج تعامل مختلف نوعيّاً معه، يمكن أن يحدّد في أنه:

- إبداع بشري نسبي استدعاه تمثل الإنسان لوظيفـته الأساسية الاستخلافية، وأنّ قيمته في مدى إسهامه في تواصل الإبداع الناشئ عن تفاعل الإنسان مع قضاياه الحادثة.

- كلّ تحيّز للتراث أو القطع معه لا يمكن أن يفضي إلا إلى تقلص الوعي الذاتي وإلى تراجع لمفهوم التطور بإلغاء تعددية الزمن، وهو الإلغاء المؤدي إلى رؤية عدمية للحياة و التاريخ.

- كلّ تراث يستدعي إبداعاً جديداً وحداثة مناسبة، لأنه يحمل في طيّاته بذور تطويره وتجاوزه ويؤدي إلى تأسيس الحداثة الأجدر بتجاوز الموروث والأقدر على التعبير عن روح الثقافة الأصلية.

7- تلك كانت مقاربة الخطاب القرآني للتراث القديم في عصر التأسيس بدلالتها الثلاثية: مكانة جديدة للإنسان في الكون، ورؤية ديناميكية للزمن، وانفتاح على الثقافات والتجارب من أجل عمل إنساني منفتح .

بهذا المنهج التركيبي- التاريخي، انفتحت أمام العرب والعجم خاصة طوال القرون الأربعة الأولى آفاق واسعة تطور فيها تراث كل منهم. لقد نمت الثقافة العربية حين وعت ذاتها وذوات غيرها، وكذلك حصل للثقافات الأخرى التي استوعبها الخطاب التجديدي القرآني إلى درجة أصبح من العسير الفصل الكامل في التراث العربي الإسلامي بين ما هو فارسي ويوناني وهندي. ثم عندما ذوت جذوة هذا المنهج المتميز حضارياً، ضاق الناس ذرعاً بأنفسهم وبزمانهم عندما ضاقوا بالاختلاف والتنوع، فلم يروا فيهما جدوى أو ثراء.

هذا ما يجعل سؤال التراث اليوم في حقيقته بحثاً عن عوامل التحكم في المكونات النفسية للواقع وفي آليات التفكير ومنهجه، وفي القيم المرجعية وصلتها بالعلاقات الاجتماعية والسياسية، وفيما يؤدي إليه كلّ هذا من تأسيس لبدائل إنسانية مرتبطة بإحداثيات العصر.