في "الانجراف" الثقافي الحديث


فئة :  مقالات

في "الانجراف" الثقافي الحديث

-1- كان على المسلمين أن ينتظروا سنة 1139 هـ/1726م، ليشهدوا دخول أول مطبعة بالأحرف العربية ديارَهم بعد أن أعلن قاضي إسطنبول «إسحاق زادة أفندي» أنه "يتوجّب شكر الله على هذا الفن البديع" مُنهياً بذلك فترة حظر طويلة شملت الطباعة وكل كتاب غير مخطوط. أيّا كانت أسباب المنع، فالمؤكد أن المسلمين الذين انتظروا ثلاثة قرون للاستفادة من هذا "الفن البديع" لم يكونوا مقطوعين عن جانب من حركية الغرب الأوروبي العلمية. لقد أثبتت الوثائق الرسمية أنّ العثمانيين أقبلوا منذ القرن الخامس عشر على تبادل تجاري واسع مع أوروبا تمثّل خاصة في اقتناء الجديد من أدوات الحرب والقتال، لكنهم مع ذلك لم يروا أيّ داع للاهتمام بالمخترعات الأوروبية المتصلة بالطباعة والنشر.

أكثر من ذلك، لم تر السلطات في تلك المخترعات - عند السماح لها بالدخول - إلاّ كونها أدوات لفنّ جميل لا يختلف عمّا عهدوه من فنّ الخط والزخرفة. فكما فاتها أن تجعل المطبعة من مقتنياتها الأوروبية في الأول فاتها بعد ذلك أن تدرك أبعادها الحقيقية والآفاق الفكرية والاجتماعية التي يمكن أن تفتحها للمسلمين.

تستوقفنا هذه الحادثة المهمّة لدلالاتها البعيدة في التاريخ الثقافي الوسيط للعالَم القديم وما اعتراه من تحوّلات حضارية كبرى ولإضاءتها أزمة مسلمي الثقافية والفكرية اليوم.

-2- أولى تلك الدلالات تتعلّق بالعالم الإسلامي في مسيرته الحضارية، إنّه حقّق مع فتح القسطنطينية على يد العثمانيين (857 هـ/ 1453م ) نوعاً من التعويض عمّا كان لحق به قبل ذلك بعقود عندما سقطت قرطبة(633هـ /1236م) مؤذنة بأفول نجم المسلمين في الغرب الأوروبي. لكن مؤشرات عدّة تؤكد أنّ ما غنمه المسلمون في شرق أوروبا لا يعادل خسارتهم الحضارية في غربها لأن العثمانيين رغم جهودهم الكبرى ما استطاعوا إحياء قرطبة وعوضوا تألق الأندلس الحضاري.

في الجهة المقابلة على الضفة الأوروبية وفي القرن الثامن عشر تحديداً، كانت أولى لبنات العصر الحديث توضع مُشَكِّلةً ملامح ظاهرة ثقافية غير مسبوقة طوال القرون. إنه "ترفيع" أوروبا إلى رتبة قارّة منفصلة ثقافياً وفكرياً عن آسيا وإفريقيا اللتين كانتا ملتحمتين بها فيما كان يعرف بالعالَم القديم. كانت أهم نتائج العصر الحديث ظهور صدع كبير فصل القسم الأوروبي عن مجموعته الأفرو-آسيوية، بحسب مقولة المؤرخ الأمريكي "مارشال هدجسون" (Marshall Hodgson) صاحب نظرية وحدة التاريخ العالمي. لقد تمكّنت أوروبا نتيجة ثوراتها المعرفية الكبرى وما نجم عنها من تقدّم صناعي وتطبيقات علمية وتحوّلات اجتماعية وسياسية من أن تختطّ لنفسها موقعاً لا يضاهى بالنسبة إلى الصين والهند فضلا عن إفريقيا. نجم عن ذلك مع العصر الحديث ظهور صدع ثقافي عميق في الأرضية "الأورو-أفرو-آسيوية" التي شهدت منذ القرون حالة توافق وترابط سمحت بحركة الأفكار وتواصل المعرفة وتأهيلِ ثقافات الإنسان القديم بعضها لبعض.

-3- كان ذلك الصدع الثقافي بالغ الأثر إنسانيا وأشبه بما يُعرف بالانجراف القارّي المعتَمَد لدى بعض علماء الأرض القائلين بانفصال قارّات المعمورة بعضها عن بعض تدريجاً بعد ما كانت متّصلة ومشكّلة كتلة واحدة.

ما أتاحه الانجراف الثقافي الحديث لأوروبا هو تنكّر شبه نهائي لما كان يعرف مثلا في القرون الوسطى بالتواصل المعرفي (Translatio-Studiorum)، والذي تمّ بفضله تبادل فكري وعلميّ لم ينقطع بين الشرق والغرب الأوروبي متيحاً لهذا الأخير جانبا مهماً من أسباب نهضته.

بهذه القطيعة اختلّ التوازن القديم الذي كان يرتكز على "ترسيمة" تتكامل فيها الأقسام الثلاثة المكوّنة للعالم القديم، من ثم ظهرت قراءة مُجتَزَأَة لتاريخ الغرب الأوروبي على أساس أنّه في تحديد هويته الثقافية-الحضارية لا يدين لأحد إلا للأصول اليونانية – الرومانية التي يضيف إليها البعضُ النسقَ اليهودي-المسيحي. بهذا التمشي الانتقائي أمكن لأوروبا أن تتعملق بينما تضاءل شأن الباقين، إِنْ لم يضمحل.

أخطر ما في هذا الانجراف الكبير تحرّفٌ في رؤية العالَم مكّن نخبا وشعوبا من أن تعتبر نفسها محوراً مركزياً للتاريخ والتقدّم فلا تقيم للآخرين وزناً على اعتبار أنّهم لم يكونوا - في أفضل الحالات - سوى بوادر هامشية لا أثر لها في الحراك الرئيس العام الذي ترى نفسها ممثِّــلة له وفاعلة فيه بجدارة.

في المستوى السياسي الاجتماعي، عرف التشكّل الأوروبي مع العصر الحديث تنامياً للنزعات القومية في غالب دوله. تمثّلت أبرز سمات هذا التوجه في إيلاء حماية الأرض القومية وقدسية حدودها الجغرافية أهميّة قصوى إلى جانب الحرص على تماثل عناصر مجتمع كل دولة بالتضييق على الأقليات والتشديد على ما يمكن أن يشجع الاختلاف والتعدّد.

-4- بذلك تميّزت سيرورة هويّة الغرب الأوروبي في العصر الحديث بحركتين متزامنتين: انفصال عن فضائه الثقافي القديم وإعلاء من شأن الشخصية القومية وتحصينها بشكل حادّ ممّا ولّد صراعات داخلية وأشعل نار نزاعات وحروب أوروبية مدمّرة.

بالعودة إلى العالم الإسلامي في القرن 12 هـ / 18م، لحظةَ ولوج الطباعة إليه، فإنّنا لا نكاد نقف على ما يدلّ على تقدير السلطة العثمانية طبيعة التحوّلات التي كانت تعتمل في أوروبا المجاورة. لم يكن في سياسة إسطنبول أو في خطابها ما يدلّ على استيعابها حاجة المسلمين إلى تواصل مع تطلّعات عالمه الثقافي القديم بجزئيه الآسيوي والإفريقي فضلاً عمّا كان يتحقّق في أوروبا التي توالت حركتها نحو النهضة. ظلت سياسة الإمبراطورية العثمانية توسعيّة غازية طوال القرن 10هـ /16م ثم دفاعية انكفائية في القرون الموالية. لذلك لم تغادر في الحالتين رؤيتها الوسيطة للعالَم في حين كان انجراف أوروبا عن مجموعتها الثقافية القديمة تدشيناً للعصر الحديث بتموقع جديد وتحولات اجتماعية سياسية هائلة. تلك هي المفارقة الكبرى التي عاشها جزآن متجاوران من العالم القديم، جزء ينفصل ليولد من جديد وجزء يتخشّب فيذوي نسيجه الثقافي ويتعطَّل.

ما يلفت النظر في الحداثة الأوروبية أنها وإنْ انطلقت من "قطيعة" ثقافية وفكرية، فإنها سرعان ما أدركت حاجتها إلى التمدد والتوسّع، ممّا دفع بها إلى العودة إلى عالمها القديم لكن من دون إرادة في رأب الصدع الثقافي. لقد كان المشروع الاستعماري الغربي في جانب منه تعبيراً عن استعادة لعلاقات الارتباط القديمة لكن في سياق هيمنة واستعباد. الأهمّ أنّ هذا الوضع لم يطل به الزمن، إذ تأكد الأوروبيون بصورة تدريجية أن الشعوب المستعمَرة في آسيا وإفريقيا، وإنْ خضعت إلى مشروعهم التوسّعي واستفادت منه جزئياً، فإنّها لم تكن منقادة إليه بالكامل. هذا الرفض للاستقالة التامة كان دالاّ على أن ذلك النسيج الثقافي القديم ما زال قائماً، رغم تعطله.

-5- أمّا العثمانيون فإنّهم - رغم جهود إصلاحية عديدة - كانوا في إعراض كامل عن أهمّ ما أثبته العصر الحديث. كان خطاب القيادة العثمانية إمبراطورياً كأنه يردد في ثقة ظاهر قول الشاعر العربي: "السيف أصدق أنباءً من الكتب" على الرغم من وضوح الأدلة على تداعي الإمبراطوريات. كان الخطاب وثوقياً وسياسياً بامتياز ولم تزده الأيام إلا صرامة لاعتقاده أن الأمجاد الماضية تكسبه مناعة وأنّ ما تراكم من ثروات هائلة وحضارة باهرة يعفيه من إدراك الدرس الأوروبي الحديث المثبت أهميّةَ "المراجعات الثقافية" في صياغة التاريخ من جهة وحتميةَ الانفتاح على الآخر وقبولَ ما يفرضه من إعادة البناء من جهة أخرى.

لقد استعادت الدولة العثمانية لقب الخلافة الإسلامية مع السلطان سليم الأول أوائل القرن 10هـ /16م لكنها لم تتجاوز في ذلك نوعاً من الترميز العقيم، إذ لم يولّد خطاباً جديداً يدلّ على تحوّل في رؤية الذات ورؤية الآخر.

كان الواقع الإمبراطوري الوسيط قد غشّى إمكانيةَ رؤية ما يحدث بجوار المسلمين في ظل القيادة العثمانية ثم استفحل الأمر عند حصول الانقلاب السياسي في القرن (13هـ/19م) مع جمعية "الاتحاد والترقّي" وحزب "تركيا الفتاة". كان هناك تحرّف آخر في رؤية العالَم وفي الربط بين الماضي والمستقبل ممّا أعجز العثمانيين ومن جاء بعدهم عن بناء مشروع للمسلمين يكونون فيه موصولين مع العالَم الحديث فاعلين فيه وليس في مواجهته أو في أعقابه.

-6- لقد ظهر شرخ في الذات الثقافية انطلق من تركيا ثم تعمّق في كامل العالم الإسلامي عبر تحديث قسري غير موصول بالتراث وبالمؤسسات التقليدية وغير ساعٍ لإعادة قراءة لحظات التأسيس الأولى وما اتصل بها من روابط تلك الذات بالعالم القديم.

تلك هي أهمّ الدلالات الثقافية لحادثة دخول المطبعة البلاد الإسلامية بتأخير كان مقداره ثلاثة قرون، تأخيرٍ ندرك إلى اليوم آثاره في وعي مفوَّت لا يتيح مصالحة المجتمع مع نفسه ومع عصره.

هي حادثة فارقة تساعد على تجاوز المعارك العرضية بتحديد طبيعة الإشكالية الحضارية في عالم المسلمين أو:

- كيف يمكن تجاوز المواقف الدفاعية التي تعتبر أن التراث المنجَز له كامل القدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة؟

- كيف يتأتّى تأهيل الثقافة الإسلامية في حين أننا نواصل الإعراض عن اعتبار الإسلام في لحظة التأسيس كان تواصلاً وقطيعة في آن واحد، تواصلا مع السمات الأساسية لقيم الإنسان وسيرورة التاريخ في العالم القديم وقطيعة أسست لرؤية جديدة للعالَم والحياة والمجتمع؟

حادثة المطبعة مع حوادث أخرى تكشف معضلة الانجراف الثقافي والتعطل الفكري لدى مسلمي اليوم بوجهيها: وجه الخصوصية التي لا معنى لها إنْ لم تُتَرجَم ضمن فاعلية في التاريخ ووجه العالمية التي تقتضي مراجعة جديّة لمقولة إن التغيير لا يكون إلاّ ذاتيا في مضمونه وأداته وأفقه لكونها لا تستبطن إلا عنفا مدمّرا وانهيارا لكل معاني المدنيّة.