من الكرامة إلى هوية وطنية متكاملة؛ قراءة في كتاب فرانسيس فوكوياما «الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الامتعاض»


فئة :  قراءات في كتب

من الكرامة إلى هوية وطنية متكاملة؛ قراءة في كتاب فرانسيس فوكوياما «الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الامتعاض»

من الكرامة إلى هوية وطنية متكاملة([1])

قراءة في كتاب فرانسيس فوكوياما «الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الامتعاض»([2])

صدر كتاب (الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الامتعاض) لفرانسيس فوكوياما في العام (2018م) بنيويورك، وقد أكد فوكوياما في تمهيده للكتاب أنه لم يكن ليؤلف هذا الكتاب لولا صعود دونالد ترامب للسلطة، وذلك لسببين رئيسين: أولاً، على المستوى الوطني، بدأت المؤسسات الأمريكية تضعف أمام مصالح المجموعات القوية، فكان صعود ترامب نتيجة منطقية وإسهاماً في الآن ذاته في إضعاف هذه المؤسسات. ثانياً، على المستوى الدولي، لاحظ المؤلف صعود الاتجاه القومي الشعبوي في عدد من الدول مثل تركيا وروسيا وهنغاريا وبولونيا والفلبين. وهكذا، قرر فوكوياما إصدار هذا الكتاب ليناقش التوجهات الجديدة التي يعرفها العالم فيما يخص الكرامة والهوية والقومية والدين والثقافة، واعتمد في مناقشته على مصطلحات يونانية تصف في رأيه بدقة ما يعرفه العالم اليوم وتجسد ضمناً الخصائص البشرية التي وإن عرفت تطوراً في الأنظمة السياسية عبر التاريخ فإنها لم تتغير في أحلامها وطموحاتها. علاوة على ذلك، اعتمد فوكوياما في مقاربته على فلاسفة غربيين مثل هيغل ونيتشه، مما أضفى على الكتاب عمقاً وتبصراً منح دراسته منظوراً جديداً في معالجة القضايا السياسية الراهنة. وآثر فوكوياما أن يشير قبل الشروع في دراسته إلى رفع الالتباس الذي شاب كتابه السابق الذي ترجم خطأ إلى اللغة العربية بعنوان (نهاية التاريخ) في حين كان المؤلف يقصد في الأصل الإنجليزي «هدف التاريخ» وليس نهايته، وعاب على النقاد عدم اهتمامهم بعلامة الاستفهام التي وردت في نهاية مقالته التي تحمل العنوان نفسه. جاء هذا التوضيح من قبل فوكوياما ليؤكد أن التاريخ الإنساني كان متجهاً نحو هدف معين يمنح الأفراد اعترافاً بكرامتهم واحترامهم في ظل النظام الليبرالي الذي على الرغم من تشجيعه لاقتصاد السوق والحرية لم يستطع صون كرامتهم.

اختار فوكوياما ثلاثة مصطلحات يونانية ترتبط فيما بينها في المعنى، وتثير انتباه الأنظمة السياسية إلى اهتمامات جديدة يفضلها المواطنون على كثير مما كان يُعتقد سابقاً شروطاً ضرورية لضمان الرفاه والسعادة. يرى المؤلف أن مصطلح "ثيموس (thymos)" هو الجزء الموجود في روح الفرد الذي يتوق إلى الاعتراف بالكرامة، بينما مصطلح "أيزوثاميا (isothymia)" هو مطلب أن يُحترم الفرد على قدم المساواة مع الآخرين. أما مصطلح "ميجالوثاميا (megalothymia)" فهو الرغبة في أن يُعترف بالفرد على أنه الأسمى. إذا كان المصطلحان الأولان يشتركان في كونهما يدلان على ضرورة وجود احترام متبادل، فميجالوثاميا تدفع بالمرء إلى الاستثناء والمغامرة، وكما أنها أنتجت عباقرة عبر التاريخ فقد ساهمت في إبراز طغاة مثل قيصر وهتلر وماوتسي تونغ. وُجدت ميجالوثاميا في كل المجتمعات البشرية ولا يمكن السيطرة عليها، ولكن يمكن توجيهها لتكون معتدلة أكثر. بعد هذا التعريف، شرع فوكوياما في إثارة القضايا السياسية في العالم وارتباطها بكرامة الأفراد، وتوقهم إلى الاعتراف باحترامهم قبل التأكيد على حقوقهم المادية أحياناً كثيرة.

القضية السياسية الأولى لها ارتباط وثيق بسياسة الكرامة. مع أن عدد الديموقراطيات الليبرالية ارتفع من (35) في سبعينيات القرن العشرين إلى أكثر من (110) في بداية القرن الواحد والعشرين فإن إشكالية التفاوت بقيت مطروحة في العديد من البلدان حيث تذهب فوائد النمو مباشرة إلى النخبة. وبسبب الأزمة المالية التي عرفها العالم في العام (2008م)، تضرر العديد من العمال العاديين وارتفعت نسبة البطالة، وبدأت سمعة الديموقراطية الليبرالية في الأفول. ليس غريباً إذاً في ظل هذه الأزمة أن يصعد دونالد ترامب إلى السلطة، ويصوت الشعب البريطاني لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوربي. ويجمع بين هذين الحدثين، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، التضييق على المهاجرين الذين اعتُبروا تهديداً خطيراً للهويات الثقافية لدى المواطنين الأمريكيين والبريطانيين. لذلك، يرى فوكوياما أنه في القرن الحادي والعشرين أصبحت مسألة الهوية تطرح نفسها بقوة، إذ لم تعد الأحزاب اليسارية تركز على المساواة الاقتصادية فحسب بل أيضاً، وبحدة، أصبحت تدافع عن مصالح العديد من المجموعات المهمشة مثل السود والنساء والمهاجرين. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأفراد لا تهمهم المصلحة المادية فقط أكثر مما يطمحون إلى اعتراف الحكومات بكرامتهم، من هنا تولدت ما أسماه فوكوياما بسياسة الامتعاض التي استغلها القادة السياسيون لأجل مصالح أحزابهم على اعتبار أن المجموعة التي تُذل في وطنها تبحث عاطفياً عن استرجاع كرامتها من خلال امتياز اقتصادي. وحتى على مستوى الدول نفسها، فإن روسيا والصين، مثلاً، تعتقدان أن لهما هوية لم يتم الاعتراف المناسب بها من قبل الدول الغربية العظمى، ومن ثم فإنهما يحسان بالامتعاض من سياسة هذه الدول العالمية. إن معنى الهوية، في رأي فوكوياما، متنوع، فهو يعتمد على الوطن، أو الدين، أو العرق، أو التوجه الجنسي، أو الجناسة.

وهكذا، يعتمد فوكوياما في كتابه على معنى دقيق للهوية يعد مهماً في السياسات المعاصرة. انبثقت الهوية في الوهلة الأولى من التمييز بين الذات الداخلية الحقيقية والعالم الخارجي المكون من القواعد والعادات الاجتماعية التي لا تعترف عادة بقيمة الذات الداخلية وكرامتها، ومع أن هذا التمييز قد وجد في التاريخ البشري كله، إلا أنه في العصر الحالي تطور إلى الإحساس بأن العالم الخارجي على خطأ، وأن الذات الداخلية لها قيمة وليست مطالبة بالخضوع لقواعد المجتمع، بل إن المجتمع هو الذي يجب أن يتغير. لذا، بدأت الذات الداخلية تسعى إلى الاعتراف، اعتراف الناس علانية بوجودها وقيمتها. فتطور معنى الهوية الحديث إلى سياسة الهوية التي تشمل «جزءاً كبيراً من الصراعات السياسية في العالم المعاصر، من الثورات الديموقراطية لحركات اجتماعية جديدة، من القومية والتوجه الإسلامي إلى السياسة في الحي الجامعي الأمريكي المعاصر» (18). يمكن القول، إذن، إن الأفراد لا يريدون الآن الأشياء التي هي خارجة عنهم مثل الأكل والشرب وسيارة فاخرة، بل إنهم يريدون أحكاماً من قبل آخرين على قيمتهم وما يقومون به: «لو يحصلون على ذلك الحكم الإيجابي، يحسون بالفخر، وإن لم يحصلوا عليه، يحسون إما بالغضب (عندما يظنون أنه تم الاستخفاف بهم) أو الخجل (عندما يدركون أنهم لم يرقوا إلى معايير الآخرين)» (24). بتعبير المصطلحات اليونانية التي حددها فوكوياما في بداية الكتاب، إن ظهور الديموقراطية الحديثة هي قصة تعويض ميجالوثاميا بأيزوثاميا، بمعنى أن المجتمعات الغربية بدأت تعترف بحقوق المهمشين وبمساواتهم، فاتسعت بذلك دائرة الأنظمة السياسية الغربية لتشمل حقوق الأفراد المتساوية.

كما أن فوكوياما ارتأى أن يخصص فصلاً للحديث عن الأسس التاريخية لمعنى الهوية في الفكر الغربي بالمعنى الدقيق الذي تمت الإشارة إليه أعلاه، أي بمعنى علاقة الذات الداخلية بالعالم الخارجي. في الماضي البعيد كان الفرد لا يطرح السؤال «من أنا؟» لأنه كان يعيش وسط مجتمع صغير يشترك أفراده في إحساس بالجماعة وحب الاستقرار. تولدت فكرة الهوية إبان الإصلاح الديني مع مارتن لوثر الذي قرر البحث في دواخله الذاتية عن مكامن الآثام، ليس في علاقته مع المجموعة الدينية التي كان ينتمي إليها ولكن في علاقته مع خالقه. فشجع بذلك على أهمية الانطلاق من الإصلاح الفردي للذات الداخلية دون أدنى اعتبار لتعاليم الكنيسة التي كانت تغيب الإحساس الداخلي للفرد على حساب الامتثال للجماعة. لما جاء جان جاك روسو في أواخر القرن الثامن عشر حافظ على الثنائية نفسها، أي الذات الداخلية والمجتمع، بعد أن جردها من بعدها الديني المسيحي. فأكد أن الفرد كان في حالة الطبيعة يملك ذاتاً داخلية طيبة وليست مذنبة، ولكن مع سقوطه في المجتمع الذي يشجع الملكية الخاصة ومقارنة الآخرين وتقويمهم تربى لديه نوع من الكبرياء والتعاسة. وكما عبر عن ذلك تشارلز تايلور، الذي استشهد به فوكوياما، «هذا جزء من المنعطف الذاتي الضخم للثقافة الحديثة، شكل جديد من الجوهر، أصبحنا نعتبر فيه أنفسنا كائنات بأعماق داخلية» (35).

وهكذا، أصبح مفهوم الهوية الحديث يوحد بين ثلاث خصائص: أولاً، الثيموس الذي هو خصيصة كونية في شخصية الإنسان تسعى إلى الاعتراف. ثانياً، التمييز بين الذات الداخلية والمجتمع وإعطاء قيمة للذات الداخلية. ثالثاً، تطور خصيصة الكرامة التي أصبحت تعم جميع البشر وليس فقط مجموعة مميزة من الناس. من هنا يمر فوكوياما إلى العالم العربي ليفسر ما حدث فيه من ثورات، سماها أغلب المحللين بالربيع العربي، بينما فضل فوكوياما وسمها بثورات الكرامة لأنه يعتقد جازماً أن الإحساس بالذل والامتعاض يشكل دافعا ًيتقاسمه كل ثوار الربيع العربي. ما حدث للبوعزيزي بتونس كان مؤشراً على طريقة الحكومة في تجاهل معاناة كائن بشري بعد حرمانه من مصدر عيشه دون تفسير أو تبرير. وكان كذلك مؤشراً على أن الحكومات السلطوية تتعامل مع المواطنين كأطفال أو رعايا يستغلهم اقتصادياً وسياسياً رجال السياسة الفاسدون، في حين، كان يجب، في رأي فوكوياما، أن يعاملوا ويُعترف بهم، كبالغين قادرين على القيام بخيارات سياسية.

من جهة أخرى، يرى فوكوياما أن الثورة الفرنسية أطلقت العنان لاتجاهين في سياسة الهوية عبر العالم: اتجاه يطالب بالاعتراف بكرامة الأفراد، واتجاه يطالب بالاعتراف بكرامة الجماعات. فيما يخص الاتجاه الأول، حاولت دراسات عديدة، فلسفية وفكرية، تحديد معنى الحرية الفردية واستقلالية الفرد في اتخاذ قرارات أخلاقية. فتبنى بعضهم ما أصبح يُعرف بالنزعة الفردية التعبيرية وحرية الاختيار في علاقتهما بمبادئ وقواعد المجتمع، وطرحت أسئلة عديدة، منها «ما هو نطاق تلك الاختيارات؟ هل الاختيار مقيد بقبول أو رفض مجموعة من القواعد الأخلاقية التي أرساها المجتمع المحيط، أو أن الاستقلالية الحقة تشمل القدرة على صنع تلك القواعد كذلك؟» (51). لقد تبين، مع ذلك، أن الفرد اجتماعي بطبعه ولا يمكنه تحقيق استقلالية مطلقة عن الآخرين. لذلك، يرى فوكوياما أن هذا المعطى كان سبباً في تأسيس الاتجاه الثاني الذي هو الاعتراف بكرامة الجماعات. فانضم أفراد تجمعهم قواسم مشتركة تبلورت في جماعات قومية أو دينية أو عرقية. وقد خصص فوكوياما في هذا السياق فصلاً خاصاً بالإسلاميين بعد أن بين بأن انعدام احترام مجموعة ما أو تهميشها يؤدي إما إلى القومية أو التدين. وهكذا اعتبر الإسلاميون موقف الولايات المتحدة وإسرائيل خصوصاً والدول الغربية عموماً تجاه القضية الفلسطينية أو الإسلام دافعاً للحركات الإسلامية كي تؤكد هويتها الدينية ووجودها الفعلي سواء في الساحة الدولية أو الوطنية عن طريق اللباس أو أنشطة أخرى تنم عن منعطف ثقافي ملحوظ. وهذه الحركات الإسلامية، في رأي فوكوياما، لا تختلف عن الحركات القومية لأنها «تطلب الاعتراف بالكرامة بطرق مقيدة: ليس لكل الكائنات البشرية، ولكن لأعضاء مجموعة قومية أو دينية خاصة» (65).

إلا أن الاتجاه القومي قد يتجاوز المجموعة ليشمل وطناً بأكلمه. وهذا ما أشار إليه فوكوياما في حديثه عن التغيرات المعاصرة في بعض الأنظمة السياسية. هناك عدد من القادة القوميين في عصرنا الحالي أكدوا على السيادة والتقاليد القومية لصالح شعوبهم. ذكر فوكوياما في هذا السياق كلاً من فلاديمر بوتين بروسيا، وأردوغان بتركيا، وأوربان بهنغاريا، وكازينسكي ببولونيا، ودونالد ترامب بالولايات المتحدة، دون استثناء حركة بريكسيت في المملكة المتحدة. إن كانت هذه الأخيرة لا يقودها قومي النزعة، فإنها بقرار انسحابها من الاتحاد الأوربي تريد تأكيد سيادتها القومية.

إذن، في الجمع بين الاتجاهين (اتجاه الاعتراف بكرامة الفرد وكرامة الجماعات) يوحي فوكوياما بأن الإحساس بالهوية الوطنية يتقوى ويتم من ثم دمقرطة الكرامة، أي تعطى لكل فرد أو جماعة الاحترام الضروري وتصان كرامة الجميع. بهذا الشكل تصبح للهوية الوطنية خصائص إيجابية شتى. أولاً، الهوية الوطنية القوية دافع أساس للتنمية والتطور. في ذكره لليابان وكوريا والصين أمثلة للهوية الوطنية القوية لاحظ فوكوياما أن هذه البلدان أسست للهوية الداخلية المبنية على تقاليد الدولة والهدف الوطني الموحد قبل أن تنفتح على العالم. ثانياً، يمكن تجسيد الهوية الوطنية في القوانين والمؤسسات الرسمية. في النظام التربوي يجب أن يدرس التلاميذ ماضي البلاد، ثقافتها وقيمها من خلال القصص والذكريات وما يُتطلب من المواطن كي يصبح عضواً حقيقياً في الجماعة. ثالثاً، الهوية الوطنية تكاملية بطبيعتها في ظل التعددية التي تعرفها المجتمعات البشرية، لذلك لا يجب أن تكون الهوية الوطنية إقصائية أو ضيقة، أي أنها تفضل عرقاً أو جماعة أو لوناً على حساب مواطنين آخرين.

ما هي وظائف الهوية الوطنية التكاملية؟ أولاً، وجودها يوفر الأمن الجسدي، وهو ما أسماه فوكوياما كذلك بالرأسمال الاجتماعي، أي القدرة على التعاون مع الآخرين على أساس القيم الوطنية المشتركة. ثانياً، وجودها مهم لحكومة جيدة، تمتلك خدمات عمومية فعالة ومستويات منخفضة من الفساد. ثالثاً، تسهل النمو الاقتصادي: «إذا لم يفتخر الناس ببلدهم، لن يعملوا لصالحها» (108). رابعاً، توسع الهوية الوطنية من دائرة الثقة في البلد فيما يخص التبادل الاقتصادي والمشاركة السياسية. خامساً، تحافظ الهوية الوطنية على شبكات اجتماعية أمنية قوية التي تخفف من حدة التفاوت الاقتصادي، ومن ثم تعزز التكافل والتضامن بين جميع فئات المجتمع. سادساً، وأخيراً، تجعل الهوية الوطنية تحقيق الديموقراطية الليبرالية أمراً ممكناً، ويعرف فوكوياما الديموقراطية الليبرالية بكونها «عقداً ضمنياً بين المواطنين وحكومتهم، وبين المواطنين أنفسهم، الذي بموجبه يتخلوا عن بعض الحقوق لكي تحمي الحكومة حقوقاً أخرى أهم وأساسية أكثر» (109). وتبنى الهوية الوطنية على شرعية هذا العقد، في رأي فوكوياما.

من هنا نستنتج أن فوكوياما يعد الهوية الوطنية والكرامة والديموقراطية لصيقة في نجاحها بالنظام الليبرالي الذي يؤمن بالانفتاح والتكامل والاختلاف، ولكنه في الفصل الأخير من كتابه، المعنون (ما العمل؟)، لم يقترح حلولاً عملية لإنجاح هذا النظام في العالم بأسره، بل ركز أساساً على طرق حل مشاكل الهجرة بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي. وإن كان فوكوياما إيجابياً في اقتراحاته لحل أزمة الهجرة بالسماح للمهاجرين في حدود الإمكانيات المتاحة بالانخراط في الديموقراطية الليبرالية لهذه البلدان الغربية، فإنه ترك العديد من الأسئلة معلقة، منها، مثلاً، هل النظام الليبرالي هو الحل الأمثل لمشاكل الهجرة بالدول الغربية؟ هل سياسة الإدماج التي نصح بها الأنظمة الغربية لن تتطور في النهاية وبعد عقود من الزمن إلى الانصهار وفقدان الانتماء إلى الأصل؟ هل من الضروري أن تتبع الأنظمة الأخرى النمط الأمريكي في جعل الثقافة رائدة عوضاً عن العرق أو الدين أو الميول الجنسي أو الانتماء السياسي؟ لماذا اعتمد فوكوياما الأصل الإغريقي في التأصيل لثيموس وأيزوثاميا وميجالوثاميا؟ هل هذا يعني، وهذا ليس غريباً على العديد من المفكرين الغربيين، أن الفكر العالمي بأسره، بما في ذلك الفكر العربي الإسلامي، انطلق من أصول إغريقية؟

مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الأسئلة التي هي عبارة أيضاً عن ملاحظات ضمنية على بعض ما أغفله فوكوياما في دراسته، فإن كتاب (الهوية) غني بأسئلة فكرية وسياسية مثيرة للنقاش. ولا شك في أن القارئ العربي سيجد فيه من القضايا ما يجعله يحدد موقع الثقافة السياسية العربية بخصوص الهوية الحديثة أو الهوية الوطنية، فينخرط في نقاش ساخن وبناء.

إن طريقة فوكوياما في النقاش تعتمد المنطق والحجج الملموسة، ما يجعل دراسته لمسألتي الهوية والكرامة مقنعة، كما أنها دراسة جديدة، إذ تقدم منظوراً مختلفاً عما يحدث بالأنظمة السياسية في العالم، وعما حدث في بعض المجتمعات العربية الإسلامية، مثلاً، جراء ما يعرف بالربيع العربي. وبغض النظر عن إيديولوجية المؤلف بشأن فعالية الديموقراطية الليبرالية، فإن الكتاب يدعو المجتمعات البشرية بأسرها إلى تعزيز التعايش وقبول الاختلاف سواء داخل الوطن الواحد أو خارجه، سواء بين الجماعات المختلفة أو بين الدول، خاصة وأن العولمة والتطور التكنولوجي جعلا من العالم قرية صغيرة لا يمكنها أن تستمر إلا بالأمن والاحترام المتبادل والاعتراف بكرامة الهويات المحجوبة، على حد تعبير فرانسيس فوكوياما.

  


[1] نشر هذا المقال في مجلة ألباب الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14

[2] Francis Fukuyama, Identity: the demand for dignity and the politics of resentment, Farrar, straus and Geroux, New York, 2018.