من وصلته "رسالة الغفران"؟ (الجزء الأول) سردية المؤمن الحزين


فئة :  مقالات

من وصلته "رسالة الغفران"؟ (الجزء الأول) سردية المؤمن الحزين

 من وصلته "رسالة الغفران"؟ (الجزء الأول)

سردية المؤمن الحزين


ماذا لو كان كلّ ما نكتبه هو مجرّد رسائل إلى سكّان المستقبل؟ إذْ ربما صار علينا أن نسأل: ماذا تبقّى كي نقوله للمعاصرين حول عالمهم؟ إنّ الحياة أو الكينونة في العالم بمجرّدها، في عريها البذيء، هي أقصى وأكمل رسالة يمكن أن نبعث بها إلى شخص ما في عصر ما. إنّ كونك أنت نفسك وليس شيئا آخر هو واقعة لا تعادلها كلّ دروس الأرض. - ما عدا ذلك، لن يكون للسؤال عن الخلود في الأدب أو في الفكر أيّ معنى يُذكر؛ نحن مجرّد مراسلين لمن لم يولدوا بعدُ. وبهذا المعنى تحديدا، يجدر بنا أن نقرأ رسائل السابقين على العصور الحديثة، من أبيقور إلى القدّيس بولس، ومن أغسطينوس إلى المعرّي، - بوصفها لم تُكتب لأهل ذلك الزمان، بل هي مشفّرة من أجل قرّاء المستقبل؟

بهذا المعنى، علينا أن نسأل دون مجاز كثير: من قرأ هذه الرسائل باعتبارها موجّهة إليه خصّيصا؟ من وصلته، مثلا، "رسالة الغفران"[1]، بوصفها كُتبت له من طرف مؤلّف أعمى توفّي سنة 1057 م؟ إنّ هذه الرسالة مثلا هي بمثابة وثيقة نهائيّة تضع كلّ مصادر أنفسنا القديمة موضع سؤال. وليس ذلك بمجرّد الردّة إلى دين آخر أو الإلحاد الأخلاقي أو الدحض المنطقي، - بل فقط بالتهكّم السردي من الداخل. التهكّم هو القدرة على رسم مساحة الضحك المستحيل إزاء مقدّس ما. والأدب هو فنّ المستحيل بمجرّده، وهو يختلف عن الفلسفة في كونه لا يخون ألمه من أجل أيّ نوع من الحقيقة.

لم يكن المعرّي مجرّد أديب آخر؛ إنّه الحالة الأدبيّة القصوى التي كانت ممكنة في أفق العصور الوسطى الإبراهيمية في آخر عهدها. ولذلك، كانت "رسالة الغفران" رسالة إلى آخر التوحيديين في جميع ديانات الكتاب. وبهذا المعنى، هي لابدّ أنّها عبرت سماء دانتي نحو "الكوميديا الإلهية"، إلاّ أنّ طرافتها الخاصة هي كونها تستعمل الأدب، لكنّها لا تسكنه أو لا يحيط بها. ولابدّ هنا أن نستحضر السياق الذي كُتبت فيه: إنّها رسالة على رسالة، ولكن دون أن تكون ردّا بالمعنى الدقيق.

لم يكن المعرّي مجرّد أديب آخر؛ إنّه الحالة الأدبيّة القصوى التي كانت ممكنة في أفق العصور الوسطى الإبراهيمية في آخر عهدها.

يذكر المؤرّخون أنّها جواب عن رسالة أديب معاصر للمعرّي يُدعى ابن القارح، على أنّ هذا الاسم ربّما كان لقبا سرديّا. أمّا اسمه الحقيقي، فهو علي ابن منصور الحلبي، والذي لا نملك من خبر عن تاريخ وفاته سوى أنّه قد مات بعد سنة 424 هـ /1033 م، السنة التي نعلم أنّ المعرّي قد أملى فيها "رسالة الغفران"؛ ولأنّها رسالة تمثّل إجابة عن رسالة ابن القارح، فقد تحوّلت فجأة إلى وثيقة حاسمة على تاريخ وفاته. لا أحد من الكتّاب يعلم لأيّ سبب سوف تضطرّ الإنسانية لتذكّره؛ فبعض العقول الفذّة قد تتحوّل لاحقا إلى جملة وربما إلى أقلّ من ذلك، لكنّ ذلك لن يمنعها من البقاء طويلا في ذاكرة اللغة.

كانت رسالة ابن القارح ضربا غريبا من أدب السيرة، وإن كانت سيرة المؤمن الحزين، ذاك الذي لا يكفّ عن شكوى أو ذمّ الدنيا، لكنّه يجد عزاءه الغامض في التجديف على الملحدين، لا يحرّكه حسب تعبير ابن القارح سوى "حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد" (ص22). كلّ سرديّة المؤمن الحزين مركوزة هنا: ما يسمّيه الإيمان هو في نواته "حنين" إلى مجال التعالي، حيث يمكن لما يسمّيه "نفسه" (أي "أنفس" ما في وجوده من العناصر) أن تبيع "الحمد" (البشري) مقابل "المجد" (الإلهي). كلّ إيمان هو حنين إلى مقايضة من نوع متعال، حيث يبيع الناس "نفوسهم" (أي يحوّلون لغتهم إلى سرديات محمّديّة)؛ وذلك مقابل ضرب ما من "المجد" (أي من الرضا الملكي حول مصيرهم).

لم يكن ابن القارح غير البطل الأخير في ثقافة المؤمن الحزين تحت سقف الملّة، حيث يتمّ خلط سيرة الأديب بسيرة المؤمن في بلاد مخيَّلة لا تراه. يصبو المؤمن إلى وطن من نوعه، لكنّه لا يعثر إلاّ على مدن تعبد نفسها. قال:

"إذا زرت أرضًا بعد طول اجتنابها --- فقدت حبيباً والبلاد كما هيا" (ص25)

سردية المؤمن وسردية الغريب تتساوقان ونواة الرحلة هي نفسها في الحالتين: أنّ "البلاد كما هي". يعني: أنّها لا ترى من يحبّها. ولذلك، فإنّ المؤمن مثل الغريب ليس له من ثروة غير اللغة. كلّما تقلّصت إمكانية المدينة في جسد ما، توسّعت إمكانية اللغة، وتحوّل الناس إلى منشدين، حيث ينقلب الكلام إلى حرفة كئيبة تقوم على تبادل الرسائل الأخيرة. ولذلك، لم يكن ابن القارح (الملقّب باسم "دَوْخلة"، أي الخوص المثقّبة حيث لا يبقى فيها شيء) يحمل معه من هديّة إلى المعري، وهو يأمل في لقائه سوى رسالة "استودعه" إياها "كاتب حضرة نصر الدولة" (ص26) لكنّها سُرقت. يبدو الأديب مجرّد خيط واهن يحمل رسالة مسروقة من الدولة إلى أديب آخر.

قال: "استودعنيها، وسألني إيصالها إلى جليل حضرته، وأكون نافثها لا باعثها، ومعجّلها لا مؤجّلها. فسرق عديلي رحلاً لي، الرسالة فيه، فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شقوري...وما لقيت في سفري من أقوامٍ يدّعون العلم والأدب، والأدب أدب النفس لا أدب الدرس". (ص.ص 26-27)

لا يحمل الأديب غير رسالة مسروقة إلى أديب آخر. فيضطرّ إلى كتابة رسالة أخرى، حتى يستمرّ الأدب في إنتاج إمكانيته الخاصة، وأوّل إمكانية للأدب هو الشكوى من الأدباء المزيّفين. الأدب المزيّف هو مجرّد ركام من "التصحيفات" (ص27) على أدب آخر يعتّم عليه. رسالة ابن القارح إذن رسالة على رسالة أخرى سابقة قد سُرقت. وعلى خلاف "الرسالة المسروقة"، لإدغار ألان بو، فإنّ ابن القارح لن يبحث عن الرسالة الملكيّة، ولن يعوّل على أيّ منطق للعثور عليها. هي رسالة ضياعها هو الوصف الوحيد لها. إنّها، على خلاف رسالة لاكان، رسالة تغيّر من قدرها في كل مرة. وبعبارة دريدا، إنّ قدرها ليس التكرار مثل لاوعي من الظلال، بل الانتشار. هي لن تعود أبدا إلى نقطة البداية.

ولذلك، ما حاوله ابن القارح هو تعويض كاتب الرسالة الذي استودعه إياها "كاتب حضرة نصر الدولة" بكاتب آخر. هناك دوما كاتب ما يختفي تحت الدولة أو في ظلّها، وهو يكتب رسائل يحملها الأدباء إلى الأدباء. ولأنّها رسائل معرّضة للسرقة، فإنّ "الأدباء" يتحوّلون إلى "كتّاب" مهمّتهم هي تعويض الكاتب المسروق. الدولة كاتب مسروق، ولذلك تضطرّ دوما إلى تكليف كتّاب آخرين بكتابة رسائل جديدة. وهكذا حين التقى ابن القارح بكاتب الدولة مرّة أخرى في مدينة أخرى كتب له رسالة جديدة. لكنّ ابن القارح لم يكن يريد أن يكون "كاتب دولة" بل كاتب "نفسه". ولذلك، تحوّلت الرسالة من بين يديه إلى عنوان آخر هو قول المتنبي: "أذمّ إلى هذا الزمان أُهَيْله". وأوّل مذموم بدأ به هو المتنبّي نفسه، إذْ "لا يجب أن يشكو عاقلا ناطقا إلى غير عاقل ولا ناطق". (ص29)

إنّ نقد المتنبي ينطوي هنا على دلالة خاصة: ليس فقط لأنّ ذمّ الزمان هو بمثابة تراجع عن أكبر مكسب أخلاقي للدين الإبراهيمي (نعني قرار "تكريم" الإنسان برتبة وجودية تعلو به عن الحيوان) بل لأنّ المتنبّي قد كسر الحاجز الأخلاقي عن "النبي"، مجيبا علي بن عيسى الوزير، إذ "قال له: أنت أحمد المتنبي؟ فقال: أنا أحمد النبي. وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه وقال: هذا طابع نبوّتي وعلامة رسالتي" (نفسه).

المؤمن الحزين يغتاظ من أيّ ادّعاء للنبوّة. وليس ذلك لأنّه يحبّ الورعين، بل لأنّه لا يؤمن بنفسه. ومن ثمّ، فإنّ المؤمن الحزين ليس متديّنا بالضرورة، بل قد يكون أيّا كان هو "فلان" بلا ملامح، وليس له من أصالة خاصة سوى التخرّص على الملحدين. وهذا هو منبت تهمة الزندقة: الزنديق هو في ظنّه كلّ من آمن بنفسه إلى حدّ النبوّة. كان المتنبي نموذجا وليس مجرّد شاعر، هو النموذج الروحي لكل المتمردين على سردية المؤمن الحزين التي ينخرط فيها الأديب الفاشل، حتى يواصل الانتماء إلى سردية الملّة تحت خوف مرعب من تهمة الإلحاد. لم يكن نقد المتنبي إذن شعريّا، بل كان من مستوى آخر. قال ابن القارح: "وهذا غير قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته. ولكني أغتاظ على الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين، ...ويستعذبون القدح في نبوة النبيين" (ص30). كل المشكل هو في وجه اللقاء بين سلطة الشعر وسلطة النبوة: يريد المؤمن الحزين أن يظلّ الشعر خارج مجال التعالي؛ وذلك لأنّه ما من طريقة أخرى كي يظل الانتماء إلى الملّة ممكنا. والحال أنّ الشعر هو في جوهره خروج عن الملة إلى الأدب؛ أي تدرّب مفتوح على النبوّة الخاصة بوصفها تجريباً على الذات يقع خارج سلطة الأديان.

كلّ مؤمن حزين يخفي تحت كمّه رسالة سوف يكتبها ابن قارح جديد يظهر في كل عصر: رسالة تذمّ الزمان، لكنّها لا تجد العزاء إلاّ في التجديف على الملحدين. علينا أن نفكّر بهذه العلاقة الخفيّة بين الزندقة والعزاء: إنّ ما يزعج المؤمن الحزين ليس الإلحاد، بل نجاح الملحدين في التمتّع بإلحادهم. قال: "ويتظرّفون ويبتدئون إعجاباً بذلك المذهب:

*تيهُ مغنٍّ وظُرفُ زنديقِ*" (ص30)

هذا المقطع من بيت لأبي نواس يكشف عن طبيعة أخرى للمشكلة التي يثيرها المؤمن الحزين: ما يؤلم في أقوال الملحدين هو أنّهم جعلوا من الزندقة سيرة سعيدة، ومن ثمّ يشدّد ابن القارح على أنّ حبس المتنبي أو قتل بشّار هو قصاص مناسب، ولابدّ من الاحتفاء به على نحو يحوّل الشماتة إلى الشكل الوحيد من سعادة المؤمن. قال: "وأخذ غفلتَه السيّاف، فإذا رأسَه يَتَدَهْدَأُ على النطع" (ص31). هذا قول شاعر عن شاعر آخر. إنّ ما يفصل بينهما هو سرديّة الملّة، تلك التي تجعل الأدب بمجرّده تهمة. وعلينا أن نرى كيف أنّ الخوض في حديث الزنادقة هو بحدّ ذاته قد انقلب إلى متعة أدبيّة قائمة برأسها، وهو ما جعل رسالة ابن القارح بمثابة توثيق مقلوب لتجارب الإلحاد في نطاق الملة يلعب فيها البطل أو الكاتب دور المؤمن الحزين، إلاّ أنّ تصفّح قصص الملحدين سرعان ما يكتشف أنّ لبّ التهمة في كل مرة هو التجرّؤ على منافسة المقدّس على مجال التعالي. لا يتعلق المقدّس بالألوهية فقط؛ إذْ إلى جانب المقدّس العمودي (الله) هناك أيضا مقدّس أفقي لا يقلّ خطورة وإرعاباً عن الأوّل: إنّه الجنس.

قال: "والصناديقي، في اليمن، ..خوطِب بربّ العزّة، وكوتِب بها، فكانت له دارُ إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلّها ويُدخل علهنّ ليلا. قال من يوثق بخبره: دخلت إليها لأنظر، فسمعت امرأة تقول: يا بنيّ! قال: يا أمّهْ، نريد أن نمضي أمرَ وليّ الله فينا! وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميّز مالٌ من مال ولا ولدٌ من ولد، فتكونوا كنفس واحدة" (ص32)

إنّ المثير هنا هو أنّ الإلحاد ليس له من رهان آخر غير الاستيلاء على آلة المقدّس واستعمالها، وليس زهدا في نجاعتها. لكنّ الصادم هو أنّ مساحة الله في ثقافة الملّة هي تتسع للجميع مؤمنين وغير مؤمنين: ما كان يريد الزنديق غير افتكاك خطاب العزّة وتملّكه بوسائل إنجازية: إذ لا تعني حقيقة المعبود غير القوة الإنجازية للخطاب الذي توجّهه للمؤمنين بها. قال: "خوطب برّب العزّة وكوتب بها". المخاطبة والمكاتبة هي المقوّمات التداولية للحقيقة، وهو ما كان يريد الصناديقي الاستيلاء عليه. ولأنّ الجنس يؤدّي في كل السرديات الدينية دورا محوريّا من جهة كونه يبقى دوماً الشكل الوحيد لحفظ النوع البشري بوسائل بشرية، - فإنّ استعمال النساء يتحوّل إلى تقنية بيوسياسيّة لتوحيد المال والنسل والنفس. مال واحد ونسل واحد ونفس واحدة، - ثلاث خطوات بيوسياسيّة للاستيلاء على مجال التعالي وتحويله إلى تقنية سلطة.

لكنّ السلطة لا تمثّل سوى جزء فقط من مساحة الإلحاد التي يجدّف عليها المؤمن الحزين، وهي تشمل كلّ سرديات التمرّد على سيرة المؤمن الذي تقبّل الدين بوصفه طاعة محضة حسب نموذج الملك الذي تأسست عليها دول الشرق الأوسط القديم. وكما تختلط ثلاثيّة الله/الملك/الأب التي تشدّ سرديات الإبراهيميين، كذلك تختلط مواقف الإلحاد مع أشكال التمرّد السياسي على كلّ سلطة عموديّة. لا يتعلق الأمر بالتمرّد على الحاكم بعامة بل على الطابع العمودي للسلطة في سرديات الدين التوحيدي. ولذلك، فإنّ التمرّد يمكن أن يقوم به خليفة المسلمين نفسه.

قال: "والوليد ابن يزيد أقام في الملك سنةً وشهرين وأياما، وهو القائل:

*إذا متّ يا أمّ الحُنيْكِل فانكحي--- ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا*

* فإنّ الذي حُدّثتِه من لقائنا---أحاديثُ طَسْمٍ تترك العقلَ واهيا! *

ورمى المصحف بالنشّاب وخرقه وقال:

*إذا ما جئتَ ربّك يومَ حشرٍ--- فقل: يا ربّ خرّقني الوليدُ*" (ص33)

ثلاثة عناصر سردية تعود في خطاب الإلحاد: المرأة والعقل والقرآن. الإلحاد هو توديع المرأة بلا رجعة، إذ طالما يكون هناك مؤنّث، فإنّه سوف يكون هناك عالم. ولذلك، فإنّ استحالة اللقاء مع المرأة بعد الموت هو إعلان الحداد الوجودي على العالم كما نعرفه. الإلحاد ليس تهمة وثنية بالرذيلة، بل هو قرار يقضي بتعليق الأمل في اللقاء بالمرأة بعد الموت، وهو قرار مؤلم وليس فخرا لأيّ حيوان مائت. ومصدر الألم هنا ليس علة البدن، بل "وهْيُ" العقل (الوَهْيُ هو الحمق والوهن والسقوط) من "الطواسيم" (طواسين الحلاج). يُقال: "أحديث طَسْم" لما لا أصل له. وطسم إحدى قبائل العرب البائدة أو اسم لصنم قديم. تظهر سرديّة الآخرة هنا في مظهر "أحاديث طسم تترك العقل واهيا". والمثير هو حرص الزنديق على عقله. وذلك على عكس المؤمن الحزين الذي لا يقيم لعقله اعتبارا كبيرا. لكنّ الإلحاد لا يعني أكثر من تعليق الآخرة في عقله. فهو لا يملك أيّ يقين أو أيّ ادّعاء صلاحية يسمح له بتكذيب الطواسيم. أمّا ضرب المصحف بالنشّاب، فهو مجرّد سخرية من الحواس. وحده "المصحف" (أي الجسم المرئيّ) يوجد في متناول الحواس. أمّا القرآن (مجال الوحي) فهو شأن آخر. وأن يقوم بذلك الخليفة نفسه، فهذا يرقى إلى مستوى المفارقة: إنّ خليفة المؤمنين يرمي المصحف بالنشّاب ويخرقه لسبب لا يتعلق بالإيمان بمجرّده، بل لسبب آخر. وهو سبب غير ديني أصلا. فإنّ ما يدفع على الزندقة هنا ليس عدم الإيمان بل الحداد الشعري المرعب على استحالة اللقاء. إنّ ما يؤلم الشعراء هو أنّه لا لقاء بعد الموت، أو هكذا يشعر الحيوان "الذي يسكن الأرض شعرا". وضرب المصحف بالنشّاب كان في خاصّة نفسه عملا شعريّا وليس موقفا وثنيّا، هو تقنية حداد وليس ثأرا لاهوتيّا من أحد.

ثمّ تأتي سرديات الخمر كي تمنح تجارب معاندة المقدّس بواسطة الحواس دورا علاجيّا أخيرا يحوّلها إلى تقنية حداد نموذجية يستعملها الملحدون بوصفها معركة المرئيّ والمتناهي ضدّ اللاّمرئي واللامتناهي بواسطة الحواس. والمثال الذي يدفع بتجربة الخمر كتقنية حداد كوني إلى أجلى أدوارها هو عزم الخليفة الوليد ابن يزيد على أن "يُنفذ إلى مكّة بنّاءً مجوسيّا ليبني له على الكعبة مشربة، فمات قبل تمام ذلك" (ص33). بناء مشربة خمر فوق كعبة مكّة هو أقصى محاولة استيلاء على مجال التعالي بواسطة الحواس. أمّا "موت" البنّاء المجوسي قبل إتمام رغبة الوليد، فهو يعني أنّ الخمر لا يمكن أن تنتصر على التناهي وأنّ مجال المقدّس يظلّ خارج متناول الفانين.

ولم يكن الجنّابيّ القرمطي مختلفا عن الوليد في استعمال الحواس ضدّ اللاّمرئيّ: فقد استعمل "القتل" / "قتل بمكّة ألوفا" (نفسه)/ و"الجنس" / "استملك من النساء والغلمان" (نفسه)/ و"التجديف" /"أخذ حجر الملتزَم وظنّ أنّها مغناطيس القلوب" وأمر بأن يتمّ قلع "ميزاب الكعبة" (نفسه).. وهي كلّها أدوات بيو-سياسية للسيطرة على مجال المقدّس بوصفه جهازا روحيّا مرئيّا وافتكاكه كما هو دون تغيير من صاحبه الأصلي وهو يسمّيه "محمّد المكّي"/ قال: "ورأيت رجلا منهم قد قتل جماعة وهو يقول: يا كلاب، أليس قال لكم محمّد المكّيّ: 'ومن دخله كان آمنا'؟ أيّ أمن هذا؟". لم يكن الملحدون يطمحون إلى شيء آخر غير تملّك المقدّس واستعماله. ولذلك، كانوا يعاملونه بوصفه جهازاً مرئيّا يمكن السيطرة عليه أو افتكاكه، وليس بوصفه تجربة وحي لا تتكرّر.

أمّا أقصى تجربة يذكرها ابن القارح، فهي تألّه الحلاّج. قال: "وكان متهوّرا جسورا يروم إقلاب الدول ويدّعي فيه أصحابُه الإلهيّةَ، ويقول بالحلول، ويُظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدّعي أنّ الإلهيّة قد حلّت فيه." (ص36). علينا أن نرى هنا إلى أنّ هذا الوصف لشخصية الحلاّج هو صادر عن مؤمن حزين حوّل شكوى الزمان إلى تخرّص على الملحدين. وهذا الأسلوب هو تقنية عزاء للمؤمن الذي يشعر أنّ ملّته لا تؤمن به. في حقيقة الأمر، لم يكن الحلاّج يريد أقلّ من تجربة التألّه التي تجاوز فيها مرتبة النبيّ. وهذا الموقف هو أقصى حالة تمرّد في أفق الملّة: الاستيلاء على منصب الألوهية الذي بدأ يظهر شاغرا. وليس ثمّة معنى آخر لظهور رهط غريب ومتحرّر من الشعراء المتألّهين الذي حوّلوا الشعر العربي إلى ظاهرة غير مسبوقة: ظاهرة "التصوّف". كان تصوّف الحلاّج أقصى تجريب ممكن في أفق الملة للاستيلاء على منصب الألوهية بوصفه منصبا بقي شاغرا في مستوى البشر بعد انسحاب الأنبياء. كان وجود الأنبياء بمثابة حاجز أخلاقي مثير يحمي الناس من تجارب التألّه القديمة. وعلينا أن نفهم النبيّ الإبراهيمي بعامة على أنّه كان في وقته تمرّدا رائعا على الملوك المتألّهين أو "الفراعنة". كان لبّ النبوّة الإبراهيمية هو الحياء: الحياء من الجرأة على التألّه بوسائل بشرية. وحين تمّ ختم النبوّة انفتح باب التألّه من جديد، ولكن هذه المرة بشكل صوفي. ومن هنا، فإنّ القول بالحلول أو ادّعاء الإلهيّة ليس مجرّد انفعال متهوّر أو خاطر مريض كان يمكن تلافيه بالسيرة الحسنة، بل هو جوهر التصوّف. ولا يختلف سائر المتصوّفة عن الحلاّج إلاّ في النبرة أو الدرجة أو التعبير. أمّا مؤمن الملّة، فلا يمكنه أن يفهم تجربة التألّه إلاّ بشكل سياسي: إنّ الحلاج "يروم إقلاب الدول". وهذا التأويل السياسي للتألّه هو الذي برّر محاكمته وصلبه سنة 309 ه /921 م. لم تكن الدولة هي التي تعادي المتصوّف، بل المؤمن الحزين.

وهذه التجربة عن التألّه لم تكن معزولة، فإنّ ابن القارح يذكر أيضا شخصا آخر يصفه بأنّ "صورته صورة الحلاّج ويدّعي عنه قوم أنّه إله" (ص38) وهو يُدعى ابن أبي العزاقر: "وكانوا يُبيحونه حرَمَهم وأموالهم يتحكّم فيهم، وكان يتعاطى الكيمياء" (نفسه). وهذا يعني أنّ التألّه هو الآخر لا يستغني عن مجال الحواس: الجنس والمال والسلطة هو تألّه مقلوب، لأنّه لا يخرج من العالم بل يعود لتملّكه.

بيد أنّه علينا التنبيه إلى أنّ تجارب التألّه عند المتصوّفة هي في الواقع ليست سوى نوع فقط من معارك المقدّس في أفق الملة، وفي آخر المطاف هي لا تزعج المؤمن الحزين إلاّ عرضاً. فإنّ ما يقضّ مضجعه حقّا هو ظهور علوم تزعم الاستغناء عن ثقافة الملة. والمثال الأقوى الذي ذكره ابن القارح هو ابن الراوندي في صورة مرتدّ ميتافيزيقي. قال: "وكان أحمد بن يحي الراوندي...حسن السَّتِر جميل المذهب، ثمّ انسلخ من ذلك كلّه بأسباب عرضت له، ولأنّ علمه كان أكثر من عقله" (ص39).

من الطريف وصف المنسلخ عن الملة بأنّه شخص "علمه أكثر من عقله". كان العلم المقصود هنا هو ما جاء في كتبه الكثيرة التي تعدّ مكتبة متكاملة في الإلحاد أو نقد الدين في عصر الملة بواسطة مفاهيم كلامية وفلسفية؛ فهو يحتجّ لقدم العالم (كتاب التاج) وإبطال الرسالة (كتاب الزمرد) وتسفيه التكليف (كتاب نعت الحكمة) والطعن في نظم القرآن (كتاب الدامغ) وإثبات أن علم الله محدث (كتاب القضيب) وبيان اختلاف أهل الإسلام (كتاب المرجان) (ص39-40). ولأنّ هذا العلم قد كان هو نفسه علم ذلك العصر ويتقاسمه الراوندي مع المتكلمين والفلاسفة في عصره، فقد تمّ الردّ عليه ونقض دعاويه باعتماد نفس طريقة الحجاج. - وهي معارك رأي انتهى نظام الخطاب الذي كانت تستمدّ منه ادّعاء صلاحيتها.

لكنّ ما يهمّنا هنا هو التلميح إلى خطر العلم على العقل. إنّ من يعلم أكثر من عقله يمكن أن يلحد. وهنا عليها أن نحدّد إذن معنى "العقل". إنّه عقل مختلف عن العقل الفلسفي، لأنّه عقل يمكن أن ينهزم أمام العلم، وهو عندئذ عقل المؤمن الحزين. ويتعامل ابن القارح مع العقل بوصفه شيئا يمكن العناية به دونما حاجة إلى علم المتكلمين أو المتفلسفة. ومن ثمّ، يمكن فهم الدين بوصفه حماية للعقل من خطر العلم. هذه النزعة الحمائيّة هي التي تقود تصوّر المؤمن للحقيقة: إنّها شيء عليه أن نحميه، و"حَقيقة الرجُل: ما يلزمُهُ حِفْظُهُ والدفاعُ عنه"، وهو بلا ريب المعنى الأصلي للفظة الحقيقة كما استعملها شعراء الجاهلية والإسلام الأوّل، حيث تتكرر عبارة "حامي الحقيقة". في هذا السياق، علينا أن نفهم "حفظ العقل": إنّه متاع خاص على الفرد أن يحميه ويدافع عنه.

لكنّ ثقافة الملّة تعطي للفشل في حفظ العقل طرافة خاصة؛ فهي تلاحق المؤمن في تفاصيل مرعبة من حياته الخاصة. ولذلك سرعان ما ينقلب الإيمان الحزين إلى تلصّص مستمرّ على المؤمنين الآخرين، وهو ما فعله ابن القارح حين ذكر سيرة ابن تمّام مع ترك الصلاة أو تجربة ابن الرومي مع الموت، إذْ يلومه على التفكير في الانتحار من فرط الألم، حيث قال: "والخنجر، إن زاد عليّ الألمُ نحرت نفسي" (ص40). لا يولي المؤمن الحزين لآلام الاحتضار أيّة قيمة إنسانية، بل يعامله معاملة فقهية بحتة: لا يمكن تبرير الانتحار بدرجة الألم. لا توجد لديه فكرة عن "الموت الرحيم"، بل يعامل الألم بأنّه لا شيء، حلقة فارغة من الإيمان على المؤمن أن يخرج منها سالما.

إنّ السمة العامة في رسالة ابن القارح هي سيرة الإيمان الحزين القائم على "شكوى العصر" المخلوطة بالتخرّص على الملحدين، قال: "ولو استقصيت القول في هذا الفنّ لطال جدّا...بل لو قلت كلّ ما أعلمه، أكلت زادي في محبسي" (ص43). هو إيمان لأنّه يواصل الدفاع عن أفق الملة، لكنّه حزين، لأنّه يعترف بأنّ جروحه شخصية، ولا يمكن أن تُشفى بجروح شخص آخر. قال:

إنّ السمة العامة في رسالة ابن القارح هي سيرة الإيمان الحزين القائم على "شكوى العصر" المخلوطة بالتخرّص على الملحدين

"*أحمل رأساً قد مللت حمله---ألا فتى يحمل عنّي ثقله*

وأستريح إلى أن أنشد:

*ليس يشفي كلوم غيري كلومي---ما به به، وما بي بي*." (نفسه)

إنّ سيرة المؤمن الحزين لم تبدأ مع الحداثة، بل كانت قد بدأت قبلها بوقت طويل وفي فلك ثقافة الملة نفسها. والقرن الرابع الهجري هو ورشة المؤمن الحزين. في ذلك القرن، أصبحت تجربة النبيّ مجرّد سرديّة بعيدة على المؤمن أن يذكّر بها، وأن يصنع منها ذاكرة مناسبة. لكنّ شكوى العصر توحي بأنّ هذه الذاكرة كانت مثقوبة، وأنّ أفق الفهم الذي قامت عليه مهزوز بشكل مؤلم. وكلّ رسالة ابن القارح تجميع لشتات هذه الذاكرة المثقوبة وبحث يائس عن وسائل بقاء أخلاقية جديدة. لكنّه يأس عجوز وليس يأسا أخلاقيّا أو وثنيّا. قال: "فأقلق وأبكي بكاءً غير نافع ولا ناجح، ويجب أن أبكي على بكائي" (52). الإيمان الحزين هو بكاء على البكاء، ولذلك هو ليس حزناً مدنيّاً، مثل ذاك الذي حلّله أرسطو: الحزن السعيد الذي يقترن في نواته العميقة بالعبقرية، بل هو حزن متديّن؛ أي يقيم حقيقته على سردية الطاعة في أقصى أطوارها بعد عصور سحيقة من الاستبداد الشرقي، والتي يقتبس منها كلّ ادّعاءاته حول نفسه أو حول الآخرين.

لكنّ ما يرعب المؤمن الحزين حقّا هو أن يموت بغتةً قبل موته؛ أي قبل توفير ميزان حسنات مناسب للعبور: إنّه أحرص المخلوقات على امتلاك اللحظة الأخيرة من الزمن مع شعور فظيع بإمكانية النهاية في كل لحظة. كلّ معضلة المؤمن الحزين نابعة من مفهوم سيّء عن الزمن: أنّ الزمن صفقة خاسرة دائما. صفقة مقابل آخرة قد لا تحدث وقرض من أجل خلود مؤجّل. ويتمثّل ابن القارح لمثل هذا الموت / الصفقة الخاسرة، بقصّة رجل من بغداد اسمه "فاذوه" هو "لا يتورّع عن ركوب كل مخزية"، وإذا لامه الناس قال: "مَ تدخلون بيني وبين مولاي وهو الذي يقبل التوبة من عباده؟" (ص54) لكنّه مات بغتة، إذ كان يمرّ في شارع وإذا بامرأة تُسقط على رأسه مهراساً "فهرس رأسه...وأعجله عن التوبة" وصار الواعظ يقول للناس: "احذروا ميتة فاذوه" (نفسه). - كلّ عناصر الإيمان الحزين متجمّعة هنا: الرغبة المتلصّصة على إيمان الآخرين، حتى في موتهم. لم يستطع إيمان الملّة أن يشعر بحريته؛ أي ببراءته الأصلية. كان دوما إيمانا متلصّصا، يستمدّ من التلصّص على قلوب المؤمنين الآخرين طرافته الوحيدة. والتلصّص ناتج عن كون المؤمن الحزين لا يعترف في قرارته بحقّ المؤمنين الآخرين في التوبة التي يحوّلها في سرّه إلى امتياز مظنون به على غير أهله.

وفي الحقيقة لم يكن المؤمن الحزين يضنّ بالحق في التوبة على غيره من المؤمنين، إلاّ لأنّه يشعر بعجزه العميق عنها، وهو عجز خطير لأنّه نابع من عجز آخر أعمق غورا: إنّه العجز عن الحداد. لا يريد المؤمن الحزين، ولا يستطيع أن يتقبّل موته بوصفه قدرا مناسبا لشكل الحياة التي تتميّز به فصيلة الحيوانات التي ينتمي إليها. لكنّه بقدر ذلك، لا يرضى أن يتوب العاصي فيفوز بالجنة الموعودة دون أن يدفع تكاليف الطاعة المضنية التي عمره مقابلا لها. إنّ توبة العصاة تجعل حياة المؤمن الحزين صفقة خاسرة. ولبيان هذا المعنى، لا يتمثّل ابن القارح بموقف أحد البشر بل بما جاء على لسان جبريل نفسه. قال: "قال جبريل في حديثه: خشيت أن يتمّ فرعون الشهادةَ والتوبةَ، فأخذت قطعة من حال البحر فضربت بها وجهه" (ص55). إنّ حرص المؤمن الحزين قد اخترق شخوصه السردية، وصار له حليف سماوي في الملاك جبريل. كان يمكن تصوّر فرعون ينطق بالشهادة، فرعون تائب، لكنّ ذلك سوف يجعل كل سيرة المؤمن الحزين بلا جدوى.


[1]- أبو العلاء المعري، رسالة الغفران. تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ (القاهرة: دار المعارف، ط. 9، 2009). ملاحظة: كلّ الإحالات تأتي ضمن المتن.