نحو إعادة التفكير في معنى الوطن والمواطنة والوطنيَّة


فئة :  مقالات

نحو إعادة التفكير في معنى الوطن والمواطنة والوطنيَّة

يحيل مفهوم الوطن في "الوعي الحسّي" على المكان، (الأرض)، أو على المادة والامتداد، بلغة الفلاسفة. فلعلّ إدراكنا لمعنى الوطن يتوقف على كيفيَّة إدراكنا لمعنى المكان، وعلاقته بالزمان. وقد تطوَّر مفهوما المكان والزمان في الثقافة الحديثة تطوُّراً لافتاً، لا ينفصل هذا التطوّر عن تطوّر معنى الوجود عامَّة والوجود الإنساني خاصَّة في مكان وزمان محدَّدين، ولا ينفصل من ثمَّ عن معنى كلٍّ من الكينونة والصيرورة، والكينونة والوجود، بغضّ النظر عن أولويَّة أيٍّ منهما. وهذا لا يتعارض مع واقع كون "الوطن" مُنتَجاً اجتماعيَّاً، رمزيَّاً وعلائقيَّاً، تخلتف دلالاته الاجتماعيَّة ـ السياسيَّة من مجتمع إلى آخر. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الافتراض مؤسَّس على نتائج العلوم الحديثة، التي تقدّم للفكر النظري مقولات جديدة، كوحدة المكان والزمان، واللّايقين (العلمي)، وهذا غير الشكوكيَّة والريبيَّة، واللّاحتميَّة، أو انتفاء الحتميَّة، والنسبيَّة وتعدّد العوالم، وغيرها ممَّا يؤسّس رؤية مختلفة للعالم.

وقد صنَّف جيمس جينز المكان والزمان في أربعة أصناف، بحسب ما يصنّفها العلم المعاصر[1]، وهي: المكان التصوُّري: وهو مبدئيَّاً مكان الهندسة المجرَّدة، لا وجود له إلّا في عقل الإنسان الذي يخلقه بالتفكير فيه. والمكان الإدراكي الحسّي: وهو مبدئيَّاً مكان كائن واع يمارس أو يسجل إحساسات. والمكان الفيزيائي: هو مكان الفيزياء والفلك. والمكان المطلق: هو ذلك النوع الخاص من المكان الفيزيائي الذي أدخله نيوتن ليجعل منه أساساً لنظامه الميكانيكي، وظلَّ يُستخدم استخداماً علميَّاً عامَّاً على امتداد الفترة بين نيوتن وآينشتين.

بأسلوب مماثل صنَّف الزمان أربعة أصناف هي: الزمان التصوُّري: وهو زمان الميكانيكا النظريَّة، وسائر المحاولات المجرَّدة لدراسة التغيّر والحركة. وهو مثل المكان التصوُّري لا يوجد إلّا في عقل شخص يفكّر فيه. والزمان الإدراكي الحسّي: يسجّل انسياب الزمن لأيّ فرد يدرك حسّيَّاً. وهو بهذا المعنى متعلق بوعي فرد معيَّن، وينعدم وجوده بانعدام الإدراك الحسّي. الزمان الفيزيائي: هو زمان العالم النشط للفيزياء والفلك، وهو عام (كوني)، كالمكان الفيزيائي. الزمان المطلق: هو المناظر للمكان المطلق.

لا توجد صعوبة في فهم معنى المكان التصوُّري والمكان الإدراكي الحسّي، لأنَّهما من مبتكراتنا الخاصَّة، ويتواجدان في وعينا الشخصي، وينعدمان عندما يتوقّف الوعي عن العمل، ولكنَّ عدداً كبيراً من الآراء طرح حول الأهميَّة الحقيقيَّة للمكان والزمان الفيزيائيين؛ فالعلم تبنّى وجهة نظر النسبيَّة عن عالم الطبيعة، وسلَّم بأنَّ إدراكاتنا الحسّيَّة مصدرها أشياء ذات وجود حقيقي، مثل النجوم والطوب والذرات ... إلخ، وهذا الوجود خارج عقولنا ومستقل عنها، فإذا انعدمت عقولنا من الوجود أو توقفت عن العمل، فإنَّ النجوم والطوب والذرات تظلّ موجودة، وقادرة على إحداث إدراكات حسّيَّة في عقول أخرى. وجهة النظر هذه تجعل للمكان والزمان وجوداً حقيقيَّاً، كوجود الأشياء الماديَّة، فهما موجودان من قبل أن يظهر العقل في العالم، وسيظلان موجودين بعد فناء جميع العقول".

وفق هذا التصنيف للمكان والزمان، وعلى اعتبار المكان والزمان نسيج الكون ونسيج الكائن، لا نجد تعسّفاً في إسقاط تصنيف جينز للمكان والزمان، وتأكيد وحدتهما، على معنى الوطن، فنقترح التصنيف الآتي:

الوطن التصوُّري: كـ "الوطن العربي"، و"دار الإسلام"، على سبيل المثال، ويلازمهما التاريخ التصوُّري، كـ "التاريخ العربي"، و"التاريخ الإسلامي"، وليس لأيّ من ذينك وهذين من وجود واقعي إلّا في ذهن من يفكّر فيهما، ويتوهَّم أنَّهما قوام وجوده الفعلي وقوام هويَّته. "الهويَّة القوميَّة" أو "هويَّة الأمَّة" التي كثر الحديث عنها في السنوات الماضية، لم يفطن المتحدثون عنها إلى أنَّها تعبير مجازي عن وطن تصوُّري وتاريخ تصوُّري، أي إلى أنَّها هويَّة زائفة، تقنِّع هويَّات ما قبل وطنيَّة وما قبل مدنيَّة، تنظر كلّ منها إلى الوطن، أي إلى المجتمع والدولة، من منظورها الخاص والحصري. الغريب في هذا السياق نسبة المكان والزمان إلى عائلة أو عشيرة، حين نقول الدولة الأمويَّة والدولة العباسيَّة والدولة الفاطميَّة والعصر الأموي والعصر العباسي ... وصولاً إلى الدولة الناصريَّة والعهد الناصري والدولة الأسديَّة والعهد الأسدي. ولعله يكفي أن نشير هنا إلى حلول المجاز محلّ الحقيقة والصورة محلّ الواقع.

الوطن الحسّي: وهذا مقترن بالملكيَّة الخاصَّة المسوَّرة بالشرائع الدينيَّة والقوانين الوضعيَّة، التي شرَّعت علاقات القوَّة وسوَّغتها، لا بالتملك الروحي، التملك بالمعرفة - العمل. ويلازمه تاريخ الملوك والسلاطين والانقلابات العسكريَّة، وتعاقب الحكومات وتتالي الأحداث، ولا سيَّما الحروب والمجاعات والجوائح والكوارث الطبيعيَّة، والكوارث التي من صنع البشر. وتختلف نظرة مواطناته ومواطنيه إليه من المركز أو المتن عنها من المحيط أو الهامش، وتختلف، من ثمَّ، دلالاته في الوعي، وتختلف أشكال الانتماء إليه، باختلاف التوسُّطات التي تعيِّن علاقات أفراده بالمجتمع والدولة، وفقاً لعلاقاتهم المتبادلة، والعلاقات المتبادلة بين الجماعات والمجتمعات الصغيرة التي ينتمون إليها. هذه التوسطات، في الحالة السوريَّة، هي العائلة الممتدة والعشيرة والجماعة الإثنيَّة والجماعة المذهبيَّة، التي تتقاسم الفضاء العام، تتقاسم الوطن، فلا تفضي دلالته في الوعي إلى المعنى التالي، أي إلى الوطن الإنسان، إلّا بالعدالة والتمكّن من حلّ تعارضاته الاجتماعيَّة الملازمة سلماً.

الوطن - الإنسان (المتمكِّن - المتزمِّن): المقترن بتملك العالم، الفيزيقي والأخلاقي، بالمعرفة/ العمل، والفاعليَّة الحيَّة والتواصل الخلّاق، والتشارك الحر، على قاعدة المساواة والحرّيَّة والعدالة. ويقتضي وحدة الشعب وتاريخه، أي إنَّ الزمان الذي يلازمه هو التاريخ المرقون في العالم، لا في الكتب، والمنقوش في حياة أفراده على أنَّه قوام وجودهم وحصيلة عملهم وعلاقاتهم المتبادلة. زمانيته هي النمو المطَّرد أو التحسّن المطَّرد. ويحيل على المجتمع الديمقراطي والدولة الديمقراطيَّة.

الوطن المطلق: أو غير المحدَّد وغير المحدود، وطن المواطَنة العالميَّة والمواطِن العالمي، والمواطِنة العالميَّة بالطبع، ويلازمه تاريخ الإنسان، المنقوش في العالم، لا في الكتب. نذكِّر القارئة والقارئ بتصاقب الدلالة البعيدة لكلمتي المكان والإمكان، لفهم معنى الوطن المطلق، الذي لا تُستنفد ممكناته، الطبيعيَّة والبشريَّة على السواء والتلازم.

الوطن المقدَّس: كتب مرسيا إلياد: "من الصعب أن نتصوَّر كيف يمكن للنفس البشريَّة أن تتحرَّك دون الاقتناع بوجود شيء حقيقي، لا يمكن إنقاصه في هذا العالم، ومن الصعب التصوُّر كيف يمكن للشعور أن يبدو بدون أن يضفي دلالة على اندفاعات الإنسان وتجاربه. إنَّ الشعور بعالم حقيقي وذي معنى مرتبط صميميَّاً باكتشاف المقدَّس. بتجربة المقدَّس أدركت النفس البشريَّة الفارق بين ما يُكتشَف كما لو أنَّه حقيقي، قوي وغني وذو معنى، وبين ما هو مجرَّد من هذه الخصائص، أي المدّ العمائي والخطير للأشياء وظهوراتها واختفاءاتها الطارئة الفارغة من المعنى. باختصار: المقدَّس هو عنصر في بنية الشعور، وليس مرحلة في تاريخ الشعور"[2].

ما يهمّنا هو أنَّ "التقديس عنصر في بنية الشعور"، ولنقلْ إنَّه عنصر أساسي في بنية الشعور لدى إنسان الأزمنة الغابرة، الذي كانت حياته تجربة دينيَّة خالصة أو أقرب إلى تجربة دينيَّة، كلّ شيء متصل بمقدَّس، أو بشيء مجعول مقدساً، يستمدّ قيمته المعنويَّة من قداسته لا من ذاته، وتتلاشى قيمته الماديَّة أو تذوب في القداسة، فيغدو عالم القداسة والمقدَّسات هو العالم الحقيقي، الجوهري، أو الماهوي، ، المنظَّم تنظيماً نهائيَّاً، بقوَّة مفارقة قضت أن يكون الناس درجات، بعضهم أولياء بعض، وتغدو الحياة بلوى واختباراً لمدى الطاعة والتسليم والصبر على المكاره. يقابله العالم (المادي) العابر والزائل. هذا ممَّا يكشف معنى الوطن في الوعي الديني-المذهبي، حتى ليمكن القول إنَّ الوطن التصوّري والتاريخ التصوّري مؤسّسان في الرؤية الدينيَّة، بل المذهبية، للعالم، التي تمتح من اللّاشعور الفردي-الجمعي؛ فنحن لا نستعيد من العالم إلّا ما وضعناه فيه، وما نضعه فيه. هذا هو قوام الذات ومعنى الهويَّة، ولا سيَّما تلك التي تحلُّ فيها الذاكرة محلَّ التاريخ، والحكاية محلَّ الواقع.

لقد ظلَّ التقديس والتدنيس ملازمين لبنية الشعور وراسبين فيها، على مرّ العصور، حتى يومنا. فنحن ما نزال نقدِّس وندنِّس: الوطن مقدَّس، رموزه مقدَّسة وترابه مقدَّس. وهناك "الأرض المقدَّسة" لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين، و"العتبات المقدَّسة"، والمراقد المقدَّسة (القبور)، لدى المسلمين الشيعة، وأماكن مقدَّسة لدى هؤلاء ولدى غيرهم، وأزمنة مقدَّسة، كأزمنة البدايات والانبثاقات الكبرى، كميلاد المسيح وبعثة النبي محمَّد وما شاكلها، علاوة على الحيوانات المقدَّسة والأشجار والنباتات المقدَّسة والماء المقدَّس، و"بيوت الله"، كناية عن الكُنُس والكنائس والمساجد والمعابد، وأضرحة الأولياء الصالحين.

في جميع الأحوال يُضمر التقديس علاقةً ما بين الإنسان والسماء، السماء ليست كوناً فيزيقيَّاً، بل هي كون رمزي من صنع الخيال، مسكون بالآلهة، علاقة الإنسان بالطبيعة والعالم الفيزيقي غائبة أو ثانويَّة في أحسن الأحوال، الإنسان-العقل مشدود إلى السماء بسلسلة تراتبيَّة من الملائكة والأنبياء والرسل والكهَّان. ويُضمر علاقة بين الحقيقة/ الحقائق السماويَّة الخالدة وبين ظلالها العابرة والزائلة. المكان موحش وعدائي واعتباطي ... ما لم تباركه السماء. تقديس الأمكنة والأزمنة هو الأساس الذي تقوم عليه، حتى اليوم، دلالات الوطن التصوُّري والوطن الحسّي، والتاريخ التصوّري والتاريخ الحسّي. وهذا ممَّا يكشف عن النسيج الديني العميق للأيديولوجيَّات، الدينيَّة وغير الدينيَّة، والنسيج الديني العميق للوعي "الوطني" والوعي "القومي". النسيج الديني العميق للأيديولوجيَّات مجدول من خيوط أسطوريَّة وسحريَّة وخرافيَّة وعقلانيَّة، تمنحه الأخيرة، أي الخيوط العقلانيَّة، تماسكاً ظاهريَّاً ما دامت الجديلة مضفورة بقوَّة السلطة. فالأيديولوجيا، في جميع أحوالها، أداة سلطة أو سلطة مضادَّة، تتهافت وتنحلّ خيوطها حين تتغيّر قواعد السلطة، أو حين تنهار السلطة ويتغيّر نظام الحكم، كما حدث في أماكن كثيرة.

صيغة الأرض المقدَّسة و"الوطن المقدَّس" تذهب نحو التقديس أكثر ممَّا تذهب نحو الأرض والوطن، فهي كصيغة "الماء المقدَّس"، الذي يكفُّ عن كونه مؤلفاً من أوكسجين وهيدروجين، ويتحوَّل، بين أيدي الكهنة وبطلسماتهم إلى مادَّة سحريَّة، بفعل المقدَّس الذي يتجلّى فيه، فيصير عنصراً من عالم مقدَّس، غير العالم الدنيوي المدنَّس. الصفة تأكل الموصوف، القداسة تأكل الأرض والوطن، وتهدر قيمة الإنسان، الذي ليس سوى عبد للمقدَّس، وتضحّي به على مذبح القداسة. "المقدَّس يظهر دائماً على أنَّه حقيقة من نظام آخر، غير الحقائق الطبيعيَّة وغير نظام الطبيعة، وتستطيع اللغة أن تعبّر بسذاجة عن المخيف أو العظيم أو الخيالي الغامض، بمصطلحات مستعارة من ميدان طبيعي أو من الحياة الرّوحيَّة الدنيويَّة للإنسان"[3]. المقدَّس هو اللّادنيوي بإطلاق والميتافيزيقي بإطلاق، لذلك لا يعيِّن التقديس علاقة بين الإنسان والمكان ـ الزمان، بين الإنسان والوطن، بل علاقة بين الإنسان والمقدَّس فقط، تُترجم إلى علاقة تواصل بين مؤمنين، وتفاصل مع غير المؤمنين.


[1]- جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة: جعفر رجب، (دار المعارف، بيروت، بلا تاريخ نشر)، ص 15. (نسخة إلكترونيَّة).

[2]- مرسيا إلياد، تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينيَّة، ترجمة: عبد الهادي عبّاس، (دار دمشق، دمشق، 1987) ص 9.

[3]- مرسيا إلياد، المقدَّس والمدنَّس، ترجمة: عبد الهادي عباس، دار دمشق، دمشق، 1988، ص 16.