إصلاح الدين أم إصلاح السياسة؟


فئة :  مقالات

إصلاح الدين أم إصلاح السياسة؟

ندَّعي أن معظم المثقفين العرب، ولا سيما في منطقة "شرق المتوسط"، منخرطون في "السياسة"، بحكم ظروف نشأتهم وتكوينهم المعرفي والثقافي، وتربطهم بالعلماء والفقهاء من رجال الدين المسلمين خاصة، روابط تاريخية، أملتها ظروف الكفاح الوطني ضد الاستعمار الغربي، وما سمي "مشروع النهضة القومية". هذا حكم عام ينقضه الاستثناء جزئياً أو كلياً. ولكن العلاقة بين المثقفين "العلمانيين"، و"العلماء"، بالتعبير الإسلامي، مؤكدة تاريخياً.

ظروف النشأة وظروف التكوين المعرفي والثقافي أنتجت مجتمعةً مثقفاً "علمانياً" أقرب ما يكون إلى فقيه في إهاب علماني، لا تعوزه العلامات الفارقة والشعور بالامتياز والتفوق. ومن ثم، فعلمانيته "علامة"، على الأغلب، وليست موقفاً منفتحاً للروح إزاء قضايا الفكر وقضايا الواقع، بتعبير محمد أركون، ولا تصدر عن نموذج في التفكير والإدراك والتمثل والعمل، يختلف عن نموذج السلف الصالح، بحكم الماضي المدرسي للمثقفين في كنف نظام تعليمي يعيد إنتاج التقليد، في مجتمع ملقى على هامش العصر، لم يبذل المثقف المعني أي جهد يذكر في نقدهما وتجاوزهما.

لذلك، يتورط هؤلاء في الإلحاح على "الإصلاح الديني"، وفق الرؤية الذاتية لكل منهم، لا وفقاً لمنطق الواقع والتاريخ، إذ الإصلاح الديني فعل تاريخي، يأتي في سياق تحولات اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، تدفع مؤسسات "الدين الوضعي"، كالكنيسة، ومؤسسات الفقه والإفتاء والحسبة الإسلامية، دفعاً إلى التكيف مع الأوضاع المستجدة، التي لا قبل لها باعتراضها ووقفها، ناهيك عن ردها إلى الوراء، علاوة على دور المصلحين من رجال الدين المكرسين. ويعلِّم التاريخ أن لا إصلاح دينياً من دون انشقاق في المذهب الذي يراد إصلاحه، فالانشقاق هو ما يولد الجدل ويدفع حركة الإصلاح والإصلاح المضاد في هذا الاتجاه أو ذاك، وفقاً لديناميات التطور في هذا المجتمع أو ذاك.

إلحاح العلمانيين على "الإصلاح الديني"، وجعله شعاراً، ينم على نوع مشرقي خاص من أنواع "الهروب من الحرية"، ومن ثم الهروب من المسؤولية، وإلقائها على عاتق "الدين"، الذي يغدو، في نظر الدعاة، حجر عثرة في طريق التقدم، دونما تفريق بين الدين الروحي، الوجداني، أو "السراطي"، بتعبير صادق جلال العظم، وبين المذاهب (الأرثوذكسيات) الدينية التاريخية، التي يقترن كل منها بعصبية ما. العصبية هي كلمة السر في التحليل الاجتماعي التاريخي، لا الدين. والعصبية بالممعنى الخلدوني، مطالبة ومدافعة، مطالبة بالسلطة والثروة والمكانة ومدافعة عنها، لا مجرد انتماء وولاء. لذلك نعتقد أن إصلاح السياسة يفضي إلى إصلاح ديني، لا العكس. وإصلاح السياسة يعني إصلاح مفهومها أولاً، بانتشاله من حقل الحاكمية والولاية على الأمة وتدبير الملك وطاعة أولي الأمر .. و"سياسة الدواب"، وإدراجه في باب التشارك الحر في إدارة الشؤون العامة وشؤون الدولة، بما هي، أي الدولة، فضاء عام مشترك بين جميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي، والتمكن من مراقبة السلطات كافة ونقدها ومساءلتها ومحاسبتها، وحق الأفراد والجماعات في أن يقولوا: لا.

ولا يستقيم ذلك إلا بتعيين التخوم الفاصلة الواصلة والعلاقات المتبادلة بين الحيوات الخاصة للأفراد إناثاً وذكوراً، وبين حياتهم الاجتماعية والإنسانية العامة أو النوعية، ومن ثم بين المجتمع المدني والدولة السياسية ثانياً، لحماية الأفراد من تغوُّل السلطة والحد من تجاوزها على الحريات الخاصة والعامة وعلى الحقوق المدنية للنساء والرجال، وهي علاقات جدلية في الحالين، ينتج منها في كل مرة تركيب جديد، وفقاً لتطور المجتمع المعني.

إصلاح السياسة، ثالثاً، يعني إلغاء العصبية / العصبيات الإثنية، العائلية والعشائرية، سياسياً، على نحو ما ألغت الديمقراطية الملْكية الخاصة سياسياً، ووفرت لها شروط النمو والازدهار في رحاب المجتمع المدني. فلا يجوز أن تنتج من العصبيات، كما لا يجوز أن تنتج من مقدار الملكية الخاصة، ولا سيما ملكية وسائل الإنتاج، أي نتائج سياسية، وحيثما يوجد ذلك لا تكون الديمقراطية مثلومة فقط، بل تكون في خطر.

فإن إلغاء العصبية القومية العربية سياسياً، في بلد كسوريا، على سبيل المثال، أي إلغاء حكم البعث العربي الاشتراكي ونظامه التسلطي، من شأنه أن يلغي تأثير الأيديولوجيات المذهبية الملازمة للعصبيات الإثنية ملازمةَ الظل لصاحبه. العصبيات المذهبية ظلال، مجرد ظلال للعصبيات الإثنية. يؤكد ذلك أن جميع أنظمة الحكم في العالم العربي ذات طبيعة عائلية وعشائرية، لكل منها ظله المذهبي، أو استطالته الأيديولوجية.

ليست العقيدة العلوية أو الطائفة العلوية هي التي حكمت سوريا على مدى العقود الماضية، بل عائلة الأسد ومحاسيبها وأنسباؤها والمنتفعون من سلطتها والمتطفلون على موائدها، من جميع الملل والنِّحل والإثنيات. وكذلك الأمر في المملكة العربية السعودية وغيرها. إن محاربة الظلال دون أصحابها، هو ما جعل من الأيديولوجيا سياسةً ومن السياسية مجرد أيديولوجيا، ومن السياسيين المعارضين فرساناً أشاوس، مثل دونكيشوت.

ولا يزال مبدأ «التحدي ورد الفعل» الذي قال به أرنولد توينبي صحيحاً، في مجال التاريخ، خاصة التحدي ورد الفعل السلبي، لدى القوى غير الفاعلة في التاريخ، لأن القوى الفاعلة في التاريخ تتوفر على روح المغامرة والكشف والابتكار والإبداع. فلم يعد «الغرب»، على ما يبدو، النموذج الذي يمثل تحدياً مباشراً للذات "العربية الإسلامية"؛ إذ تصالحت الأيديولوجية العربية، القومية الاشتراكية، أو الاشتراكية القومية، مع التقليد، ثم انغمست فيه، بحكم منهجها التلفيقي، وتصالحت واقعياً مع الغرب، بكل ما كان يعنيه الغرب لها، تصالحاً نفعياً، يبدو أنه تصالح تبعية ذاتية وإذعان، أو تسليم نهائي بالأمر الواقع، علاوة على حقيقة أن بعض الغرب، أو غرباً ما، صار جزءاً من بنية المجتمعات العربية ومن تاريخها الداخلي. وكان العروي قد توقع هذه النتيجة، في كتابه «العرب والفكر التاريخي»، يوم قال: «إن أنصار المنطق التقليدي، رغم حملاتهم البليغة ضد الاستعمار الفكري ودعوتهم إلى الأصالة، يمهدون الطريق إلى التصالح مع الغرب متفقين، في أهدافهم، مع البورجوازية العربية ...»[1]، ونضيف إلى هؤلاء أنصار المنطق التقليدوي الجديد من القوميين الاشتراكيين وحلفائهم الماركسيين، الذين تصالحوا واقعياً مع "الغرب الإمبريالي"، متفقين في ذلك مع البداوة النفطية[2].

يبدو أن الإسلام الكفاحي أو «الجهادي»، المناهض للمجتمع والدولة، حيثما توجد تنظيماته وأدواته، والمناهض لأي تنظيم اجتماعي أو سياسي، على الإطلاق، مع أنه هو نفسه منظم تنظيماً جيداً، والذي ينشد الفوضى والخراب، ويتطلع إلى «إدارة التوحش»،[3] ريثما تنهض «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة» من رماد العصور، يبدو أن هذا الإسلام الكفاحي صار هو النموذج الذي يتحدى الجميع. وصار الإصلاح المنشود استجابة لهذا التحدي أو رد فعل عليه. ما جعل "الإسلام"، هذه المرة، "هو الموضوع"، بتعبير أحد المثقفين السوريين.

«الصحوة الإسلامية»، التي انبثقت من قلب «الدولة القومية»، وقد تعايشت فيها الأصالة والتقانة، كما وصفها العروي[4]، استقطبت القوميين ومعظم الاشتراكيين[5]، وغدت الفروق واهية، تكاد لا تلحظ بين الجماعات الإسلامية وبين القوميين والاشتراكيين، العلمانيين، الذين لا تتعدى علمانيتهم سذاجة استخلاصها من "حديث تأبير النخيل".

نظن أن هذا التحدي الداخلي، وهو تحد ثقافي واجتماعي وسياسي وأخلاقي، هو ما حدد رؤية مفكر علماني، هو عبد الله العروي للإصلاح الديني، في كتابه «السنة والإصلاح»، وهي من أكثر الرؤى العلمانية عمقاً، قوامها النظري: «إحياء مدرسة الاعتزال، وتجاوز الهجرة من جهة الزمن، والسد من جهة المكان. وإحياء مذهب الخوارج، الذي قام على رفض أي تمييز بين أعضاء الجماعة المؤمنة، والشك في صدق من يدعي الاتصال المباشر بالخالق، والتبرؤ ممن يقول بالاصطفاء الإلهي. ووضع هذا المذهب في إطار مجتمع منفتح على غير المجرَّب المعهود. وإعادة الاعتبار لمذهب الإرجاء، أي تعليق الحكم في مسائل من هو المسلم ومن هو الكافر، من هو المؤمن ومن هو المشرك، وما سمة الإيمان، هل هي أعمال الجوارح أم النطق باللسان أم التصديق بالقلب...؟ وتركه للزمن الذي يغير كل شيء، في كل لحظة، وإرجاؤه وإيكاله إلى الله يوم الحساب. والتزام منهج ابن حزم وفلسفته النقدية.[6]

المسألة إذن، هي إعادة تعريف الإسلام نظرياً، بالتضاد مع «السنة»، و"السنة المضادة"، ومسألة "تجاوز السنة"، التي يدَّعي الإسلام السياسي تمثيلها. ولكن، هل ثمة سنة ممكنة من غير عصبية؟ لقد أجاب الجابري عن هذا السؤال إجابة وافية وعميقة[7]. والسؤال اليوم هل يمكن إصلاح السنة، وفقاً لرؤية العروي أو غيره من غير إصلاح السياسة؟ نترك السؤال مفتوحاً.

[1]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط5، 2006

-[2] يقدم التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب دليلاً ساطعاً على ما ندعي.

[3]- أبو بكر ناجي (اسم مستعار على الأرجح)، إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، نشر خاص، بلا تاريخ، متاح على الشبكة العنكبوتية، شبهه جهاد الزين بكتاب لينين "ما العمل".

[4]- عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 1995

[5]- راجع موقف برهان غليون من "الثورة الإيرانية" في كتابه: "الوعي الذاتي"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1992، ص 79– 84. وكذلك مواقف مفكرين عرب كثيرين.

[6]- عبد الله العروي، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2008

[7]- محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ملامح نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1994، ص ص 255 - 256