نضال الغطيس: مداخل معاصرة في فهم القرآن


فئة :  حوارات

نضال الغطيس: مداخل معاصرة في فهم القرآن

نضال الغطيس، باحث عربي مقيم في أستراليا، محاضر في مجال الاقتصاد والمصارف الإسلامية، حاصل على بكالوريس محاسبة، وماجستير إدارة أعمال، ويُحضِّر الدكتوراه في مجال الدراسات المستقبلية والمصارف الإسلامية. له عدة أبحاث منشورة في مجال الفكر، ومستقبل المصرفية الإسلامية، وكذلك له كتاب بعنوان: ختان الذكور جريمة وافتراء على الإسلام.

يوسف هريمة: أنتم من المهتمين بالفكر القرآني في العالم العربي والإسلامي، ولديكم من الكتابات في الموضوع شواهد عديدة. حبّذا لو تضعنا أمام المسار التاريخي لتشكّل هذا التيار؟. ألا تعتبر التسمية بالقرآنيين أو أهل القرآن نوعًا من كسب الشرعية في مقابل تيار آخر عرف أيضًا بأهل الحديث؟.

نضال الغطيس: أشكر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث على هذا اللقاء، وعلى الجهود التنويرية التي تبذلونها.

إجابة على سؤالك، لا أستطيع القول بأنّ هناك "تيّارًا قرآنيًّا" فضلاً عن القدرة على وضع المسار التاريخي لتشكُّله، ولكن يمكن القول بأنّ أزلية الصراع بين الحق والباطل، وبين الاستقلال والتبعية، وبين تعدد مستويات فهم النص القرآنيّ وما يشوّش عليه من نصوص أخرى، هي قديمة، قِدم وجود الرسول محمد عليه السلام وبداية التنزيل: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" (فصلت: 26)، فعندما تبيَّن الحق، بهذا الكتاب، أصبحت المفاصلة به، والدعوة لمبادئه: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ ..." (الكهف: 29)، وحتى الجهاد به هو المطلوب: "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا" (الفرقان: 52). فهو جهاد معرفيّ، مقابل التشويش والصرف عن الحق.

وبما أنّ القرآن نفسه لا يمكن تحريفه، لأنّه محفوظ بالصدور وبالمسطور، شَرَع أصحاب الأهواء والباطل في تحريف كلماته عن مواضعها، كحال بقية "المخرِّبين": "مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ..." (النساء: 46)، وهو تحريف معان: "أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة: 75)

بل وهُمّش القرآن، بعبارات شديدة الخطورة منسوبة إلى كبار الصحابة والتابعين، من مثل القول المنسوب إلى عمر: (إذا حاجّكم أهل الأهواء بالقرآن فحاجّوهم بالسنّة فإنّ السنة مبينة للقرآن). تخيَّل أنّ المُحاجّ بالقرآن اعتُبر من أهل الأهواء، هذه التفرقة والتقسيمات بين القرآن والسُنّة، أهم ما ضَرب عقل المسلم في مقتل. فأصبحت شخصيته تُنازع بين كلام الله، وبين الكلام المنسوب إلى الرسول.

وعبارات منسوبة إلى كبار الصحابة مثل علي وابن عباس مثل قولهم: (لا تُخاصِمْهم بالقُرآن؛ فإنَّ القُرْآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكنْ حاجِجْهم بالسنَّة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنْها مَحيصًا). وهذا أصلاً، مُناقض لقوله تعالى: "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" (الجاثية: 6).

مع أنّه لو بحثت في كل القرآن لن تجد أنّ كلمة (السُنّة) استخدِمت لوصف أفعال الرسول، بل هي سنة الله، (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) (سورة الإسراء: 77)، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (سورة غافر: 85)، فهي قوانينه الناظمة لهذا الكون، والإنسان مطالب بدوره بالتعرف عليها وتسخيرها لعمارة الأرض.

فهذه الحركة الدؤوب لإطفاء نور القرآن بالأفواه، قديمة، وهي نتيجة ما يمكن أن نُسميه "سلطنة الدين"، فأصبح الدين سلطانيًّا، يتشكَّل في مصانع الحُكم العضوض والجبري والقهري الصحراوي. وأهم عنصر في الدين هو القرآن. فضرب القرآن، هو ضرب لحضارة المسلم ووجوده، وضرب لقدرته على التفكير. وأعتقد أنّهم نجحوا في هذا نجاحًا باهرًا.

الانتساب إلى القرآن ليس محاولة لاكتساب الشرعية، فهي أصلاً أُطلقت من قبل من يُعادون "القرآنيين" وأضع كلمة القرآنيين بين معقوفتين لأنّهم لا يتداولونها أو لا يرضون مثل هذا "التمييز الفكري العنصري"، بل أجد بعضًا منهم يفضِّل كلمة الحنفاء، أو المسلمين، أو ملة إبراهيم. فالتسميات هي للتصنيف والتبويب، فشخصيًّا لا أقبلها، لأنّه إذا حصرنا إنسانًا ضمن خانة معينة، فنحن نحاسبه ونقيسه ونردُّه دومًا إلى هذا التصنيف، ولا أعتقد أنّ أيّ أصحاب فكر حرّ، وباحث عن الحقيقة يرتضي مثل هذا. فالفكر يتطوّر ويتجدّد ويتراكم ويتمدّد؛ عملية التعليب لن تخدم إلاّ من يبحث عن الفكرة الرديئة لتكون غذاءً لعقله الجامد الباحث عن الجاهز. ونحن نعلم أنّ إطلاق تسمية "أهل الحديث" أو "أهل السنة والجماعة" هو تصنيف سياسي. فلماذا الآن نُريد كذلك تسييس القرآن!؟.

يوسف هريمة: في كتاب "القرآن وكفى" لأحمد صبحي منصور دعوة صريحة إلى هجر كل الموروث الروائي، والاكتفاء بما ورد في القرآن الكريم. هذه الفكرة يتقاسمها العديد من الكتاب والمفكّرين بمستويات تختلف في الشكل وتتفق في المضمون. ما هو السياق الثقافي والاجتماعي الذي أفرز لنا مقولة "القرآن وكفى". هل نحن بإزاء فكرة الحاكمية من نوع آخر؟.

نضال الغطيس: الدكتور أحمد صبحي منصور بأطروحته "القرآن وكفى" هو امتداد لأفاضل آخرين سبقوه بعدّة عقود بالفكرة نفسها، ولكن أحمد صبحي منصور جاء في عصر التواصل الاجتماعي والفضائيات، لذلك أطروحاته ومن خلال موقعه (أهل القرآن)، كانت ملتقى للحوار والنقاش والتداول، وأداة لنشر فكرة مرجعية القرآن وتعزيزها. وهناك العديد من الناشطين في الغرب يقدّمون أطروحات مُشابهة، ولكن لا يصلنا صداهم لأنّهم لا يكتبون بالعربية.

القول بنبذ الموروث كاملاً، هي دعوة "شعاراتية" في نوع من الدعاية المضادة "البرُبوغاندا" وأنا هنا لا أتكلم نيابة عن الدكتور، ولكن من خلال تتبع هذا المسار من التفكير، المُلاحظ أنّ العديد من المفكرين وجدوا الموروث مليئًا بالإشكالات، والتشويه، والتكرار، والتسيّس، فخلصوا إلى نتيجة: أنّه لا يمكن أن يكون هذا هو الدين. بل هي هوامش على الدين وشروحات، ثم طغى الهامش على المتن. ووجدوا الدخول في أي عملية "جراحة تجديدية" في هذه "الجُثَّة الهامدة" عبر قرون إنما هو مضيعة للجهود، مثل الذي يُريد إحياء وسيلة مواصلات استخدمت قديما وترميمها، كحصان مثلاً، ولكنه متهالك وميّت، بأن يُضيف إليه مُحرِّكًا وتجهيزات ليصبح سيارة نستطيع أن نقودها في القرن الواحد والعشرين! هذه عملية عبثية لا تُجدي، ومن الأفضل تكريم الحصان بوضع رفاته في المتحف، ليكون شاهدًا على الحقبة التاريخية التي كان يعمل فيها، فهذا دوره الآن، أما أن نقول بأنّ دوره لايزال مستمرًّا ليحملنا ويحمل متاعنا فهذه هي المأساة بعينها.

القرآن وكفى في ماذا، ولماذا؟

هل هو كاف للتشريع؟ أي فيه قوانين للسياسة والحكم، والطب، والتربية، والعلاقات الاجتماعية، وتخطيط المدن، وتصميم برامج الكمبيوتر!

القرآن دوره: هاد، وبشير، ونذير. أما من يتوقّع أن يكون القرآن هو الموسوعة البريطانية، وهو مخزن المعلومات لكل شاردة وواردة في هذا الكون، ويستنبط منه قوانين وأنظمة للبشرية، فهو يعيش في الكهف ولن يخرج منه. ولا أحسب أنّ أي متنوّر يُفكر بهذه الطريقة. فالقرآن يُقدم بالأساس المعرفة وليس المعلومة.

وفي الوقت نفسه يجب الاعتراف بأنّ تيار العائدين إلى القرآن جزء من حضوره في العصر الحديث هو ردّة فعل تجاه التسييس والتسنّن والتشيّع، وتجاه الإلحاد. فأطروحاتهم القرآنية، في كثير منها لم يتوفّر لها المناخ الحر لتطويرها. فلذلك لا يمكن أخذ أطروحات هذا التيار على أنّها نهائية، ومحاكمتهم عليها.

يوسف هريمة: كلّما أثرنا مسألة القرآنيين استحضرنا سؤال المنهج المقترح في قراءة القرآن الكريم. ما هي أهم ملامح هذه الخطوات التأسيسية؟. وما الفرق بينها وبين ما أسّس له علماء التفسير كابن جرير الطبري وابن كثير وابن تيمية وغيرهم؟.

نضال الغطيس: إذا سلَّمنا بأنّ القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، فأعتقد بأنّ القرآن له منهجه الداخلي الخاص به، وهو بحاجة لاكتشاف، ولا يمكن الإحاطة بكامل تفاصيله، وهو لا يخضع بالضرورة للمناهج التقليدية نفسها في العلوم الإنسانية.

لذلك لا يوجد "منهج" محدّد للتعامل مع القرآن، لأنّ وضع منهج ثابت للقرآن هو عملية قولبة لما هو لاهوتي فيما هو إنساني. ولكن هناك إشارات في القرآن حول هذا المنهج الذي نحاول اكتشافه، وذلك من خلال: آليات التلاوة، والترتيل، والقراءة، في محاولات لفهم منطِقِه ونظامه الداخلي.

هناك محاولات حديثة في كشف زيف "العلوم التقليدية" والأساليب التقليدية في التعامل مع القرآن، فعلى مستوى اللغة وقواعدها، نجد محاولات عالم سبيط النيلي حيث نقد قواعد لغة اللغو، أو كما سماها (الاعتباط) مقابل النظام اللساني القرآني المُحكم. وعلى مستوى عالمية الأفكار نجد أنّ أبا القاسم حاج حمد له مساهمات متقدّمة. وحتى على مستوى الحرف القرآني وخصوصيته كانت مؤلفات سمير إبراهيم حسن متميزة، فكل هذه المساهمات جاءت لتبيان خصوصية القرآن وتفرّده مقابل التقعيدات اللغوية والأصولية الفقهية وحتى التفسيرية للقرآن.

التشويش والتسيس الذي تكلمنا عنه، حول القرآن ومعانيه، ترك حاجزًا سميكًا وغليظًا في التعاطي الحرّ مع النص القرآنيّ، يضاف إلى هذا أنّ القرآن يُطالب المتعاطي معه بـ"تفعيل" الحسّ النقدي الجدالي، وهذا لا يقوم به فرد مُكبَّل بأواصر وأغلال موروثة وراسخة. أتوقع أن تتطوّر المحاولات لتشكيل منهج للانطلاق منه في التعامل مع القرآن بشكل أكثر فاعلية خلال المرحلة القادمة، عندما يتمّ التخلّص أوّلاً من ثقل الموروث وإرهاقه، وهو الذي يُعتبر إعاقة أمام أيّ تقدم، فلذلك يتمّ التركيز في المرحلة الحالية وبشكل غير مقصود على التخلّص من هيمنة الأوثان الموروثة، ليتمّ لاحقًا الانطلاق في الإبداع.

يوسف هريمة: يستمسك الكثير من المعارضين لفكرة وجود تيار قرآني، بما يعتبرونه مآزق منهجية وفكرية في بنية التيار. أهمّها هو أنّه امتداد لفكرة الخوارج، فضلاً عن أنّه لا يجيب بالتفصيل عن إشكالية الطقوس أو العبادات كما يسمّونها من صلاة وصوم وزكاة وحجّ. كيف يمكن أن نستوضح منكم حقيقة هذه المآخذ، وهل بالفعل يعدّ التيار قادرًا على الإجابة عن هواجس العقل الفقهي؟

نضال الغطيس: قضية الشعائر، أو "طقوس العبادات" هي الذريعة التي يتخذها أزلام الموروث وعبَّاده في رفض التعاطي مع القرآن بشكل مريح، وفي رفض الجدال بالحسنى مع "التيار القرآنيّ". وهناك مجموعة من الإلزامات التلقائية التي يضعها هؤلاء أمام الحنفاء، ومنها: (1) أنّ فهمهم هو الأصل، فالصلاة هي الصلاة كما يقومون بها، وكذلك الحج وبقية الشعائر. (2) فعل الرسول وحديثه، وما نقل عن مشاهير الفقهاء هو الفهم الصحيح والمطلق، وقولهم هو الدليل، فليس بالإمكان أفضل مما كان، (3) وأنّ الرسول هو منشأ كل هذه العبادات بوحي خاص غير وحي القرآن بحيث لم تكن موجودة من قبله، كما لو أنّ الرُسل السابقين لم يصلّوا ولم يصوموا ولم يزكّوا ولم يحجّوا!

كلّ هذه الإلزامات الحائلة دون التعاطي مع أطروحات هذا التيار هي في الحقيقة غير مُلزمة بالضرورة. ولكن هي ممانعات ومماحكات نفسيّة لا تستند إلى حجج وبراهين قويّة.

التيّار القرآنيّ انقسم إلى ثلاث مجموعات أراها جميعها غير ناضجة، فمنهم من رفض الشعائر بالكليّة، ومنهم من أخذ ببعضها مع التأويل، ومنهم من أخذها كما أخذها غيرهم. فلا نستطيع أن نقول إنّ التيّار القرآنيّ موقفه واحد من العبادات.

أنا مؤمن بأنّ العبادات هي لصالح الفرد والمجتمع، ولكن لا يمكن قصرها على الفهم الضيّق الذي حُصر الدين فيه، فكلّ هذه العبادات هي بالأساس موجّهة للارتقاء بالفرد ليرتقي بالمجتمع. فمثلاً مفهوم الصلاة والحجّ ليس مقصورًا على الحركات، بل هي مفاهيم إنسانيّة راقية، الهدف منها الصلة والتواصل مع الخلائق، فإذا أحسنتُ التواصل مع نفسي، أستطيع التواصل مع بقية الخلق. أيضًا مفهوم الزكاة - تزكية النفس -، الإنسان على نفسه بصير، وكلّها مساحات مفتوحة للتنافس الحميد والترقّي. ولقد تم إعلاء الشأن الظاهري الطقوسي من الدين في مقابل تعمُّد إغفال الجوانب الأخرى المتعلقة بالمجتمع والسياسة والحكم.

العقل الفقهي عقل قروسطيّ، وأساليب التدريس مبنيّة على الحفظ والتلقين، فالمناهج التعليمية للمواضيع الدينية في المدارس والجامعات أبعد ما تكون عن تكوين مَلَكة نقدية بحثية واعية ومُتزنة، بل تجد أنّه كلّما أغرق الإنسان نفسه في الهوامش، تغيَّب أكثر عن الحسّ السليم. فالفقه هو جزء من الأزمة الفكرية التي تعاني منها مجتمعاتنا، والهواجس الكامنة لدى الفقهاء لا يُجيب عنها أو يبدّدها التيار القرآنيّ، بل هي بحاجة إلى طبيب نفسي حاذق في التعامل مع هذه النفسيّات التي أرهقها الماضي، فأرهقت الحاضر، وستُرهق المستقبل إذا استمرت.

يوسف هريمة: لديكم معرفة بالمغالطات التي أسّس لها الكهنوت قديمًا وحديثًا، كفكرة الإجماع والنسخ، وعدالة الصحابة، ومصطلح الحديث، وغير ذلك من المفاهيم. ما هي قراءتكم الخاصة لما سميّ بأصول الفقه. هل بالفعل ما أسّس له الشافعي في رسالته كان نقطة تحوّل بالنسبة إلى مسار التاريخ الإسلامي؟ وكيف تحوّلت الإيديولوجيا السُنيّة إلى الناطق الرسمي باسم الإسلام؟

نضال الغطيس: لكلّ صنعة أدوات، ومن أدوات الصنعة الكهنوتية (للأحبار والكُهان) ما ذكرته من مصطلحات و"علوم" كعلوم القرآن والحديث والتفسير وأصول الفقه. أوّلاً كلّ هذه المُسمّيات لا يصحّ أن يُطلق عليها اسم علوم، بل هي زُخرُف من القول هدفه بالأساس وضع الدّجل في قوالب تشبه العلوم. ماذا قدّمت هذه "العلوم" من خدمة للبشريّة، يتبجّح بها الفقهاء بأنّ المسلمين بزُّوا غيرهم بها كمثل "علم" الرجال و"علم" الحديث!

ما هي الإضافة الحقيقيّة للإنسانيّة؟

في الحقيقة لا شيء، بل بالعكس، هي زادت الناس إرهاقًا. وهي الإيديولوجيا الناطقة قديمًا وحديثًا باسم السلطان، في رؤيته وتوجّهه، وهي الأدوات التي تتمّ بها السيطرة على الشعوب، وتعطيل فاعليّتها.

ثانيًا، هذه العلوم أصبحت أغلالاً أمام تقديم أي طرح بديل، فهي أصبحت من الرسوخ عبر قرون من التكرار حتى غدت أوثانًا لا يمكن الاقتراب منها أو مساءلتها! ولا يمكن أن تحدث عملية تغيير أو تجديد من البوتقة نفسها التي تسبّبت بالمشكلة، فالتغيير ليس في صالحهم، ففيه خسارة عروش ومناصب. وفي الوقت نفسه أيّ محاولات تغيير من الخارج تَتهم من يحاول التغيير بأنّه من (خارج الصنعة) أو من (غير المختصّين)! إذا كانت هذه علومًا فعلاً، فإنّ العلم يتقدّم ويتطوّر ويتقادم ويتراكم، فأين هذه العلوم من الحركة العلمية؟ والعلم لا يكون علمًا لفئة أو شريحة محددة من الناس، فالعلم يُعترف به ويُقرّ به العقلاء، فالحقيقة العلمية يخضع لها الجميع.

التاريخ الإسلامي، ليس ناصع البياض، كما يتمّ عرضه والمُفاخرة به من قبل "المسلمين"، فهو للناظر بإنصافٍ وحيادية، يشبه أيّ تاريخ صنعه الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ، ليُصدِّقه العامة والدهماء. فالتاريخ ليس حجّةً ولا برهانًا بذاته. والتحقق من ادعاءاته يكاد يكون مستحيلاً. خصوصًا إذا عرفنا أنّه عبر التاريخ قامت السلطة القائمة بقمع كلّ محاولة تغيير، أو كلّ فرد أو جماعة عارضتها: كإخوان الصفا، والمعتزلة، والسهروردي القتيل، والحلاّج.... فكلّما ارتفع رأس بتروه، وكلّما سادت أطروحة تجاهلوها، من باب: (أميتوا "الباطل" بعدم ذكره!). فمن الطبيعي أن تصبح الأيديولوجيا المُداهِنة للسلطة الحاكمة هي الغالبة وهي الناطقة باسم الأغلبية.

يوسف هريمة: يصرّ الإعجازيون اليوم (نسبة إلى دُعاة الإعجاز العلمي) على تضمين القرآن نظريّات علمية. كيف ترون مآلات هذا التوجه، خاصّة أنّ فشل كلّ نظرية علمية من خلال هذا الفكر ستخصم من رصيد هذا الكتاب؟

نضال الغطيس: بداية، أعترض على الاصطلاح الشائع بوصف القرآن بالمُعجز، أو ما يُسمّى بإعجاز القرآن، فالقرآن ليس كذلك، بل هو هدي ونور وبيِّنات، وما جاء ليتحدّى أحدًا ولا ليُعجز أحدًا. وفكرة الإعجاز العلمي هي ردة فعل على الانهزامية النفسية "للمسلم" مقابل الفاعلية الحضارية "لغير المسلم"، وهي أداة للدعاية رخيصة، لتُجّار اتخذوا من الدين بضاعة، وهي من نوع التوهم والتقمّص للمريض بالفصام، فهو مقتنع تمامًا بوجود أشباح من حوله، ولكن في الحقيقة هي محاولة هروب من الواقع المرير الذي يحيا فيه. موضوع الإعجاز ظاهرة أخذت حجمها وهي إلى زوال، مثلها مثل ظواهر أخرى من مثل تيّار أسلمة المجتمعات والمناهج، والمصارف والاقتصاد الإسلامي، هي كلها تشنُّجات مؤقتة لشخص يعاني من (حالة التَوَهان) في الحياة ولا يدري بالضبط ما يريد فعله، كلّها ظواهر لمرحلة المراهقة الفكرية. فكلّها ظواهر إلى زوال مهما رأينا حجمها يكبُر، فكبرها كان لأنّها صادفت قلبًا خاليًا فتمكّنت.

أمّا القرآن وما فيه من إشارات علمية، فيجب فهمها ضمن السياق المعرفي للإنسان المتعاطي مع القرآن، وما في القرآن من معلومات هي في النهاية تخاطب البشر باختلاف مستوياتهم، وليس شريحة "العلماء" وحملة التخصّصات العلميّة الدقيقة في علوم الأجنّة والفلك.

لسنا بحاجة إلى أن نستورد من الغرب المعلومة لنبحث لها عن شبيه أو مصداقية فيما لدينا. فإذا اعتبرنا فعلاً القرآن كتابًا يُراد به أن يكون معملاً أو مختبرًا طبيًّا، فلنسرُد الاختراعات التي استخرجناها منه.

هناك صحوة أخلاقية روحانية على مستوى العالم، بالرغم من التطور العلمي ذي الصبغة الإلحادية، ولكن التطوّر العلمي في النهاية سوف يخدم الحقائق الكبرى في حياة الإنسان، والتي هي نفسها ما تدعو إليه جميع الأديان، من هنا يمكن أن نكون قادرين أن نُقدم عظمة الكتاب للآخرين، فالبشرية في مسيس الحاجة لهذا، وليس عن طريق مدخل العجز والإعجاز.

يوسف هريمة: نعيش اليوم أزمة وجودية على مستوى الفكر الديني وما يحدثه من صراعات عالمية أفرزت نوعًا جديدًا من المقاربات الأصولية المتطرفة. فبالنسبة إليكم ما هو سبب هذا التراجع الفكري؟ وكيف تردّون على من يقول بأنّ مصدر العنف هو النصوص الدينية خاصّة في الدعوة إلى القتل وأخذ الجزية وضرب الرقاب؟ فهل هذه القراءات صائبة؟ أم أنّ هناك خطأً منهجيًّا في تناول بعض الآيات التي ذكرت كل ما تحدثنا عنه سابقًا؟

نضال الغطيس: جزء من الأزمة أنّنا حصرنا المشكلة على مستوى الدين، نحن نعاني أزمة - كما تفضلت - وجودية حضارية شاملة، على مستوى الأخلاق، والتعليم، والتربية، والسياسة، والثقافة، والحريات...، ولكن لأنّ الدين يشكّل هاجسًا رئيسًا والأهم في حياتنا فانصبغت كل الأزمات بصبغة دينية. الدين كان هو الملجأ والملاذ الأخير الذي آلت إليه النفسية الأعرابية في بحثها عن ملجأ ومأوى يُخلِّصها مما هي فيه من ضنك وبؤس وتصحُّر، الدين أصبح مثل المخدّر الذي تدور حوله معظم قضايانا.

إن نظرنا إلى أكثر الشعوب تقدّمًا، نجدها تخلصت من هذه العقدة، فالدين لديها لا يشكّل شيئًا ذا بال، خصوصًا في جانبه الطقوسي، إلاّ في معانيه الإنسانية الراقية، من استهجان للكذب والسرقة وإيذاء الآخرين....، فبذلك عاد الدين لديهم إلى حجمه الطبيعي. فتخَّلصوا من العُقد والمُعيقات. فساحوا في الأرض بأريحية، فأبدعوا.

الدين في حياتنا، استُغلّ، وسُخّر ليكون الطرف الأكبر المتحكّم في مصائرنا، فلقد خرج التديّن من الحيز الفطري التلقائي، إلى الحيز المؤسساتي الشعاراتي. لذلك فإنّ الدين هو الشعار الأكبر الذي نرفعه ويرفعه غيرنا ضدّنا، في شن الحروب، وافتعال الأزمات، وتجييش الانفعالات، فهو الأرضية المشتركة لتحريك كلّ خيوط اللعبة، التي نشترك فيها طواعيّة بل وبكلّ تفان!

التراجع الفكري أسبابه كثيره، أهمّها: أنّ الفساد والطغيان مؤسّسيان ومُقننان، وكذلك الانغلاق على الذات، وكُرْه الذات، وعدم الاستمتاع بالحياة، وعدم الشعور بأهمّية النفس والوجود، فعندما اعتقدنا بأنّ هذه الحياة (الدُنيا) وأنّ السعادة في (الآخرة) أي بعد الموت، وتمّت مُطالبتنا بالزهد في كلّ شيء، حتى في الاستمتاع بالطيّبات من مثل الموسيقى والغناء والفنون لأنّها تتعارض مع الدين، كلّ هذا سلبنا فاعليّتنا الحضاريّة، بل أفقدنا إنسانيتنا. فما يحدث لنا هو بما كسبت أيدينا، ولولا الضعف الداخلي ما غزانا أحد.

واحد من أهمّ مصادر العنف هي في الشخص الذي يتعامل مع النصوص الدينية المشوَّهة الفهم، النصوص الدينية بالتحريف الذي حدث لها، أصبحت أدوات فتك ودمار. ولكن ما كان لها أن تفتك إلاّ بأيد مُجرمة، وجدت المُبرّرات لنفسها لتستمرّ في غيِّها.

وليست هناك فقط مشكلة في فهم النصوص بل هناك خطيئة مُتعمَّدة. لو نطَّلع على النصوص الدينية للشعوب الأخرى نجدها تحتوي على ما هو أشدّ من الفظاعات التي لدينا، ولكن هذه النصوص فقدت تأثيرها، أو لنقل تمّ ترشيدها، لأنّ مُتلقّي النصّ أصبح أكثر حكمةً، وأرشد عقلاً، وأوسع صدرًا بالتسامح وتقبّل الآخر. وهذا ما لا نجده متوفّرًا في حالتنا. القرآن نفسه تكلّم عن حالتين في تلقي النص القرآنيّ: "... قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِيْنَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ فِيْ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ" (فصلت: 44)

فلو كان الإسلام يدعو إلى الذبح والسلب وانتهاك الحريات باسم الغزوات والحريات، لما آمن به أحد، ولفَقَد خاصّيته الرحمانية، ومصدره الإلهي، ولما أصبح كتاب هداية بل كتاباً لتنظيم (قواعد) الاشتباك في الحرب.

يوسف هريمة: ختامًا، ونحن نعيش مأزق الأصولية الإسلامية اليوم بعناوين مختلفة (داعش/النصرة/ القاعدة).هل توافقون على علمنة الدولة بوصفه حلاًّ بالنسبة إلى الصراع الدائر اليوم؟ وكيف تجيبون من يقول بأنّ أزماتنا ليست في تراثنا، بل فقط في إنساننا؟

د. نضال الغطيس: البشر اجتهدوا لإحكام الأنظمة التي تحكُمهم، فحدثت توافقات تطوّرت وارتقت مع الزمان، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في هذا القرن. في حالة مجتمعاتنا لم يحدث هذا الحراك بعد، ولا يمكن استيراد أنظمة (من الآخر) لتناسبنا وتكون على مقاسنا. العلمانية ليست ذات وجه واحد، بل تتشكّل حسب المعطيات البيئية التي تنشأ فيها، فالعلمانية الفرنسية تختلف عن العلمانية الأمريكية وعن العلمانية التركية... وهكذا، وإن كانت كُلّها تتشابه في أُسسها العامّة. السير في طريق العلمنة لا مفرّ منه، وهو التطوّر الطبيعي للفكر البشري، وأصلاً القرآن ينادي بهذا، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. الدين هنا ليس هو الشعائر والطقوس بل هو نظام الحكم، وأنتم أعلم بأمور دنياكم، هذا شعار علماني بامتياز.

يعتقد المسلمون أنّ التقدّم الحضاري والازدهار الذي عاشوا فيه في وقت ما يسمّى بالعصور الأوروبية المظلمة هو بسبب الدين. أنا لي وجهة نظر مغايرة بأنّ الرفاه والتقدّم العلمي، كان بسبب الوفرة والتمتّع بالخيرات، مثل الذي تتمتّع به الدول الغربية الآن، يعيشون في وفرة، فيستطيعون الإنفاق على البحث العلمي والابتكارات، ولكن في الوقت نفسه نجد أنّ العديد من العلماء الذين قدَّموا خدمات جليلة واختراعات للمسلمين، كانوا أصلاً - بدرجات مُتفاوتة - مُضطهدين، بل تمّ تكفير بعضهم وقتله.

لن نستطيع النهوض والانطلاق، إلاّ إذا دخلنا في مُراجعات جذرية للذات، وانفتحنا بتلقائية على الآخر المُغاير، وتعلّمنا من تجربة الآخرين، فالإنسانيّة في حركتها متشابهة، والمُنجَز الإنساني هو مُنجَز مشترك للجميع. وأولى خطوات التغيير هي في تغيير النفس.