نظرية الصراع الماركسية والدين الحق


فئة :  قراءات في كتب

نظرية الصراع الماركسية والدين الحق

 نظرية الصراع الماركسية والدين الحق

قراءة في كتاب "دين ضد الدين" لعلي شريعتي


يُعد كتاب "دين ضد الدين" حسب محمد حسين بزي[1] من أقوى الكتب التي ألفها المفكر الإيراني علي شريعتي في مساره الفكري وأخطرها. يرجع ذلك أساساً إلى المُعالجة الجريئة لقضايا الدين والمجتمع والسلطة، اعتماداً على نظرية الصراع الماركسية ومن زاوية نظر مفكر إسلامي.

يتألف الكتاب من 256 صفحة من الحجم المتوسط، وهو ثاني الأعمال المترجمة إلى اللغة العربية لعلي شريعتي. صدرتْ الطبعة الأولى للترجمة العربية سنة 2003م لحيدر مجيد، عن دار الأمير للثقافة والعلوم، وفي سنة 2007م صدرت الطبعة الثانية. أمّا الأصل الفارسي فقد كتبه علي شريعتي على شكل مقالات ومحاضرات، في فترة ما بين 1970م و1971م، ثم جُمعت سنة 1982م في سلسلة نتاجات علي شريعتي التي صدرت باللغة الفارسية في مُحاولة لنشر تراثه بعد حادثة مقتله سنة 1977م.

إنّ الغاية وراء عرض هذه المراجعة للكتاب ليست فقط بيان مضامين الكتاب والتحفيز على القراءة لواحد من أعلام الفكر الإسلامي المُعاصر؛ بل أيضًا إبراز مدى اطلاع علي شريعتي على كبريات النظريات التاريخية والاجتماعية، والطريقة التي وظف بها هذه النظريات من أجل مُعالجة إشكالية شائكة في مُحيطه الثقافي، هي إشكالية الدين والسلطة. وعلى الرغم من أنّ مضامين الكتاب التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي قد لا تنسجم مع جديد النظريات الاجتماعية خصوصاً تلك التي بلورت رؤية تعددية أكثر إبداعاً، إلاّ أنّ الإطار المنهجي النقدي الذي شكل البناء الفكري لعلي شريعتي، هو نفسه الإطار الذي انتهجه العديد من العلماء الغربيين للدفع بعجلة المعرفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية. فحين حاول سان سيمون وأوجست كونت توظيف نتائج العلوم التجريبية ومناهجها لدراسة المجتمع والإنسان، ظهر علم الاجتماع والمنهج البنائي الوظيفي لدراسة المجتمع؛ وعندما أراد كارل ماركس تطبيق الفلسفة المادية الجدلية على الوقائع التاريخية ظهرتْ المادية التاريخية، وهكذا سنجد الأمر يتكرر مع مُختلف الحقول المعرفية الأخرى، حيث كان لانتقال تطبيق نظرية علمية من حقل معرفي إلى آخر أثر في كشف أبعاد جديدة لمقاربة إشكالاتنا المعاصرة وفتح آفاق مُختلفة لفهم أعمق. إنّ علي شريعتي بتبنيه للنظرية الماركسية في شقها التاريخي من أجل فهم تاريخ الأديان وطبيعة الصراع بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، قد فتح الباب للمُعالجة العلمية للظاهرة الدينية، وعلى الرغم من أنّ مشروعه أجهض في بداياته، وتعثر بعد استلامه على أيدي أتباع هذه المدرسة، إلا أنّ نموذج الفكر النقدي الذي تبناه علي شريعتي وناقشه في إحدى مقالات هذا الكتاب[2] يُعتبر نموذجاً إسلامياً إنسانياً على قدر كبير من النضج. أما على الصعيد الاجتماعي فقد كان لمقالات هذا الكتاب بالإضافة إلى نشاطات علي شريعتي الأثر الكبير في توعية الطبقة المثقفة بطبيعة الصراع السياسي والديني في إيران، لذلك كان غير مرغوب فيه في عهد الشاه، وكثيراً ما تمت مُهاجمته من طرف مشايخ السلطة واتهامه بأنّه وهابي ناصبي[3]. لقد منح الإنتاج الفكري لعلي شريعتي وعياً حقيقياً وسلاحاً أيديولوجيًّا لعموم المثقفين والشباب في إيران، مكنهم من تحقيق ثورتهم والإطاحة بحُكم الشاه على الرغم من حادثة مقتله قبل سنتين من اندلاع الثورة. وليس هاهنا المجال لنقد الثورة الإيرانية وما خلفته من نظام سياسي قائم على ولاية الفقيه، غير أنّ ما نُريد التأكيد عليه هاهنا، أنّ علي شريعتي مثل نموذج المُثقف الحقيقي الذي حمل مُهمة الدفاع عن الإنسان ضد الظلم والتخلف الديني.

ورجوعاً إلى "دين ضد الدين"، فإنّ الكتاب يتألف من سبعة مقالات، أهمها المقال الذي يحمل عنوان الكتاب، ومقال "نعم، هكذا كان يا أخي" ومقال "لولا الباب وماركس". أما بقية المقالات فليستْ على قدر كبير من الانسجام مع إشكالية الكتاب المحورية، فمقال "توينبي، الحضارة-الدين" هو محاورة مقتطفة بين علي شريعتي وتوينبي تتألف من ثلاث صفحات، شرح فيها نظرته حول الدين الذي نقله لنا التاريخ والدين الآخر الذي لم يتحقق تاريخياً، وهي فرضية عالجها بشكل أكثر إسهابًا في المقال الأول "دين ضد الدين"؛ وأما بقية المقالات[4] فهي تُعالج إشكالات مذهبية بين التشيع والتسنن، لم يكن هنالك داع لإقحامها في الكتاب.

لم يُشر علي شريعتي إلى منهجه في أهم مقال وهو الذي حمل عنوان الكتاب نفسه "دين ضد الدين". لكن مع ذلك فإنّ هيمنة نظرية الصراع والمادية التاريخية على الإطار النظري لشريعتي لا تحتاج كثير استدلال من أجل بيانها، هذا بالإضافة إلى رفضه أي مُحاولة تسعى إلى شرعنة الاستقرار والقبول بالواقع، ولعله في ذلك ينتقد ضمنيًّا النظرية البنائية الوظيفية لأوغست كونت ودوركايم. وإن أردنا إخراج هذا الكتاب ومقاله الرئيسي من دائرة الفكر الإسلامي الفضفاض إلى حقل أكاديمي تخصصي، فإنّ مجال التاريخ وعلم الاجتماع هو الأنسب إلى ذلك، مع الإشارة إلى اعتماده الإطار العام للنظرية الماركسية في مُعالجة تطور المجتمع، دون الأخذ بجميع جوانبها الفلسفية، حيث استعاض عن ذلك بمزجها بنفحة إيمانية خفَّفتْ من الجوانب المادية لصراع الطبقات. هذا المزج بين المادية والدين نقله علي شريعتي من حالة التناقض والتنافر إلى حالة من التعددية الخلاقة التي تسمح برؤية المجتمع والإنسان من زوايا تكاملية مُختلفة، ولعل أبرز نص في الكتاب يسمح بمُلامسة رؤيته التكاملية التألفية هو قوله: "أنا سني المذهب صوفي المشرف بوذي ذو نزعة وجودية شيوعي ذو نزعة دينية مغترب ذو نزعة رجعية واقعي ذو نزعة خيالية شيعي ذو نزعة وهابية وغير ذلك"[5].

إنّ حقيقة الحضور الدائم والمستمر للدين في جميع أطوار المُجتمع الإنساني شكلتْ الأساس الذي انطلق منه علي شريعتي في مقاله الأول. وعلى ضوء ذلك، فإنّ مصطلحات من قبيل الشرك أو الكفر باعتباره غيابًا للدين، لا تُعبر عن واقع موضوعي، بل هي نظرة ذاتية يطلقها أهل الأديان على من لا ينتحل نحلتهم ولا يدين بدينهم[6]. من خلال هذه المُحاولة في إعادة صقل المفاهيم، والانتقال من مستوى الدين واللادين، إلى مستوى الدين الحق والدين الزائف، فإنّ علي شريعتي يُرجع ظهور بوادر الصراع الديني إلى ظهور دعوة دينية جديدة تأتي لمُواجهة الديانة السابقة، وفي المقابل فإنّ الديانة القديمة تكون أول من يقوم ضد الأفكار الوافدة[7]. فالصراع إذا هو بين نوعين من الدين.

يهدف علي شريعتي من خلال هذا التحديد المفاهيمي إلى وضع مقدمة ينطلق من خلالها في مُعالجة الإشكالية الكُبرى، والتي تتجلى أساساً في كون النقد الغربي للأديان الذي نتجت عنه موجة معاداة الدين ومناهضته في القرنين الماضين لم تكن سوى مظهر من مظاهر عدم قدرة المفكر الغربي على التمييز بين شكلين من الدين يختلفان أشد الاختلاف. إنّ الدين الحق حسب تصور علي شريعتي هو دين التوحيد وعبادة الله، وهو في صراع دائم ومستمر مع دين الشرك، ويعرض لذلك نموذجاً لصراع موسى مع كل من السامري وبلعم بن باعورا، وصراع عيسى مع الفريسيين، وصراع نبي الإسلام ﷺ مع مشركي مكة.

وعلى الرغم من أنّ علي شريعتي يتبنى تفريقًا لاهوتيًّا بين الدين الحق الذي يمثله التوحيد والدين الزائف الذي يتمثل في جميع مظاهر عدم التوحيد (الشرك) فإنّه يُحاول إنزال هذه المفاهيم من عالم السماء إلى عالم الأرض، بُغية مُعالجتها في بعدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولعل أبرز مثال لذلك يأتي في تعريفه لدين الشرك بأنّه: "الشعور الديني لدى الناس والذي كان لعبةً في يد الملأ والمترفين الذين حكموا المجتمعات عبر التاريخ الطويل"[8]، ففي هذا المستوى يصير كل توظيف للدين من أجل السيطرة والهيمنة تجليًا لدين الشرك، حتى لو كان في ظاهره ديناً توحيدياً[9]. هذا وبالإضافة إلى أنّ دين التوحيد ينبع من إيمان الإنسان بأنّ الله عليم وخالق ومريد ومدبر، فإنّ ذلك من شأنه أيضًا أن ينقل الفكرة الدينية من بُعدها الغيبي إلى الواقع الاجتماعي للإنسان، فتضمحل أمامه كل الموجودات والفروق والقوى الأخرى[10] في تجلٍ إسكاتولوجي لانتصار دين التوحيد. ومن خلال هذا المقاربة يبدو واضحاً تأثر علي شريعتي بالرؤية الماركسية لنهاية التاريخ، مع استبدال البعد الاقتصادي عاملاً لظهور الشيوعية، بالتوحيد الذي سيتجلى تاريخياً في واقع الاعتقاد بوحدة البشرية بشتى ألوانها وأقوامها وطبقاتها وأعراقها[11]. وإذا كان كارل ماركس قد اعتبر أنّ الصراع بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة هو صراع مستمر سينتهي بظهور النظام الاقتصادي الشيوعي، فإنّ علي شريعتي يُضيف إلى ذلك أنّ دين الشرك هو السلاح الأيديولوجي الذي تستعمله الطبقة الحاكمة من أجل السيطرة، في مقابل الأفكار الثورية لدعوة الأنبياء التي تحمل في طياتها التنوير الأيديولوجي للطبقة المُستضعفة.

إنّ ما يعرضه علي شريعتي عند حديثه عن ماهية دين الشرك ودين التوحيد يتطابق مع التحليل الماركسي لأيديولوجية الطبقة البورجوازية المسيطرة على وسائل الإنتاج وما يقابلها من طبقة العمال. ومن جديد يتبنى نظرية الصراع ويُحاول تطبيقها على مجال تاريخ الأديان. فمهمة المثقف حسب كارل ماركس تبرز تحديداً في تهيئة طبقة العمال للثورة من خلال توعيتهم بالواقع الذي يعيشون فيه. وعند المؤلف الإيراني، فإنّ مهمة المثقف تجلت بشكل بارز في دعوة الأنبياء التي اعتبرها مثالاً للأفكار الثورية المميزة لدين التوحيد: "إنّ السمة الأساسية لهذا الدين –الدين التوحيدي- أنّه يتفادى تبرير الوضع القائم تبريراً دينيًّا ولا يؤمن بمبدأ الرضوخ للأمر الواقع أو اتخاذ موقف اللامبالاة حيال ما يُحيط به. لاحظوا حركة الأنبياء، سوف يتضح لكم أنّ الأديان التوحيدية، خاصة في مراحل ظهورها الأولى أي فترة نقائها عن الشوائب والتحريف، تتسم عادة بطابع رافض للوضع القائم ونزعة ثورة وتمرد على كل جور وفساد، وهذا التمرد والطغيان يأتي متصاحباً مع العبودية والخضوع لموجد الكون، والانقياد لقوانين الوجود التي تتجلى فيها الإرادة والقدرة الإلهيتان"[12].

وفي الجهة المقابلة للنهوض الثوري، سنجد الفكر التبريري الذي يكرس ويشرعن استبداد الحكام، والذي يعتبره علي شريعتي من أبرز مظاهر دين الشرك، حيث تتم بلورة الأفكار والمعتقدات الدينية من طرف رجال الدين بهدف السيطرة على الناس وضمان استمرار هيمنة الطبقة الحاكمة[13]. وليس هذا الأمر رهين الأديان غير الإبراهيمية، إذ يستدرك سريعًا ويجعل تاريخ الإسلام منذ تحوله إلى المَلكية بداية استعادة لدين الشرك الذي حاربه محمد ﷺ، ولم يكن ذلك بمعزل عن الجانب العقائدي، إذ يُشير إلى أنّ رجال الدين الذين دافعوا على معتقد الجبر وغياب حرية الإنسان إنّما تبنوا أفكاراً "ابتدعها حكام بني أمية ليسلبوا من المسلمين الشعور بالمسؤولية ويحرموهم من كل أنواع النقد ويقتلوا روح المبادرة فيهم لأنّ الجبر يعني الانصياع إلى كل ما هو موجود والخضوع لكل ما هو كائن"[14].

وبالإضافة إلى اختلاق الأفكار الدينية التبريرية لتكريس الرضوخ لأمر الحكام، فإنّ علي شريعتي يعتبر التمييز الطبقي والفئوي بين الناس في المجتمعات الأولى، أمراً تتوسله الطبقة الحاكمة أيضاً من خلال دين الشرك، وهو تحليل يُمكن إرجاعه إلى تأثر شريعتي بإسقاطات الفلسفة المادية التي ترى أسبقية الواقع المادي على الفكرة. فاختلاف الناس سواء من حيث الجنس أو السن أو اللون أو العمل أو الحكم، سيتطور سريعًا إلى نوع من الهيمنة والتسلط، وسيكون على الطبقة المهيمنة خلق أفكار دينية غيبية ذات سلطة قاهرة لضمان استسلام الفئة المحكومة[15]. ومع تطور المجتمعات ظهرتْ الحاجة إلى تعدد الآلهة، وتم تبرير إخضاع قبيلة لأخرى أو عرق لآخر بأنّ "إلهه وخالقه هو أدنى مرتبة من إله العرق الآخر وأقل شأنًا من رب الطبقة الأخرى"[16]. فكان بالتالي دين الشرك وتعدد الآلهة مدعاة إلى تبرير التمييز الطبقي والعرقي، وهذه الحالة المرضية في المجتمع هي التي تسمح بوجود الاستغلال والهيمنة من طرف على آخر. بينما في حالة دين التوحيد، تذوب كل الفوارق والطبقات ويتساوى الناس أمام الله[17]، فلا فرق بين سيد وعبد ولا تمييز بين الناس على أساس الحسب والنسب. وسيسهل معرفة دين الشرك حسب علي شريعتي من خلال النظرة إلى الطبقة الحاكمة، فالمؤسسون للدين المزيف والمحافظون عليه دائمًا ما يوجدون في زمرة الطبقة الحاكمة وأصحاب النفوذ والغنى[18]، ومن هذا المنطلق يُوافق ماركس في مقولته الشهيرة: "الدين أفيون الشعوب". إذ أنّ الدين الذي تُروج له الطبقة الحاكمة ليس الهدف منه سوى إقناع الفرد بحالة الذل والهوان والاستغلال، وتبرير ذلك بأنّها مشيئة الإله أو الآلهة. ومن هذا المنطلق فإنّ علي شريعتي يقبل كل ما وصلت إليه الأبحاث التاريخية عند الغربيين من كون الدين تعبيرًا عن حالة الجهل وعدم اطلاع الناس على الحقائق والعلوم وأنّه وليد مخاوفهم ووليد التمييز والحرمان في عهد الإقطاع[19]، مع الإشارة إلى أنّ هذا كله ينطبق على دين الشرك، بل يُضيف إلى ذلك أيضًا دين الشرك الخفي الذي ظهر مع بداية الحكم الأموي والعباسي واستمر إلى تاريخينا المُعاصر. ويُرجع علي شريعتي اختفاء دين التوحيد إلى كون دعوة الأنبياء باعتبارها حركة ثورية على دين الشرك والطبقة الحاكمة التي تستفيد من استنزاف المقهورين، لم يُكتب لها البقاء سوى فترات ضئيلة وخافتة من تاريخ البشرية وسرعان ما تعرضت للنسيان، ومع ذلك فإنّ هذه الإشارة كافية لبيان أنّ الله كان دائمًا مع الناس وفي صفهم وليس مع المترفين والملأ والطبقة الحاكمة.

بعد عرضه لمختلف جوانب التأثيرات الاجتماعية لدين الشرك من حيث هو سلاح بأيدي الطبقات الحاكمة على مر التاريخ، ينتقل علي شريعتي إلى الحديث عن رسالة العلماء والمفكرين، باعتبارها "محاربة للدين من أجل إحياء الدين"[20]، وأنّها حمل لمشعل حركة الأنبياء الثورية التي لم تتحقق تاريخياً[21]. وفي هذا الصدد يؤكد أنّ الرسالة التي حملها المفكرون في عصر التنوير وصراعهم مع دين القرون الوسطى والرجعية والتسلط هي نفسها الرسالة التي أخذها الأنبياء على عاتقهم، مع الاختلاف في المضامين[22]؛ إذ لم يستطع المُفكر الغربي أن يميز بين الدين الحق والدين الزائف، فضم كل الأديان في خانة واحدة واعتبرها مظهراً من مظاهر التخلف والتحجر. لكن شريعتي يدعو إلى ضرورة التمييز بين دين الأنبياء والرعاة والمظلومين والمحرومين ودين الملأ والمترفين والحكام، يقول في ذلك: "كيف يمكن الحكم على الدين الذي صنع أبا ذر بنفس الحكم الذي نحكمه على الدين الآخر الذي جاء ليبقى على كظة الظالم وسغب المظلوم والذي كان مسبباً للفقر وحامياً له؟"[23]. إن علي شريعتي في هذه المقاربة ينتقل من السماء إلى الأرض بشكل سلس لكن بغير ضابط منهجي استقرائي، فدين التوحيد هو الدين الحق؛ ودين الطبقة المظلومة والمحرومة هو دين التوحيد.

وفي المقال المُعنون بـ: "نعم... هكذا كان يا أخي"، يعرض علي شريعتي قصة رحلته إلى مصر لرؤية الأهرام الثلاثة، وهي الزيارة التي شكلتْ بالنسبة إليه منعطفاً فكرياً حاداً. فقد علم أن عظمة هذه الأهرامات بنيت على أنقاض جثث العبيد الذين كانوا ينفقون يوميًّا ويدفنون في مقابر جماعية حُفرتْ بالقرب من موقع الأهرام. لقد أعاد انتماءه الوجودي لهذه الطبقة من العبيد، ووجه لواحد منهم رسالة يحكي له أن لا شيء تغير منذ خمسة آلاف سنة، فدين فرعون والملأ والسحرة استمر في السيطرة على الطبقة المستضعفة سواء كانوا عبيدًا أو عمالاً أو مُحاربين يدخلون في حروب من أجل تلبية أطماع الحكام. وكان الأنبياء الكذبة يتوجهون بخطابات التزلف للحكام، وقليلاً ما يتحدثون عن المستضعفين الذين لا يتوجهون إليهم إلا من أجل حثهم على قبول واقعم البئيس. وفي غمرة هذا الوضع الذي امتد على مدى التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها، جاء صوت خاتم الرسل لينقل رسالة الله: "ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمَّة ونجعلهم الوارثين" [القصص: 4]. يُشير علي شريعتي إلى أنّ هذا الخطاب الإلهي لم يُوجه للحُكام، ولا من أجل تبرير قهر المستضعفين وتخديرهم، بل جاء مُبشراً بالنصر لهذه الطبقة المحرومة، لكن هذا الصوت الإلهي سرعان ما خفت، ليتم توظيفه وتوظيف رسالة النبي على خلاف الغاية المنشودة، وعاد دين الشرك من جديد للسيطرة على مجريات التاريخ.

ويستعرض شريعتي في مقال: "لولا البابا وماركس"، الدور الذي قام به البابا على مدار التاريخ، ليس باعتبار "البابا" منصبًا كنسياً ولكن باعتباره نموذجًا "للطبقة الرسمية لرجال الدين الذين كانوا يتحكمون بعقائد الناس على طول التاريخ وفي مختلف المجتمعات ويستخدمونها في تحكيم أسس نظامهم الظالم الذي يجعل من الأكثرية ضحية لنبل الأقلية الحاكمة"[24]. ومن هذا المنطلق يُبرر شريعتي تبني ماركس للفلسفة المادية من أجل نفي الدين الذي يشكل الأساس الفكري لهيمنة النبلاء وحكومة الاستبداد والتحجر، واستطاعت أفكاره أن تمد المستضعفين بوعي طبقي وسلاح أيديولوجي يمكنها من البقاء والاستمرار في طريقها[25]. ومع ذلك وعلى الرغم من موافقة علي شريعتي لثورية أفكار ماركس، فإنّه يرفض تبني موقفه نفسه الذي لا يُفرق بين دين التوحيد الثوري ودين الشرك البورجوازي. لينطلق في نقد المادية التاريخية من تأكيده المستمر على وجود نوعين من الدين، لكن سجلات التاريخ التي اشتغل عليها الماديون اقتصرتْ فقط على الدين الرسمي الذي استغلته السلطات الحاكمة لحفظ مصالحها. فإن كان من واجب المثقف والمفكر أن يطلع ويستفيد من أفكار ماركس، فإنّ عليه بالمقابل تشغيل الحاسة النقدية والتمييز بين الدين الحق والدين الزائف، ويُعبر عن ذلك في مقولته التالية: "إنّ رسالة المفكر الحر تتجلى في العمل على إنقاذ هذه الضحية وإحياء شهيد التاريخ هذا لا نفيه وتكذيبه وتلويثه"[26]. بل إنّ رسالة ماركس ونظريته حول نهاية التاريخ لن تتحقق حسب شريعتي إلى بالدين الحق الذي من شأنه أن يربي الناس تربية معنوية وأخلاقية تمكنهم من إيثار حقوقهم وصنع مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية[27]. وداخل هذا المجتمع فقط تتحقق الشيوعية التي نادى بها ماركس بوصفها حق إنسان، وتجليًا للعدالة والحرية والإنسانية.

إنّ الفكرة التي دافع عنها علي شريعتي في هذا الكتاب يجب مقاربتها من جانبين، جانب واقعي، وآخر طوباوي. برز الجانب الواقعي في مقاربته الاجتماعية الماركسية وتبنيه نظرية الصراع في نقده لطبقة الحكام التي استغلتْ الدين من أجل السيطرة على الطبقة المُستضعفة، وعلى الرغم من نجاعة هذه المقاربة إلا أنّ التركيز على الصراعات الكُبرى "الماكرو" حال دون بيان جوانب مهمة في الظاهرة الدينية، أو حتى البُنى الأولية التي لا تُمثل إعادة انتاج من طرف القوة الحاكمة بل تُجسد رغبة الإنسان في فهم العالم حوله. ومن هذا المنطلق فإنّ علي شريعتي لا يُعالج الظاهرة الدينية إلا من منطلق كونها سلاحاً بيد الحكام من أجل السيطرة على المستضعفين، فالديانة البوذية يختزلها في تحالف بوذا مع الأمراء، والكونفوشيوسية تحولتْ سريعاً إلى سلاح بيد الحكام بعد تحالف كونفوشيوس مع الإمبراطور، والمسيحية تحولتْ لدين الدولة الرومانية، والإسلام تم هدمه على يد قوى الشرك الخفي، وستنعكس كل هذه المقدمات على تاريخ الحضارة، التي لا يرى فيها علي شريعتي إلا تجليًا من تجليات هذا الصراع، فكل الآثار الدينية ما هي إلا دليل آخر على تسلط الملوك ورجال الدين وتسخير قوة العبيد من أجل مصالحهم الخاصة؛ أما الجانب المثالي فتمثل في آماله بتحقيق العدالة وتنظيره لدين التوحيد باعتباره حالة نهائية للتاريخ يتحقق معها هدم نظام الطبقات وسيادة العدل المطلق، وهو ما يجعل من هذا النموذج المثالي صعب التحقق إن لم يكن مُستحيلاً، بل سرعان ما انقلبتْ تنظيرات علي شريعتي بعد نجاح ثورة إيران إلى نظام ثيوقراطي، أعاد من جديد الصراع ولم يُنهه، واختفى حُلمه الطوباوي في غياهب التاريخ.


[1] المسؤول عن نشر أعمال علي شريعتي وترجمتها إلى العربية.

[2] علي شريعتي، دين ضد الدين، تر: حيدر مجيد، لبنان: دار الأمير للثقافة، ط.2، 2007 (2003)، ص ص 143-159

[3] نفسه، ص 219

[4] مقال "وداعاً يا مدينة الشهادة" و"ندوة للإجابة على الأسئلة والانتقادات" و"مقتطف من حوار مع أحد الطلبة الجامعيين".

[5] نفسه، ص 213

[6] نفسه، ص 26

[7] نفسه، ص 27

[8] نفسه، ص 76

[9] نفسه، ص ص 72-73

[10] نفسه، ص 34

[11] نفسه، ص 35

[12] نفسه، ص ص 40-41

[13] نفسه، ص 42

[14] نفسه.

[15] نفسه، ص 44

[16] نفسه.

[17] نفسه، ص 65

[18] نفسه، ص 45

[19] نفسه، ص 49

[20] نفسه، ص 77

[21] نفسه، ص ص 80-81

[22] نفسه، ص 80

[23] نفسه، ص 83

[24] نفسه، ص 149

[25] نفسه، ص 150

[26] نفسه، ص 152

[27] نفسه، ص 157