نظرية الممارسة لدى قطب السوسيولوجية النقدية الفرنسية


فئة :  قراءات في كتب

نظرية الممارسة لدى قطب السوسيولوجية النقدية الفرنسية

أصدر عالم الاجتماع والمترجم المغربي حسن أحجيج، خلال مطلع هذه السنة، كتابا جديدا موسوما بـ"نظرية العالم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو"[1] يسلط من خلاله الضوء على الترسيمات الإبستيمولوجية المؤطرة للممارسة العلمية عند أحد أقطاب السوسيولوجيا النقدية الفرنسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يحاول أحجيج النبش العلمي في المتن السوسيولوجي لبيير بورديو (Pierre Bourdieu) انطلاقا من توحيد خيوطه الأساس في إطار نظرية أو براديغم الممارسة التي طبعت نظرة هذا السوسيولوجي للتفاعلات المستمرة بين البنيات الذهنية والبنيات الموضوعية داخل العالم الاجتماعي (المجتمع)، مع محاولة تجاوز -وحتى تصويب- التنميط المعرفي الذي ميز الاستقبال العربي لفكر الرجل واختزله في مفاهيم وعبارات مجتثة من سياقها وإطارها التاريخي كما الفكري.

يعترف أحجيج بأن دافعه الأساس لتأليف الكتاب راجع إلى معاينته لأعطاب كثيرة في الاستقبال العربي للفكر السوسيولوجي لبيير بورديو. فمن ناحية، هناك غياب شبه كلي لأي مؤلفات جادة تتناول الفكر البورديوي بعيدا عن التجزيئات والاختزالات المفهومية التي حرفت معانيه أكثر مما قربتها للقارئ العربي. ومن ناحية ثانية، أسهمت بعض الترجمات لدراسات وكتب بورديو (خاصة عن الإنجليزية) في إساءة فهم الرجل، إما باعتباره مفكرا نخبويا عصيا على الفهم والاستيعاب، وإما بتبسيط متونه في إطار خطاطات نظرية مفصولة عن سياقها العملي والممارساتي (على سبيل المثال، نصادف في العديد من المؤلفات والمقالات الأكاديمية حديثا عن مفهوم "المجال" كترجمة للمصطلح الانجليزي "The Field" في حين أن بورديو نفسه يتحدث عن "الحقل" (le champ) بالضرورة [يُفَضل استعمال "المجال الاجتماعي" تعبيرا مرادفا لـ (social space)]. ومن ناحية ثالثة، تمارس أعمال بورديو إغراء أكاديميا على الباحث العربي يدفعه إلى الإعجاب الواهم والتسليم الواهن بمنطلقاتها وأسسها دون التفكير في المواجهة النقدية معها. يمكن أن نضيف كذلك الأسلوب الصعب والمركب (والمعقد كذلك) لكتابة بيير بورديو، وتعدد المرجعيات الفكرية في كتبه (الفلسفة، الإثنولوجيا، الأنثروبولوجيا، السوسيولوجيا...)، وعدم ترجمة أعماله الكاملة إلى لغة الضاد حتى بعد أزيد من 15 سنة على رحيله... وغيرها من العوامل التي أسهمت في ضعف تلقي الفكر النقدي البورديوي في المجال التداولي العربي مقارنة بأعمال باحثين آخرين (دوركهايم، فيبر...).

تتجلى القيمة العلمية للكتاب في كونه رصدا تاريخيا وإبستيمولوجيا لفكر رمز "السوسيولوجيا المعاصرة" من حيث هو إنسان وعالم؛ سعيا نحو قراءة حياته الاجتماعية، انطلاقا من أعماله الأكاديمية [منطق انعكاسي بالضرورة]. لذلك، يدافع أحجيج عن كون تتبع المسار العلمي لبورديو غير مفصول عن مساره الاجتماعي، كما أن دراسة الشبكات المفهومية والفكرية لأعماله لا تكون "جادة" ووافية إلا استحضارا لمرجعياته الفلسفية، الإثنولوجية، الإثنوغرافية، الأنثروبولوجية والسوسيولوجية. نتيجة لذلك، يقسم أحجيج المسار الاجتماعي والعلمي لبورديو إلى أربع محطات أساس: أولا، مرحلة الجزائر حيث تميزت بانتقال بورديو من الفلسفة نحو عالم البحث الإثنوغرافي والإثنولوجي بالجزائر كما بالهوامش الفرنسية خلال خمسينات وبداية ستينيات القرن الماضي. ثانيا، مرحلة التأسيس للبحث السوسيولوجي النظري والميداني مع المركز الأوروبي للسوسيولوجيا حول التعليم والتربية خلال فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. ثالثا، العودة إلى الأبحاث الأنثروبولوجية والفلسفية المرتبطة بالمجال الثقافي، اللغوي والأكاديمي خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. ثم رابعا، مرحلة النضج واستدماج العلوم الاجتماعية لمواجهة تغلغل النيوليبرالية وتزايد تأثيراتها السلبية على حياة الأفراد والمجتمعات منذ تسعينيات القرن العشرين. إجمالا، يمكن أن نميز بين لحظتين فاصلتين في المسار الأكاديمي لبورديو: أولا، صدور كتاب "حرفة عالم اجتماع" (1968) حيث نلمس الصرامة والحذر و"المثالية" العلمية والأكاديمية والدفاع عن مقولة "العلم للعلم" أو "العلم الجيد كاشفا عن الخفي والمهيمن" مع حس أو تعاطف يساري مضمر. ثانيا، نشر ثلاثية "بؤس العالم" (1993) والنقد الصريح للمنظومة الرأسمالية والنيوليبرالية والنتائج السلبية لموجة سلعنة وسوقنة العالم والدفاع عن المقولة الكلاسيكية لـ"العلم من أجل تغيير الواقع والعالم الاجتماعي" [الكشف عن الهيمنة وفضحها].

يقع الكتاب في 344 صفحة من القطع الكبير موزعة على سبعة فصول تقارب براديغم الممارسة عند بيير بورديو في إطار تصوره للعالم الاجتماعي، انطلاقا من عرض علائقي لاستعمالات مفاهيم النظرية السوسيولوجية البورديوية. يعرض الفصل الأول مفهوم الهابيتوس (أو السمت، السجية أو الطبع... لكن الباحث اختار تعريب المفهوم المصدر)، يقارب الفصل الثاني العلاقة بين الحقل، رأس المال والطبقات الاجتماعية، يعالج الفصل الرابع العلاقة بين العنف الرمزي وإنتاج الهيمنة، ينصب الفصل الخامس على نقد العقل السكولائي، يسلط الفصل السادس الضوء على السوسيولوجيا الانعكاسية، ويختم الكاتب بفصل أخير حول الحذر الإبستيمولوجي.

***

تقوم نظرية العالم الاجتماعي (المجتمع) لبورديو على الربط بين مكونات شبكة مفهومية خاصة (الحقل، المجال الاجتماعي، الانعكاسية، العف الرمزي، رأس المال، الهابيتوس...) تتكامل في إطار مقاربة نقدية تتجاوز التعارض بين الشرط الذاتي والمحدد الموضوعي للفعل الاجتماعي سعيا نحو رهان التأسيس لـ"نظرية أو أنموذج للممارسة" يوحد بين البنيوية والبنائية (ص: 31) في إطار التركيز على دور "الحس العملي" والاستراتيجيات الاجتماعية في تكوين براديغم ملائم للعلم الاجتماعي (السوسيولوجيا) يلعب "الهابيتوس" دور المرساة المعرفية لتشابك شروط إنتاجها؛ أي إن بورديو يستدمج تكوينه الفلسفي والأنثروبولوجي من أجل حل معضلة "الذاتي/الموضوعي" (وعموم الأزواج الضدية في العلوم الاجتماعية) انطلاقا من التوفيق بين البنيوي (الدوركهايمي أساسا) والرمزي (فيبر) والتأسيس لسوسيولوجيا قائمة على مبدأ الوجود المزدوج للعالم الاجتماعي (ص: 58) حيث تشكل الممارسة آلية أساسية لتحقيق رهان "موضوعية الذاتية" و"واقع التمثل" (ص: 63).

في الواقع، يعد مفهوم "الهابيتوس" الخيط الناظم لنظرية الممارسة لدى بيير بورديو، انطلاقا من كونه نظاما من الاستعدادات المكتسبة التي تشتغل كنسق من الخطاطات المؤطرة استراتجيا في سياق أساليب وخطاطات معرفية تنشأ من التطابق بين "توزيع الموارد المادية" و"الخطاطات الذهنية والرمزية" المكونة للمجال الاجتماعي. وبالتالي، تصبح "الهابيتوسات" استعدادات أو ترسيمات رمزية وذهنية تصهر الفردي في الاجتماعي وتربط الاجتماعي بالفردي (ص: 58-61).

سيسمح هذا الأمر لبورديو بتطوير نظريته "البنيوية البنائية"، انطلاقا من الربط بين البنيات والفاعلين في إنتاج الفعل الاجتماعي، عبر الدمج بين الرهانات المادية لعلاقات القوى الاقتصادية والاجتماعية (ماركس) وعلاقات المعنى المحددة للسلوكيات الفردية (فيبر) في إطار الممارسة ومنطق الحس العملي. هذا الأخير، سيشكل في الأصل قدرة الفاعل على التعامل مع وضعيات معينة انطلاقا من معرفة عملية يكسبها من انتمائه إلى وسط اجتماعي" (ص: 65) حيث تنتفي فكرة القصدية أو نتيجة الفعل لصالح الممارسة (الاجتماعية) الإستراتيجية.

***

يعمد أحجيج إلى الدفاع عن الترابط الذي يطبع سوسيولوجيا ببير بورديو من خلال الانشباك بين المفاهيم المكونة لتصوره للعالم الاجتماعي (الهابيتوس، الحقل، الرأس مال، العنف الرمزي، الهيمنة...) معتبرا أن القراءة المستعرضة للتداخلات، الامتدادات والتكاملات المفهومية بين أعمال بورديو تسمح لنا من ناحية بفهم أشمل وأعمق لفكر الرجل، ومن ثانية تتجاوز فكرة الاختزال المفهومي للتصور البورديوي للعالم الاجتماعي. تبعا لذلك، لا حديث عن حس عملي وبراكسيولوجيا للهابيتسوات الاجتماعية خارج المجال الاجتماعي والحقول المحددة للتفاعل الطبقي بين الرساميل الاجتماعية، المادية، الرمزية والثقافية. والواقع أن تتبع التحديدات التي يقدمها بورديو لخطاطاته المفهومية تكاد لا تخلو من استحضار مستمر لـ"الحقل المغناطيسي" (بلغة دولوز) لبنية براديغم الممارسة المحدد للنظرة السوسيولوجية إلى العالم الاجتماعي في ديناميته، صراعاته، واختلافاته.

يستعمل بورديو مفهوم "المجال الاجتماعي" (L’espace social) ومفهوم "الحقل" (Le champ) كـ"مترادفين لا ينفصلان عن نظريته في الممارسة" (ص: 102)، في إشارة إلى أن طبيعة الاستعدادات القبلية والهابيتوسات الاجتماعية للأفراد والجماعات لا تأخذ طابعها العملي والممارساتي خارج دينامية السلطة، القوة، الهيمنة والصراع فوق المجال الاجتماعي. سواء تعلق الأمر بالمدرسة، السياسة، الدين، الاقتصاد، الفن... بوصفها مجالات عملية لإعادة إنتاج التراتبيات والتمايزات الاجتماعية والطبقية، فإنها كذلك حقول تخضع لمنطق خاص في "اللعب" وفقا لاستراتيجيات اجتماعية وثقافية يتصارع في إطارها الفاعلون -دون القطيعة مع البنيات المنتجة لهم وانسجاما مع هابيتوساتهم- من أجل الحصول على رساميل ثقافية ورمزية تعزز المنطق التناظري والوظيفي لإنتاج الحقول الاجتماعية بما يتوافق والحفاظ على "التمايزات" والاختلافات الطبقية المنظمة لإنتاج وإعادة إنتاج المجتمع نفسه.

إذا أخذنا المدرسة على سبيل المثال، سنجدها مؤسسة اجتماعية لممارسة الهيمنة وفضاء للعب والصراع حول الرساميل الرمزية والثقافية المؤهلة لإخضاع البنيات السياسية والاقتصادية للعالم الاجتماعي في يد طبقة محظوظة تتحكم في مدخلات ومخراجات البنيات الموضوعية والذهنية، انطلاقا من مدخل الفعل البيداغوجي. وكذلك، نجدها مجالا اجتماعيا ضامنا لنسق التفاوتات الاجتماعية وحقلا لإنتاج وإدارة التمايزات الطبقية، انطلاقا من "السلطان البيداغوجي للامتحان" الذي يمثل "عنفا رمزيا" يحظى بالشرعية والقبول والتبرير من قبل المهيمنين كما المهيمن عليهم، ويسمح بانتقاء المحظوظين اجتماعيا الذين تسمح لهم هابيتوساتهم، استعداتهم القبلية، حسهم العملي ورساميلهم المادية والرمزية بالتكيف مع شروط عمله، وإقصاء أولئك الذين لا تسمح "سننهم" ومواقعهم الاجتماعية بتجاوز "طقوس عبوره" الأساس.

بهذا المعنى، يظهر الترابط بين مكونات البنيات الموضوعية والذهنية انطلاقا من محددات مجالية ورمزية تسمح ليس فقط بإعادة الإنتاج الطبقي للتمايزات الاقتصادية والتفاوتات الاجتماعية، ولكن بالبناء والتشكيل الرمزي والذهني لمنطق الهيمنة وإنتاج الرساميل الاجتماعية والمادية. لقد حرص "الفتى المشاغب" على الانتباه إلى قصور التفسير المادي (ماركس) أو الرمزي (فيبر) الأحادي للإنتاج الفعل الاجتماعي، معتبرا أن الحس العملي المحدد لنسق استراتيجيات التفاعل الفردي والجماعي داخل العالم الاجتماعي تقتضي التوفيق بين الفكري/الواقعي؛ الرمزي/المادي انسجاما مع المنطق البراكسيولوجي لبراديغم الممارسة. هكذا، نلمس حوارا بين الماركسية والفيبرية على أرض "البنائية البنيوية" البورديوية.

نصادف تمرينا حقيقيا لهذا الحوار فيما يتعلق بمفهومي العنف الرمزي والهيمنة؛ مع الإشارة إلى أن بورديو قد انزاح عن هادين التصورين الكلاسيكيين نحو رهانات وأبعاد أكثر اقترنا بالنسق العام لبناء الممارسة في إطار العالم الاجتماعي منها إلى البحث عن التوفيق بين "المادية" و"الرمزية"، من خلال التركيز على "المدرسة" و"قضايا النوع الاجتماعي".

واضح أن التصور الماركسي يربط بين العنف ومنطق الصراع الطبقي، مادام التاريخ كما المجتمع هو مجال أساس لإنتاج الاختلاف والتفاوت المادي والاجتماعي بين المهيمنين والمهيمن عليهم. أما فيما يتعلق بفيبر، فالمسألة تختلف إلى حد بعيد. يقيم هذا الأخير نظريته حول "La Domination" (الهيمنة أو السيادة أو السيطرة) على أسس اقتصادية وسياسية تجعلها أكثر ارتباطا بالمشروعية والقبول بين الفاعلين قبل المجتمع. فحتى في المجال التربوي[2]، نصادف حضورا للمشروعية التقليدية، الكاريزمية والعقلانية (مع انتصار لهذه الأخيرة) في نظرة فيبر للسوسيولوجيا كعلم تناط به مهمة فهم الفعل الاجتماعي، انطلاقا من سلوكيات وأفعال الفاعلين كمدخل رئيس لتحقيق هذا الرهان. بالنسبة لبورديو، نجد تأكيدا على كون العنف الرمزي هو عنف مشروع ومتواطئ حول شروط إنتاجه بين مختلف الفاعلين (كما هو الحال بالنسبة إلى المدرسة، سلطة الامتحان...) يقترن بمنطق السلطة والإقصاء أساسا، وللهيمنة كبناء اجتماعي مستبد، (ص: 162) (كما هو الحال بالنسبة لـ"الهيمنة الذكورية") خاضع لترسيمات تاريخية وثقافية تتمظهر في اشتراطات اجتماعية محددة لهابيتوسات الجسد النوعي. نتيجة لذلك، يكون العنف الرمزي فعل هيمنة يمارس باسم الاستعدادات القبلية المنظمة لإنتاج الحقول المختلفة داخل العالم الاجتماعي غير قابل للرصد أو الكشف إلا من خلال تتبع استراتيجيات الفاعلين في إطار حسهم العملي.

***

تتأسس الانعكاسية السوسيولوجية لدى بيير بورديو على ثلاثة شروط ناظمة لنسق إنتاج المعرفة السوسيولوجية: "أولا، موضعة الذات العارفة انطلاقا من المحددات الاجتماعية التقليدية كالجنس، السن والأصل الاجتماعي. ثانيا، موضعة الذات العارفة انطلاقا من الموقع الذي تشغله في الحقل الأكاديمي. ثالثا، موضعة التخصص العلمي الذي يشتغل فيه الباحث في علاقته بباقي التخصصات داخل الحقل العلمي، وعلاقة هذا الحقل بباقي الحقول المجاورة (الاجتماعية، السياسية، الثقافية...) (ص: 278-279). تسمح هذه الانعكاسية بفهم أعمق لشروط الممارسة العلمية في الحقل السوسيولوجي وبيان الحدود الفاصلة بين الذاتي والموضوعي، العلمي والسياسي، الاقتصادي والثقافي في عمل الباحث. لهذا، يعتبر بورديو أن ممارسة الوظيفة الازعاجية للعلم الاجتماعي، وبحثه عن فضح وإفساد منطق الهيمنة في العالم الاجتماعي، يجب أن ينطلق من "عقر الدار" [إن صح هذا التعبير] كي لا يتحول السوسيولوجي نفسه إلى مستفيد أو متواطئ في نسق عمل البنيات الموضوعية المنتجة للهيمنة الاجتماعية والطبقية.

على الرغم من أن العديد من مفاهيم ونظريات بورديو قد تعرضت للنقد مع تطور "السوسيولوجيات الجديدة" (براديغم إعادة الإنتاج...)، إلا أن السوسيولوجيا الانعكاسية ظلت تقاوم التاريخ حتى مع تركيز السوسيولوجيا اليوم على المعيش وميكريوية الظواهر الاجتماعية، إيلاء أهمية كبرى للفاعل على حساب البنية وربط البحث السوسيولوجي بمنطق التوافقات الاقتصادية والسياسية. يحاجج أحجيج على كون المشروع البورديوي هو بحث علمي في الشروط الخفية لبناء العالم الاجتماعي (ص: 244) بما هو بناء اجتماعي عبر استراتيجيات الفاعلين. لذلك، تعد سوسيولوجيا بورديو دفاعا عن ضرورة حضور القطيعة الابستمولوجية بين الباحث واستعداداته القبلي (كذات) وبديهيات اشتغال العالم الأكاديمي (كموضوع)، في أفق جعل النقد الذاتي والموضوعي (الانعكاسية) المستمر مطبقا على العلم الاجتماعي قبل العالم الاجتماعي.

في الحقيقة، يركز أحجيج بشكل أساس على "انعكاسية الانعكاسية البورديوية"؛ أي مدى تطبيق بورديو نفسه لهذا الشرط الابستيمولوجي ضمن نسق ممارسته السوسيولوجية، ويبين أن الانعكاسية هي منهج أو تقنية علمية أكثر منها نظرية أو مقاربة أو حتى براديغم معرفي، بالشكل الذي يجعلها "بحثا سوسيولوجيا في السوسيولوجيا ذاتها وعلاقة ما تنتجه هذه الأخيرة بالمحددات الاجتماعية للباحث والمبحوث" (ص: 280)؛ وهو الأمر الذي مارسه بورديو بالتزام في العديد من أعماله وعلى رأسها "المجمل من أجل تحليل ذاتي" (2004).

يتوقف أحجيج عند أهمية هذا الكتاب في مسار الباحث والكيفية التي أظهر بموجبها ضرورة النظر إلى "فعل الانعكاسية" كفعل علمي وليس أدبي، بالشكل الذي يسمح لنا بالغوص في رحلة تاريخية للعلاقة الابستمولوجية بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية في المجال التداولي الفرنسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. سمحت هذه الانعكاسية العلمية باكتشاف الوجه الخفي لبورديو الإنسان والعالم (العلاقة بين أصوله الاجتماعية وموقعه العلمي)، إدراك شروط وجوهر الصراع التاريخي بين الفلسفة والسوسيولوجيا في السياق الفرنسي (والذي عاد بقوة في سياقات عربية معاصرة) وقدمت أنموذجا مثاليا (باللغة الفيبرية) يمكن الاستناد عليه من أجل تجاوز أزمات الممارسة السوسيولوجية في عالم اليوم.

***

احتل إشكال الشروط الابتسمولوجية للممارسة العلمية في الحقل السوسيولوجي أهمية بالغة في النظريات والبراديغمات البحثية التي ميزت قرنين من إنتاج المعرفة السوسيولوجية العالمية (خلال اللحظة الكلاسيكية، المعاصرة والجديدة). وكان بورديو سباقا خلال بدايته الأكاديمية الأولى، وتحت ثقل التأثير الفلسفي والابستيمولوجي (فلسفة غاستون باشلار) إلى تضمين ملاحظاته وتصوراته للفعل السوسيولوجي وشروط مراسه وإنتاجه في كتاب "حرف عالم اجتماع". هدف هذا الكتاب إلى تقديم خارطة طريق ابستيمولوجية تسمح للباحث بإنجاز، تتبع ومراقبة فعله السوسيولوجي من خلال المصالحة بين مقولات الفهم والتفسير عبر الدفاع عن أولوية القطيعة الابستيمولوجية، تحديد شروط بناء الموضوع وتفعيل العقلانية المطبقة (كحوار باشلاري بين النظرية/التجربة والعقل/الواقع).

بطبيعة الحال، لا يمكن إنكار الاختلاف الابستيمولوجي بين كتاب "حرفة عالم اجتماع" و"بؤس العالم" (على مستوى الكتابة السوسيولوجية)، فالأخير دفاع عن انعكاسية مراقبة لعمل الباحث تسمح له بتطوير تقنياته وعمله في سبيل فضح "البنيات المهيمنة" (الرأسمالية والليبرالية بالأساس)، في حين أن الأول هو "خطاب في المنهج" تظهر فيه مثالية منهجية تلامس يوتوبيا ابستيمولوجية صعبة الإدراك أو حتى التحقق؛ والواقع أن الخلفية الفلسفية -أو قل حتى البدايات الإثنوغرافية والانثروبولوجية الأولى للرجل- حاضرة بقوة (باشلار) في مسعى بناء علم اجتماعي أقل ما يقال عنه أنه "يفكر في نفسه قبل الواقع" أو حتى العالم الاجتماعي".

يركز أحجيج على الدروس المنهجية التي يقدمها كتاب "حرفة عالم اجتماع"، والتي تجعل من العلم الاجتماعي علما قائما بذاته بين باقي العلوم، ويجعل من رهان التحقق التجريبي هدفه الأساس بتجاوز الحس المشترك وبناء الممارسة السوسيولوجية على قواعد علمية صارمة، وتأسيس احتكاك دائم بين العلم الاجتماعي والعالم الاجتماعي بهدف الكشف عن ميكانيزمات عمل هذا الأخير دون تأثير أحدها على الآخر. كما يشير الباحث كذلك إلى الوهم الذي يعتري إقامة "سوسيولوجيا نظرية" في مقابل "سوسيولوجيا اختبارية"، ويؤكد أن بناء الموضوع السوسيولوجي لا يحدث إلا بالحوار المستمر بين النظري والتجريبي في إطار "عقلانية مطبقة" تسمح بالحفاظ على الانسجام الابستيمولوجي بين التنظير والواقع الذي يطبع التفاعل بين إنتاج الفعل السوسيولوجي ومنطق اشتغال الفعل الاجتماعي.

***

يندرج كتاب الدكتور حسن أحجيج في إطار المؤلفات الموجهة نحو العموم[3] التي تهدف إلى تقريب المعرفة الأكاديمية من الجمهور وإشراك الفاعل الاجتماعي نفسه في مساءلة شروط إنتاج العالم الاجتماعي في السياق المعاصر. يعترف الباحث نفسه بهذا الأمر حينما يشير إلى "أن هذا الكتاب موجه لمجموع المهتمين بنظرية الممارسة لبيير بورديو، مهنيين ومبتدئين، ولا يناقش الفروق الدقيقة القائمة بين المفاهيم، مكتفيا بالخصائص التي تربط بينها" (ص: 243). وإن كان للأمر ايجابياته ونقط قوته، فإن له منزلقات أو عيوبا تكمن في الرهان على منطق "الكتابة السوسيولوجية المبسطة" -وليس البسيطة- (خاصة ذات النفحة الأنجلوساكسونية) في نقل متن باحث يمثل أحد أهم أقطاب السوسيولوجيا النقدية الفرنسية من ناحية، ومن ناحية أخرى تمارس كتاباته "عنفا رمزيا" (كما يؤكد الباحث نفسه) على القارئ من حيث الفهم والاستيعاب.

ينضاف إلى ذلك، التشبث المستميت لبورديو نفسه بهذا النهج في الكتابة المركبة والمعقدة التي بقدر ما تحصر تلقي نتائج الممارسة السوسيولوجية في فئة أو نخبة معينة، إلا أنها تحافظ للعلم الاجتماعي على "هيبته" [قوته وهيمنته الابستيمولوجية] بين باقي الاجتماعيات، الإنسانيات وحتى الطبيعيات. فضلا عن كون تعقيد وانشباك الكتابة راجع إلى انشباك وتقيد العالم الاجتماعي نفسه. مع ذلك، نجح إلى حد كبير أحجيج في نقل هذا المتن العصي على الاختزال والتجزيء في لغة أقل ما يقال عنها أنها أنيقة ومنفتحة على اللغة الأصل بشكل مباشر.

في الواقع، يدافع الكاتب عن أهمية الكتابة المبسطة في تحقيق فهم أشمل وأوسع للمتون السوسيولوجية والفلسفية وضمان حسن نقلها وتداولها بين الجماعات العلمية، في مقابل "الكتابة الطلاسمية" التي لا تسهم سوى في نفور المتلقي وتجفيف المعرفة السوسيولوجية في حسها الإبداعي. وإذ نخالف الباحث في هذا الطرح، دفاعا عن خصوصية الممارسة السوسيولوجية التي لا تتحقق دون بنية مفهومية وحجاجية خاصة تمايز بينها وبين التخصصات وتحافظ لعالم الاجتماع على مكانته داخل العالم الأكاديمي، فإننا نعتبر أن من أهم أسباب الأزمة الثلاثية[4] (النظرية، المنهجية والسياسية) التي تعيشها السوسيولوجيا اليوم إغراقها في البحث عن الشرعية المجتمعية والسياسية والانفصال عن الأصول الابستيمولوجية والمعرفية.

***

يعد الدكتور حسن أحجيج مترجما متمرسا في حقل العلوم الاجتماعية بقدرة فريدة على تبيئة المفاهيم اللاتينية في عمق اللغة والنحو العربي، إلا أننا لا نتفق معه في العديد من الاختيارات الترجمية الواردة في الكتاب. يفضل أحجيج ترجمة مفهوم (La Distinction) بـ"التمييز"، ونعتبر أن الترجمة الأصوب هي "التمايز"، في حين أن "التمييز" سترادف مفهوم (La Discrimination). نفس الشيء بالنسبة إلى مصطلح (métier) التي يترجمها الكاتب بـ"المهنة" ونفضل ترجمتها بـ"الحرفة"، في حين أن الأولى ستكون مرادفا لـ (Profession)؛ ونعتقد أن بورديو نفسه سيفضل نعت كتابه بـ"حرفة عالم اجتماع" و"ليس مهنة عالم اجتماع"، نظرا لاقتران الأولى بالمنطق الخاص من الممارسة والانعكاسية التي تميز كل باحث عن الآخر، بينما ترتبط الثانية بالمنطق النيوليبرالي للمهن الذي تطور مع حركة "مهننة" (La Professionnalisation) الفعاليات الإنسانية والاقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضي [رغم أن جذوره التربوية والأكاديمية تعود إلى أعمال إميل دوركهايم[5]].

ما يعاب كذلك على الكتاب افتقاره إلى خاتمة عامة يمكن من خلالها تسليط الضوء على أفق التلقي العربي لفكر ببير بورديو في سياق تتزايد معه حدة النقاشات حول ضرورة العودة إلى الأصول والمتون الكلاسيكية. فالتصدع الذي تعرفه السوسيولوجيا الفرنسية اليوم، والذي انطلق مع صدور كتاب "من هو شارلي"[6] للمؤرخ والأنثروبولوجي "إيمانويل تود" (Emmanuel Todd)، يعود في جوهره إلى الهجوم القوي والمستمر على "السوسيولوجيا النقدية" البورديوية من قبل أتباع "النزعة اليمينية في السوسيولوجيا". لذلك، كان من الأصوب، أن يركز الباحث على قراءة امتدادات هذه النقاشات في المجالين التداوليين الفرنسي والعالمي ومستقبل المشروع النقدي والانعكاسي البورديوي مع تغلغل المد النيوليبرالي حتى في الشروط الإبستيمولوجية لممارسة العلم الاجتماعي نفسه.

قصارى القول، تظهر بشكل واضح الدقة العلمية والمعرفية في مؤلف يرنو إلى تصوب نظرة القارئ العربي لأحد أهم علماء الاجتماع تأثيرا في تاريخ العلم الاجتماعي وتقريب فكر هذا الرجل من الجماعات العلمية المحلية، انطلاقا من لغة المصدر وليس عبر لغة وسيطة كما هو حال باقي المؤلفات والترجمات المكرسة لفكر بورديو. ولا يسعنا سوى الإشادة بهذه العمل الجريء الذي يدق نقوس الخطر إلى هيمنة المد "التقنوي" على سيرورات إنتاج المعرفة السوسيولوجية وضرورة العودة النقدية إلى الأصول الابستيمولوجية من أجل تطوير ممارسة سوسيولوجية قادرة على مواجهة تحديات اللاتكافؤ واللامساواة التي تنخر العالم الاجتماعي كما الأكاديمي[7].

 

المراجع:

إيمانويل تود، من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية، ترجمة أنور مغيث. مصر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، دار التنوي، 2017

حسن أحجيج، نظرية العالم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو. بيروت، لبنان: مؤسسة مؤمنون بلاد حدود للدراسات والأبحاث، 2018

Emile Durkheim, L’évolution pédagogique en France. introduction de M. Halbwachs, Alcan; rééd. «Quadrige», puf, (1938 [1990])..

Guy, Vincent, Les types sociologiques d’éducation selon Max Weber. Revue française de pédagogie, 168, 2009, p: 75-82.

Ivan, Szelenyi, The Triple Crisis of US Sociology. Global Dialogue. VOL. 5 / # 2 / JUNE, 2015, pp: 5-7

Max, Weber, Confucianisme et taoïsme [traduction de Colliot-Thélène&Grossein]. Paris: Gallimard, 2000

Michael, Burawoy, For public sociology. l’American Sociological Review, 70, février, 2005, p. 4-28.

UNESCO, Conseil international des sciences sociales (CISS) Et l’Institut des Études Développement (IDS). Rapport mondial sur les sciences sociales. Lutter contre les inégalités: Pistes vers un monde juste (Paris: Éditions UNESCO), 2016


 

[1]- حسن أحجيج، نظرية العالم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو. بيروت، لبنان: مؤسسة مؤمنون بلاد حدود للدراسات والأبحاث، 2018

[2]- يتحدث ماكس فيبر عن ثلاثة أنماط أساس محددة للتربية والفعل التربوي في الفصل الخامس من كتاب "الكونفوشيوسية والطاوية"، انظر:

Max, Weber, Confucianisme et taoïsme [traduction de Colliot-Thélène&Grossein]. Paris: Gallimard, 2000

ونظرا لأن الكتاب لم يترجم إلى الفرنسية (مباشرة عن الألمانية) إلا سنة 2000، فتطرح العديد من الأسئلة حول مدى اطلاع بورديو عن النسخة الأصلية أم اكتفاؤه بالترجمة الإنجليزية مع ما تحمله من لبس في عديد من المفاهيم (بين "السلطة"، "الهيمنة"، "السيادة"، "السيطرة"...)، لتفاصيل أكثر راجع:

Guy, Vincent, Les types sociologiques d’éducation selon Max Weber. Revue française de pédagogie, 168, 2009, p: 75-82

[3]- نقصد هنا سوسيولوجيا العموم التي تحدث عنها "مايكل بوراووي"، انظر:

Michael, Burawoy, For public sociology. l’American Sociological Review, 70, février, 2005, p. 4-28

[4]- انظر:

Ivan, Szelenyi, The Triple Crisis of US Sociology. Global Dialogue. VOL. 5 / # 2 / JUNE, 2015, pp: 5-7

[5]- انظر:

Emile Durkheim, L’évolution pédagogique en France. introduction de M. Halbwachs, Alcan; rééd. «Quadrige», puf, (1938[1990] )..

[6]- إيمانويل تود، من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية، ترجمة أنور مغيث. مصر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، دار التنوي، 2017

[7]- UNESCO, Conseil international des sciences sociales (CISS) Et l’Institut des Études Développement (IDS). Rapport mondial sur les sciences sociales. Lutter contre les inégalités: Pistes vers un monde juste (Paris: Éditions UNESCO), 2016