نكبة ابن رشد بين تحقير العقلانية وأزمة المثقف


فئة :  مقالات

نكبة ابن رشد بين تحقير العقلانية وأزمة المثقف

نكبة ابن رشد بين تحقير العقلانية وأزمة المثقف

صار الفكر الفلسفي نقمة على ابن رشد، بعدما كان نعمة أيام لقائه بأمير المؤمنين أبي يعقوب، فأمره هذا الأخير برفع القلق عن عبارة أرسطو، لكن النقمة على ابن رشد ستظهر عندما قرر الخليفة يعقوب المنصور الموحدي إلحاق الأذى بابن رشد وجماعة من العلماء، فأصدر منشورا يتهمهم فيه بتهمة الانحراف عن الدين، يقول المنصور: "ومن عثر له كتاب من كتبهم (ابن رشد وباقي العلماء) فجزاؤه النار التي يعذب بها أربابه".

تعددت الروايات بخصوص مسألة النكبة؛ فمن بينها نجد صاحب المعجب عبد الواحد المراكشي يقدم رواية يفسر فيها أسباب هذه المحنة فيقول: "لها سببان جلي وخفي؛ فأما سببها الخفي وهو أكبر الأسباب، فإن الحكيم أبا الوليد رحمه الله أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطوطاليس صاحب كتاب المنطق فهذبه وبسط أغراضه، فقال في هذا الكتاب عند ذكره الزرافة "وكيف تتولد وبأي أرض تنشأ وقد رأيتها عند ملك البربر".[1]

ويضيف صاحب المعجب بأن هذا الخلاف استمر على ذلك الحال إلى أن استحكم ما في النفوس، ثم إن قوما ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: "فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة" فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة، فلما حضر أبو الوليد رحمه الله قال له بعد أن نبذ إليه الأوراق، أخطك هذا فأنكر فقال أمير المؤمنين لعن الله كاتب هذا الخط وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بنفيه إلى قرية اليسانة قرب قرطبة، وكتب عنه الكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، إلا من كان من الطب والحساب، ومدينة اليسانة كانت موطنا لليهود، وجعلت الفيلسوف المضطهد ملجأ لدى تلميذه المزعوم موسى ابن ميمون، حتى إن بعضا من أعدائه جعل تأكيد هويته بأنه يهودي.

نفهم إذن أن ابن رشد كافر بالله؛ لأنه جعل من كوكب الزهرة أحد الآلهة، وهذا عند العامة دليل على الزندقة والمروق من الدين، وسببه الرئيس هو الفلسفة، وبالتالي يجب منع وتحريم الاشتغال بها؛ ذلك أن الخليفة بالفعل يكن الحقد لابن رشد، حيث كان يجب عليه البحث عن كاتب هذا الخط، غير أن محنة ابن رشد لم تدم طويلا كما يقول صاحب المعجب، إذ سرعان ما انصب أبو يوسف المنصور إلى تعلم الفلسفة وأرسل في طلبه للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ابن رشد إلى مراكش فمرض بها مرضه الذي مات منه رحمه الله، وكانت وفاته بها في آخر سنة 594 للهجرة، وقد ناهز الثمانين[2]. لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ للتراث الرشدي، هل هناك في كتب ابن رشد ما أجج نار الحكام لما فيه من أفكار مناهضة للفساد والاستبداد؟

يذكر الأستاذ محمد عابد الجابري رواية مخالفة لما قال به صاحب المعجب عبد الواحد المراكشي، مفادها أن سبب نكبة ابن رشد هو سبب سياسي يتمثل من جهة في نشر ابن رشد "جوامع سياسة أفلاطون"، ومن جهة ثانية هو قيام ابن رشد لعلاقة بينه وبين أخ الخليفة أبي يحيى والي قرطبة [3]، فهذا الكتاب ألفه ابن رشد سنة 590 هجرية، تزامنا مع حرب الأرك 591، وهي الحرب التي كان مقبلا عليها الخليفة المنصور، والتي انتصر فيها انتصارا باهرا، ويعتبر هذا الكتاب أي جوامع سياسة أفلاطون أغنى كتاب من الناحية السياسية، خصوصا لأنه مجال السياسة بشكل علمي مجرد من الأقاويل الجدلية.

و من بين أسباب النكبة هو تنديد ابن رشد بمدينة وحدانية التسلط (الاستبداد) والتبشير بإمكانية تشييد مدينة الفضيلة والعدالة مكانها، إذن ابن رشد لم يحاكم باسم الدين، وإنما باسم هذا الكتاب الذي أذان فيه الاستبداد والظلم والجور بدون هوادة [4]، وبالتالي فقد كانت الفلسفة عاملا رئيسا في محنة ابن رشد، حيث تغلب الحزب الديني على الحزب الفلسفي، والأكثر من ذلك نجد أن نكبة الفيلسوف ابن رشد كانت مادة خاما ودسمة للشعراء يتغنون بها.

قال أبو الحسن ابن جبير[5]

الآن أدرك ابن رشد **** أن تواليفه صارت توالف

لم تلزم الرشد يا ابن رشد **** لما علا في الزمان جدك

وكنت في الدين ذا رياء **** ما هكذا كان فيه جدك

وقال أيضا:

نفد القضاء بأخذ كل مرمد **** متفلسف في دينه متزندق

بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة **** إن البلاء موكل بالمنطق

من الأسباب التي جعلت رجال الدين يهاجمون فلسفة ابن رشد خاصة والفلسفة على وجه العموم هو أن هذه الفلسفة تجعل للعالم نواميس طبيعية، ويتحدث إرنست رينان عن الحركات الإلحادية في القرون الوسطى فيحصرها في تيارين؛ فأما التيار الأول فيسمى بالإنجيل الأبدي، فيشمل مناحي الصوفية والشيوعية، ويذكر منها إخوان العقل الطليق، وأما التيار الثاني وهو المهم، فيمثل الإلحاد الدهري الناشئ عن دراسة العرب والمغطى باسم ابن رشد، فصار ابن رشد أسطورة الملحدين كما يقول إرنست رينان.

  • الأفكار السياسية عند ابن رشد

يرى ابن رشد أن حاجة الإنسان إلى الاجتماع البشري تفرض نشأة المدينة؛ أي استحالة عيش الفرد لوحده، فلا بد من تقسيم العمل بين الأفراد، ومن هنا كان وضع مبدأ التماثل بين قوى النفس، وفئات الدولة الثلاث، ولقد ميز ابن رشد في كتابه الضروري في السياسة، والذي لخص فيه كتاب الجمهورية لأفلاطون بين خمسة أنواع من السياسات قائلا: إن أفلاطون يرى أن السياسات البسيطة [6] التي تنشأ عليها هذه المدن في الجملة خمسة أنواع؛ النوع الأول السياسة الفاضلة، والثاني سياسة الكرامة، والثالث سياسة الرجال القلة، وهي خدمة المال وتعرف أيضا بسياسة الخسة، والرابع السياسة الجماعية، والخامس سياسة وحدانية التسلط[7]، فإذا كان ابن رشد قد بين بأن هناك نوعين من السياسة الفاضلة، وهما: رئاسة الملك الفيلسوف، ورئاسة الأخيار، فإنه يورد ثلاثة أشكال أخرى من السياسة، وهي سياسة الملك الحق، وسياسة ملك السنة والسياسة المشتركة بين الفقيه والمجاهد.[8]

  • سياسة الملك الفيلسوف

الملك الفيلسوف يكون بالضرورة حكيما حاصلا على العلم العملي، وتكون له الفضيلة العملية والخلقية الرفيعة التي بها يعرف الفضل في سياسة المدن، وبالتالي فالملك الفيلسوف هو ذلك الحائز على العلمين النظري والعملي وعلى الفضائل الخلقية والفكرة مجتمعة، وكما ذكر الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها أنه هو الذي يتصل بالعقل الفعال والرئيس الذي ينظم شؤون المدينة.

  • سياسة الملك الحق

يذكر ابن رشد هنا خمسة شروط لهذا النوع من الحكم يجب أن تتوافر فيه حتى يكون فاضلا: وهي الحكمة والتعقل التام، جودة الإقناع، جودة التخيل، القدرة على الجهاد ببدنه، أن لا يكون في بدنه شيء يعوقه عن مزاولة الأشياء الجهادية.

  • سياسة الأخيار

وهي السياسة التي تتوزع فيها الخصال السابقة الذكر في رئاسة الملك الحق على عدد من الأفراد تتوافر في كل واحد منهم خصلة معينة، وبذلك يتكون مجلس سياسي من خمسة أفراد وعن هذا الشكل من السياسة يقول ابن رشد: "ورئاسة الأخيار هي التي تكون أفعالها فاضلة فقط، وهذه تعرف بالإمامية، ويقال إنها كانت موجودة في الفرس الأول فيما حكاه أبو نصر".

  • ملك السنة

إن القائم بهذا الشكل من السياسة هو شخص يكون على بينة من الموروث المؤلف من النواميس والتشريعات التي تركها المشرع الأول، فتكون له القدرة على الاجتهاد وفي التعامل مع وقائع مكانه وزمانه، وهذه الرئاسة تأتي في مرتبة أدنى من حيث القيمة، قياسا إلى الرئاسة السابقة، وعند البحث عن نموذج واقعي تاريخي لهذا الشكل من الرئاسة، فإنه يوجد في حكم يوسف بن تاشفين، حيث أشار ابن رشد في سياق الحديث عن التحول إلى الحكم التيموقراطي إلى المرابطين الذين اتبعوا السياسة الشرعية مع يوسف ثم تحولوا إلى الكرامية (التيموقراط) مع حكم ابنه.[9]

  • السياسة المشتركة بين الفقيه والمجاهد

وهذا النوع من السياسة يحدث عندما لا يجتمع ما سلف ذكره في ملك السنة (الفقه والجهاد) في رجل واحد، بل قد يكون أحدهما مجاهدا دون أن يكون فقيها، والآخر فقيها دون أن يكون مجاهدا.

إن إشارة ابن رشد إلى ملوك الإسلام، إنما تعني أنه يرى أن فترة معينة من تاريخ الإسلام قد عرفت رئاسة محاكية للسياسة الفاضلة، وربما يعني الحكم الموحدي في بدايته، حيث نجد تأثير الفقيه، وهو المهدي بن تومرت، وحضور المجاهد وهو عبد المؤمن بن علي.

  • أنظمة الحكم

- الحكم التيموقراطي

- الحكم الأوليغارشي (سياسة الخسة)

- الحكم الديمقراطي (السياسة الجماعية)

- الحكم الاستبدادي (سياسة التسلط)

- سياسة الضرورة

- سياسة الشهوة

ويعتقد ابن رشد أن تحول المدينة الفاضلة إلى مضاداتها ينجم عن إهمال الحكم للعناية بأمر التزاوج واختلاط النسل وفساده؛ وذلك أن أحد شروط قيام المدينة الفاضلة الاهتمام بأمر النسل والحرص على تزويج الأكفاء بالأكفاء، وفي سياق متصل دعا ابن رشد إلى مساواة الرجال والنساء في تقلد المناصب، حيث يتحدث عن منزلة الملكة الفيلسوفة، من أجل ذلك يرى أن المرأة مثلها مثل الرجل، وأن الفارق بينهما في الدرجة لا في النوع، وأنها يمكن لها أن تكون فيلسوفة حاكمة للرجل.[10]

لقد تعرض ابن رشد لفترة من الزمن إلى نكبة أثرت عليه بصورة كبيرة ترتب عليها نفيه إلى قرية اليسانة قرب قرطبة مرجعها إلى أسباب عديدة يمكن توضيحها في:

- الأفكار الثورية العلمية التي أتى بها ابن رشد، والتي كانت ذات عواقب مزعجة بالنسبة إليه أدت إلى حقد المؤسسة الدينية والسياسية عليه؛

- سلسلة المؤامرات والفتن والأكاذيب التي لا صحة لها، والتي حاولت تشويه الشخصية الرشدية والتي نجحت في تنفيذ مآربها.

  • النكبة والتناقض: شهادات وإفادات

كانت محنة ابن رشد في عهد السلطان أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملقب بالمنصور الموحدي، وقد أوردها عبد الواحد المراكشي[11] في كتابه المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وقد وصفها ابن الآبار بأنها كانت محنة بآخر العمر وإهانة لابن رشد بعد عظم الشأن ورفعة المنزلة، ويذكر ابن رشد نفسه أيام محنته قبل صدور الحكم فيقول: "أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر فتار لنا سفلة العامة فأخرجونا منه"، وقد ذكر الجابري في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد في قوله: "فعندما قرر يعقوب المنصور الموحدي إلحاق الأذى بابن رشد وجماعة من العلماء وتنفيذ النكبة التي قررها لهم أصدر منشورا يتهمهم فيه تهمة الانحراف عن الدين في كتب لهم وصفها بأنها مسطورة في الظلال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض من الله" لهذا يقول الخليفة المنصور: "فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه ... والله تعالى يظهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق".

يؤكد محمد بن شريفة[12] أن المنافسات والخصومات بين الأعلام في ذلك العصر كانت من أسباب محنة ابن رشد، بالإضافة إلى أن كتابات هذا الأخير جرت عليه خصوما وعداءات من عدة جهات؛ فمن خلال مطالعة كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد، والضرورة في أصول الفقه، ليقف على كتم النقد الذي يوجهه ابن رشد لفقهاء عصره مباشرة، في حين يرى عبد الرحمن بدوي أن الحملة كانت على ابن رشد من جانب الفقهاء بسبب اشتغاله بالفلسفة والفلك وبمؤلفات أرسطو، ويعتقد بدوي أن السبب السياسي هو الأصل في النكبة، حيث النزاع مشتعل بين المنصور الموحدي وبين النصارى الإسبان، فما اضطر المنصور للتقرب من العامة والفقهاء على حساب المشتغلين بالفلسفة؛ وذلك لأن الحكام في مثل هذه الظروف السياسية، وعندما تضطر للدفاع عن البلاد لا بد لها من تجميع الشعب حولها للدفاع عن البلاد.

ومن خلال ما سبق، يتضح أن الروايات والمواقف اختلفت حول أسباب النكبة الرشدية، حيث لفتها عدة عوامل منها: العامل الديني والعامل الشخصي والعامل السياسي الذي يبقى هو المرجح وصاحب الأسبقية على جميع العوامل، حيث إن نكبة ومحنة ابن رشد لم تدم وقتا طويلا إلا حوالي ثلاث سنوات، ويورد الجابري سببا آخر لنكبة ابن رشد لم يرد على لسان الروايات السابقة بقوله: "إن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة، ثم لا شيء بعد ذلك".[13]

  • أسباب النكبة: مضمرات ومعلنات

اختلفت المواقف والآراء كذلك الاتجاهات في تحديد وتعليل السبب الرئيس الذي أدى إلى نكبة فيلسوفنا القرطبي ابن رشد الحفيد التي اعترضت حياته العلمية والسياسية، بالرغم من أنها لم تدم إلا ثلاث سنوات، حيث أثارت جدلا كبيرا بين المفكرين والفلاسفة والعلماء والمؤرخين، خاصة فيما يتعلق بالأسباب الجلية والخفية والبحث عن الحقيقة المطلقة وراء هذه النكبة.

  • ذكر لنا ابن أبي أصيبعة أن ابن رشد كان يشرح كتاب الحيوان لأرسطو، وأخذ يعدد أنواع الحيوان وفصائله، ويصف كل نوع أو فصيلة بالصفات التي تميزها عن غيرها حتى انتهى إلى الزرافة، فقال فيما وصفها به إنه رآها عند البربر، فلما سمع الأمير هذا القول حز ذلك في نفسه، وهذا ما جعله يكن التنكر والحقد لابن رشد (ربما أن حساد ابن رشد غيروا الكلمة من ملك البرين؛ أي البر المغربي والبر الأندلسي، إلى ملك البربر من أجل زرع نار الفتنة بين الخليفة وابن رشد).
  • يذكر المراكشي أن السبب الخفي في النكبة هو أن ابن رشد سلك مسلك العلماء في الحديث دون كلفة عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، وهو أكبر أسبابها كما يقول: "فهو الحقد المتنامي في صدر المنصور بسبب عدم مراعاة ابن رشد ما يتعاطاه خدمة ملوك الأمم ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريض، وما جاء من هذه الطرق".

و يذكر محمد المغراوي أن السبب الرئيس لنكبة ابن رشد هو موقفه من الأشعرية التي كانت قد أصبحت في الغرب الإسلامي رمزا للوحدة العقائدية، والتي اعترفت بها الدولة الموحدية، بالإضافة إلى بعض الأفكار التي نقلها ابن رشد من التراث اليوناني، والتهمة السياسية التي يمكن أن يكون لها صدى كبير في نفس الخليفة، إما أن تكون مبنية على نصوص ابن رشد، وفي هذه الحالة يجب التوجه إلى نصه السياسي "جوامع سياسة أفلاطون"، وإما أن تكون مرتكزة على علاقة ابن رشد مع أحد الأطراف السياسية، وهنا تحضر تلك العلاقة القائمة بين فيلسوف قرطبة (ابن رشد) وأخ الخليفة أبي يحيى والي قرطبة الذي استغل مرض يعقوب وأخذ في دعوة الناس إليه ليخلف المنصور بعد موته[14]، أما بالنسبة إلى السبب الظاهر الذي أثار النقمة والنكبة هو أن جماعة من الحاقدين والحاسدين لابن رشد حملوا إلى الخليفة بعض التلاخيص التي كتبها فيلسوفنا، وفيما يذكر بخط يده لبعض القدماء من الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة، حيث حرصوا كل الحرص على أن يعرضوا هذا النص في غير سياقه أي منفصلا عما يسبقه أو يلحقه، حيث اتخذ كذريعة لاتهام ابن رشد والقضاء على مكانته والتقليل من هيبته ونفوذه وحرق مؤلفاته وعدم الأخذ بها تماما، مما أدى إلى تحريم دراسة الفلسفة والقضاء على جذورها، لكن هذا السبب لم يكن كافيا وسببا مقنعا لهذه النكبة، نظرا لما يحمله ابن رشد من علم ومكانة وشهرة، لكونه يظهر لنا بشخصية دينية نوعا ما واقفا على الحق لا نظنه يصدر عنه هذا القول الشركي، وهو الذي قال: "من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله" ناهيك عن اشتغاله بالحكمة وعلوم الأوائل.

  • كتاب جوامع سياسة أفلاطون ومنزلته في المتن الرشدي

يعود تاريخ كتابة "جوامع سياسة أفلاطون" إلى بداية حياته العلمية وبالضبط في المرحلة التي كتب فيها جوامع العلم الطبيعي، وجوامع ما بعد الطبيعة، فابن رشد عاين سقوط المرابطين وبداية الموحدين كتب هذه الوثيقة الرائعة التي تؤرخ فلسفيا لأسس نظم الحكم وأزمته في المدينة العربية الإسلامية؛ فالشخصيتان الوحيدتان المذكورتان بالاسم في هذا الكتاب هما: المنصور بن أبي عامر الذي كان يحكم باسم الخليفة الأموي (هشام المؤيد)، وابن غانية الذي كان يحكم باسم المرابطين، حيث يتحدث عن المدن الأندلسية وخصوصا قرطبة والأوضاع التي تسود فيها عند سقوط الدولة المركزية، ويشرح كيف تتحول المدينة من كونها فاضلة إلى تسلط واستبداد، فيتحدث عن المدينة التي لا يحكمها رئيس واحد، بل مجموعة من الأخيار وهي ما يطلق عليه اسم المدينة الجماعية التي سادت في الأندلس في قرطبة بعد الخمسمائة هجرية، حيث ثارت على المرابطين مباشرة بعد وفاة يوسف بن تاشفين، وتحولت إلى مدينة جماعية يحكمها مجموعة من كبار القضاة والفقهاء على رأسهم جد ابن رشد، حيث تحولت المدينة من الجماعية إلى الاستبداد على يد يحيى بن غانية الذي يعتبره نموذجا للمستبد الوحداني التسلط.

بدأت الدولة المرابطية في نظر ابن رشد بالسياسة الشرعية في عهد مؤسسها يوسف بن تاشفين، وتحولت إلى السياسة الكرامية في عهد ابنه علي، ثم تحول حفيده تاشفين إلى السياسة الشهوانية ففسدت المدينة، ويضيف ابن رشد أن سياسة الدولة التي ناهضت المرابطين؛ أي السياسة الموحدية شبيهة بالسياسة الشرعية، يقول ابن رشد: "وأما من يتعاطون الفلسفة ممن لم تكتمل فيهم هذه الصفات فالأمر فيهم بين أيضا، فهم مع كونهم لا يسدون نفعا للمدن، فإنهم مع ذلك أكثر الناس إضرارا بالفلسفة؛ وذلك لأنهم على الأكثر يميلون إلى الشهوات وإلى جميع الأفعال القبيحة كالجور والظلم، إذ ليس في جوهرهم فضيلة تمنعهم من الإتيان بهذه الأفعال، ولا يصدقون أيضا في أقوالهم التي يرهبون بها أهل المدينة فيما يأتون من تلك الأمور ويكونون عارا على الفلسفة وسببا في إيذاء كثير ممن هم أولى منهم بها كما هو عليه الحال في زماننا هذا"[15]

  • تداعيات نكبة ابن رشد الحفيد على الساحة المغربية والأندلسية

لقد كان إحراق كتب ابن رشد راجع لعدة عوامل مجتمعة بدءا بالسلطة السياسة التي كانت تحت تأثر الطبقة الدينية، ومكائد الحاقدين على ابن رشد ممن يعارضونه في توجهه الفكري، وممن يسعون إلى مكاسب وأطماع دنيوية، بالإضافة إلى ضغط العامة، والتي كانت تحت تنوير رجال الدين.

يقول عبد الفتاح كيليطو في كتابه "لسان آدم" إن ترحيل جثمان ابن رشد سيكون له بالنسبة إلينا نحن مدلول دقيق: رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتينيين، وفاة ابن رشد تختم بالنسبة إلى العرب نهاية حقبة ونهاية تاريخ، أو بعبارة أدق تحول ذلك التاريخ؛ لأنه سيستمر في الشمال في أوروبا حيث ستفرض الرشدية نفسها، وستكون أحد المصادر الأشد قوة للصدمة التي ستمنح الفعالية في باريس وبادوفا وأكسفورد إلى وسيط الحضارة الأوروبية".[16]

فهل موت الفيلسوف ابن رشد إيذان بإقفال أبواب الاجتهاد؟

[1] فالسبب الخفي الذي يعنيه المراكشي حسب فهم إرنست رينان هو أن الملك حقد على ابن رشد على أنه وصفه بملك البربر، في حين أن ابن رشد يقول أنه خطأ في النسخ كان يقصد ملك البرين، أي بر المغرب وبر الأندلس، انظر إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ص ص 39-40

[2] المراكشي عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 219

[3] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، ص 131

[4] الضروري في السياسة، انظر المقدمة التي وضعها الجابري، ص 39

[5] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ص 43

[6] يصف ابن رشد هذه الأصناف من نظم الحكم بأنها بسيطة لأنه يرى أنها لا توجد على أرض الواقع إلا مركبة في الغالب، يقول: "وينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطوطاليس تلفى بسيطة وإنما تلفى أكثر ذلك مركبة"

[7] ابن رشد، الضروري في السياسة، ص 168

[8] ابن رشد، تلخيص السياسة لأفلاطون، ص 178

[9] ابن رشد، الضروري في السياسة، ص 169

[10] أحمد عرفات القاضي، صورة الملك الفيلسوف عند أفلاطون وبعض فلاسفة الإسلام، ص 139

[11] هو أديب غريب ومؤرخ ليس له تاريخ، اسمه عبد الواحد بن علي ينتسب إلى تميم ويلقب محي الدين وأصله من مراكش

[12] محمد بن شريفة : شيخ المحققين المغاربة، معروف في أوساط الدارسين داخل المغرب وخارجه بولعه الشديد بالوثائق والمخطوطات، معروف من المشتغلين بالفلسفة الإسلامية بكتابه عن ابن رشد الحفيد سيرة وثائقية

[13] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، ص 126

[14] نكبة ابن رشد الحفيد، مضمرات ومعلنات (520 – 595(، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في تخصص تاريخ الغرب الإسلامي، إعداد الطالبتين بن اعمر سهام، عديلي سميرة، ص 51

[15] ابن رشد، الضروري في السياسة، ص ص 140 - 141

[16] عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر والتوزيع، ص 65