هابرماس ودريدا الشَّابَّان الاستمرار والقطيعة مع ميراثهما الفلسفيِّ


فئة :  مقالات

هابرماس ودريدا الشَّابَّان الاستمرار والقطيعة مع ميراثهما الفلسفيِّ

هابرماس ودريدا الشَّابَّان

الاستمرار والقطيعة مع ميراثهما الفلسفيِّ[1]

هابرماس الشَّابُّ: مشروع مُفكِّر سياسيٍّ قيد الولادة

من الصَّحيح أنَّ موضوع هذا الكتاب هو رصد العلاقة المتحوِّلة بين هابرماس ودريدا ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي؛ أي عندما بدأ الجدل الفكريُّ بينهما بالظُّهور، ولكنِّي ارتأيت التَّعريج على فكر هابرماس الشَّابِّ في السِّتِّينيات والسَّبعينيات من أجل موضعته في إطار المشهد الثَّقافيِّ الَّذي أعمل على رسمه هنا لفهم أفضل لتلك العلاقة بينهما وتقصِّي كيف تطوَّر فكر كلٍّ منهما.

ولد هابرماس عام 1929 لأسرة برجوازيَّة غير مُنخرطة فعليَّاً في السِّياسة؛ فهي لا تشارك فيها بحماس ولا تُشكِّك فيها بحسٍّ نقديٍّ[2]. هكذا عاش هابرماس طفولته وبداية يفاعته في بلد يحكمه النَّازيُّون. لكنَّ الصَّبيَّ الَّذي كان مُنخرطاً في شبيبة هتلر hitlerjugend سينقلب على النَّازيَّة بجذريَّة مع نهاية الحرب وسقوط النَّازيَّة؛ أي مع تفتُّح وعيه على هَول الكارثة حين راح يتابع جلسات «محاكمات نورمبرغ» على الإذاعة. يصف هابرماس الشَّابُّ صدمة الوعي الَّتي تعرَّض لها في ذلك الوقت بالكلمات التَّالية:

قبل خمسة عشر أو ستَّة عشر عاماً كُنَّا جالسين أمام أجهزة الرَّاديو نستمع إلى النِّقاشات الَّتي كانت تجري في محكمة نورمبرغ؛ [...] في ذلك الوقت كُنَّا أكثر انفتاحاً من معظم الأجيال الأكبر سنَّاً على واقع الوحشيَّة الَّتي ارتُكِبَت جماعيَّاً، ويعود الفضل في إدراكنا لتلك الوحشيَّة للسِّنِّ الحسَّاس والهشِّ الَّذي كُنَّا فيه[3].

لا شكَّ أنَّ صدمة الوعي تلك ستترك آثارها، بشكل واضح (بل ومبالَغ فيه) على مجمل فكر هابرماس، وستطبع جلَّ أعماله الفكريَّة ومواقفه السِّياسيَّة[4]. هكذا ستطغى السِّياسة وتتحكَّم بتوجُّهات هابرماس النَّظريَّة ومواقفه كمثقَّف؛ فوَصمة ألمانيا النَّازيَّة الَّتي يصفها بكونها «ماضٍ حاضر جدَّاً» نقرؤها كالإمضاء في كلِّ كُتبه ولن يشفى منها أبداً[5]. هكذا كان جيل هابرماس إذن، جيل شباب قُتِل آباؤهم أو قتلوهم بأنفسهم نفسيَّاً، وفقاً لميتشرليش:

جيل هابرماس هو جيل «مجتمع بلا آباء»، حيث كان الآباء إمَّا على الجبهة في أحسن الأحوال، أو إنَّهم فقدوا مشروعيَّتهم الأبويَّة بسبب انتمائهم السِّياسيِّ أو لعزوفهم عنه[6].

وكان من نتائج ضياع هذه الشَّرعيَّة الأبويَّة أن فقد جيل هابرماس الثِّقة بماضيه السِّياسيِّ القريب، بل وتولَّدت لديه حتَّى الرَّغبة في «قتل الأب» ودفنه بالمعنى الفرويديِّ (لكن دون إقامة الحداد عليه في حالة هابرماس، فهو لا يريد لهذا الماضي أن يمضي من الذَّاكرة كنوع من التَّكفير عبر التَّذكُّر). ترتَّب على جيل هابرماس إذن مواجهة إرث النَّازيَّة الثَّقيل ويصوغ هابرماس هذا المطلب المفروض على جيله على النَّحو التَّالي: «لقد اعتبرنا التَّجديد في الميدانين الفكريِّ والأخلاقيِّ معاً كضرورة وكبديهيَّة»[7]. بهذه الرُّوح وهذا الوعي الشَّقيِّ سينخرط هابرماس منذ السِّتِّينيات كمواطن ألمانيٍّ أوَّلاً، وكمفكِّر ثانياً في إعادة بناء ألمانيا الفيديراليَّة.

الاستمراريَّة والانقطاع في فكر هابرماس الشَّابِّ مع الميراث الفلسفيِّ الألمانيِّ

إذا كانت الظُّروف السِّياسيَّة للحرب العالميَّة الثَّانية قد قادت هابرماس إلى حساسيَّة مُفرِطة تجاه الإرث الفلسفيِّ الألمانيِّ القريب والمتَّهم بالنَّازيَّة (نيتشه، هايدغر، كارل شميت) فإنَّه سيعمل، بدل ذلك، على توثيق الصِّلة الفكريَّة مع المثاليَّة الألمانيَّة في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر؛ أي مع تقاليد التَّنوير والعقلانيَّة الألمانيَّة. بعد حصوله على شهادة الدُّكتوراه حول المطلق والتَّاريخ في فلسفة شيلنغ، سيُعيَّن هابرماس عام 1959 مساعداً لأدورنو وهوركهايمر في معهد البحث الاجتماعيِّ في فرانكفورت. لكنَّ ميلَه الشَّديد إلى الدِّيمقراطيَّة المباشرة سيصطدم بمعارضة شديدة من هوركهايمر الَّذي سيُطالب هابرماس بإجراء تعديلات على رسالة التَّأهيل لدرجة الأستاذيَّة. سيرفض هابرماس قرار هوركهايمر ويختار نقاش أطروحته حول الفضاء العامِّ[8] في جامعة ماربورغ 1961. لكن رغم خلافه هذا مع هوركهايمر، ظلَّ هابرماس الشَّابُّ وفيَّاً إلى حدٍّ كبير للخطِّ العريض لمدرسة فرانكفورت الَّذي اختطَّه هوركهايمر وأدورنو في تحليل وتشخيص أمراض المجتمع الحديث وأزمة الثَّقافة، من أجل البحث عن حلول لها. فعلى خُطى أستاذيه في فرانكفورت سينخرط هابرماس في الدِّفاع عن المحورَين المهيمنَين على اهتمامات مدرسة فرانكفورت آنذاك: 1- تحليل البنية الخطابيَّة والثَّقافيَّة للمجتمع الحديث، 2- انتقاد الوضعانيَّة الَّتي تجسِّد، في نظر مفكِّري المدرسة، الرُّوح الأداتيَّة المميِّزة للحداثة. هكذا سيشارك هابرماس عام 1961 جنباً إلى جنب مع أدورنو في مواجهة كارل بوبر في «سجال الوضعيَّة» حول دور المنهج في العلوم الاجتماعيَّة. ثمَّ سيتَّضح من خلال كتابَيه التِّقنية والعلوم كإيديولوجيا (1968) والمعرفة والمصلحة (1968) ذلك المفترق بين الاستمراريَّة مع تقاليد الجيل الأوَّل للنَّظريَّة النَّقديَّة، وفي نفس الوقت، إرهاصات الانشقاق عنها.

فعلى خلاف التَّوجه الفلسفيِّ التَّأمُّليِّ والاهتمام بالفنِّ ونظريَّات الأدب سيبتعد هابرماس الشَّابُّ عن أساتذته ويُبدي عزوفاً عن الفنِّ والأدب، لكنَّه سيبدي بالمقابل اهتماماً واضحاً بالبحث الاجتماعيِّ والعلوم الاجتماعيَّة ونظريَّات المجتمع والدِّيمقراطيَّة المباشرة من خلال «مفهومه» المبكِّر حول «الفضاء العام» كما يتَّضح من قراءة كتابَيه التَّحوُّل البنيويُّ للفضاء العامِّ (1962) ومنطق العلوم الاجتماعيَّة ومقالات أُخرى (1971). لكنَّه، وعلى غرار هوركهايمر وأدورنو وماركوز، سيقيم علاقة نقديَّة متأرجِحة مع الماركسيَّة، فعلى خطى الجيل الفرانكفورتيِّ الأوَّل سيجد أنَّ الماركسيَّة تحتاج إلى مراجعة عامَّة للحفاظ على ما لا يزال صالحاً فيها وقادراً إذن على تحليل واقع المجتمعات ما بعد الصِّناعيَّة. تتجلَّى إعادة النَّظر هذه في الماركسيَّة في العنوان الألمانيِّ ذي الدَّلالة لكتابه نحو إعادة بناء للمادِّيَّة التَّاريخيَّة (1976) zur rekonstruktion des historischen materialismus، والذي تُرجم غالباً تحت عنوان ما بعد ماركس. ومع أنَّ هابرماس الكهل سيعوِّض المرجعيَّة الماركسيَّة بمرجعيَّة كانطيَّة عمليَّة، إلَّا أنَّ فكره يظلُّ بالعموم فكر البراكسيس الاجتماعيِّ؛ فهو مثل ماركس يعطي الأولويَّة للفعل على العقل. هذه هي، في رأيي، وباختصار القواسم المشتركة بين هابرماس والجيل الفرانكفورتيِّ الأوَّل.

ومع أنَّ بوادر الانحراف عن الخطِّ العامِّ الَّذي انتهجَه الجيل الأوَّل لمدرسة فرانكفورت تبدو على نحوٍ أو آخَر في أعمال هابرماس الأولى، إلَّا أنَّه يظلُّ صحيحاً، في رأيي، أنَّ أعماله وحتَّى نهاية السَّبعينيات من القرن العشرين تُمثِّل استمراراً للتَّوجُّهات الرَّئيسة لهوركهايمر وأدورنو. ورغم الخلاف الَّذي وقع بينه وبين هوركهايمر بخصوص أطروحة الدُّكتوراه الأولى، فإنَّ هذا الأخير سيدعوه عام 1964 وبإلحاح من أدورنو لإعطاء دروس في المعهد ستكون تحت اسم «المعرفة والمصلحة»، حيث سيشرع في درسه الأوَّل منها في مناقشة درس هوركهايمر النَّظريَّة التَّقليديَّة والنَّظريَّة النَّقديَّة وسينشر بعد ذلك الأطروحات الرَّئيسة لهذه الدُّروس في كتاب سيحمل نفس العنوان: المعرفة والمصلحة، الَّذي نشرَه في عام 1965 عندما خلف هوركهايمر في منصب رئيس كرسيِّ الفلسفة الاجتماعيَّة، والَّذي أعلن فيه أنَّه سيتابع أهمَّ أبحاث هذا الأخير.

لكن بعد السَّبعينيات ستزداد الشُّقَّة بين توجُّهات هابرماس الجديدة والخطِّ العامِّ لجيل هوركهايمر وأدورنو؛ ويمكن لنا تلخيص نقاط الخلاف تلك في ثلاث رئيسة:

- النُّقطة الأولى تتمثَّل في عودة هابرماس المُعلنة إلى البرنامج الأوَّل للمدرسة (السَّابق على تولِّي هوركهايمر لإدارة المعهد): أي برنامج يطغى عليه عِلم الاجتماع التَّجريبيِّ والعلوم الاجتماعيَّة التَّطبيقيَّة على الفلسفة التَّأمُّليَّة. ولعلَّ أطروحتَه لنيل درجة الأستاذيَّة والمنشورة تحت عنوان: التَّحوُّل البينويُّ للفضاء العامِّ تشهد على ذلك التَّحوُّل الــــمُبكِّر[9]. لا يتَّفق هذا النُّزوع التَّجريبيُّ الاجتماعيُّ مع التَّوجُّه النَّظريِّ الجديد لمدرسة فرانكفورت تحت رئاسة هوركهايمر آنذاك، والَّذي راح يجنح نحو الانعتاق أكثر فأكثر من الأبحاث الاجتماعيَّة التَّجريبيَّة لصالح تأمُّلات ذات طبيعة نظريَّة بالأحرى. ولعلَّ هذا التَّباين في التَّوجُّه، هو السَّبب المباشر لرفض هوركهايمر و«أدورنو»[10] أطروحة هابرماس للتَّأهُّل لمنصب الأستاذيَّة بالشَّكل الَّذي قدَّمها لهما. ونتيجة لذلك، فضَّلَ مناقشتها في ماربورغ تحت إشراف فولفغانغ أبندروث.

- وتنعكس النُّقطة الثَّانية في انتقاد هابرماس لتلك الرُّوح السَّوداويَّة المتشائمة وشبه العاجزة الَّتي انتهت إلى التَّشكيك بالعقل والتَّنوير ومنجزات الحداثة، والَّتي تجلَّت في آخِر أعمال هوركهايمر وأدورنو وماركوز. على الخلاف من هؤلاء تميَّزَت أعمال هابرماس المبكِّرة بالثِّقة في العقلانيَّة الَّتي وُجِدَ فيها دور تحرُّريٌّ غير أداتيٍّ، كما آمن هابرماس الشَّابُّ بالقدرة على الفعل والانعتاق (لكنَّ هذا النُّزوع الشَّبابيَّ للتَّغيير سيخلي المكان عنده لنزعة تصالُحيَّة محافظة كما سنرى).

- أمَّا النُّقطة الثَّالثة للخلاف بينه وبين جيل أساتذته للنَّظريَّة النَّقديَّة، فتتلخَّص في اهتمامهم الكبير بالنَّظريَّات الأدبيَّة والجماليَّة والتَّحليل النَّفسيِّ، وغياب هذه المباحث بشكل شبه كلِّيٍّ عن اهتمامات هابرماس الَّذي اهتمَّ أكثر بصياغة رؤية عقلانيَّة إجرائيَّة تقنيَّة.

ومع أنَّ ملامح الانقسام بين هابرماس وأسلافه الفرانكفورتيِّين قد تجلَّت في أعماله منذ السَّبعينيات، إلَّا أنَّ البداية الحقيقة لاستقلاله عنهم قد تعود لعام 1965 حين اكتسب هابرماس مزيداً من الحرِّيَّة بعد ما خلف هوركهايمر على كرسيِّ الفلسفة الاجتماعيَّة في معهد البحث الاجتماعيِّ.

وإن يكن هذا حال ابتعاد هابرماس الشَّابِّ عن الخطِّ العامِّ للمدرسة الَّتي ينتمي إليها، فإنَّ بداية استقلاله الفكريِّ ستضعه على مسافة من بعض التَّيَّارات الفكريَّة الألمانيَّة كموقفه النَّقديِّ الحادِّ جدَّاً من هايدغر أو ستدفعه باتِّجاه تيَّارات أُخرى أقدم كالماركسيَّة والهيغليَّة والكانطيَّة. كما أنَّ توجُّه هابرماس العقلانيَّ الاجتماعيَّ سيجعله متأثِّراً وبقوَّة بأعمال وأفكار ماكس فيبر الَّتي ستصبح من مرجعيَّاته الرَّئيسة، وسيُخضعها إلى مراجعات نقديَّة طويلة مستلهماً منها كثيراً وناقداً لها كثيراً أيضاً.

دريدا الشَّابُّ: مقاربة في التَّحليل النَّفسيِّ للسِّيرة الذَّاتيَّة

أعتمد هنا إذن نفس التَّصنيف الَّذي اقترحتُه في الجزء الأوَّل من هذا الكتاب والَّذي افترضتُ فيه وجود مرحلتين متمايزيتين على الأقلِّ في تاريخ تفكيكيَّة دريدا: 1- مرحلة دريدا الأوَّل أو الشَّابِّ (أي في الفترة الَّتي امتدَّت من 1967 وحتَّى نهاية الثَّمانينيات)، والَّتي انحصر اهتمامه فيها بقراءة النُّصوص والخطابات الَّتي تنتمي بشكلٍ أو بآخر إلى مباحث الفلسفة النَّظريَّة والنَّقد الأدبيِّ متجاهلاً آنذاك الخوض مباشرةً في مسائل الفلسفة العمليَّة، ثمَّ 2- مرحلة دريدا الثَّاني أو الكهل (الَّتي امتدَّت منذ تسعينيات القرن الماضي تقريباً وحتَّى وفاته عام 2004) والَّتي شهدت تحوُّلاً عمليَّاً أي أخلاقيَّاً-سياسيَّاً-قانونيَّاً في التَّفكيكيَّة الدريديَّة.

بتركيزي هنا على دريدا الأوَّل؛ سأحاول عبر مقاربة نفسيَّة للسِّيرة الذَّاتيَّة التَّسلُّل إلى الشُّروط النَّفسيَّة المبكِّرة (مكبوتات الطُّفولة قد يقول فرويد) الَّتي تركَت أثراً خفيَّاً (وإن يتمُّ التَّعبير عنه على مواربةً ككلِّ تجلِّيات المكبوتات) قد يكون حاسماً على فكر دريدا الأوَّل وشخصيَّته.

ومع انتهائي من معالجة هذه النُّقطة سأُسدل السِّتار عن آخِر مشهد في هذا الاستعراض الثَّقافيِّ لكلٍّ من ألمانيا وفرنسا في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين.

دريدا الشَّابُّ: الهامشيُّ وفلسفة الهامش

يصغر دريدا هابرماس بسنة واحدة، فقد ولد في عائلة يهوديَّة من يهود الجزائر عام 1930 أي حين كانت الجزائر لا تزال مستعمَرة فرنسيَّة، وقد ظلَّ فيها حتَّى بلغ سنَّ الثَّامنة عشرة وقرَّر متابعة دراسته في باريس. هناك في الجزائر وتحديداً في الأبيار القريبة من العاصمة سيعيش دريدا الطِّفل فترة دراسيَّة مؤلمة يصفها كالتَّالي:

[...] لقد كنتُ طفلاً، تلميذاً صغيراً بائساً جدَّاً، فقد عانيت كثيراً في المدرسة [...] حيث كانت المشاكل العِرقيَّة حسَّاسة جدَّاً آنذاك: كان هناك الكثير من الوحشيَّة بين التَّلاميذ، ومعارك بين صغار العرب وصغار الفرنسيِّين... لقد كانت إذن تجربة عنيفة. كنت أشعر بأنَّني طفل مُعرَّض دوماً للخطر ويريد العودة إلى بيته ليحمي نفسه من عالمٍ بدى لي عنيفاً جدَّاً [...]. كان نظام فيشي قويَّ الحضور جدَّاً في الجزائر. [...] وكنتُ يهوديَّاً [...] وكان هناك عنف عنصريٌّ، عِرقيٌّ، يتعاظم في كلِّ مكان، عنصريَّة ضدَّ العرب وعنصريَّة معادية السَّاميَّة وعنصريَّة ضدَّ الطِّليان وعنصريَّة ضدَّ الإسبان... إلخ، كلُّ أنواع العنصريَّة كانت موجودة وكانت كلُّ العنصريَّات تتلاقى هناك... هذه بعض الإشارات الصَّغيرة عن جوِّ المدرسة الابتدائيَّة والَّتي، رغم كلِّ ذلك، سارت معي على ما يرام على المستوى التَّعليميِّ[11].

شعر دريدا، الطِّفل الصَّغير والتِّلميذ اليهوديُّ الحسَّاس جدَّاً للعنف الَّذي يضطرم حوله، أنَّه مُهمَّش وغير قادر على فهم أسباب ذلك التَّهميش الَّذي كان يتعرَّض له والَّذي تجلَّى صريحاً في حادثة يرويها لنا دريدا بالكلمات التَّالية:

هناك ذكرى بقيت محفورة في ذهني: كنت الأوَّل في الصَّفِّ وكان لهذا التَّفوُّق بعض الامتيازات؛ فكلَّ صباح كان هناك رفعٌ للعَلَم مع نشيد: «أيُّها المارشال ها نحن ذا». وفي أحد الأيَّام أدركتُ أنَّه لا يُسمَح لي برفع العَلَم لكوني يهوديَّاً مع أنَّني الأوَّل في الصَّفِّ، في حين كان الأوائل في صفوفهم هم مَن يرفعون العَلَم. وفجأةً فهمتُ... دون أن أفهم! لماذا لم يسمحوا لي برفع العَلَم..[12].

بعد اجتياز هذه التَّجارب القاسية في المدرسة الابتدائيَّة الَّتي «كانت جحيماً» بالنِّسبة إليه؛ سيتمُّ طرد دريدا الطَّالب من ثانويَّة بن عكنون سنة 1942 عندما تمَّ تطبيق القانون العنصريِّ numérus clausus. يصف دريدا حادثة التَّرحيل تلك بالقول:

أخي وأختي تمَّ طردهما قبلي، هي طُرِدت من المدرسة الابتدائيَّة وهو مِن الثَّانويَّة، ولا أعرف لماذا. أمَّا أنا، فقد تمَّ طردي مع بداية العام الدراسيِّ في خريف 1942 حين دعاني المراقب العامُّ إلى مكتبه وقال لي: «ستعود إلى بيتك وسيشرح لك والداك السَّبب». لكن حتَّى والداي لم يفهما جيِّداً سبب ذلك وما قيل لي حينها هو أنَّني كنتُ طفلاً يهوديَّاً، وأنَّه يتوجَّب عليَّ ترك المدرسة[13].

بعد طرده من الثَّانويَّة؛ سيجد دريدا نفسَه في مدرسة تمَّ تكوينها من الأطفال والمدرِّسين اليهود الَّذين طُرِدوا بدورهم من مدارسهم. ولكنَّ الطِّفل جاكي دريدا سيشعر بالاختناق في هذا الوسط المتجانس الطَّائفيِّ ذي اللَّون الواحد (ولعلَّ هذه النُّقطة الأخيرة ستُترجم في نزقه من محاولة التَّصنيف والتَّنميط ومقاومته لكلِّ ميتافيزيقا للهويَّة وتركيزه على علاقات الاختلاف والتَّباين ضدَّ ميتافيزيقا الوحدة والشُّمول). إذن ستترك الوحشيَّة والعنف والتَّمييز والطَّرد والعنصريَّة الَّتي تعرَّض لها الطِّفل دريدا أثراً trace مرئيَّاً على تفكيكيَّته وشخصيَّته الَّتي ستعاني وبشكلٍ مبكِّر بحسب كلمات دريدا نفسه: «اضطراباً في الهويَّة»[14].

أثران نفسيَّان أريد التَّوقُّف عندهما في مراجعتي لبعض ذكريات الطِّفل دريدا قد يكونا تركَا بصمة على شخصيَّته وتفكيكيَّته ووجَّهاها حيث ذهبَت: يتعلَّق الأوَّل بخطِّه في الكتابة. فعلى الرَّغم من أنَّه كان الأوَّل في الصَّفِّ؛ كان خطُّ دريدا سيِّئاً جدَّاً، بل ويكاد يكون غير قابل للقراءة. حول هذه النُّقطة نقرأ عنده:

طالب جيِّد إذن... ولكنَّ كتابته مستحيل. كان خطِّي غير مقروء، وقد ظلَّ كذلك دوماً من يومها. وقد كانت تكوَّنت في تلك الفترة الصُّورة الَّتي أعطيتها عن نفسى لهؤلاء الــــمُعلِّمين الجيِّدين: صبيٌّ موهوب، لكنَّ خطَّه مستحيل القراءة[15].

والسُّؤال الَّذي يطرح نفسه عليَّ بقوَّة هنا هو: هل هناك صلة ممكنة بين هذه «الكتابة المستحيلة» للطِّفل دريدا وعمله على «الكتابة» الَّذي كرَّس لها حياته الفكريَّة (في مرحلته الأولى على أقلِّ تقدير)؟ أليس صحيحاً أنَّ الفيلسوف دريدا قد تساءل باستمرار عن الكتابة، والمخطوط، وعلامات التَّرقيم، والتَّسجيل، والرَّقن، والتَّدوين، والأثر، والكتابة الــــمُرمَّزة، والكتابة السِّرِّيَّة، والرُّموز، والنُّقوش، والهيروغليفيَّة، والشِّيفرة، والكود، والــــمُرسِل، والمُتلقِّي، والرِّسالة، والبطاقة البريديَّة وفكِّ شيفرتها كما في البطاقة البريديَّة la carte psotale؟ أليس لهذه الكتابة المستحيلة أثر في التَّفكيك وعليه بوصفه أوَّلاً وقبل كلِّ شيء قراءة مختلفة تُركِّز على بنية النَّصِّ برموزها كما لو كان مكتوباً بلغة أُخرى أو كما لو أنَّه نَصٌّ لا يُقرأ أو مستحيل القراءة، بل نصٌّ يحتمل قراءات متعدِّدة تسمح بها بنية رموزه الدَّاخلية المتحرِّكة؟ ألا يسمح الخطُّ السَّيِّئ أو غير المقروء بتعدُّد التَّأويلات أثناء محاولات القراءة؟ ألا يسمح بالتَّركيز على الحروف والرُّموز والدَّلالة والدَّالِّ والمدلول ويستوجب وضع نظَّارات سميكة فوق الأنف وتحت العينين لفكِّ شيفرة رموز الكتابة بخطٍّ قد تكون كتابته على نحوٍ سيِّئ أمراً مقصوداً بهدف التَّرميز والتَّشفير كما في الكتابات الدِّينيَّة السِّرِّيَّة والصُّوفيَّة؟

أمَّا الأثر الثَّاني الَّذي أريد التَّركيز عليه بسرعة هنا في طفولة دريدا يتعلَّق بإشكاليَّة «الهويَّة» (الأثيرة عندي) أو بالأحرى فقدان الهويَّة وتفكُّكها أو «اضطراب الهويَّة» كما يُسمِّيه هو نفسه، وهو أمر إشكاليٌّ حاضر منذ طفولته، إن لم يكن منذ ولادته، وربَّما قبلها. فقد أطلقَ والدا الطِّفل دريدا عليه اسم جاكي وكان قد مُنِح، أثناء ختانه، اسماً آخَر، هو إيلي[16]، وهي عادة كانت سائدة، بحسب دريدا في أوساط الجالية اليهوديَّة في الجزائر في سنوات الثَّلاثينيات، والَّتي كانت تحرص على منح أبنائها أسماءً أمريكيَّة بخاصَّة لأعلام السِّينما مثل وليم، وجاكي[17]. سيضيف دريدا الشَّابُّ لجاكي وإيلي اسماً ثالثاً في باريس عندما سيبدأ بنشر مقالاته الأولى مختاراً لنفسه اسم «جاك»، وهو اسم «قريب بالتَّأكيد من اسمه الحقيقيِّ [جاكي]، لكنَّه فرنسيٌّ جدَّاً، مسيحيٌّ وسهل»[18]. بحجبِه لاسم جاكي الَّذي يحيل بشكلٍ أو بآخَر للأصل اليهوديِّ لحامله، يُشبِّه دريدا نفسه بيهود المارانوس marrane[19] الَّذين اضطرُّوا إلى اعتناق الكاثوليكيَّة في إسبانيا والبرتغال في القرن الخامس عشر لتجنُّب الاضطهاد المسيحيِّ ضدَّ اليهود.

بثلاثة أسماء، اثنان منها محجوبان (أو مكبوتان)، يُصبح السُّؤال: من يخفي مَن؟ مَن مِن هؤلاء الثَّلاثة (على الأقلِّ) يأخذ القَلم ويبدأ بالكتابة، من يوقِّع على النَّصِّ؟ هل هو جاك أم جاكي أم إيلي؟[20] وهل يجد انشغال دريدا فلسفيَّاً وأدبيَّاً بإشكالية «اسم العلم le nom propre»، والَّذي يتمحور في السُّؤال الدريديِّ: «مَن يتكلَّم؟»[21]، جذوره في تعدُّديَّة الأسماء الأولى تلك؟ هل من الممكن أن تكون مسألة الهويَّة الــــمُضطربة هذه محتجِبة وراء ذلك النَّفي والسَّلب الجذريَّيْنِ لكلِّ أشكال الوحدة، والجوهر والــــمُطلق، والمحض، وتوافق الآراء، والتَّطابق... إلخ، والَّذي يطبع دريدا وتفكيكيَّته؟ أترك هاتين النُّقطتين معلَّقتَين تتأرجحان على أفق السُّؤال، على الرَّغم من اقتناعي بأنَّ الجواب هو بالإيجاب وسيكون علينا ربَّما إضافة عوامل أُخرى غير مباشرة، وخفيَّة، ساهمَت في تفكيك جميع أشكال الهويَّات عند دريدا من قبيل ما ذكرَته جيوفانا بورادوري من واقع: «وجود دريدا على حدود مناطق عدَّة: اليهوديَّة والمسيحيَّة، اليهوديَّة والإسلام، أوروبا وأفريقيا، فرنسا /الوطن الأُمّ ومستعمراتها، البحر والصَّحراء. وهو التَّحدِّي نفسه الَّذي يطرحه دريدا على الفلسفة»[22].

ولَمَّا غادر دريدا الجزائر لمواصلة دراسته في باريس؛ أراد ذلك الشَّابُّ الغريب الَّذي قضى ما يقرب من 19 عاماً في الجزائر أن يصبح «فرنسيَّاً حقيقيَّاً». وكخطوة أولى لأن يصبح باريسيَّاً قام، قبل أن يُغيِّر اسمه من جاكي إلى جاك، بتغيير لكنَتِه أوَّلاً فهي تفضح هويَّة المكان القادم منه: الجزائر الفرنسيَّة. كان دريدا يعتقد (وكان على حقٍّ) أنَّ إخفاء لهجته كفرنسيٍّ جزائريٍّ شرطٌ ليتمَّ قبوله في الوسط الباريسيِّ الثَّقافيِّ إذ، وفقاً لكلماته، «لم يكن من الممكن الدُّخول في الأدب الفرنسيِّ دون فقدان اللَّكنة» وهي مهمَّة لم ينجح فيها تماماً وظلَّت فرنسيَّته المنطوقة بلكنة فرنسيِّي الجزائر تفضحه بين الحين والآخَر وبخاصَّة لحظات الانفعال والغضب. حول هذه المحاولة الجديدة لإخفاء الأصل اللُّغويِّ، الصَّوت والظَّاهرة نقرأ عند دريدا:

أعتقد أنَّني لم أفقد لكنَتِي، أو لم أفقد كلَّ شيء من لكنَتِي «كفرنسيٍّ من الجزائر». فنبرة الصَّوت تبدو أكثر وضوحاً في بعض المواقف «البراغماتيَّة» (مثل الغضب أو التَّعجُّب في بيئة عائليَّة أو مألوفة، وفي أغلب الأحيان في الحيِّز الخاصِّ أكثر منه أمام النَّاس..[23].

وحتَّى لو لم يكن دريدا فخورا ً بهذا الشُّعور بالدُّونيَّة تجاه الفرنسيِّين الأصليِّين والباريسيِّين تحديداً، إلَّا أنَّ هذا الشُّعور بالنَّقص الحضاريِّ ظلَّ يطارده دائماً وهو يعترف بذلك بوضوح وشجاعة مُصرِّحاً:

لم أتوقَّف عن تعلُّم -خاصَّةً في التَّدريس- التَّحدُّث بصوت مُنخفض، وهو ما كان صعباً بالنِّسبة إلى «قدم سوداء»[24] وخاصَّة في عائلتي، ولكنَّ الكلام بصوت منخفِض يُظهِر المقموع وما هو محتجز، بصعوبة كبيرة، وراء سدٍّ غير مستقرٍّ يُنبئ بالكارثة. فمع كلِّ مقطع يمكن أن يقع الأسوأ[25].

بعد أن عرف الرُّسوبَ مرَّتَين على الأقلِّ، مرَّة في البكالوريا عام 1947 ثمَّ في امتحان القبول لمدرسة المعلِّمين العليا، تمكَّن دريدا أخيراً من التَّسجيل في هذه الأخيرة وهي المؤسَّسة الَّتي سيقضي فيها معظم حياته الأكاديميَّة مُدرِّساً. أثناء دراسته العُليا سيُعَيَّنُ دريدا الشَّابُّ مع ليفيناس كمُساعدَين لبول ريكور في السُّوربون، لكنَّ تقاليد السُّوربون المحافظة كانت تتعارض مع نزوعه للتَّمرُّد على المعايير الجامعيَّة الضَّيِّقة في الكتابة والإبداع، سواء تعلَّق ذلك بالأسلوب أو بالمواضيع المتناولة، أو بطريقة التَّناول حتَّى وقد تجلَّى تمرُّد دريدا على معايير المؤسَّسة الجامعيَّة منذ مقالاته الأولى[26]. وهكذا، سيشعر دريدا الشَّابُّ النَّزِق بأنَّه مُكبَّل بالمتطلَّبات الأكاديميَّة وهو يصف تلك المرحلة كالآتي:

شعرتُ إذن أنَّني في هامشٍ ما رغم أنِّي أُدرِّسُ في هذه القلعة اللَّامعة التي هي مدرسة المعلِّمين العُليا... وقد كنتُ أشعر بضيق متزايد في الوسط الأكاديميِّ رغم أنَّني في البداية كنت مندمجاً فيه، فقد كنت مُعيداً في السُّوربون، وكنتُ أُدرِّس في مدرسة المعلِّمين العليا، وهي مؤسَّسات قويَّة جدَّاً[27].

ونظراً لرغبته في الكتابة بحرِّيَّة، بعيداً عن قيود الكتابة الأكاديميَّة المعياريَّة، اختار دريدا أن يتخلَّى عن كتابة أطروحته لنيل شهادة الدُّكتوراه. وقد أوضح هذه النُّقطة بالقول: «في عام 1968 كنت في مدرسة المعلِّمين العليا، وهي الفترة الَّتي قرَّرت فيها التَّخلِّي عن الحياة المهنيَّة، أو لِنَقُلْ عن إعداد الأطروحة وهو ما كان الطَّريق الطَّبيعيَّ في المدرسة العليا»[28]. هكذا وفي قلب «المركز» كان دريدا يرسم هوامشه الخاصَّة مُبدياً في تلك الفترة شكلاً من أشكال المقاومة السِّرِّيَّة للنِّظام الجامعيِّ التَّقليديِّ. وقد اعترف بذلك بعد سنوات عدَّة مُؤكِّداً:

بدأتُ بمحاولة إضفاء الشَّرعيَّة على عملي الفلسفيِّ من خلال المؤسَّسة الجامعيَّة. وكان عليَّ من أجل تحقيق شيء من الحرِّيَّة في الكتابة، أن أحظى بشيء من الثِّقة أوَّلاً. في السَّابق لم أكن أخون المعايير إلَّا بطريقة حذرة وماكرة وشبه سرِّيَّة. حتَّى ولو لم يخفَ ذلك على الجميع[29].

وحتَّى إن لم تخفَ هذه المقاومة والرَّفض للمعايير الأكاديميَّة على الجميع، فقد كانت تُمهِّد لزجِّ دريدا (فيلسوف الهامش بامتياز) في حرب مفتوحة مع أساتذة جامعات «المركز». يتحدَّث دريدا عن هذه الحقبة الماضية على النَّحو التَّالي:

وفي عام 1974، كان هنالك ذلك الحدث الَّذي أوقد الشَّرارة والَّذي تمثَّل في منع اللَّجنة الاستشاريَّة لألتوسير من الحصول على كرسيِّ الأستاذيَّة مع أنَّه كان قد ناقش أطروحته قبلها. أتذكَّر أنَّني كتبت رسالة احتجاج ضدَّ هذه اللَّجنة؛ ما جعلهم ينظرون إليَّ كعدوٍّ في تلك الأوساط[30].

وقد دفعَت هذه «الحرب» بين دريدا وبين أساتذة الجامعة أو مَن أُسمِّيهم بــــــ «كَهَنة المركز» إلى التَّفكير بإنشاء greph (مجموعة البحوث حول تدريس الفلسفة)، قبل أن يضطلع بمهمَّة جديدة وهي: إنشاء الكلِّيَّة الدُّوليَّة للفلسفة. كفضاءات فلسفيَّة هامشيَّة أو هوامش للفلسفة تقاوم سلطة المركز المهيمن على تدريس الفلسفة في الجامعة.

ولادة التَّفكيك

لِنَعُدْ إلى أحداث أيَّار/مايو 6819 ولْنتساءل: ما نوع العلاقة الموجودة بين هذه السَّنة الــــمُضطربة وما بعد البنيويَّة بما فيها التَّفكيك الدريديُّ بطبيعة الحال؟ يؤكِّد مانفريد فرانك، الَّذي كرَّس ثلاثين درساً لظاهرة «البنيويَّة الجديدة»، على هذه العلاقة بالقول: «مهما يكن من أمر، فإنَّ البنيويَّة الجديدة الَّتي أريد معالجتها هنا لم تظهر كحركة نظريَّة إلَّا حوالي عام 1968»[31]. لا شكَّ أنَّ تلك السَّنة المتفجِّرة تمرُّداً قد سمحت لبعض التَّيَّارات الفلسفيَّة الفرنسيَّة الهامشيَّة الَّتي كانت لا تزال قيد التَّشكُّل بإعلان ولادتها ومنحتها شيئاً من الشَّرعيَّة والحضور. مع حركة 68 برزت أسماء دريدا ودولوز وليوتار وبودريار على واجهة المسرح الثَّقافيِّ الفرنسيِّ، كما أنَّها شهدت تحوُّل بعض البنيويِّين السَّابقين نحو مابعد البنيويَّة مثل لاكان وألتوسير وفوكو.

في 1968 ستُسجَّل إذن شهادة ميلاد التَّفكيك الدريديِّ، رغم أنَّ كلمة «تفكيك»[32] قد ظهرت لأوَّل مرَّة في عام 1967، في كتاب دريدا في علم الكتابة[33]، بل إنَّ استراتيجيَّات التَّفكيك قد تجلَّت إرهاصاتها منذ عام 1962 في تلك المقدِّمة الطَّويلة لترجمته لكتاب إدموند هوسرل أصل الهندسة. ومع أنَّ تلك التَّرجمة وذاك التَّقديم الطَّويل لكتاب هوسرل قد مكَّنَا دريدا من الفوز بجائزة جان كافاييس، إلَّا أنَّها لم تلقَ الكثير من الاهتمام خارج الوسط الفلسفيِّ الضَّيِّق المشتغل بالفينومينولوجيا. قبل 1968 بعام واحد سيفرض دريدا اسمَه على المشهد الثَّقافيِّ الفرنسيِّ عام 1967 الَّذي نشر فيه كُتُبَه الثَّلاثة الأولى: في علم الكتابة والصَّوت والظَّاهرة والكتابة والاختلاف. وقد كشفت هذه الكتب الثَّلاثة، الَّتي ظهرت تباعاً خلال تلك الفترة الحُبلى بالتَّمرُّد، عن فلسفة أصيلة وعن فيلسوف عميق متمرِّد يُحسَب حسابه. وما إن أثارت كتبه الثَّلاثة تلك نقداً واهتماماً (متحفِّظاً) في فرنسا؛ فإنَّها لن تلبث أن تُثير اهتمام العديد من الجامعات الأمريكيَّة به وهي الَّتي ستفتح له، منذ منتصف السَّبعينات من القرن الماضي، أبواب الشُّهرة على مصراعيها. هكذا وبفضل الجامعات الأمريكيَّة، خرج التَّفكيك من هوامش الفكر الفرنسيِّ[34] ليحتلَّ مركز الفكر الأميركيِّ الَّذي سيجعل من جاك دريدا عرَّابَ «ما بعد البنيويَّة» بلا منازع. سيؤكِّد دريدا حضوره وأُستاذيَّته وجدارته بأن يكون مؤسِّساً حقيقيَّاً لفلسفة جديدة، ففي عام 1972 سينشر ثلاثة كتب جديدة مهمَّة هي: هوامش الفلسفة والانتشار ومواقع. وعلى الرَّغم من ثقل وجدِّيَّة وعُمق هذه المؤلَّفات الثَّلاثة (خاصَّة الأوَّلَين منها)، فإنَّنا نلاحظ أنَّ دريدا قد منح لنفسه فيها حرِّيَّة كبيرة في الكتابة والتَّمرُّد على حدود الفلسفة والأدب. هذه العلاقة الإشكاليَّة بين الكتابات الفلسفيَّة والكتابات الأدبيَّة ومداخلة حدودها بعضها ببعض (وهو أمر سأعود إليه لاحقاً) ستكشف عن نفسها قريباً في طريقة كتابة نواقيس (1974). ففي هذا الكتاب، يجري دريدا تحليلاً لمفهوم «الأُسرة» في العمود الأيسر في مبادئ فلسفة الحقِّ لهيغل، بينما يناقش، في العمود الأيمن من نفس الصَّفحة، بعضَ أعمال جان جينيه الكاتب الفرنسيِّ المشهور والشَّاعر المعروف، ولكن في الوقت نفسه، اللُّصُّ الفضائحيُّ. ثمَّ سينشر دريدا خلال عام 1978، كتابين اثنين سيمنح فيهما اهتماما كبيراً للمسألة الجماليَّة: الحقيقة في الرَّسم والمهماز: أساليب نيتشه.

الاستمراريَّة والانقطاع بين تفكيكيِّ دريدا الشَّابِّ وإرثه الفلسفيِّ

على الرَّغم من أنَّ دريدا قد قاوم باستمرار إعطاء تعريفٍ للتَّفكيك، فإنّه قد اضطرَّ إلى تقديم ثلاثة أو أربعة تعريفات مختلفة لها تباينت مع تطوُّر فكره. حول تفكيكيَّته الأولى يمكن لي أن أقول بعموميَّة إنَّه إذا صحَّ أن تكون الفلسفة الألمانيَّة (الهوسرليَّة والفرويديَّة والهايدغريَّة) هي والدة التَّفكيكيَّة الدريديَّة، فإنَّ الاتِّجاه البنيويَّ الفرنسيَّ هو والدها. واستخراج هذه البطاقة العائليَّة للتَّفكيكيّة، يطرح علينا سؤالاً عن طبيعة علاقتها مع والديها. فهل قطعت الحبل السِّرِّيَّ وأصبحَت مُستقلَّة عن أُمِّها؟ هل اعتمدت طويلاً على ميراث أبيها؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، سأحاول تقييم علاقة تفكيك دريدا بتراثه الألمانيِّ أوَّلاً، ثمَّ بالبنيويَّة الفرنسيَّة ثانياً. وبما أنَّني سأتناول التَّفكيك من عدَّة زوايا في وقت لاحق، فإنِّي سأقتصر في هذه المرحلة على الحديث عن علاقة التَّفكيك بتراثه الفلسفيِّ.

إلى أيِّ مدى واءَم دريدا الشَّابُّ التُّراثَ الفلسفيَّ الألمانيَّ المستورَد إلى فرنسا؟

كان لانفتاح الفكر الفرنسيِّ على فينومينولجيا هوسرل بخاصَّة مع سارتر وميرلوبونتي أن وضعَها في قلب التَّجديد الفلسفيِّ الَّذي كان الفرنسيُّون يطمحون إليه، وكان دريدا الشَّابُّ يبحث أن يفتح -انطلاقاً من الفينومينولوجيا- أفقاً جديداً يتَّجه نحو العِلم والإبستمولوجيا (وهو توجُّه سيتخلَّى دريدا عنه سريعاً وكلِّيَّاً). ونحن نعتمد على هذا الطَّرح انطلاقاً من تصريح دريدا:

في تلك الأثناء اشتغلت كثيراً على هوسرل. وكان الشَّاغل الَّذي تقاسمته مع الكثيرين آنذاك يتمثَّل في استبدال الفينومينولوجيا الفرنسيَّة (ميرلوبونتي وسارتر) غير المكترثة تقريباً بالعلميَّة والإبستمولوجيا بفينومينولوجيا أكثر توجُّهاً نحو العلوم[35].

ويكفي قراءة الأعمال الأولى لدريدا حتَّى ندرك مدى انشغال هذا الأخير بهوسرل والفينومينولجيا. إذ بعد تكريسه رسالة الماجستير عام 1953 لــــــ مشكلة التَّكوين في فلسفة هوسرل، سيترجم دريدا لهذا الأخير عام 1962 أصل الهندسة مع مقدِّمة طويلة، لكن عميقة جدَّاً تتجاوز حجم الكتاب المُترجَم. ثمَّ سيقدِّم في كتابه الصَّوت والظَّاهرة الصَّادر عام 1967 قراءة مُعمَّقة لكتاب هوسرل أبحاث منطقيَّة.

لكنَّ الطَّريق الَّذي يبدأ بهوسرل، ينتهي غالباً بهايدغر. وقد كان لهذا الأخير عظيم الأثر على دريدا ومناخه الفكريِّ. لم يتوقَّف دريدا عن تأكيد تقارب تفكيكيَّته مع فلسفة هايدغر ومن بين تصريحاته العديدة في هذا الصَّدد، نقتبس قوله: «لا شيء مِمَّا أحاول القيام به كان ليكون ممكناً لولا فتوحات الأسئلة الهايدغريَّة»[36].

لكنَّ مرجعيَّة ألمانيَّة[37] ثالثة لا مجالَ لإنكار حضورها القويِّ لكن أقلَّ بروزاً مِمَّا لهوسرل وهايدغر من أثَّرَ على التفكيكية الدريديَّة، وما أقصده هنا هو التَّحليل النَّفسيُّ الفرويديُّ؛ إذ لا يمكن فهمُ مفهوم «الأثر» عند دريدا دون إعادته إلى مصدره في مفهوم «اللَّاوعي» عند فرويد. وإذا ما غاص فرويد في النَّفس ليكشف عن اللَّاوعي؛ فإنَّ دريدا الأوَّل قد غاص في النُّصوص لاكتشاف «الآثر»؛ وإذا كان فرويد قد تجاوز الوعي لاكتشاف منطقة أعمق، ألا وهي اللَّاوعي، فقد ذهب دريدا إلى أبعد من النُّصوص لاكتشاف مناطق أعمق وآثار مخفيَّة مُخبَّأة بين الخطوط وعلى الهوامش. تلكم هي، باختصار شديد، تأثيرات الاتِّجاهات الكبرى للفكر الألمانيِّ المعاصر على فكر دريدا الشَّاب.

الاستمراريَّة والانقطاع بين تفكيك دريدا والبنيويَّة

يمكننا الإحاطة بالقواسم المشتركَة بين تفكيكيَّة دريدا والبنيويَّة بإيجاز على النَّحو التَّالي:

- يحتفظ التَّفكيك من البنيويَّة بذلك الاهتمام باللُّغة وبعلاقات الاختلاف الَّتي بدونها لا يمكن تمييز العلامات اللُّغويَّة بعضها عن بعض.

- تستمرُّ الصُّوريَّة البنيويَّة بالحضور في التَّفكيك، فغياب «الذَّات» يظلُّ حاضراً ويتجلَّى في تفكيك «الأنا».

- من البنيويَّة يحتفظ التَّفكيك، بل ويُجذِّر ذلك الرَّفض الكامل لكلِّ ما هو ميتافيزيقيٌّ من خلال تفكيك مركزيَّة اللُّوغوس.

- مثل البنيويَّة لا يوافق التَّفكيك على تاريخانيَّة خطِّيَّة للفكر، ويرفض فكرة وجود غائيَّة للتَّاريخ.

- على غرار البنيويِّين، يبقى دريدا (على عكس هابرماس) كاتباً ذا أسلوب مميَّز في الكتابة. فهو كمعظم مابعد-البنيويِّين يولي اهتماماً كبيراً للأسلوب وطريقة العرض وجماليَّات الشَّكل وتعقيداته.

- وأخيراً، كالبنيويَّة، يقيم التَّفكيك علاقة خاصَّة ومميزة مع الأدب مُفجِّراً الحدود الَّتي تحجز بينهما، بل لعلَّ أثر البنيويَّة والتَّفكيك على الأدب أهمُّ من أثرهما على الفكر والفلسفة.

وإن تكن هذه هي أهمَّ معالم الاستمراريَّة بين تفكيكيَّة دريدا والبنيويَّة، في رأيي، فهناك بالمقابل، محطَّات انقطاع تتجاوز بها تفكيكيَّة دريدا ميراثها البنيويَّ، ويمكن إجمالها في نقطتين اثنتين: تتمحور النُّقطة الأولى حول مفهوم «النَّسق» système، الَّذي يُعرِّف به سوسير اللُّغة على أنَّها نظام من الإشارات. فكلمة «النَّسق» (مثل كلمات نظام، وبنية، ونظريَّة، ومعايير، وضبط، وسيطرة، وإقصاء، وعزل، وتهميش، وفرز... إلخ) هي في نظر دريدا من بقايا الميتافيزيقا الَّتي لا تزال تحتاج إلى تفكيك. ورغم تأكيدها على علاقات الاختلاف بين عناصرها، إلَّا أنَّ البنية تظلُّ في النِّهاية كُلَّاً أو هويَّة شموليَّة ثابتة متجانسة وهذا ما لا تحتمله تفكيكيَّة دريدا الَّتي تريد تفكيك كلَّ شيء وجميع تجلِّيات ميتافزيقا الهويَّة الَّتي لا تنجو منها البنيويَّة. بينما تتمحور النُّقطة الثَّانية الَّتي يتجاوز بها التَّفكيك الدريديُّ الإرث البنيويَّ حول مفهوم «التَّحكُّم» أو الضَّبط contrôle. ينطوي «النَّسق» عند دو سوسير وكذلك عند ليفي ستروس، على نوع من القانون الدَّاخليِّ والثَّابت الَّذي يتحكَّم في ضبط العلاقات بين العناصر الَّتي يتضمَّنها. يعارض التَّفكيك قانون الضَّبط البنيويِّ هذا بفكرة «الخارج عن السَّيطرة l'incontrôlable»[38]. ظلَّ دريدا حتَّى آخِر حياته تقريباً مُشكِّكاً بكلِّ أشكال النُّظم، والضَّبط الَّذي تفرضه بالقوَّة أنظمة الهيمنة والسُّلطة ابتداءً من أكثر الأفكار والأنساق نظريَّة وصولاً إلى السُّلطات السِّياسيَّة وأنظمة الحكم الَّتي تحتلُّ دوماً المركز وامتيازاته وتعمل إلى تثبيت الواقع وتحويله إلى بنية مُستقرَّة محكومة بقوَّة ضبط ذاتيٍّ بكلِّ ما يتضمَّنه الضَّبط الذَّاتيُّ من قمع وإقصاء وفرض بالقوَّة ومعاقبة وتهميش وإلغاء وإنكار... إلخ. هكذا ارتضى دريدا لنفسه أن يظلَّ على الهوامش ويدعم مقاومتها لكلِّ الأوامر والمعايير الَّتي يفرضها «المركز». ولعلَّ هذه الحساسيَّة ضدَّ نظم السَّيطرة تساعدنا أن نفهم بشكل أفضل انتقادَه القاسي وتفكيكَه لكلِّ أشكال هيمنة المركز، ابتداءً من التَّمركز على العقل، مروراً بالتَّمركز على القضيب، والتَّمركز على العقل القضيبيِّ، والتَّمركز على الإنسان، وليس انتهاءً بالمركزيَّة الأوروبيَّة.

خاتمة الجزء الأوَّل

حاولتُ في هذا الجزء الأوَّل تقديم استعراض عامٍّ وسريع للمشهد السِّياسيِّ والفكريِّ في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، فقد وجدتُ أنَّ مثل هذا العرض البانوراميَّ هو أمرٌ ضروريٌّ يساعد على نحوٍ أفضل في فهم الأفكار الهابرماسيَّة والدريديَّة. وقد افترضتُ في هذا العرض أنَّه وبسبب الحربين العالميَّتَين اللَّتَين دمَّرَتا ألمانيا، انطوَت الفلسفة الألمانيَّة على نفسها في محاولة ترميم داخليٍّ ابتدأت منذ عام 1945 وربَّما لم تنتهِ بعد. وقد حاولت أن أربط بين أوضاع ألمانيا السِّياسيَّة آنذاك وبين اضطلاع الجيل الفلسفيِّ الثَّالث في ألمانيا (جيل هابرماس) - الَّذي سيطر على المشهد الثَّقافيِّ الألمانيِّ في السِّتِّينيات - بمهمَّة إعادة بناء الفلسفة والمجتمع الألمانيَّين. وكنتيجة لهذا التَّصوُّر وصلتُ إلى استنتاج يقول بهيمنة السياسة على فكر هابرماس وقيادتها له على المستوى النَّظريِّ والعمليِّ.

أمَّا على الجانب الفرنسيِّ؛ فقد وجدتُ أنَّ الأمور قد سارت على نحوٍ مختلف. وقد حاولت أن أُظهر كيف أنَّ فرنسا كانت مستعدَّة لطيِّ صفحة الحرب بسرعة وتجديد الدِّماء في فلسفتها المحلِّيَّة المتكلِّسة في الجامعات عن طريق ترجمة الفكر الألمانيِّ الحديث والمعاصر. وقد أشرتُ فيما يتعلَّق بهذه النُّقطة إلى أنَّ الفلسفة الفرنسيَّة كانت في تلك الحقبة متمرِّدة على تراثها الوطنيِّ القريب والبعيد، لدرجة يمكن وصفها بالأنتي- ديكارتيَّة. ثمَّ ناقشتُ بعد ذلك مسألة الاستمراريَّة والانقطاع بين أفكار الشَّابَّين هابرماس ودريدا، كلٌّ على حدة، مع ميراثهما الفكريِّ. والآن، اسمحوا لي أن استخلص استنتاجاً أجده حاسماً لهذا الجزء: يقوم استنتاجي على فكرة «الاستمراريَّة والانقطاع» في التَّاريخ الفكريِّ الألمانيِّ/الفرنسيِّ في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، استمراريَّة وانقطاع نتجا عن ظروف الحرب العالميَّة الثَّانية. أُلخِّص فكرتي هذه على هذا النَّحو: إذا ما أسفرت نتائج الحرب العالميَّة الثَّانية إلى انطواء الفلسفة الألمانيَّة على ذاتها بطيِّ صفحة من كتابها الفلسفيِّ، فإنَّ الفلسفة الفرنسيَّة سوف تُجدِّد نفسها بفتح صفحة جديدة في كتابها الفلسفيِّ.

الطَّريف في الأمر أنَّ الصَّفحة الجديدة الَّتي سيفتحها الفلاسفة الفرنسيُّون هي الصَّفحة التَّالية مباشرةً للصَّفحة الَّتي طواها الألمان. أو بمعنى آخَر كما لو كان الأمر يتعلَّق بكتاب فلسفيٍّ واحد واصلَه الفلاسفة الفرنسيُّون من حيث انتهى إليه الفلاسفة الألمان. وهذا ما يُفسِّر استمراريَّة نيتشه وهايدغر وهوسرل والفرويديَّة في فرنسا؛ أي تماماً حيث توقَّف الألمان طاوين صفحة هؤلاء المفكِّرين. وبعبارة أُخرى، فقد كان حاضر الفلسفة الفرنسيَّة في ستِّينيات القرن العشرين هو حاضر الفلسفة الألمانيَّة في الثَّلاثينيات وبداية الأربعينيات من نفس القرن. هكذا، تابعت فلسفة ما بعد الحرب الفرنسيَّة مشوار الفلسفة الألمانيَّة ما قبل الحرب.

يمكن لهذا التَّصوُّر لانقطاع تاريخ الفكر الأوروبيِّ واستمراريَّته أن يضع بين يدينا خيط أريان الَّذي يمكننا بتتبُّعه الوصول إلى ما يربط، أو ربَّما يضع هابرماس في مواجهة مباشرة مع دريدا: فالتُّراث الفلسفيُّ الألمانيُّ النِّيتشويُّ الهايدغريُّ الَّذي عزف عنه مفكِّرو الجيل الفلسفيِّ الثَّالث في ألمانيا، بل وطردوه من الأبواب بتهمة التَّواطؤ مع النَّازيَّة، سيعود إلى ألمانيا من جديد، عبر النَّوافذ والشَّبابيك مُتنكِّراً بثياب فرنسيَّة. فمع الاستقبال الكبير في ألمانيا (بخاصَّة في الهوامش) لأفكار ما بعد البنيويَّة الفرنسيَّة وتحديداً أعمال فوكو ودريدا سيضع بعض مفكِّري ألمانيا المعاصرين المتحسِّسين لهذا الإرث أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع مفكِّري فرنسا ما بعد البنيويِّين وهذا ما سيُعرف بسجال الحداثة وما بعدها الَّذي سيطبع التَّبادل الفكريَّ الألمانيَّ الفرنسيَّ. ولو استخدمتُ عبارات دريدا لقلتُ: أنَّه وبعودة الفكر النِّيتشويِّ الهايدغريِّ إلى ألمانيا سيجد هابرماس نفسه في مواجهة شبح الأب «المقتول» الَّذي لم يمت وإنَّما ها هو يعود على هيئة شبحيَّة ليُملي قوانينه على الحاضر كما فعلت أشباح الملك هاملت، أو هاملت الأب في مسرحيَّة هاملت الشَّهيرة لشكسبير.

[1] - المقال مقتطف من كتاب التباسات الحداثة هابرماس في مواجهة دريدا، خلدون النبواني، دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع - 2022

[2] - peter dews, autonomy and solidarity: interviews with jürgen habermas, london, 1986, p. 78

[3] - profils philosophiques et politiques, op. cit., p. 82-83

[4] - يؤكِّد ريتشارد ج. بيرنستاين هو الآخَر على أنَّ «كان لهذه التَّجربة أثر كبير عليه وظلَّت دائماً مركزيَّة في أعماله». انظر: richard j. bernstein, habermas and modernity, polity press, oxford, 1985, p. 2.

[5] - المرجع نفسه، ص 83. والحقُّ يُقال إنَّ هابرماس هو مَن أراد لها أن تظلَّ حاضراً أبديَّاً وزاود كثيراً بها وعليها فظلَّ يعترض بشراسة إن لم نقل بمازوشيَّة ضدَّ كلِّ المحاولات التَّأريخيَّة والفكريَّة والسِّياسيَّة لقلب تلك الصَّفحة وتجاوز الماضي الأليم.

[6]- مذكورة في: la philosophie allemande depuis 1945, op. cit., p. 12

[7] - autonomy and solidarity: interviews with jürgen habermas, op.cit., p. 43

[8] - سيتمُّ طباعة الأطروحة عام 1962 تحت اسم التَّحوُّل البنيويِّ للفضاء العامِّ والَّذي سيصبح مرجعاً من كلاسيكيَّات العلوم الاجتماعيَّة.

[9] - يشيد ستيفان هابر، أحد مريدي هابرماس في فرنسا بهذا «التَّحوُّل الواقعيِّ والمناهض للميتافيزيقا» كما يُسمِّيه مؤكِّداً: «أليس أضمن، من وجهة نظر العلوم الاجتماعيَّة، أن تذهب وترى ماذا يفعل النَّاس -أفراداً من لحم ودم- وبمَ يفكِّرون وماذا يريدون حقَّاً، بدلاً من الافتراض الميتافيزيقيِّ لامتلاكهم أفكاراً ومصالح جماعيَّة لا يمكن التَّحقُّق منها على أيَّة حال؟ أليس من الأفضل النُّزول إلى الميدان ومراقبة وقياس المواقف والمعتقدات والتَّمثُّلات الملموسة الَّتي تعبِّر عنها الأطراف المعنيَّة نفسها؟». انظر: stéphane haber, jurgen habermas, une introduction, pocket/ la dإcouverte, 2001, p. 26. لا شكَّ أنَّ هذا مهمٌّ ومطلوب، لكنَّها مهمَّة عالم الاجتماع لا الفيلسوف، وهابرماس كان يريد أن يمتلك أدوات علم الاجتماع على حساب الفلسفة.

[10] - إذ أضع اسم أدورنو بين ظفرين، فذلك لأنَّ هناك العديد من الفرضيَّات المتعلِّقة بموقفه من تمكين هابرماس من شهادة التَّأهيل لدرجة الأُستاذيَّة. إذ وفقاً لرولف فيجرسهاوس، كان أدورنو بالأحرى راضياً عن أطروحة هابرماس، غير أنّه لم يدافع عنه سوى بشكل باهت أمام هوركهايمر الَّذي كان قد رفض مناقشتها في المعهد ما لم يقم هابرماس بإجراء تعديلات عليها كان قد طلبها هو منه. وهذا ما رفضه هذا الأخير. انظر: rolf wiggershaus, the frankfurt school: its history, theories, and political significance, mit press, 1994, p. 566

[11] - «l'école a été un enfer pour moi», conversation avec b. defrance, cahiers pédagogiques, n° 270 - 272, janvier et mars 1989

[12] - المرجع نفسه. إنِّي إذ أُركِّز كثيراً هنا على الخلفيَّة النَّفسيَّة لطفولة دريدا، فذلك لأنَّني أريد رصد آثارها ses traces اللَّاواعية على شخصيَّته وأفكاره وتفكيكيَّته.

[13] - »l'école a été un enfer pour moi», op. cit.

[14]- le monolinguisme de l'autre, op.cit., p. 32

[15] - المرجع نفسه.

[16] - سيكون هذا الاسم محوريَّاً في نصِّ دريدا «cerconfession».

[17] - derrida, points de suspension: entretiens jacques derrida, galilée, 1992, p, 354, p. 354.

[18] - المرجع نفسه.

[19] - «du mot à la vie: un dialogue entre jacques derrida et hélène cixous», magazine littéraire, n° 430, avril 2004, p. 29

[20] - في حوارها مع دريدا، تجيب هيلين سيكسوس على سؤالي بطريقة معيَّنة بقولها لدريدا: «إنَّ الوجود الكامن وراء حروفك هو أنت بشكلٍ آخَر، بل وأكثر عُرياً من روسو، إنَّ فلسفتك هي حجاب شفَّاف. تحتوي كلَّ كتبك على سيرة ذاتيَّة من نوع غير معروف فهي مكتوبة باطنيَّاً وعلى الجلد». انظر: «du mot à la vie: un dialogue entre jacques derrida et hélène cixous», op.cit, p. 26-27.

[21] - المرجع نفسه، ص 29.

[22] - جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب: حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا، ترجمة خلدون النَّبواني، المركز العربيُّ للأبحاث ودراسة السِّياسات، 2013، ص45.

[23] - le monolinguisme de l'autre, op.cit., p. 77.

[24] - وهو لفظ تهكُّميٌّ تحقيريٌّ كان الفرنسيُّون (سكَّان فرنسا) يُطلقونه على «الفرنسيِّين» الجزائريِّين.

[25] - le monolinguisme de l'autre, op.cit., p. ¸°.

[26] - يتذكَّر دريدا هذه الفترة بالقول: «كنتُ قد بدأت عندها بنشر أشياء في مجلَّة tel quel مثَّلت قطيعة مع نموذج الخطاب الأكاديميِّ، كتابات عن فرويد وعن أرتو؛ الشَّيء الَّذي جعل أساتذة السُّوربون، مثل كانغيلهيم، وغيره - من الَّذين كانوا في البداية ينظرون إليَّ كمشروع أستاذٍ في السُّوربون، أو على أيِّ حال كشخص كان يسير بثقة على هذا الطَّريق - يجدون بأنِّي كنت أهذي قليلاً وأنَّني كنت قد انحرفتُ قليلاً، لكن كان لديهم آنذاك قدر من التَّسامح: حسناً، يُنجز دريدا أشياء جادَّة من ناحية حول هوسرل، ولكنَّه، من ناحية أُخرى، ينشر أشياء عن أرتو وباتاي...حسنا، تلك مشكلة تخصُّه هو». انظر: «l'école a été un enfer pour moi», op. cit.

[27] - المرجع نفسه.

[28] - المرجع نفسه.

[29]- «du mot à la vie: un dialogue entre jacques derrida et hélène cixous», op. cit., p. 25

[30] - «l'école a été un enfer pour moi», op. cit.

[31] - qu'est-ce que le néo-structuralisme ?, op. cit., p. 23

[32] - رغم أنَّ مصطلح التَّفكيك سيتغيَّر مع الوقت وسيأخذ دلالات وتوظيفات وتعريفات مختلفة إلَّا أنَّ دريدا سيحتفظ بهذه الكلمة دوماً كما لو أنَّها «علامة تجاريَّة» خاصَّة بأعماله. كان دريدا على وعي أنَّ الحفاظ على هذا المصطلح الغامض والمستفزِّ في آن سيضمن له تسويقاً واهتماماً.

[33] - de la grammatologie, Editions de minuit, 1967, p. 26

[34] - في عام 2004، قدَّمت مجلَّة le magazine littإraire الفيلسوف الفرنسيَّ جاك دريدا بهذه الكلمات: «قبل أن يصبح شخصيَّة رئيسة في النِّقاش الفكريِّ من خلال نظرته إلى السِّياسيِّ والأخلاقيِّ، كان دريدا قد هُمِّش طويلاً من قبل الجامعة الفرنسيَّة وقد قاطعه الجمهور العريض، لكن في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة ستفرض أعماله الفلسفيَّة نفسها في منتصف السَّبعينات، عن طريق جامعة ييل، وصولاً إلى غزو المجال الثَّقافيِّ الأميركيِّ بأكمله. هناك سيلهم التَّفكيك أصحاب الإعلانات، والمخرجين، وكتَّاب السِّيناريو، ومُصمِّمي الأزياء، والمُصمِّمين ورسَّامي المجلَّات المصوَّرة: (دريدا: المكنّى بالدُّكتور المفكِّك dr. deconstructio)» انظر: jean-louis hue, «la quête des origines», magazine littإraire, n0 430, avril, 2004, p. 4.

[35] - heidegger en france, op. cit., p. 93.

[36] - jacques derrida, positions, Editions de minuit, 1972, p. 18.

[37] - أقصد هنا بالمرجعيَّة الألمانيَّة: كلَّ ما هو مكتوب باللُّغة الألمانيَّة. هكذا، فإنَّني أعتبر عمل سيغموند فرويد النَّمساويِّ مرجعاً ألمانيَّاً بالمعنى اللُّغويِّ لا القوميِّ (مع أنَّ هذا الطَّرح لا يعجب النَّمساويِّين عموماً).

[38] - من خلال رفض مصطلح «ما يمكن التَّحكُّم به» الخاصِّ بالبنيويَّة وبمعارضته بمصطلح «ما لا يمكن التَّحكُّم به»، يشابه التَّفكيك، بشكل مدهش ميكانيكا الكمِّ، الَّتي ترفض مبدأ «اليقين» الَّذي كان مسيطراً على الفيزياء الكلاسيكيَّة، حتَّى عند آينشتاين، وتعارضه بـــــــــــــ»مبدأ عدم اليقين». في ميكانيكا الكمِّ كما في التَّفكيكيَّة، لا يمكن التَّحكُّم وضبط العلاقات ولا ترتيب العناصر (جزيئات ضخمة في الأولى، وعلامات لغويَّة في الثَّانية). في هذه كما في تلك تتمتَّع «العناصر» بحرِّيَّة لم تكن تمتلكها في التصورات والنظريات والأفكار التي تسبقها وتصبح عصيَّة على الضَّبط وإمكانية التَّنبؤ.