لقاء تكريمي على شرف د. هشام جعيّط بعنوان: "هشام جعيّط وراهن الفكر التّاريخي العربي"

فئة: أنشطة سابقة

لقاء تكريمي  على شرف د. هشام جعيّط بعنوان: "هشام جعيّط وراهن الفكر التّاريخي العربي"

نظّمت مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة ودار الكتب الوطنيّة بتونس، يوم الجمعة 6 ديسمبر الجاري، لقاءً علميّاً تكريميّاً على شرف الأستاذ هشام جعيّط، حول موضوع "هشام جعيّط وراهن الفكر التّاريخي العربي"، وقد دار اللّقاء بفضاء دار الكتب الوطنيّة، وساهم فيه كلّ من الأساتذة فهمي الرّمضاني، ولطفي بن ميلاد، ونادر الحمّامي، بمداخلات علميّة حول أعمال جعيّط، وأدارت الجلسة الأستاذة رجاء بن سلامة مديرة دار الكتب الوطنيّة بتونس.

وقد افتتحت الأستاذة بن سلامة اللّقاء بكلمة تقديميّة ثمّنت فيها بادرة الاحتفاء بعلم من أعلام الجامعة التّونسيّة، أستاذ الأجيال هشام جعيّط، وأشارت إلى تنوّع مسيرته العلميّة والإنسانيّة بين الفكر والتّاريخ، وقالت إنّه ينفر من الاختصاص الضّيّق في عصر أو في حقل بحثي واحد، وأنّه قد انتقل في أبحاثه من المشرق إلى المغرب، ومن أحكام السّوق إلى تاريخ الكوفة ونشأة المدن الإسلاميّة الكبرى، ومنها إلى الفتنة الكبرى والسّيرة النّبويّة، وقالت إنّه أوجد لنفسه تقنية فريدة من نوعها في اعتماد المصادر وتمحيصها والبحث في نمط إحالتها على الواقع التّاريخي، واعتبرت أنّه شقّ طريقه في البحث في الإسلام ومؤسّساته وتحوّلاته وهزّاته الكبرى وقطائعه خارج طريقين هما؛ الكتابات التّمجيدية والكتابات الاستشراقيّة، وإن استفاد من الاستشراق، فإنّ موقفه منه كان معتدلاً. وقالت إنّه إلى جانب ذلك، مدرّس جيّد لعلم التّاريخ، وأنّه قد ساهم في تخريج أجيال من المؤرّخين في الجامعة التّونسيّة، وكان منذ بدايته مفكّراً قلقاً لأنّه يهتم بعلاقة العرب والمسلمين بالحداثة وبالمقارنة بين الحضارات، وأنّه يبدي مواقفه من الرّاهن من منطلق البحث في التّاريخ والنّظر في الظّواهر على المدى البعيد.  

وقدّم الأستاذ لطفي بن ميلاد كلمة، تناول فيها بشكل مستفيض كتابات جعيّط ومسيرة حياته الفكريّة والإنسانيّة، وقال إنّ الأستاذ لم يغادر دوره باعتباره مثقّفا عضويّاً في المجتمع، منذ مرحلة الستّينيات، عندما كان يشارك في نقاش مسائل الإسلام والحداثة والمعاصرة في أوساط النّخب التّونسيّة، كما كان يساهم في نقاش مسائل الوعي القومي لدى العرب في بداية الثّمانينيات بعد عودته من فرنسا، وكان يخوض في قضايا حرب الخليج ومسألة الغزو الأمريكي للعراق في بداية التّسعينيات. وأشار بن ميلاد إلى أنّ الاهتمام بكتابات هشام جعيّط وبمسيرته العلميّة والفكريّة أثمر جملة من المقالات التي أسهم فيها ثلّة من الجامعيّين، ونشرت في كتاب تحت عنوان "جدل الهويّة والتّاريخ، قراءات تونسيّة في مباحث الدّكتور هشام جعيّط"، كما استعرض بعض الكتابات النّقديّة التي أنجزها بعض الباحثين حول أفكار الأستاذ جعيّط، مبيّنا أهمّية تسليط الضّوء أكثر على العديد من الجوانب المهمّة في مسيرة الرّجل وفكره. 

وأحيلت الكلمة إلى الأستاذ فهمي الرّمضاني، فقدّم مداخلة بعنوان "قراءة كتاب: جدل الهويّة والتّاريخ، قراءات تونسيّة في مؤلّفات هشام جعيّط"، وقد أشار إلى أنّ الأستاذ جعيّط قد ولّد تاريخاً يمكّن الباحثين من فهم الماضي العربي والإسلامي فهماً عميقاً وموضوعيّاً، بعيداً عن القراءات التّقليديّة والإيمانيّة التي تغيّب الحقيقة، وتعيد إنتاج ثقافة إسلاميّة مأزومة، وبيّن أنّ فكر جعيّط يتميّز بالرّاهنيّة وبالقدرة على طرح القضايا في اتّصال وثيق بواقع المجتمعات العربيّة اليوم، التي مازالت تعيش مرحلة شبيهة بما قبل الدّولة، من حيث عدم قدرتها على إنجاز الحداثة ولا الانخراط في الكونيّة من زاوية الفعل التّاريخي المؤسّس، واعتبر أنّ هذه الأزمة الحادّة تفترض من المؤرّخ أن يتمعّن في تفاصيلها وأسبابها، وطرح من بين أسبابها العميقة والمتجذّرة في الهويّة، تعدّد الأصوليّات والسّلفيّات، مؤكّداً أنّ على المؤرّخ  أن يصمد في مواجهتها، وقدّم من ثمّ قراءة نقديّة في كتاب "جدل الهويّة والتّاريخ" الذي عني بمسيرة الأستاذ هشام جعيّط، وفصّل أبوابه ومقالاته، وبيّن أهمّية اعتماد تجربة جعيّط على المناهج الحديثة وانفتاحه على التّخصّصات العلميّة الأخرى ومحاولة الاستفادة منها. 

وقدّم الأستاذ نادر الحمّامي، مداخلة بعنوان "هشام جعيّط والوعي بالمتخيّل التّاريخي"، اهتمّ فيها بأعمال جعيّط بحثاً عمّا يجمعها فكريّاً؛ أي ملامح الوعي بالمتخيّل التّاريخي. واعتبر أنّ العلاقة بين التّاريخ والمتخيّل ذات وجهين، الوجه الأوّل يتمثّل في أن يكون المتخيّل موضوع بحث تاريخي، وذلك مرتبط بالانتقال إلى مرحلة الوضعانيّة التي أعادت الاعتبار إلى المتخيّل، باعتباره بعداً إنسانيّاً أساسيّاً. أمّا الوجه الثّاني، فمداره اعتبار المتخيّل جزءاً أساسيّاً في كتابة التّاريخ، وهو يرتبط بإعادة النّظر في طبيعة الكتابة التّاريخيّة وفي مفهوم التّاريخ، وبالتّالي اعتبار التّاريخ في معناه الواسع قابلاً، لأن يتحوّل فيه الحاضر إلى ضرب من الأسطورة والمتخيّل، وأن تتقنّع تلك الميثولوجيا وتلبس لباس الواقع التّاريخي، لأنّها تمثّل جانباً مهمّاً من وعي النّاس الذي يرتبط بمفهوم الذّاكرة الجماعيّة. وأشار الحمّامي إلى أنّ ذلك جعل الدّراسات التّاريخيّة تنفتح على الدّراسات الأنثروبولوجيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة في إطار جامع هو إطار العلوم الإنسانيّة، واعتبر أنّ ذلك التّداخل يجد صداه بقوّة في مجمل أعمال هشام جعيّط، ودرس من ثمّ بعض الأمثلة وخلص إلى أنّ ملامح الوعي بالمتخيّل التّاريخي في كتابات هشام جعيّط تبدو مضمّنة في جميع المباحث التي خاض فيها، وأنّها تجعل للمتخيّل التّاريخي وظائف، وتبحث في علاقة المتخيّل بالدّيني وبالواقع وبالسّرد التّاريخي.  

وقدّم بعد ذلك، الأستاذ لطفي بن ميلاد مداخلة بعنوان "هشام جعيّط في سياق الفكر التّاريخي العربي المعاصر"، اهتمّ فيها بإسهام الأستاذ جعيّط في الفكر التّاريخي العربي، واستعرض بشكل مفصّل المسارات التّاريخيّة التي تضمّنت كتابات المؤرّخين العرب، وبيّن أنّ اهتمامات هؤلاء المؤرّخين تمحورت حول مفاهيم متعدّدة مرتبطة بسياقات الواقع الرّاهن الذي عاصروه سياسيّاً وإيديولوجيّاً وثقافيّاً، وقدّم بن ميلاد ما اعتبر أنّه عناصر كبرى تجمع بين كتابات جعيّط والمسار التّاريخي الذي ميّز كتابات المؤرّخين العرب، في محاولة لتبويب فكر جعيّط التّاريخي في سياق عربي عام؛ فرأى أن جعيّط اهتمّ بمفهوم الأزمة في الفكر العربي المعاصر، بما يحيل عليه المصطلح من مفاهيم التّوتّر والتعقّد وإشكال الوصول إلى الحداثة، وخلص من ذلك إلى القول إنّ الأزمة بالمعنى السّوسيولوجي، كما تبدو في كتابات هشام جعيّط، تتلخّص في إشكال وصول العرب والمسلمين إلى الحداثة، وأشار إلى أنّ ما تحيل عليه عمليّة تبويب هشام جعيّط في مسار الفكر التّاريخي العربي تبيّن دعوته إلى استيعاب اللّحظة النّهضوية مع الوعي بحدودها والحرص على تجاوزها وبناء علاقة نقديّة مع الآخر والحداثة. 

وتناول الكلمة الأستاذ هشام جعيّط، فعقّب على ما تفضّل به المتدخّلون، وأثنى على اهتمامهم بكتاباته، وقد عرض في هذا السّياق بعض الملاحظات حول أهميّة المتخيّل التّاريخي في كتابة التّاريخ، معتبراً أنّ التّاريخ يعتمد على المتخيّل في إطار الصّرامة المنهجيّة والعلميّة، وأنّ كتاباته التّاريخيّة ترتبط بهذا السّياق، وقد ميّزها عن كتاباته الفكريّة، التي بدأت  منذ مرحلة الشّباب لتتواصل بعد ذلك، في التّعبير عن مشاغله ومواقفه واهتماماته من معظم القضايا المطروحة على محكّ الواقع العربي والإسلامي في القرن العشرين في إطار الفكر العربي المعاصر. وبيّن أنّ المحاور الكبرى في كتاباته التّاريخيّة التي ينطلق منها، وإن كانت تاريخيّة صميمة، فإنّها تتضمّن أبعاداً فكريّة وفلسفيّة، وقد أوّلها القرّاء أيضاً من وجهة فكريّة. 

وأشار إلى أنّ الفترات التي شهدت زخماً فكريّاً وإيديولوجيّاً في العالم العربي لم يكن فيها للتّاريخ مقام باعتباره معرفة وعلماً، بل كان الجمهور المثقّف مجتذباً بالتّفلسف والفكر العام الذي لا يُعنى كثيراً بالدّقة العلميّة، في حين أنّ التّاريخ، كما عبّرت عنه النّظريّات الغربيّة منذ بداية القرن التّاسع عشر، هو علم بالأساس وملتزم بمنهجيّة خاصّة، لا تهم التّاريخ الغربي فحسب، وإنّما هي تهم التّاريخ أينما وجد. وأشار إلى بعض أسماء المؤرّخين العرب الذين تأثّروا بهذه المناهج، ومارسوا الكتابة التّاريخيّة من وجهة علميّة وفكريّة، مبرّراً وجود عنصر تفكير في كتابة التّاريخ في العصر الحديث، بأنّ المؤرّخ اليوم تتوفّر لديه كثير من المعارف والمناهج الحديثة، التي لم تكن تتوفّر للمؤرّخين القدامى. واعتبر 

وعرّج على مسألة، اعتبر أنّها أثّرت في طبيعة الكتابة التّاريخيّة العربيّة في العصر الحديث، وكانت وراء توجيهها إبّان فترات الاستقلال الوطني في الدّول العربيّة وبعدها، وهي تعلّق الكتابة التّاريخيّة بفكرة الدّولة الوطنيّة، قائلاً بأنّ تلك الفكرة جعلت العرب يكتبون في التّاريخ الوطني لدول بعينها، دون الوعي بأنّ تلك الدّول كانت تمثّل مراكز حضارات بأكملها في القديم، وقدّم أمثلة عمّا كتبه كلّ من عبد العزيز الدّوري وصالح العلي في التّاريخ العراقي من منظور وطني حديث، والحال أن العراق كانت تاريخيّاً مركز حضارات متعاقبة واسعة وممتدّة؛ آشوريّة وبابليّة وإسلاميّة... لا علاقة لها بالضّرورة بوطن العراق اليوم. وثمّن في هذا السّياق اهتمام المدرسة التّاريخيّة التّونسيّة بالحضارة الإسلاميّة من وجهة اعتبارها حضارة إنسانيّة كبرى. 

وقد أكّد جعيّط على التّمييز بين الفكر التّاريخي وعلم التّاريخ وفلسفة التّاريخ، من حيث اختلاف المجالات، واعتبر أنّ الفكر التّاريخي ينفتح على الاهتمام بقضايا بعينها اجتماعيّاً وثقافيّاً، من وجهة التّناسق بين الوعي الفردي والحقيقة الموضوعيّة، وأنّه لا يلتزم بصرامة المنهج التّاريخي بالضّرورة، في حين أنّ علم التّاريخ يتميّز بصرامة المنهج والدّقّة العلميّة في عرض الأحداث وقراءتها والرّبط بين أطوارها الكبرى، أمّا فلسفة التّاريخ فهي دراسة الأسس النّظرية للممارسات والتّطبيقات والتّغيّرات الاجتماعيّة التي حدثت على مدى التّاريخ، وهي تهتمّ بمعنى التّاريخ وقوانينه واتّجاهاته. وخلص من ذلك إلى القول إنّ الفكر قد يدخل في كتابة التّاريخ باعتباره علماً، ولكن ليس من زاوية الفكر الفلسفي، بل من زاوية الفكر التّاريخي، الذي هو في الصّميم تأويل للمجرى العام للإنسانيّة.