محاضرة " المفاهيم الأساسية للتأويلية " للدكتور محمد محجوب

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة " المفاهيم الأساسية للتأويلية " للدكتور محمد محجوب

محمد محجوب: المفاهيم الأساسية للتّأويلية تخدم عودتنا إلى تراثنا وثقافتنا ونصوصنا


افتتح المفكر التونسي محمد محجوب في ندوة تحت عنوان "المفاهيم الأساسية للتّأويلية" ألقاها السبت الفارط الموافق لـ07 مايو الجاري في صالون جدل بمؤسسة مؤمنون بلا حدود، محاضرته بمماثلة ابتغى منها طرح المفاهيم الأساسية للتّأويلية، وخاصة مفهومي التطبيق والتعقل كعنصرين أساسيين في نسق التأويل، والتي تجلت في أن قراءة الفلاسفة ليست لغاية قراءتهم، وأن لدى كل باب يطرقه الباحث ليس ليسأل عن داخل البيت بقدر ما، ليسأل عن الطريق التي يمكنه الرجوع منها إلى بيته، لذلك فإنّ المفاهيم الأساسية للتّأويلية لا يمكنها أن تكون في منظور محجوب إلاّ المفاهيم التي تخدم عودتنا التّأويلية إلى أنفسنا؛ أي إلى تراثنا وإلى تقليدنا وإلى نصوصنا وإلى ثقافتنا.

 اتخذت مداخلة المفكر محجوب منحيين؛ المنحى الأول تجلى في دعوتنا إلى التفكير في مغرب الحياة، بل أحسن من ذلك  كما قال محجوب أن نفكر في مغارب الحياة، وعن هذه المغارب كتب دولوز في الفقرات الأولى من "ما الفلسفة ؟" أنها ساعةُ هجوم الشّيخوخة، وساعةُ ما "يتّجه" (في المعنى القانوني) الكلامُ "عينا". ويعني ذلك أنها ساعةٌ لا يملك عندها المرء كثيرا من الوقت حتى يسمح لنفسه بإضاعته، ولذلك فهي ساعةٌ نسمح فيها بالاستثنائي، وتحت وطأة الواقع، حينا، وتحت وطأة الحقيقة، حينا آخر، نرفع "أقفال المناطق" والتّخوم ونسمح بضرب من تهريب هذا إلى ذاك، مثل كنط، حيث تصبح مجاوزة الحدّ من شأن الانفلات الجماعي الذي تبرره دائما "غفلة العيد".   

ويعني ذلك ، حسب تعبير محجوب، أنّ منطق "المناطق"، أي الذي يجعل كل منطقة مستقلة بذاتها ولها انضباطها الخاص، إنما يبتدئ فيجعل كلّ منطقة محكومةً – في الأصل وفي وقت النضج -  بحدودها القائمة عليها : "هكذا الأمر في الفلسفة أيضا، حيث يكون نقد ملُكةِ الحكم عملا من أعمال الشيخوخة قد انفلت من عقاله وطفقت ذريته تلهث وراءه : فكل ملكات الفكر قد جاوزت حدودها أو هي خرجت عن طورها، تلك التي كان حرص كانط أيما حرص على تثبيتها في كتب النضج".

ولكن ما شأننا بالمناطق؟ وهل يمكننا أن نقول إننا كنا في تاريخ فلسفتها قائمين على المناطق وعلى الحدود؟  يتساءل المفكر محجوب.

وبغية الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية، قدم محجوب في المرحلة الأولى نصا من أثرى نصوص نظرية التّأويل – تأريخا لهذه النّظرية – منذ سنة 1978، وتنزيلا لها في سياق التوسّط  لجدل بين الأدبيات الأنطولوجية لهيدغر وغادامير، من جهة، وبين الاستشكالات الإبستمولوجية لهابرماس و"آبل" من جهة أخرى، يكتب ريكور محيلا على غادامير ما يلي يقول:"  فعند غادامير... أنه ينبغي فهم الانضواء الوجداني في التقليد "كتطبيق"، "يجري توسطا" بين معيار الماضي والوضعية الحالية. هنا أوضح محجوب أننا في قلب الإشكالية التي توضح لنا وضعيتنا الحالية. 

 وواصل ما قاله ريكور الذي أوضح أنه بفضل التّطبيق، يعاد تصوير فاعلية التاريخ في قوّتها الأصليّة، رغم المسافة الزّمنية. وساعتها يُنشَدُ أنموذج التّأويل في ما يقوم به القاضي من تحيين المعيار"، هنا يقول محجوب أن وضعية القاضي هي الوضعية المعروفة، له معايير وقواعد، هذه القواعد ليست معدة لهذه النازلة أو تلك، هي قواعد عامة وبحسب ما يتوفق إليه القاضي من تكييف القضية بحسب هذا المعيار أو بذاك يكون قدر القضية وقدر الحكم عليها، لذلك فأنموذج التطبيق ينشد به فيما يقوم به القاضي من تحيين في كل حالة من حالات الاستنباط أو حالات الفقه الاستنباطي.

محمد محجوب: المشكل الذي تطرحه الثّقافات اللاّأوروبية أو اللاّأمريكية أشدُّ جذريةً من مشكلنا نحن

استكمل محجوب استدلاله بنص ريكور الذي قال:  "ودون أن ينكر "آبل" و "هابرماس" أن يكون "غادامير" على أتمّ الوعي بأنّ التّأويلية لا يكون لها ما تقوله إلاّ متى فَقد التّقليدُ قوّته، أي متى كان في وضعية أزمةٍ يوشك فيها تواصل حركة النّقل الثّقافي أن ينقطع، فإنهما يريان في "التّطبيق" حدّا [limitation] من المشروع الهرمينوطيقي أكثر مما هو تحقيقٌ له. فإنّ المرء لا يتحدّث عن التّطبيق إلاّ في ما تعلّق بالنّصوص الدّينية التي ما تزال سلطتُها قائمةً حتى وإن ضعفت، أو بالنّصوص الأدبية "الكلاسيكية"، أي التي تحتمل تحيينا في كل وضعية ثقافية، أو بالنّصوص القانونية التي تظل قيمتها المعيارية فوق كلّ جدل. ولكن هذه العلاقة بالتقليد ليست هي العلاقة الحديثة به". ومن هذا المنظار، يضيف محجوب أن المشكل الذي تطرحه الثّقافات اللاّأوروبية أو اللاّأمريكية أوضحُ وأشدُّ جذريةً من مشكلنا نحن. ذلك أن إعادة تملّك الماضي لم تعد تقبل تصوُّرها كتطبيق، وإنما كعبور [يشُقُّ من خلال] شكٍّ جذريٍّ يضاهي مماسفةً [distanciation] شاقَّة أحيانا.  وفي نفس الوقت، فإنّه لم يعد ممكنا أن نُرجعَ كلّ مماسفة إلى الاغتراب المنهجي [المعروف]، وإنما المماسفةُ، جزءٌ لا يتجزّأ من الأسلوب الحديث بحقٍّ في العلاقة بالتّقليد.

وفي هذا المعنى، يقول محجوب "إنّ عين المماسفة هي التي تجعل إعادةَ التملكِ والتجريدَ المنهجيَّ ممكنين. ويسلّم "آبل" بغير مشاحّة، أنّه  قد أصبح من العسير اليوم أن نقول بالمقالتين معا : فمن ناحيةٍ، لا بدّ لنا، حتى لا نقع من جديد في مضائق النزعة التاريخية، أن نقول إنه ليس ثمة موقف محايد نستطيع منه أن ننظر عن بعد إلى كلّ التقاليد : وبهذا المعنى، فإنّ نقل التّقليد يظلّ شرط إدراك أيّ موضوع ثقافي ؛ فتشتغل الهرمينوطيقا إزاء الوهم المنهجي بمثابة كاشف للسذاجة.  ولكنّه ينبغي علينا من ناحية أخرى أن نعترف أنّ هذا التقليد أو ذاك لم يعد يخاطبنا وأن إعادة تملّكه المباشرة ممنوعة علينا. فيبقى لنا أن نستفيد من المماسفة نفسها، وأن نمارس بفضلها شبْهَ موضعةٍ  للمضامين المنقُولة، حتى ندرك تملُّكا أكثر توسُّطا، وأشدَّ تعقيدا، ليس لنا بعد، في كثير من الأحوال، مفتاحه".

وعلاوة على ذلك، يقول المفكر محجوب: " إنّ ريكور يتبنى نقد هابرماس وآبل لتأويلية غادامير التي تقوم على نموذجية الاستنباط الفقهي / القضائي الذي يوسع / تطبيقيا / من مجال صلاحية التقليد، حيث يجعله شاملا للحاضر [وفي عبارتنا نحن : لكل زمان ومكان] من خلال الإمكانية الوحيدة التي يتيحها تملك الماضي وتملك التاريخ : [أكرّر] : فإنّ المرء لا يتحدّث عن التّطبيق إلاّ في ما تعلّق بالنّصوص الدّينية التي ما تزال سلطتُها قائمةً حتى وإن ضعفت، أو بالنّصوص الأدبية "الكلاسيكية"، أي التي تحتمل تحيينا في كلّ وضعية ثقافية، أو بالنّصوص القانونية التي تظلُّ قيمتها المعيارية فوق كلّ جدل.

نحن إذن، يستأنف المفكر التونسي أمام وضعية من نماذج، النموذج الأول يتجلى في النصوص الدينية، والثاني هو النصوص الأدبية، والثالث هو النصوص القانونية، وضمن هذه النصوص تمارس عملية التطبيق.

انتقل المفكر المحجوب بعد طرحه لمفهوم التطبيق بناء على منطق ريكور، إلى مفهوم التعقل كتأويلية طور ضمنها الاعتبارات التي تلي فكرة مفهوم ليس فقط كمعنى تعقلي للفلسفة، بل كمفهوم أساسي اقترحه محجوب على التأويلية، وبهذا الصدد يقول محجوب: "إنّ التعقّل هيئةٌ روحيّةٌ من احتسابٍ لعواقب ما ننشئ، صونا له من أن يسترسل مع مجرّد مُنْشَئيّته الصّناعية التطبيقية دونما حذر.

لكأنّما التّفلسفُ لا يعني، إلاّ إذا ما اصطحبه تجريدٌ له عمّا يوهمه من العاميّ فيه. وببساطة تحصيل الحاصل، لا يقدر التّفلسفُ على أن يدلّ إلاّ متى تخلّص مما  لا يدلّ. ولذلك لا ينصرف القول إلى إحصاء معاني الموجود إلا بعد أن تتبيّن شروطُ المعنى في لفظة الموجود. وهذه الشّروط هي التي يعطيها التعقّلُ، إذ يَتجاوز مجرّد التّطبيق الصّناعي المنشئ للّفظة المنقولِ إليها المعنى، ليستكمل الشروط التي بدونها يتراجع المعنى عن نفسه. لذلك لا يصحُّ اعتبار اللفظة في هذه الحال منتَجا من المنتجات الصناعية، لأنّ المنتج الصناعي منتجٌ متروك مبذول منذ إنتاجه. ولكنّ لفظة الموجود، بما هي المفهوم الذي "يُحتاجُ إليه ضرورةً في العلوم النّظرية وفي صناعة المنطق"، هي موضوع اعتبار يومي، وليست مما يُنتعل ويُنسى.