8
2016 )9(
العدد
كلمة رئيس التحرير
الهمجيّة والحضارة مقولتان أساسيتان دأب الفكر الغربي الحديثوالمعاصرعلى التوسّل بهما فيحكمه على المجتمعاتودمغها بالبربرية
والتوحش أو بالتحضروالترقّي. فقد رسخ الاعتقاد لعهود طويلة بأنّ تاريخ الإنسانية سيرورة مظفرة ذات اتجاه واحد يقود من التخلف
إلى التقدم، ومن الطبيعة إلى الثقافة، ومن الهمجيّة إلى الحضارة، فتمّت بموجب ذلك المماهاة بين القدامة والانحطاط، وبين التقدم التقني
والازدهار الفني والحضارة؛ وتبعاً لذلك، نَزّل الغرب نفسه منزلة التحضروالرّفعة فيما وضع الشعوب الأخرىفيخانة الهمجيّة والضّعة.
بيد أنّ هذا التصور تَعرّض لطَرْقات قوية من قِبَل الفتوحات العلمية للإثنولوجيا والأنثروبولوجيا التي أثبتت أنّ التطور لا يسير في
خط متصل صاعد يتجاوز فيه اللاحق السابق، وإنّما ينطوي على التواءات وقفزات فجائية في كلّ الاتجاهات، وأنّ الحضارة، قبل هذا
وبعده، إنّما تكمن في القدرة على الاعتراف بإنسانية الغير عبر التواشج القائم بين وحدة الإنسانية وتعدد تعبيراتها الثقافية.
من هنا لا يجوز أبداً وضع تراتب بين الثقافات؛ لأنّ من شأن ذلك أن يؤدي إلى السقوط في آفة التمركز الإثني الذي يجعل المُبْتَلين به
موقنين بأنّ أقدامهم تطأ دوماً أرضالحقيقة والعدل والتمدّن، فيما يغرقسواهم في غياهب الضلال والظلم والتوحش. ولا يتوقف الأمر
عند هذا الحد فحسب، بل إنّ هذه الرؤية تحمل أصحابها على الاضطلاع بدور تبشيري يرى أنّ نشر قيمهم الخاصة يقتضي بالضرورة
استعمار باقي الشعوب قصد «تنويرها» وإلحاقها بركب «الحضارة». أليس هذا هو المنطق الذي اعتمده أمس مُنظّرو الاستعمار، ويردّده
اليوم أنصار نظرية التدخل الأجنبي باسم الديمقراطية وإشاعة «ثقافة حقوق الإنسان»؟
إنّ الخطوة الأولى نحو الحضارة تبدأ بالاعتراف بتعدد الثقافات الإنسانية، وأنّنا لن نسير قُدماً نحو الحضارة إلا إذا قبلنا برؤية إنسانية
أخرى مماثلة لإنسانيتنا عند ممثلي الثقافات الأخرى. بوسع كلّ إنسان إذاً أن يقطع أشواطاً نحو التحضرانطلاقاً من اللحظة التي يتخلص
فيها من نزعته المركزية ومن عاداته في الحكم على أشباهه فقط بأنّم وحدهم جديرون بالانتماء للإنسانية.
وإذا كنا قد أومأنا إلى الدور الذي لعبته بعض العلوم الإنسانية في تفنيد دعاوى التصور الخطي والتقدمي للتاريخ، فإنّه من الضروري
التنويه بأنّ الهمجية لا تشير إلى ما قبل تاريخ الإنسان وإنّما هي الظل الوفي المرافق لكلّ خطوة منخطواته. إنّنا لا نخرج من الإنسانية حينما
نتصرف بطريقة همجيّة، وحدهم البشر يرتكبون أعمالاً وحشية ويتفنّنون في القتل وممارسة التعذيب على الغير. لا توجد حضارة لا نلفي
فيها عمقاً همجياً، إذ تنتج الهمجيّة عن خاصيّة جوهرية للكائن البشري من المحال أن تزول يوماً، إنّا لا تشير إلى لحظة تاريخية بعينها أو
إلى شعب دون آخر. إنّا توجد فينا، منغرسة في كوامننا الغريزية ومبرمجة في شفراتنا الثقافية. ليس ثمة شعب أو فرد يمكن أن يعتبر نفسه
ُصّناً ضدّ إمكانية اقتراف أعمال همجيّة. ولعله من نافل القول التأكيد أنّ الثقافة الغربية التي أنجبت موتسارت ورامبرانت وغوته هي
نفسها التي خلّفت أوشفيتز وهيروشيما وناجازاكي...إلخ، إضافة إلى ما نعاينه من فظاعات مرتكبة من قبل الديمقراطيات الغربية بدءاً
بغوانتانامو مروراً بسجن أبو غريب وصولاً إلى الحروب التي يهندسها الغرب ويوجّهها عن بُعد.
هذا النزوع موجود عند الإنسان منذ الأزل، وليس بوسعنا القول إنّ الهمجيّة لا إنسانية إلا إذا سَلّمنا بأنّ اللا إنسانية جزء من الطبيعة
الإنسانية. فالإنسان كما بّ فرويد تتنازعه غريزتان: إحداهما تضعه جهة الحضارة والأخرى تقذف به فيجحيم الهمجيّة. فالعنفمنغرس
في الكوامن الغريزية للإنسان، والبربرية لا تتمثل فقط في ما لم ننجح في دحره، وإنّما هي أيضاً ما أنتجه تقدّم الحضارة ذاتها.




