ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
14
2016 )9(
العدد
وببناء المدن وتخصص فريق الفلاحين بالسيطرة على إنتاج ما يزيد عن حاجة الجماعة، تحول بقية الفريق الاجتماعي إلى تخصصات
مختلفة، وبدأ الانسان في وضع قدمه في أول طريق الحضارة، فتشكلت المدينة، وولد النظام السياسي الذي احتكر السلاح والعنف، وبدأ
الإنسان مع أخيه الإنسان في تشكيل مجتمع المدينة (الآمن)، وبذلكتحرر الإنسان من الخوف من أمرين: فوضىالغابة وعنفها وجوعها،
وهو ما أشار إليه القرآن عن نعمه على الإنسان من أنه (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وهو ما نوه به ابن خلدون كاعتبار ثانٍ
للتجمع الإنساني بعد الغذاء (المدافعة).
) مجتمع، على ما حررّه المؤرخ البريطاني توينبي
600(
ظهرت على وجه الأرضمجموعات إنسانية على شكل مجتمعات بدائية تجاوزت
في كتابه (دراسة التاريخ)، ولكنّ الحضارة كان عليها الانتظار بضعة آلاف من السنين قبل أن تنبثق، فانطلقت أول حضارة من جنوب
حضارة أخرى، في ظروف ما زالت قيد التحليل من قبل فلاسفة التاريخ، منهم توينبي
28
) سنة، لتتلوها
6000(
العراق الحالي قبل
الذي أشرنا إليه، والذي رأى في قانون (التحدي والاستجابة) آلية تفس بزوغ الحضارات أو انطفاءها، سواء كان التحدي في البيئة أم
النفس، كما في حضارة (البلوبينيز) مع تحدي (المحيط) أو حضارة جنوب الرافدين والنيل في تنظيم الري.
ومع ولادة الحضارة حصل خطأ (كروموزومي) رهيب ذو قرنين أو شعبتين أو مرضين؛ كل منهما يزيد في تفشي القيح عند الآخر؛ هما
(الحرب والرق)، الحرب تولد الرق، والرق هي القوة العضلية (الآلة في ذلك الوقت) المستخدمة في مزيد من الانتاج، الذي اعتاد القوة
العضلية المباشرة الإنسانية أو الحيوانية.ولعل أفظع مرضين أصيببهما الجنس البشريفي تاريخه كانا (الحرب والرق)، لأنه بالحرب يدمر
وجود الإنسان بالكامل، وبالرق يمسحه من عالم البشر المعنوي فهو ميتة من نوع جديد، فيقتل مادياً ومعنوياً بالمرضين.
ومن هنا نفهم أيضاً النتيجة المباشرة لتفشي مرض (قوة العضلات - العجول الآدمية) على وضع (المرأة)؛ فبما أنّ المرأة لا تمتلك
(العضلات) فإنّ المجتمع تعرضلاختلال فظيع، بغياب المرأة عن التوجيه المشترك مع الرجل، فوقع المجتمع تحتسيطرة الذكور فقط،
ونمت المؤسسات العسكرية التي هي ذكورية بالدرجة الأولى، فكان اندلاع الحروب تحصيل حاصل، فالحرب هي عملية ذكورية كاملة
في التخطيط والقيادة والتنفيذ بل والموتفي النهاية. فالذكور يخوضونا بكلضراوة ويموتون فيساحاتها، فيحين أنّ الأنثىلا تشاركفي
هذه المذبحة الجماعية، بل تحافظ على الحياة، وتنجب الحياة ولا تموتفي حمامات الدم المرعبة هذه، فهي خزان الحياة المتجدد وينبوع الحب
المتدفق، وبترسيخ الثقافة العسكرية الإسبرطية تم تحويل وتشويه كامل للثقافة الإنسانية باستلاب الإنسان من أهم عناصرإنسانيته، بسلّ
روح المبادرة والبعد الفردي والاستقلالية، وتحويل المجموع إلى كتلة لحمية مضغوطة تعمل كالمطرقة ولا تناقش، وتحويل تيار الثقافة
بكامله في الفنون والأدب والجمال وسواه، ليصب في تيار اتجاه تكريس ثقافة البطولة و(العنترية)، وهي كارثة إنسانية عامة، عانت وما
زالت تعاني منها كل شعوب الأرض، ووضع لها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلاً: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وقبل خمسة آلاف سنة حصل انعطاف ثالث لا يقل في وزنه وثقله عن الانعطافين السابقين باختراع الكتابة، فبواسطة الحرف والكلمة
أمكن حبس المعنى ورسمه في الأوراق وشبهها، وبذلك أمكن وللمرّة الأولىفي التاريخ الإنساني (حفظ) الذاكرة الإنسانية، وبدأ تيار التراكم
المعرفي وثورة المعلومات، ولعل فواتح السور من الحروف المكررة من (ألفولام وميم وعينوصاد) التي اختلففيها المفسون على مذاهب
شتى ومازالت أحد أسرار القرآن، أقول لعل أحد تفسيراتها هي إشارتها إلى هذه الثورة الخطيرة في العقل والتاريخ الإنساني، فالإنسان قبل
(الكتابة) كان يتفاهم بالنطق والتصويت، ولكن حصيلة التجربة الإنسانية كانت تموت مع كل جيل فلا تحفظ، تماماً كما لو تصورنا أنّ خلايا
يوماً؛ فتتكسلتعطيحمضاً يذيبدهن الطعام، ويلون بعد
120
الدماغ تتكاثر وتموتكما يحصل مع الكريات الحمر في الدم، والتي تتبدل كل
ذلك فضلات الأمعاء الخارجة، ذلك أنّ خلايا الدماغ هي من عمر الإنسان تولد معه برقم محدد وتبقى معه وترافقه إلى رحلة القبر الأخيرة،
فهي تخزن المعلومات وتبني الذاكرة وتنمي الخبرة وتصقل المواهب وتشحذ القدرات الفنية، وهي بعد هذا مركز الإبداع وتجلي الشخصية،
ولو تبدلت وأعيد صناعتها كما هو الحال مع باقي خلايا الجسم إذاً لكان على الإنسان أن يتعلم اللغة كل بضعة أشهر من جديد.
خالصجلبي




