أنتربولوجيا الإنسان الفاعل: الكائن البشري من منظور (فلسفة الفعل)


فئة :  قراءات في كتب

أنتربولوجيا الإنسان الفاعل: الكائن البشري من منظور (فلسفة الفعل)

 مدخل عام

تروم هذه الورقة البحثية رصد بعض جوانب تأثير فلسفة الفعل في أنتربولوجيا الإنسان[1]. وإن فرضيتنا الموجّهة لهذه الورقة تنصّ على أنّ كل أنتربولوجيا فلسفية تبحث في مفهوم الإنسان ستبقى قاصرة وعاجزة عن الإحاطة بدلالته، وإدراك طبيعته، والوقوف على خصائص تميزه وفرادته، ووضع الحدود الفاصلة بينه وبين باقي الكائنات الحية والآلات الصناعية، ما لم تستند إلى فلسفة الفعل. ومن أجل الدفاع عن هذه الفرضية سنخصص القول في طبيعة الأفعال الإنسانية ودلالاتها من أجل الكشف عن بنيتها ومقاصدها، وتبيان تأثيرها في الإنسان، والإشارة إلى مفعولها في العالم بوصفه وجوداً موضوعياً مشتركاً تتفاعل في إطاره الذوات، وتتواجه القيم المختلفة، وتتصارع الإرادات والرغبات.

ولتحليل فرضيتنا سنقف عند جملة من الأسئلة من قبيل: ما الإنسان؟ أهو كائن مفكر أم فاعل؟ وأَتتحدد طبيعته بالفكر أم بالفعل أم بهما معاً؟ ومن أين يستمدّ هويته؟ وما الذي يجعله كائناً متميزاً عن باقي الكائنات الحية والآلات الصناعية؟ وما هو المصدر الذي يستمدّ منه قيمته؟ وأَهو كائن حرٌّ يفعل ما يريد أم خاضع للضرورة والحتمية، لا يفعل إلا ما يُراد منه؟ وبماذا تتميز الأفعال الصادرة عن الإنسان؟

في مستوى أوّل، تشكّل هذه الأسئلة مجتمعةً مدخلاً للنظر في الإنسان مفهوماً ووجوداً وحضوراً في العالم. وفي مستوى ثانٍ، إنّها تتيح استعادة الإشكالات الكبرى، الوجودية والأخلاقية، المتعلقة بالإنسان، كالعلاقة بين العقل والجسد، وبين الفكر والفعل، وقضايا الحرية والحتمية والمسؤولية والإرادة والقصدية. وفي مستوى ثالث، إنها تمثل أرضية للتفكير في قضية مركزية تبحث في أنتربولوجيا الإنسان الفاعل، ومقاربتها مقاربة متعددة الزوايا انطلاقاً من الكتاب الموسوعي (فلسفة الفعل: اقتران العقل النظري بالعقل العملي) للمفكر المغربي حسان الباهي.

ينتمي هذا الكتاب إلى مبحث فلسفي يكاد يكون جديداً في المجال التداولي العربي، فعندما نحصي التآليف في فلسفة الفعل نلفيها نادرة أو قليلة. كما أنه ينتمي إلى مشروع منطقي وفلسفي أراد له صاحبه أن يكون منصبّاً على قضايا اللغة والعقل، ومستحضراً لقضايا العلم والأخلاق، ومنفتحاً على إشكالات الواقع والإنسان. كما أراد له أن يكون مجالاً للسجال والحوار النقدي مع الكثير من التصورات والأطروحات التي تنتمي إلى فلسفات اللغة والعقل والفعل، وإلى العلم في بعده التقني والأخلاقي، بالإضافة إلى استحضار قضايا من التراث الإسلامي تخص مراتب الفعل وعلاقتها من جهة بالتكليف والأمر، ومن جهة أخرى بالحرية والمسؤولية.

واستناداً إلى هذا الكتاب، إن مقاربة الإشكالات السابقة تفترض استحضار النتائج الحاصلة في مجالات معرفية متعددة، كالذكاء الاصطناعي، وعلوم الأعصاب، والبيولوجيا، والهندسة الوراثية أو الجينية، وتقانة النانو، بالإضافة إلى استحضار التمفصلات القائمة بين فلسفة اللغة وفلسفة العقل وفلسفة الفعل. ونشير إلى أن ثنايا الكتاب تضم مرجعيات وإحالات على أنساق منطقية ونظريات فلسفية وعلمية متعددة، بعضها ظاهر مصرح به، وبعضها مضمر مسكوت عنه. ومما لا شك فيه أن اتساع زوايا النظر المبنية على هذا التراكم المعرفي والمرجعي المتعدد سيؤدي -لا محالة- إلى تحول عميق في النظر إلى الطبيعة الإنسانية، وفي مفهوم الإنسان، وموقعه في العالم، وعلاقته بذاته والآخرين.

وعطفاً على ما تقدم، إن هذه الورقة البحثية لا تقصد عرض مضامين الكتاب أو وصف محتوياته، بقدر ما تنشد التعامل معه من منظور تأويلي يصب في اتجاه إعادة النظر في مفهوم الإنسان من خلال استحضار مفهوم الفعل، أو وصل أنتربولوجيا الإنسان بفلسفة الفعل.

I. فلسفة الفعل بوصفها إطاراً نظرياً

يستدعي النظر في مقومات وخصائص الأفعال الإنسانية الوقوف عند دواعي ظهور فلسفة الفعل كأحد المباحث الفلسفية المعاصرة؛ فتبعاً للعديد من الباحثين، إن فلسفة العقل ظهرت لتجاوز القصور في النظر والركود النسبي الذي أصاب فلسفة اللغة، حيث تبين أن الكثير من قضايا اللغة لا يمكن فهمها دون الرجوع أو الاعتماد على العقل؛ «فاستعمال اللغة ليس سوى تعبير عن قدراتنا العقلية، ولن نتمكّن من فهم وظائف اللغة متى لم نبدأ بفهم نمط تأسيسها من خلال قدراتنا العقلية»[2]؛ فمعظم التساؤلات والإشكاليات والقضايا التي سبق أن طرحها فلاسفة اللغة أعاد الباحثون في مجال فلسفة العقل الاشتغال عليها. وفي السياق ذاته، ورثت فلسفة الفعل أغلب القضايا التي شغلت الباحثين في فلسفة العقل، بمعنى أن القضايا التي طُرحت في فلسفة العقل استدعت الاشتغال بفلسفة الفعل.

وتقريباً للمقصود بفلسفة الفعل، وبلغة جامعة، يَعدّها حسان الباهي «نظرية مشتركة بين مباحث فلسفية وأخلاقية واجتماعية وقانونية، وغيرها من المباحث التي ساهمت في طرح قضايا تخصّ الأفعال الإنسانية»[3]. إنّها نمط من النظر الفلسفي المعاصر يختص بالتأمل والتفكير في دلالات الفعل وخصائصه ومقاصده وأسبابه، ويسعى إلى بناء أنماط تفسيرية وقصدية للأفعال الإنسانية. وتتجه مجهودات فلاسفة الفعل نحو أهداف متنوعة من قبيل إيجاد وصف ملائم للفعل وبنيته، أو تحديد تفسير ممكن له، أو توضيح التصورات المرتبطة به.

II. مفهوم الفعل

يستوجب الضبط الدلالي لمفهوم الفعل عند حسان الباهي الوقوف عند بنية الفعل وأنماطه وشروطه ومقاصده؛ فبشكل عام إن الفعل إمّا أن يكون تكليفاً أو أمراً أو نهياً. ومن خلال هذه الصيغ، يشير الفعل إلى الضوابط التي تفرض ما يجب القيام به، أو ما يجب تركه. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى الفعل على أنه مسلسل يتطلّب فهم سيرورته، ومشروع مفتوح على المستقبل يتحقق من خلال إمكانات وبدائل متعددة، ويقتضي توافر الإرادة والقصد والقدرة والعزيمة، ويتحقق من خلال إنجاز حركات تمكن من تجاوز الموانع والعوائق أو التكيف مع المحيط أو خلق وضع جديد. وحتى يكتمل معنى الفعل نشير إلى أن القيام به يستدعي الحرية، ويستتبع تحمل المسؤولية. ولكي يتحقق الفعل ويُحدث أثراً في العالم لابد من وجود فاعل، فرداً أو جماعة، يمتلك حوافز ودوافع، ويتوافر على تخطيط وأهداف ووسائل تمكّنه من تحويل تخطيطه إلى إنجاز، وأهدافه إلى واقع. ويتمّ للفاعل إنجاز فعله متى كان عالماً بما يفعل، ومريداً له، وعازماً عليه، وقاصداً له. فالفعل بنية قصدية تستدمج داخلها الأهداف التي يُراد تحقيقها والوسائل المعتمدة لذلك. ويؤدي الفعل دور الكاشف للذات أمام الآخر، وكأن الفعل يخبر عن النوايا الداخلية للفاعل، ويكشف عن حالاته الذهنية ومقاصده. وهذا ما يتيح للآخر أن يصير شاهداً على الذات، ومصدراً للحكم عليها؛ فالفعل مرآة كاشفة للذات، معبّرة عن نواياها ومقاصدها.

ونسجل هنا أنّ هذا التعريف المقدم إلى مفهوم الفعل ينبني على محددات منطقية وأخرى تنتمي إلى القاموس التراثي المتعلق بأصول الفقه. فهذا الوصل بين المنطقي والأصولي، مع الاستحضار الضمني للأبعاد العلمية والتقنية والاجتماعية، يدل على مبدأ راسخ في فكر حسان الباهي، يتجلى في دفاعه عن تكامل العلوم والمباحث، وهو ما يظهر في جل مؤلفاته.

وشاهداً على هذا التكامل بين مباحث متعددة، نجد أن مفهوم الفعل لا يتضح ولا يتخلص من اللبس والغموض حتى يتم حصر عناصر التمايز التي تميزه عن مفاهيم مجاورة له ومتداخلة معه كالحدث والحركة. ولعلّ أهم ما يميز الفعل هو حضور القصدية، التي تشكل مسألة بالغة الأهمية في الكثير من السجالات المعاصرة التي تخص البحث في مفهوم الوعي فلسفياً وعلمياً.

تعني القصدية «قدرة العقل على الدخول في علاقة مع العالم، أو بمعنى الخاصية التي بموجبها تتجه حالة ذهنية إلى الموضوع أو حالة الشيء، والتي يجب أن تنجز من طرف الفاعل»[4]. ويمكن أن نفهم من ذلك أن الفاعل يعي ما يفعل أو يعي الفعل الذي سيصدر عنه، ويرجع ذلك إلى كون كل وعي وعياً بشيء ما. وتبعاً لذلك يمكن القول إن «الأنا أفعل»، تبعاً لقصدية الفعل، تحمل في ذاتها الموضوع «المفكر فيه»؛ أي الذي تقصده. وإلى جانب القصدية يضيف حسان الباهي للفعل خاصية ثانية، فهو ما يترك أثراً في العالم. فالقول بقصدية الفعل يقودنا إلى اعتباره إرادياً تمّ باختيار الفاعل الذي يتحمل مسؤولية فعله. ويمكن أن نخلص إلى أن الفعل حركة جسدية قصدية وإرادية وحرة، تُحدث أثراً في العالم عندما تقع وتستوجب المسؤولية.

فعندما ننسب إلى الفعل الوعي والقصدية، فلا يعني بالضرورة أن كل الأفعال الصادرة عن الإنسان واعية وقصدية. فقد تصدر عنه أفعال أخرى لا واعية ولا قصدية. فليس الإنسان وعياً خالصاً، فهو الكائن الذي يقاسمه الوعي واللاوعي. ويكفي أن نشير هنا إلى التحليل النفسي الذي يرى أن اللاوعي هو الأساس العام للحياة النفسية للفرد، والذي يتحكم في سلوكياته ويشرط حياته.

ولكن ليس تعريف مفهوم الفعل بهذا الوضوح والبساطة؛ وخير دليل على صعوبته هو ما أثاره حسان الباهي من إشكاليات تخص طبيعة الفعل وبنيته. وبالنظر إلى الأمثلة المقدمة في ثنايا الكتاب، يمكن التعبير عن هذه الإشكاليات انطلاقاً من الأزواج المفهومية والمفارقات والإحراجات الآتية: الفكر/الجسد/اللغة، الوعي/اللاوعي، القصدي/غير القصدي، الإرادي/غير الإرادي، القصد القبلي/القصد البعدي/القصد الموجه، الحتمية/الحرية، الأمر/التكليف. ونسجل أن النتيجة الطبيعية لهذه الإشكاليات هي تعدد التصورات والمقاربات التي قدّمت لتفسير وفهم الفعل ووصف بنيته، والتي من أبرزها المقاربات العلية التي تروم تفسير الفعل بشكل عام بإرجاعه إلى الدوافع والأسباب الخارجية والحتمية، والمقاربات القصدية التي تسعى إلى فهم الفعل الإنساني من خلال ربطه بالحوافز والرغبات والمعتقدات. ومن نافلة القول نشير إلى أنّ هذه الإشكاليات والقضايا السابقة تحمل في طياتها أسئلة وإحراجات ومفارقات متداخلة، يفضي بعضها إلى الأخرى. وسيكون من الصعب وضع حدود فاصلة بين عناصرها، وصياغة أحكام قطعية بخصوصها، وتقديم إجابات جازمة أو نهائية لها.

مفهوم الفاعل

من المسلم به أن لكل فعل فاعلاً يُحدث أثراً في العالم، وأن الفاعل هو المُسند إليه فعلٌ ما. وتقود هذه المسلمة إلى اعتبار الفاعل عنصراً ضمن بنية الفعل، وشرطاً لتحقّقه. ومن ثمَّ، يصير من الواجب الحديث عن مفهوم الفاعل حتى يستوي الحديث عن الفعل.

يوضح حسان الباهي أنّ الهدف من اقتراح مفهوم الفاعل لوصف الكائن، الذي يتصرّف وتصدر عنه أفعال أو حركات، هو «محاولة إخفاء الأصل المتعدد لهذا المفهوم، والذي يعود إلى تعدد الفاعلين واختلافهم، ما بين الطبيعي والصناعي»[5]. ويعني الفاعل كل كائن يقدر على التصرف بشكل يسمح بالحكم على التصرفات التي تصدر عنه، وقد يكون طبيعياً أو صناعياً أو هجيناً يتفاعل فيه الطبيعي والصناعي، كما قد يكون فرداً أو جماعةً أو نسقاً معلوماتياً. وأمام تعدّد الفاعلين، وحتى يتمّ التمييز بينهم، يقترح حسان الباهي «اعتماد خاصيتي الاستقلال والاستقلال الذاتي»[6]. حيث يكون الفاعل مستقلاً عندما يكون «بمقدوره أن يقوم بشيء ما بمفرده، ودون مساعدة أو تدخل خارجي، حيث يتمتع بحرية اتخاذ القرار وتوجيه أفعاله، ليتحمل بموجب ذلك مسؤولية أفعاله وتصرفاته»[7]؛ في حين يكون الفاعل مستقلاً ذاتياً عندما «يرتبط وجوده بوجود فاعلين آخرين يتدخلون في شؤونه بشكل أو آخر»[8]. وتبعاً لهاتين الخاصيتين، إن الفاعل إما أن يكون مستقلاً كلياً وإما أن يكون مستقلاً جزئياً؛ كما أنهما تعبران على درجات حرية الفعل والتصرف التي يتمتع بها الفاعل سواء كان طبيعيا أم صناعياً.

III. الفاعل الطبيعي والفاعل الصناعي

1. الإنسان والآلة

هل بالإمكان اعتبار الإنسان آلة مفكرة؟ يدافع مناصرو الذكاء الصناعي عن إمكانية خلق ذكاء صناعي يحاكي الذكاء الطبيعي، وصناعة آلة تقدر على التفكير والعمل، على غرار ما يقوم به الإنسان. وينبي هذا التوجه على النظر إلى الطبيعة الإنسانية من منظور بيولوجي مادي محض. فليس الإنسان سوى «مجموعة من الخلايا العصبية التي يمكن برمجتها لتقوم بالفعل وردّ الفعل»[9]. فمن منظور علم بيولوجيا الأعصاب، كما يرى جون بيير شونجو، ليس النشاط العقلي سوى نشاط عصبي، والوعي نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا. وينبي هذا التصور على اعتبار دماغ الإنسان آلة ميكانيكية معقدة[10]، وأن الإنسان كائن عصبي (Homme neuronal). ومن منظور الذكاء الصناعي، وانطلاقاً من استعارة الحاسوب، تمت المماثلة بين العقل والبرنامج؛ إذ أصبح يُنظر إلى العقول البشرية على أنها برمجيات حاسوبية، وأن الدماغ شبيه بمجموعة من وحدات المعالجة المركزية، تعمل فيها أعصاب الجهاز العصبي كقنوات إدخال وإخراج[11]. ويُستفاد من ذلك أنّ الفاعل الطبيعي لا يختلف عن الفاعل الصناعي، فهما يسلكان بالكيفية نفسها ويتصرفان بالطريقة نفسها.

ويعتقد الكثير من العلماء ذوي الخلفية المادية أن الخلية العصبية مجرد نظام مادي، والدماغ مجموعة من الخلايا العصبية المتصلة ببعض، وأنّ بناء خلية عصبية واحدة سيشكّل أساساً لتصنيع آلة هي نسخة عن الدماغ نفسه. ومثل هذه الآلة ستكون لها كلّ الصفات التي للدماغ، كإدراك الذات، الوعي، العواطف، وهلم جرّا[12]. وفق هذه النظرة المادية، إن الدماغ مجرد آلة يحملها الإنسان في جمجمته. والنتيجة الطبيعية هي أن الإنسان مجرد آلة مفكرة.

إن التصور الآلي للإنسان يمثل قاسماً مشتركاً بين التيارات المادية بمختلف توجهاتها، التي أقامت دعواها على المماثلة بين الظواهر الإنسانية والظواهر الطبيعية؛ فكل الظواهر كيفما كان نوعها تخضع لقانون السببية أو الحتمية. وتبعاً لهذا التصور يخضع السلوك الإنساني لقانون ثابت بين المثير والاستجابة، ما يسمح بإمكانية التنبؤ بالسلوك المتوقع إنجازه، ليصبح قابلاً للتحكّم فيه. وبهذا المعنى يصير الفعل الصادر عن الإنسان لا يختلف عن الأفعال التي يمكن أن تصدر عن باقي الفاعلين الطبيعيين أو الآليين، وأن أسباب الفعل تقع خارج الفاعل وتمارس عليه الإكراه والإلزام. ويلزم عمّا سبق أن نشير إلى أن أسباب الفعل ودوافع التصرف لا ترتبط بما هو ذهني وإنما بما هو عصبي، ويرجع ذلك إلى أنّ «الفاعل لا يتحرك أثناء الفعل وفق الحالة الذهنية التي تمثل سبب التصرف والدافع إليه؛ بل كل ما نعانيه هو أحداث عصبية تسبب حركات جسدية»[13]. يقود هذا التبني للمادية الأحادية إلى اعتبار العمليات العقلية عمليات مخية؛ بل يصل إلى حدود مفاهيم الذاكرة والوعي والقصدية كمفاهيم سيكولوجية فولكلورية يجب استبدال مفاهيم عصبية علمية بها[14]. سيتم هنا اختزال الفعل إلى عمل الجهاز العصبي، حيث لا يعدو أن يكون مجرد استجابة لمثيرات العالم الخارجي. والظاهر أن التصورات المادية، ولاسيما تلك المستندة إلى نتائج علوم الأعصاب والبيولوجيا والذكاء الصناعي، تحذوها «الرغبة في صنع آلة تفهم وتتصرف بشكل ذكي؛ أي آلة قادرة ليس فقط على محاكاة الأنشطة الذهنية عند الإنسان؛ بل أن تتصرف كما يتصرف، وتسلك كما يسلك»[15].

ولكنّ هذه الرغبة تصطدم بعدّة صعوبات مردّها إلى وجود ظواهر نفسيّة وذهنية لا يمكن للآلة أن تحاكيها مهما بلغت درجة تطوّرها، فبعض الأنشطة الذهنية للإنسان تتجاوز كلّ البرمجيّات العصبية. ويكفي أن نشير هنا إلى أن الآلة لا تمتلك الوعي، وأنّ أفعالها تخلو من القصدية. يُضاف إلى ذلك أنّ الطبيعة الإنسانية لا يمكن حصرها في الأنشطة الذهنية؛ بل تتجاوزها إلى الحركات والأفعال. فليس الفكر إلا بعداً واحداً من الأبعاد المحدّدة للكائن الإنساني، فقد صار من الواضح «أنّ الإنسان ليس مجرّد كائن مفكّر؛ بل فاعل كذلك»[16]. وليس الإنسان مجرّد آلة مفكّرة؛ بل هو كائن مفكّر وفاعل؛ في تكوينه يتفاعل العقل والجسد، ولا تنفصل فيه الأنشطة الذهنية عن الحالات السلوكية، كما تترتّب على أفعاله نتائج أخلاقية وقانونية.

2. الإنسان والحيوان

إذا كان بالإمكان التمييز بين الفاعل الطبيعي والفاعل الصناعي اعتماداً على خاصيات الوعي والقصدية، والتصرّف بحسب المعتقدات والرغبات، فإنّ الأمر يزداد تعقيداً عندما نسعى للتمييز داخل نوع الفاعل الطبيعي بين الإنسان والحيوان، أو بين الفاعل الطبيعي الإنساني والفاعل الطبيعي الحيواني.

فعندما يتمّ تفسير فعل الفاعل انطلاقاً من القصدية، فإنّ الذهن ينصرف بشكل مباشر إلى أنّ هذا الفاعل هو الإنسان؛ لأنّه يعي ما يفعل، ويتصرّف بحسب ما يعتقده وما يرغب فيه. ولكن، هل كلّ كائن يسلك ويتصرّف بحسب معتقداته ورغباته يمكن اعتباره إنساناً؟

يسوق حسان الباهي مثالاً مثيراً يدعو إلى التأمل والتفكير فيه. يتعلّق هذا المثال بسلوك «الطائر الذي يصطاد الديدان في البحيرة، بكونه جائعاً، وأنه يبحث عن الطعام، وهو يعتقد أنّ الديدان يمكن أن تلبّي رغبته، وأنّها موجودة في البحيرة»[17]. فعندما ننسب إلى الطائر الرغبات والمعتقدات، فإنّ ذلك يتطلّب استحضار خاصيّة القصدية. ويصير بالإمكان القول إنّ الطائر يسلك بطريقة عقلانية وقصديّة؛ لأنّ الجوع الذي نُسب إلى الطائر هو حالة قصدية يعني الرغبة في الأكل. وعلى هذا المستوى تنتفي أوجه الاختلاف بين الفاعل الطبيعي الإنساني والفاعل الطبيعي الحيواني، فكلاهما يتصرف بحسب معتقداته ورغباته، ولا يهمّ الأمر إن كان الحيوان يملك (عقلاً) شبيهاً للإنسان أم لا يملكه. تفرض مثل هذه النتيجة التساؤل الآتي: أَيفكّر الطائرُ ويعتقد ويرغب على وجه الحقيقة أم تُـنسب إليه هذه الحالات الذهنية على وجه الاستعارة؟

نشير هنا إلى أنّ التصوّرات، التي تنسب الحالات الذهنية، كالقصدية والاعتقاد والرغبة، إلى الحيوان بوصفه فاعلاً طبيعياً، إنّما يُنظر إليها من منظور أداتي أو وظيفي. فعندما يتمّ تفسير الأفعال على أساس الاعتقادات والرغبات، فإنّه يتمّ استحضار الكيفية التي يمكن بها للوظائف المرتبطة بالاعتقادات والرغبات أن تسهم في إيجاد الأفعال. وترتيباً على ذلك، وتبعاً للمذهب الوظيفي، يبدو أنّه «ليس هناك مانع يحول دون أن يكون الكائن العضوي المكوّن من الخلايا، والحاسوب المكوّن من رقائق، وساكنة المريخ المكوّنة من أشياء لا علم لنا بها (...) في نفس الحالة الوظيفية». ولكن حتى إن جاز لنا من بعض الوجوه أن ننسب الرغبات إلى كلّ الفاعلين الطبيعيين، الإنسان والحيوان، فإنّه من الصعب نسبة الاعتقاد والإرادة إلى غير الإنسان. وإذا أردنا استحضار التصوّر الفلسفي لجون سيرل، نجده يميّز بين عدة أنواع من القصدية (بوصفها تلك القدرة في العقل التي تمكّن الحالات العقلية من الإشارة إلى أو الكلام على)، والتي يميّزها عن الألفاظ المستعارة المنسوبة. ولتوضيح هذه الفكرة يسوق المثال التالي: «إذا كنت أنا عطشان فإنّ هذه الحالة قصدية أصلية وحقيقية. إذا كتبت جملة (أنا عطشان) فإنّ هذه الجملة اشتقت قصدياً. وإذا كتبت جملة (إن سيارتي عطشى للوقود) فإنّ هذه الجملة تشكّل لفظاً استعارياً أو لفظ (كأن) لعطش السيارة. ولكن السيارة لا تمتلك أيّ قصدية بغضّ النظر عما إذا كانت أصلية أو مشتقة»[18]. وتبعاً لهذا المثال، لا يجوز لنا أن نرى أنّ الطائر يمتلك أيّ قصدية، وحين يُصرّح بأنّه يتصرّف بحسب معتقداته ورغباته، فإنّ هذا التصريح هو من قبيل الألفاظ المستعارة المنسوبة إليه.

مما لا شك فيه أن الإنسان ينتمي إلى المملكة الحيوانية، وتوجد بينه وبين الكثير من الكائنات الحية خصائص فيزيولوجية وسلوكية مشتركة. ولكن يبقى الإنسان متفرداً ومتميزاً نظراً لما يملكه من قدراتٍ ذهنية أو قدرة على تكوين مبادئ ذهنيّة على مستوى معيّن من التجريد؛ فالإنسان هو الذي يفكّر ويعتقد ويرغب على وجه الحقيقة، أمّا الحيوان فتُنسب إليه هذه الحالات الذهنية على وجه الاستعارة. أضف إلى ذلك أنّ الإنسان هو الذي يملك القدرة على التعبير عن قصده باللغة؛ لأن قصدية اللغة مشتقة من قصدية العقل، وكلتاهما تقود إلى قصدية الفعل. والقول بالقصدية لا يعدم وجود أفعال أو حالات لا قصدية؛ بيد أن غياب المضمون القصدي لا يعني إلا صعوبة تحديد المضمون التمثلي لهذه الأفعال والحالات في العالم، غير أن ّهذا لا ينفي عنها طبيعتها العقلية. إن القصدية، عند القائلين بها، هي قدرة في العقل على تكوين تمثلات حول العالم. وهي ترتبط بالعقل لا بالوعي؛ إذ قد «يوجد وعي بدون قصدية، كما هو حال الألم، وقصدية بدون وعي، كما هو حال الاعتقاد»[19]. ولعل ارتباط القصدية بالعقل لا بالوعي هو ما يجعلها خاصية إنسانية، وهو ما يجعل الإنسان فاعلاً وحيداً يتصرف بحسب معتقداته ورغباته. فقصدية الفعل تتوقف على ضرورة أن يكون الفاعل على علمٍ بما يقوم به.

3. الفاعل الإنساني

إن السؤال: ما الإنسان؟ إذ يفرض طرح مشكلة العلاقة بين العقل والجسد في بعدها العملي، فإنّه يضع حداً فاصلاً بين الإنسان والآلة. كما أنّ تلك العلاقة تشكّل مدخلاً لإعادة النظر في مفهوم الإنسان: أَهو فكر أم فعل؟ وأَينفصل في الإنسان الذهني عن السلوكي، أم يتفاعلان؟ وهل الإنسان فكر خالص أم هل هو كائن مادي يتشكل من مجموعة من الخلايا؟ وتفضي هذه الشبكة من الإشكاليات إلى التساؤل عن طبيعة الأفعال الإنسانية، وعن دلالاتها ومقاصدها؛ إذ يمكن الاستفهام بموجب ذلك حول ما إذا كان العقل هو محرّك الجسد أو أن الجسد مجرّد آلة تابعة له؟ وأَتحيل الأنا على الفكر فحسب أم على الجسد، أم عليهما معاً؟ وأَتعني الأنا الأنا المفكر فحسب أم الأنا الفاعل كذلك؟

تمثل هذه الأسئلة وغيرها بؤرةَ اختلافٍ بين مذاهب واتجاهات وتصورات فلسفة الفعل، كما كان الأمر عليه في فلسفتي اللغة والعقل. فهي تختلف، بالدرجة الأولى، من حيث المرجعيات الفلسفية والعلمية التي تنطلق منها، ما يؤدي إلى الاختلاف حول تحديد مفهوم الإنسان.

ساهم الانتقال من فلسفة اللغة إلى فلسفة العقل، ومنها إلى فلسفة الفعل، بفعل التراكمات الكميّة والنوعيّة الناتجة عن الثورة العلمية، في إعادة تعريف مفهوم الإنسان وتحديد هويّته: «حيث تبيّن أنّ حياة الإنسان لا تتوقّف عند مجرّد التفكير؛ بل تتحدّد كذلك من خلال أعماله، فالإنسان فكر وعمل، وقدرة الذات لا تهمّ التفكير فقط؛ بل تتوقف على العمل كذلك»[20]. فليس الإنسان مجرّد كائن مفكّر، بل فاعل، والفعل عنده يرتبط بالجسد، على أساس أنّ في بداية كلّ فعل حركة أو مجموعة من الحركات الجسدية. وتقود هذه الطبيعة المزدوجة للإنسان، مفكّراً وفاعلاً، إلى التسليم بأنّ العمل يبدأ مع الفكر، وأنّ الفكر يتحقّق وينمو من خلال الفعل، والإنسان يحضر في العالم عبر الفكر والعمل. فالإنسان كائن مفكر وفاعل، فعندما تنشأ الفكرة في ذهنه فإنّها تنتقل إلى لحظة الفعل، وهذا الفعل نفسه يُسهم في تطوير الفكرة وصقلها. ففي طبيعة الإنسان لا ينفصل الفكر عن الفعل، وترتبط الأفعال الذهنية بالحركات الجسدية.

نلمس في الكتاب أنّ مؤلفه، من خلال حواره النقدي مع عدة مقاربات ثنائية واختزالية، يدافع ضمنياً عن أنّ الإنسان لا يمكن تعريفه بالارتكاز على الفكر وحده، كما لا يمكن ردّه إلى الجسد، وفي الوقت ذاته لا يجوز اعتبار الجسد مجرّد وعاء للفكر أو آلة تابعة له. فليس الإنسان عقلاً أو فكراً خالصاً، كما أنّه ليس جسداً عزولاً عن الفكر؛ بل إنّه فكر وجسد دون فصل بينهما حتى لا نقع في الثنائية الديكارتية مرّة ثانية، فهو أنا مفكر وأنا فاعل في الآن نفسه. يبني حسان الباهي موقفه على التسليم بأنّ العمل يتقدّم النظر، وأنّ العمل يملك القدرة على توجيه الأفكار واستمالة الإرادة وتحديد الرغبة. وينتهي بذلك إلى صياغة كوجيتو من نوع آخر «فأنا فكر وعمل، وأنا أفكر بقدر ما أعمل، وأعمل بقدر ما أفكر»[21]. إنّ تعريف الإنسان لا يتوقّف على مجرّد التفكير؛ بل يتحدّد كذلك من خلال أفعاله. ولعلّ ما يميّز الأفكار والأفعال، وحتى الأقوال الصادرة عن الإنسان، اتّصافها بخاصيّة القصدية. وتنبني هذه الرؤية على «اعتبار أنّ القصد هو الأساس في الفعل الإنساني»[22]. فالقصدية هي سبب حدوث الفعل أو إحداث أثر في العالم. فليس الفعل حالة تأملية أو شعوراً نفسياً؛ بل هو شيء يقع ويحدث فعلاً، ويترك أثراً، وتلزم عنه نتائج بالنسبة إلى الفاعل. وتتميّز القصدية عن الرغبة، فهذه الأخيرة لا تعدو أن تكون حافزاً للفعل دون جعله يحدث بالفعل.

يتميّز الإنسان أو الفاعل الإنساني، مقارنةً بالكائنات الأخرى الطبيعية والصناعية، بسمة القصدية. وإذا كانت قصدية الفعل تستلزم حضور الإرادة والحرية والمسؤولية، فإنّ الفاعل يكون مريداً وحراً ومسؤولاً، كما ينتج عنها تقويض كلّ خطاب حتمي؛ فالقول بالحتميّة يفضي مباشرة إلى إلغاء الحرية وإسقاط المسؤولية عن الفاعل. إنّ الفاعل يتصرّف وفق إرادة حرّة، وإنّ فعله «يتوقف على وجود إرادة، والإرادة هي ما تدفع بي إلى الفعل عبر تحريك الجسد الذي يعمل على التدخل في مجرى الأحداث»[23]. ويجب النظر إلى الحرية كحضور في الفضاء العام أو الحياة المشتركة. فليست الحرية علاقةً باطنيةً مع الذات أو شعوراً نفسياً أو تأملياً داخلياً، وإنما هي فعل خارجي يرتبط بالحياة العامة، فهي علاقة مع الآخر، أو تظهر عندما ينفتح الفاعل على فاعلين آخرين في العالم الخارجي. إنّ الفاعل الحر ليس من ينغلق على ذاته، ويتقوقع على نفسه؛ بل هو من يمارس حريّته، ويغادر عالمه الداخلي إلى العالم الخارجي. فحرية الفاعل هي التي تجعل أفعاله ممكنة، وتترتب عليها آثار مسؤولة.

الفاعل بين التكليف والأمر

يتّخذ فعل الفاعل صيغاً متعدّدة تُردّ إلى صيغتين أساسيتين: التكليف والأمر. يعقد المفكر حسان الباهي مقارنةً بين هاتين الصيغتين كاشفاً عن مظاهر التقارب والتباعد بينهما، ومبرزاً تأثيرهما على الفاعل وعلى حريته أو حدود استعماله لحريته. فهو يرى أنّ «التكليف يقتضي أن يكون المرء عاقلاً وقادراً وله إرادة، أمّا الأمر فقد يكون إلزاماً، على الرغم من أنّ الإرادة تحضر فيه أثناء الفعل. فهو يقترن بالإرادة على الوجه الذي يُوجب أن يكون أمراً. بالتالي فالمقرر هو أن التكليف يختلف عن الأمر من وجوه، ومن بينها أن شروط المُكلِف الذي يريد من الُمكلَف أن يقوم بشيء ما تختلف عن تلك المتعلقة بالآمر الذي يصدر أمراً للمأمور. فالأول مرتبط بالالتزام، بينما الثاني بالإلزام»[24]. يبدو أنّ الفاعل المُكلَف يتمايز عن الفاعل المأمور من عدة جهات، وذلك تبعاً لمعاني ومقتضيات وشروط كلّ من التكليف والأمر.

يسوق حسان الباهي عدة تعريفات لمفهوم التكليف، فهو يدلّ على: «إرادة فعل على المُكَلف فيه كُلفة، وقيل هو الأمر والإرادة للشيء الذي فيه كُلفة على المأمور به»[25]. يكون التكليف من جهة العقل، ويقتضي الإرادة، ويستوجب الجمع بين النظر والعمل، ويرتبط بالالتزام، ويستتبع الحرية والمسؤولية. وتبعاً لهذه المقتضيات، يكون الفاعل عاقلاً ومريداً حراً وجامعاً بين النظر والعمل، كما يكون مقتنعاً بما يفعل، وعالماً به. وتتراوح أفعال الفاعل من جهة التكليف بين الأمر بالفعل والنهي عنه. ومن أجل تفصيل هاتين الصورتين للفعل، وظف حسان الباهي الخطاب الأصولي في تصنيفه للأحكام الشرعية، «فالمكلف قد يأمر بأشياء ليوجبها أو يمنعها أو يبيحها، وقد ينهى عن أمور، فيحرمها أو يندبها، وغالباً ما يتم ذلك وفق قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، أو بمعنى آخر الإكثار من المصالح والتقليل من المفاسد»[26]. ومن الواضح أن التكليف لا يخلو من تحقيق المنفعة، كما يرتبط بالثواب والعقاب.

يحدد حسان الباهي جملة من الشروط للتكليف تتنزل منزلة الموجهات للسلوك الإنساني، وهي العقل والقدرة والإرادة والعلم. فالمُكلف فاعل عاقل، وإذا لم يكن كذلك سقط عنه التكليف. فالمجنون أو الصبي يندرجان تحت عنوان فاقدي الأهلية الذين ينقصهم الاختيار والقصد، ولا يقدرون على التمييز بين الأشياء. فالعقل هو ما يضمن ترشيد أفعال وأقوال الفاعل، وإدراك المقاصد والغايات المنشودة من الفعل، وتحديد الوسائل الموصولة إليها. ويشدد حسان الباهي على ضرورة حسن استخدام العقل وصيانته من الانحراف وسوء الاستخدام إفراطاً أو تفريطاً.

يشترط في الفاعل أن يكون قادراً، فلا تكليف إلا بمقدور، كما أنّ الفعل يتمّ بحضور القدرة والأهلية والاستطاعة. فقد يكون المُكلّف عاقلاً، ولكن يسقط عنه التكليف إذا فقد القدرة الجسدية، كأن يكون مريضاً؛ كما تسقط عنه إذا فقد القدرة العقلية حتى وإن كان سليم الجسد. يبدو جلياً أنّ القدرة تنتفي لوجود موانع عقلية أو جسدية. بيد أنّ هذا لا يعني أنّ حضور القدرة يؤدّي مباشرة إلى الفعل؛ إذ إنّ المرء، في بعض الحالات، يكون قادراً دون أن يكون فاعلاً، حيث يمكن أن «يقال إنّ الفاعل يقدر على الفعل، ومع ذلك قد لا يفعل، فهو لا يختاره»[27]. والحالة هذه، إنّ الفاعل حتى يقدر على فعله يلزم أن يكون مريداً له، وعالماً به.

طلباً للضبط الدلالي لمفهوم القدرة، سيعمل حسان الباهي على إبراز حدود تمايزه وتعالقه مع مفهومي الإرادة والعلم. فمن ناحية أولى، يرى أنّ القدرة صفة من صفات الإرادة، والعلاقة بينهما علاقة خصوص بعموم، فالإرادة أعم وأشمل من القدرة؛ ومن ناحية ثانية، يتوجب التمييز بين العلم بالشيء والقدرة عليه، فقد يكون المرء عالماً بالشيء، ولكن لا يقدر على فعله. فمن خلال هذه الوجوه، يتجلى أن الفاعل هو من يكون عاقلاً وقادراً ومريداً وعالماً بالتكليف، فعلاً أو تركاً، ومدركاً لمقاصده وغاياته.

انطلاقاً مما تقدم، إن الفاعل إما أن يكون مُكلفاً أو مأموراً. والتكليف يختلف عن الأمر من وجوه، ويشترك معه في أخرى. ومن وجوه التداخل بين التكليف والأمر أن التكليف قد يرد بصيغة الأمر في بعض الأحيان، كما أنّ الأمر قد يرد أحياناً بصيغة التكليف. ويدل هذا التداخل على أنّ الفاعل أو فعل الفاعل يتقلّب بين الإلزام والالتزام، وبين القانون والأخلاق.

خاتمة

بالاستناد إلى أطروحة كتاب (فلسفة الفعل) القائمة على الوصل بين العقل النظري والعقل العملي، إنّ الإنسان مفكر وفاعل، ووجوده لا يتوقف على مجرد التفكير؛ بل يتحدد كذلك من خلال أفعاله. فالفعل ينقل الفكر من العالم الداخلي إلى العالم الخارجي؛ فهو ما يحدث أثراً في العالم، ويحدد العلاقة مع الغير، ويصل الفضاء الخاص بالفضاء العام. وفي إطار العلاقات الممكنة مع الغير، وفي سياق التفاعل بين الفضاءات الخاصة، يبدو أنّ فعل الفاعل يرتبط بالحريّة والإرادة والمسؤولية، ويستند إلى المعرفة والعلم. وبالنظر إلى هذه المقومات يتميز الفاعل الإنساني عن باقي الفاعلين، كالآلة والحيوان؛ فهو فاعل ينفرد بأعلى درجات الاستقلالية؛ إنه فاعل مستقل يتمتّع بحرية التصرف والقدرة على اتخاذ القرارات وتحمل مسؤولية أفعاله.

فالإنسان، من منظور فلسفة الفعل، كائن فاعل أو وجود فاعل. فوجوده لا يتحقق إلا بقدر ما يتركه من أثر في العالم أو ما يحدث فيه من تغيير. وليس الفعل أثراً أو حدثاً فارغاً، وإنّما هو إنجاز واعٍ وقصديّ يصل الذات بالعالم والآخرين. ويستدعي الفعل حضور فكر يتأمّل، وجسد ينفذ؛ مع التأثير الجدلي المتبادل بينهما. ويشترط إنجاز الفعل حضور الحرية، ويستلزم إحداث أثرٍ في العالم لتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية.

[1]- نستعمل مفهوم الأنتربولوجيا بالمعنى الفلسفي الذي أعطاه إيّاه كانط في كتابه(الأنتربولوجيا من وجهة نظر براغماتية) (1798)، الذي يتناول فيه السؤال المركزي «ما الإنسان؟»، والذي تناوله فيما بعد في كتابه (دروس في المنطق) (1800). فالأنتربولوجيا تتناول السؤال الرابع (ما الإنسان؟)، استئنافاً للأسئلة التي عالجها كانط من قبل: سؤال الميتافيزيقا «ماذا يمكنني أن أعرف؟»، وسؤال الأخلاق «ماذا يجب علي أن أفعل؟»، وسؤال الدين «ماذا يحق لي أن آمل؟». وبشكل عام، هي تشرع القانون العقلي الذي يحدد للإنسان ما الذي يجب أن يفعله ليصبح ما يريد أن يكون عليه. للتوسع في هذه الفكرة يمكن العودة إلى مقال المفكر فتحي المسكيني (انزياحات الهوية الحديثة أو تأويلية الإنسان الأخير، كانط، نيتشه، هيدجر)، المنشور في الموقع الإلكتروني لـ(مؤسسة مؤمنون بلا حدود)، وهو عبارة عن الفصل الأول من كتابه (الهوية والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير)، مؤمنون بلا حدود والمركز الثقافي العربي، ط2، 2015.

[2]- المرجع نفسه، ص 161.

[3]- المصدر نفسه، ص 164.

[4]- المصدر نفسه، ص 173.

[5]- المصدر نفسه، ص 344.

[6]- المصدر نفسه، ص 346.

[7]- المصدر نفسه، ص 346.

[8]- المصدر نفسه، ص 346.

[9]- المصدر نفسه، ص 140.

[10]- Jean Pierre Changeux, L'homme neuronal, Fayard, 1983, p. 229.

[11]- تريفل، جيمس، هل نحن بلا نظير؟، ترجمة ليلى الموسوي، عالم المعرفة، العدد 323، 2006، ص 147.

[12]- المرجع نفسه، ص 22.

[13]- حسان الباهي، فلسفة الفعل، ص 209.

[14]- ليمان، أوليفر، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين آفاق جديدة للفكر الإنساني، ترجمة مصطفى محمود محمد، مراجعة رمضان بسطاويسي، كتاب عالم المعرفة، العدد 301، سنة 2004، ص 247.

[15]- حسان الباهي، فلسفة الفعل، ص 139.

[16]- المرجع نفسه، ص 140.

-[17] المرجع نفسه، ص 216.

[18]- سيرل، جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة ميشيل حنا متياس، منشورات عالم الفكر، العدد 343، 2007، ص 29.

[19]- الباهي، حسان، فلسفة الفعل، ص 186.

[20]- المصدر نفسه، ص 139.

[21]- المصدر نفسه، ص 407.

[22]- المصدر نفسه، ص 186.

[23]- المصدر نفسه، ص 405.

[24]- المصدر نفسه، ص 406.

[25]- المصدر نفسه، ص 40.

[26]- المصدر نفسه، ص 41.

[27]- المصدر نفسه، ص 45.