محمد المحيفيظ: الدين والحداثة، مسارات العلمنة في السياق العربي والإسلامي


فئة :  حوارات

محمد المحيفيظ: الدين والحداثة، مسارات العلمنة في السياق العربي والإسلامي

إبراهيم مجيديلة: كيف تقدّمون أنفسكم للقارئ؟

محمد المحيفيظ: لنقل إنّني أستاذ مادة فلسفة الدين والفلسفة السياسية بجامعة مغربية، (جامعة ابن طفيل)، ومجال اهتمامي هو إشكالات الحداثة والنهضة وعوائقها الثقافية والسياسية. تابعت دراستي الجامعية بجامعة محمد الخامس بالرباط، في فترة كانت تعرف فيه هذه الجامعة حيوية فكرية وثقافية لافتة (النصف الأول من الثمانينات)، وتحتضن اجتهادات فكرية رائدة على المستوى العربي في ميادين مثل النقد الأدبي والتاريخ والفلسفة. وقد كنت وجيلي محظوظين بالاستماع لمحاضرات أسماء وازنة مثل العروي والجابري والسطاتي وأومليل وسالم يفوت وعبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا الذي أشرف على أطروحتي للدكتوراه، وكان موضوعها عن علم الأديان وتحليل الظاهرة الدينية عند مرسيا إلياد.

إبراهيم مجيديلة: في زمن انبعاث الأصوليات وعودة الديني للفضاء العمومي، أين تكمن الحاجة الأبستيمولوجية لعلم الأديان؟

محمد المحيفيظ: أظنّ أولاً أنّ الحاجة لهذا المبحث ـ كما لغيره من العلوم الإنسانية ـ قائمة، بغض النظر عن المستجدات التي أشرتَ إليها. وإذا كانت الثقافة العربية قد تعرّفت بهذا القدر أو ذاك على غالبية هذه العلوم الإنسانية، فالملاحظ بالمقابل أنّ مبحث علم الأديان لم يقدّر له بعدُ أن يحظى بالاهتمام المأمول. ويكاد يكون حضوره منعدماً، نشراً وتدريساً. يكفي أن نعرف أنّ أهمّ الدراسات التي قدّمها رواد هذا العلم منذ القرن التاسع عشر ما زالت لم تترجم بعدُ دون الحديث عن ضعف، إن لم نقل غياب المتابعة الدؤوبة للمستجدات المعرفية التي يقدّمها هذا المبحث كما تعرضها الدوريات المتخصصة وأشغال مؤتمرات جمعيات علم الأديان الدولية المتعددة. وهذا الخصاص يكشف عن مظهر دالٍّ من مظاهر التأخر الثقافي التي يتعين تداركها. لكن من جهة أخرى، يصحّ القول إنّ ما أصبح يطلق عليه "عودة الديني" في عصرنا هذا، يضعنا أمام أسئلة وإشكالات تطاول إعادة تعريف الدين وتبين علاقته بالهويّات الفردية والجماعية وعلاقته بالحداثة وقيمها...إلخ، ممّا يمكن لعلم الأديان - بما راكمه من معرفة حول البعد الديني لدى الإنسان - أن يسعفنا في تبين طرق الجواب عنها. زدْ على ذلك، أنّ من مظاهر "عودة الديني" في زمن الاشتباك العولمي هذا، ما نلحظه من توترات وتشنّجات تشي بها حالات الانغلاق الهوياتي وكراهية الآخر وسيادة الأحكام المسبقة الناتجة عن الجهل. ولعل إنتاج خطاب علمي حول الدين وظواهره كفيل بتخفيف حدة هذا السعار.

إبراهيم مجيديلة: ما أهمّ التوجهات الكبرى في علم الأديان؟ وما حدود العلاقة التي تجمعه مع فلسفة الدين؟

محمد المحيفيظ: تأثر علم الأديان، منذ نشأته الرسمية على يد "ماكس موللر" في القرن التاسع عشر، بالتوجهات والاختيارات المعرفية والمنهجية التي اخترقت العلوم الإنسانية. وقد يضيق المقام هنا لعرض كلّ التوجهات والتيارات، غير أنّه بالإمكان التمييز بصفة عامة بين توجهين رئيسين: توجه وضعاني غايته أن يؤسّس علماً وضعياً بالظواهر الدينية، متوسلاً في ذلك طرائق الوصف والتصنيف ونزع الأسطرة واشتراط مسافة بين العالم والموضوع المدروس. وقد قدّم هذا التيار خدمات جلى من حيث توفيره لمعطيات ثرية وهامة حول المعتقدات الدينية البشرية في اختلافها وتنوعها، منذ العصر الحجري إلى يومنا هذا، غير أنّه من جهة أخرى أبان عن محدودية في فهم أو تفهم السلوك والاعتقاد الديني، ممّا أفسح المجال لظهور توجّه ثانٍ يمتح من فتوحات الفينومنولوجيا والهيرومنيوطيقا تحديداً، ولعلّ مرسيا إلياد يمثل الممثل الأبرز لهذا التوجه الثاني. أمّا بخصوص سؤالكم عن علاقة هذا المجال بفلسفة الدين، فإنّ نشأة العلم نفسه كعلم إنساني يطمح لأن يكون مستقلاً، اقتضت منذ البداية أن يتميز عن اللاهوت وفلسفة الدين. ونجد هذا الإلحاح على التميز والتباين بشكل واضح، بل هَوَسي أحياناً، لدى التوجّه الوضعاني الذي أشرنا إليه. غير أنّه من جهة أخرى، نجد أنّ التوجّه الثاني، وإن كان يحرص هو أيضاً على انتمائه لمجال العلوم الإنسانية، فإنّه لا يجد حرجاً في التفاعل مع الفلسفة عموماً، وفلسفة الدين تحديداً. فيستفيد من حدوسها المعرفية والمنهجية والأنطولوجية، ويمدّها بـ"مواد" ومعطيات لاختبار هذه الحدوس وتمحيصها. وقد تكون العلاقة المتميزة التي قامت بين مرسيا إلياد وبول ريكور مثالاً واضحاً على هذا الاشتباك.

إبراهيم مجيديلة: لقد سبق لكم الاشتغال على مرسيا الياد الذي يُعدّ رائداً في رصد تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، فكيف يمكن فهم الظاهرة الدينية المعاصرة في ظلّ إنتاجاته النظرية ومقارباتها المنهجية؟

محمد المحيفيظ: يتمثل تميز اجتهادات مرسيا إلياد في كونه حَرص مبكراً على تخليص علم الأديان من آفتين:أولاً ما يسمّيه بالنزعة الاختزالية، أي إرجاع الظواهر الدينية إلى مستويات غير دينية تعتبر هي أساس تفسيرها (المجتمع، الاقتصاد، البنية النفسية...إلخ). فقد كان يلحّ دوماً على أنّ مشروعية علم الأديان تنبع من أنّ موضوعه موضوع مستقل متميز، وإن كان هذا لا ينفي استفادة هذا العلم من كلّ العلوم المساعدة الأخرى (تاريخ الأديان، سوسيولوجيا الدين، علم النفس الديني ... إلخ)،وثانياً: تخليص المنهج من استصنام الموضوعية وضرورة تورطه في مغامرات تأويلية لا مفرّ منها إن أردنا لعلم الأديان أن يكون مفيداً، وأن يضطلع بدوره في تأسيس ما يسميه "نزعة إنسية جديدة". ويجب أن نضيف هنا تنبّه إلياد لاستمرارية البُعد الديني لدى الإنسان وديمومته، وإن بقي الأمر عنده مجرّد ملاحظة لا يمكن تفسيرها، وهو ما تسعى اليوم العلوم المعرفية إلى تفسيره (أعمال باسكال بوير وسكوت آتران مثلاً).

إبراهيم مجيديلة: ما مظاهر الأنسنة التي حقّقها علم الأديان في تحليله للظاهرة الدينية؟

محمد المحيفيظ: لفهم ذلك يجب استحضار أنّ مرسيا إلياد لا ينظر إلى علم الأديان كما لو كان مجرد علم إنساني كبقية العلوم الإنسانية، بل هو يعتبره علماً منذوراً لمهمة ثقافية وحضارية جليلة، وبمقدوره أن يحدث ثورة ثقافية تفوق في خطورتها الثورة التي أحدثها التحليل النفسي والماركسية. هذه الثورة الثقافية هي ما يدعوه "إنسية جديدة". فكما أنّ النهضة الأوروبية الأولى فتحت الثقافة الأوروبية على القيم الإغريقية والرومانية المنسية، ممّا أمدَّ هذه الثقافة بحيوية أنقذتها من حالة الاحتضار التي كانت تعيشها، فالمأمول أن يؤدي اكتشاف العوالم الدينية للحضارات والشعوب غير الغربية إلى التأثير الإيجابي نفسه. وهكذا فإنّ "تاريخ الأديان"، حسب ما يأمل إلياد، سيخرج الغرب من تمركزه حول ذاته، ويفتحه على عوالم مجهولة من الدلالات، فيتخلص بذلك من النسبوية التاريخية والوجودية التي تكاد تخنقه. يقول مثلاً: "لدينا قناعة قديمة وهي أنّ الفلسفة الغربية مهدّدة بالجهوية: أولاً بتمترسها الشديد خلف تراثها الخاص، وبجهلها مثلاً للمشكلات والحلول التي وجدت لدى الفكر الشرقي، وثانياً بإصرارها على ألّا تعترف إلا بـ"الوضعيات" التي يعيشها إنسان الحضارات التاريخية، واحتقارها لتجربة الإنسان "البدائي". وإذا صحّ ذلك، أصبح بمقدورنا الافتراض أنّ الثقافة الغربية بمقدورها أن تجني الشيء الكثير من "تاريخ الأديان"، لأنّه سيسمح لها بالاندراج داخل أفق أرحب، هو الأفق الإنساني عامة. فحين تشدّ هذه الثقافة الرحال إلى عوالم ذهنية غريبة عنها، فإنّها تؤوب بغنى إنساني أعمق وأكبر.

إبراهيم مجيديلة: يستبطن الحديث عن الظاهرة الدينية إشكال العلاقة بين الدين والسياسية، فهل يمكن فهم هذه العلاقة من خلال الزوج المفهومي المقدّس والمدنّس الذي صاغه مرسيا إلياد؟

محمد المحيفيظ: في الواقع، يستعمل إلياد مفهومي المقدّس والدنيوي وجدلهما، وكذلك مفهوم الهيروفانيا، بمعنى واسع يطاول الوضع الأنطولوجي للكائن البشري، بما هو وضع محكوم بجدل المقدّس والدنيوي في كلّ المستويات. وعليه، فبالرغم من أنّ إلياد لم يتعرّض مباشرة لمشكلة الدين والسياسة بالمعنى المومى إليه في السؤال، إلا أنّ هذا لا يمنع من تصوّر ما الذي كان بمقدور إلياد أن يقوله بخصوص هذه العلاقة لو استفسر حولها. لا يتصور إلياد مثلاً إمكانية تحرّر أيّ مستوى من مستويات الفاعلية البشرية (والسياسة ضمنها) من ارتباط ما بالمقدّس. وهو يرى أنّ ما تزعمه النظريات والإيديولوجيات السياسية المعاصرة، من علمنة و"خروج عن الدين" ليس سوى تنطّع وادعاء، يتبين تهافته حين نفحص مثلاً الإيديولوجية النازية والشيوعية...إلخ. في هذا المستوى يكون مرسيا إلياد أقرب إلى تصورات محافظة، كتلك التي نجدها مثلاً عند ليو شتراوس. وبطبيعة الحال، يشمله النقد الذي يشمل تلك التصورات.

إبراهيم مجيديلة: نصادف في واقعنا العربي الإسلامي علاقة معقدة وملتبسة بين الديني والسياسي، تكاد تتحكم في سلوكات الفاعلين، أفراداً ومؤسسات، في كافة المستويات. فهل بالإمكان علمنة هذا الواقع؟

محمد المحيفيظ: العلمنة ليست اختياراً فكرياً يُملى على المجتمعات، فتأخذ به أو تتركه حسب قناعات نظرية محضة، بل هي سيرورة مجتمعية تاريخية. والمطّلع على المسارات المعقدة التي أخذتها سيرورة "الخروج عن الدين" - بالمعنى الذي يعطيه إيّاه مارسيل غوشيه - في التجربة الغربية، يستطيع أن يفترض أنّ عملية العلمنة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية قد بدأت منذ مدّة كسيرورة موضوعية، حسب سياقات مختلفة (مثلاً، وعكس ما يظنّ عادة، فإنّ إمارة المؤمنين بالمغرب هي خطوة في هذا السياق، شبيهة بالمرحلة الأولى من مراحل الخروج من الدين عند غوشيه والتي يسميها مرحلة الاستتباع. (التطورات التي تعرفها هذه المجتمعات، سوسيولوجياً وديموغرافياً وقيمياً، ناهيك عن ضغط المجتمع الدولي، ستفرض بشكل متزايد ضرورة التمييز بين مجال الدين والسياسة بصيغة من الصيغ. وكلما تخففت شعوبنا من سطوة الاستبداد، وانخرطت قواها السياسية في الفعل السياسي العادي (بما هو تدبير للعيش المشترك يقوم على نسبية الفضائل) اقتربت بشكل حتمي من تبنّي ما يطلق عليه العلمنة. الدليل هذه المراجعات ـ على تواضعها وخجلها ـ التي تعتمل داخل أحزاب الإسلام السياسي بعد ما سُمّي بالربيع العربي. وقد بدأت آثاره تظهر، ومن بينها إعادة ترتيب العلاقة بين السياسي والديني، كما رأينا ذلك عند حزب النهضة التونسي مؤخراً. طبعاً، لا يمكن أن نغفل أنّ هذه العملية تتمّ بعسر وبأكلاف كبيرة، نظراً لافتقادها لرافعة فكرية وثقافية وخاصّة لإصلاح ديني عميق وشامل.

إبراهيم مجيديلة: إذا كانت عملية العلمنة أو الخروج من الدين تتمّ عبر مسار طويل من التحولات، فبأيّ معنى تفهمون أطروحة عودة الدين إلى الفضاء العمومي؟

محمد المحيفيظ: يجب التعامل مع مفهوم "عودة الديني" باحتراس وحذر شديدين، وأن يتمّ التمييز بين السياقات المختلفة التي يوظف فيها. فهو قد يعني رغبة في التخلص من علموية أنوار القرن الثامن عشر، وما ارتبط بها من تبخيس لدور الدين واستهانة به، وما نتج عن ذلك من علمانية أصولية، إن صحّ التعبير، وهو ما نراه عند فلاسفة معاصرين (هابرماس، تشارلز تايلور...) من أجل تجديد الفلسفة الليبرالية، والانتقال بها من ليبرالية سلبية محايدة، تقوم على فصل قاطع بين المجال الخاص والمجال العام، والاعتراف بالفرد ككيان مجرد، إلى ليبرالية مضيافة تأخذ بعين الاعتبار المعتقدات الثقافية والدينية للفرد، وتفسح لها حيزاً داخل المجال العام (سياسة الاعتراف عند تايلور). غير أنّ ذلك لا يعني البتّة نكوصاً نحو صيغة الاندغام بين الديني والسياسي كما عرفتها البشرية سابقاً. بل إنّ غوشيه الذي أشرنا إليه لا يرى في مظاهر عودة الديني وبروز الهويّات التي نراها اليوم سوى مرحلة أخرى من مراحل سيرورة الخروج من الدين. من جهة أخرى، يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ هذا المفهوم (عودة الديني) قد وظّف توظيفات إيديولوجية من طرف تيارات فكرية يمينية نكوصية غرضها تصفية الحساب مع كلّ التراث الإنسانوي والتنويري والحنين إلى مراحل ماضوية. وقد بيّن أحد الباحثين (جورج قرم) بكيفية مستفيضة الاستعمالات المشبوهة لهذا المفهوم، خاصة في مجال التحليل الجيو- سياسي للنزاعات المعاصرة.

إبراهيم مجيديلة: يطرح الحديث عن العلمنة قضية استعمال الحريّة في الفضاء العمومي، وبشكل خاص قضية الحريّات الفرديّة. في تقديركم ما هي الكيفية التي ينبغي أن تُعالج بها الحريّات الفردية؟

محمد المحيفيظ: مرّة أخرى، لا أرى أنّ قضية الحريات الفردية مجرد دعوى أو اختيار أخلاقي. إنّها مرتبطة ببروز الفرد كقيمة. والحال، أنّ هذا البروز من عدمه تحكمه شروط موضوعية (اقتصادية، سوسيولوجية، ديموغرافية...) يجب عدم إغفالها. إنّ هذه التحولات المومى إليها، كما يتبين في حالة المغرب، من معطيات المندوبية السامية للتخطيط، أو من بعض الدراسات العلمية (أعمال إيمانويل تود ويوسف كورباج حول التحولات الديموغرافية بالمغرب) تبين أنّنا نتجه بالتأكيد نحو مزيد من بروز الفرد وانسلاخه عن التأطيرات الاجتماعية التقليدية. وبلادنا لا تشذّ في ذلك عن تحولات يعرفها العالم قاطبة، حتى تلك التي كانت إلى وقت قريب، تقدّم كمثال مضاد لاقتران التحديث بالفردانية، مثل اليابان وكوريا والهند والصين.وبطبيعة الحال، فإنّ بروز الفرد يترافق بالضرورة مع ظهور مطالب تتعلق بالحرية وبالاعتراف بالهويّة الخاصة المتميزة. وقد سبق لشارلز تايلور مثلاً أن تعقّب هذه السيرورة في التجربة التاريخية الغربية. ولذلك، فإنّ ما أصبحنا نلاحظه الآن من "تجاسر" أصوات تطالب ببعض الحريات الفردية، يجب ألّا ننظر إليها بناء على طابعها الأقلوي، كما لو كانت أصواتاً شاذة يمكن إهمالها أو الاستهانة بها أو قمعها، بل الأرجح عندي أنّها ستأخذ في التزايد بحكم الضرورة. غير أنّ هناك مسافة بين بروز الفرد كحصيلة موضوعية لمسار التحديث، وظهور الفردانية كثقافة وكقيمة تستدعي تحولاً ثقافياً عميقاً. وهذه المسافة هي التي تفسّر التشنجات التي نلحظها، وتفسّر تفشّي حالة الوعي الشقي لدى الناس الناجمة عن عدم تطابق وضعهم الموضوعي مع وعيهم ومنظومتهم القيمية (مثلاً تراجع سن الزواج كنتيجة موضوعية، ومسألة الحرية الجنسية، أو الوضع الاقتصادي للفرد، وقيمة "رضى الوالدين" ...، إلى غير ذلك من الأمثلة التي نرى تجلياتها المأساوية أحياناً). بل بالإمكان، انطلاقاً من هذا التوصيف أن نعتبر صيغ التدين لدى الشباب (ومنه الإسلام السياسي) كمظهر غير مباشر لهذا الوضع. كلما تقدّمنا في تشجيع ثقافة الفردانية (ولا أحتاج هنا للتنبيه إلى أنّنا لا نقصد بذلك الفردية الأنانية) عن طريق تعليم عصري حديث، واعتماد نظام سياسي ديمقراطي قائم على الحرية والمساواة، وانخراط كامل - دون تردّد أو مواربة - في قيم حقوق الإنسان الكونية، خفضنا أكلاف هذه التحولات، ويسّرنا تصالح الناس مع مقتضيات عصرهم.

إبراهيم مجيديلة: إذا كان الفضاء العمومي، كمجال منظم بالقوانين والتشريعات، هو مجال إعمال الحريّة، فأيّ فلسفة للقانون يُفترض أن تنظم الحريّات الفردية؟

محمد المحيفيظ: لست متأكداً من جدوى طرح المسألة بهذه الكيفية...، فكما ألمحت إلى ذلك سابقاً، ليست مسألة الحرية أو غيرها من القيم الموجّهة مسألة نظرية يتوقف حلها على نجاعة اختيار فلسفي أو نظري. الأمر الأهمّ في نظري هو حصول قناعة عامة بضرورة انخراطنا الكامل في العصر وقيمه المشتركة. بعد ذلك سيّان إن صدر بعضنا عن فلسفات ليبرالية أو جماعاتية أو وضعية أو حتى فقه الموازنات...، وهذا حال كلّ المجتمعات الأخرى كما نلاحظ.

إبراهيم مجيديلة: ما الخطوط العامّة التي تقترحونها لتحقيق الانخراط الكامل في العصر، والإيمان بقيمه المشتركة؟

محمد المحيفيظ: علينا أولاً أن نتخلص من هُجَاس الخصوصية الصدامية والهويّة المتورمة، والتي هي في نهاية المطاف تعبير مرضي عن أزماتنا التاريخية. طبعاً، ليس المقصود بذلك التنكر لتاريخنا وثقافتنا والاعتزاز بإسهاماتنا الحضارية، كما لا يعني تجاهل التدافع والصراع الدوليين. ولا يعني ذلك أخيراً تماهياً مع الحضارة الغربية في الفروع والأصول. ما نقصده هو التركيز على ما يسمّيه عبد الله العروي "المتاح للبشرية جمعاء"، والاستواء على المنصة الأخلاقية والقيمية نفسها التي أرستها البشرية الآن من تأكيد على قيم العقل والحرية والمساواة. في سبيل ذلك لا مندوحة من القيام بإصلاح ديني عميق وحقيقي، كما يجب القيام بإصلاح تعليمي شامل، ناهيك عن دمقرطة الحقل السياسي وضمان الحد الأدنى من الحريّات الأساسيّة.