الإبراهيميون والعدم؛ السيرة الخفية للاستخلاف


فئة :  مقالات

الإبراهيميون والعدم؛ السيرة الخفية للاستخلاف

الإبراهيميون والعدم؛

السيرة الخفية للاستخلاف (1)


توطئة

من هم "الإبراهيميون"؟ - يعترف مؤرّخون غربيّون بأنّ عبارة "الأديان الإبراهيمية" مثلها مثل عبارة "أهل الكتاب" هي ذات أصل إسلامي.[1] ذلك أنّ عبارة "يهودي-مسيحي" المستعملة في الغرب، والتي تكوّنت ما بين 1880 و1920 هي لا تغطّي المسلمين؛ وكان لابدّ من انتظار 1960 حتى تصبح صفة "الإبراهيمي" مستساغة، وتضمّ الطيف المسلم الذي فرضته الهجرة.

لكنّ استثمار رمزيّة "إبراهيم" لدى المعاصرين هو قد بدأ في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنّ مصطلح "الديانات الإبراهيمية هو مفهوم حديث"[2]، حيث نقرأ منذ 1811 عن "الميثاق الإبراهيمي" (the Abrahamic Covenant) الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب[3]. وذلك قبل أن يتحوّل اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي لدى المؤرّخين في الخمسينيات من القرن العشرين، رسّخه لويس ماسينيون في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان: "الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كلّ المؤمنين"[4]، ثمّ تحوّلت "الديانات الإبراهيمية" إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها.[5]

لا يمكن إصلاح الانتماء إلى أمم الكتاب إلاّ بترتيب علاقة جديدة مع تجربة الموت

وهو اهتمام إشكالي رفعه جاك ديريدا، انطلاقا من ماسينيون، إلى رتبة المفهوم التفكيكي في فلسفة الدين: حيث يعتبر أنّ العنصر "الإبراهيمي" هو شرط فكرة الدين بما هي كذلك، ومن ثمّ أنّ كلّ الذين فكّروا في أفق هذا النوع من الانتماء هم في تقديره قد عملوا على عنصر إبراهيميّ واحد بات اليوم متفجّرا[6]. وبالفعل، فإنّه بعد أحداث 11 أيلول 2001 فقط، انبجست نقاشات جدّية[7] حول إمكانية جمع شتات المنتمين إلى الأديان الكبرى الثلاثة تحت راية "الديانات الإبراهيمية" بحثا عن أواصر السلام المشتركة روحيّا فيما بينهم بوصفهم "ورثاء إبراهيم"[8] وعليهم التعاون التأويلي على فهم ما وقع لهم أو فيما بينهم.

ولكن ما هو القاسم المشترك العميق الذي يجمع بين الإبراهيميين؟

يبدو أنّ أصل كلّ مقالات الإبراهيميين حول أنفسهم هو طريقة سامية في معالجة مشكلة الموت. ولذلك قد لا يكون أخطر اختراع روحي نجح فيه الإبراهيميون هو الله بل العدم. لا يمكن خلق العالم إلاّ في أفق حضارة طوّرت مفهوما مناسبا عن العدم. ومن سفر التكوين إلى القرآن، مرورا بكتابات آباء المسيحية الأوائل، ثمّة خيط أنطولوجي مشدود إلى فكرة العدم أخذ مفردات شتى. ومن هناك صارت سردية التوحيد ممكنة برمّتها؛ إلاّ أنّه لا يمكن إصلاح الانتماء إلى أمم الكتاب إلاّ بترتيب علاقة جديدة؛ أي صحّية ومناسبة، مع تجربة الموت. ولا يمكن إصلاح معنى الموت إلاّ في نطاق تفكير روحي استطاع إعادة النظر في فكرة العدم. بعد ذلك، فقط تصبح فكرة الله مستساغة في أفق البشر، أي مفيدة أخلاقيّاً بالنسبة إلى نوع البشر الذين هم نحن. وعليه، يمكن التمييز بين الحضارات بحسب ما تتوافر عليه من اختراعات روحية حول تجربة الموت، باعتبارها بؤرة المعنى الخلفية في كل ثقافة.

يختلف الموت في أفق فكرة الفراغ البوذية عن الموت في فكرة اللاّوجود اليونانية وفي معنى العدم لدى الإبراهميين

لكنّ العدم يقال على وجوه شتى. مثلا: إنّ الحضارات البوذية (الهند والصين واليابان) لم تعرف مفهوم العدم، بل عرفت شيئا يسمّونه "السونياتا" (Śūnyatā) أي "الخواء" أو "الفراغ": فراغ الوجود من ذاته[9]. كما أنّ الفلاسفة اليونان لم يعرفوا مفهوم العدم، بل شيئا يسمّونه "اللاموجود" (mê eon) (أنّ الكائن هو غير بالضرورة، وأنّ الغير نوع من اللاوجود كما في سفسطائي أفلاطون)[10]. وهكذا علينا أن نسأل: كيف وصل الإبراهيميون (أي اليهود والمسيحيون والمسلمون) إلى بلورة مفهوم "العدم" بوصفه المساهمة الميتافيزيقية العليا الخاصة بهم في إطار النزاع الروحي مع مسألة الموت؟ وهو مقام تأويلي يبدو أنّ مفهوم هيدغر عن "الكينونة نحو الموت"[11] هو الهالة العليا لأفق الفهم الذي يفترضه، وهو غير ممكن التصوّر في ثقافة غير إبراهيمية.

لا نموت بنفس الدلالة في كل ثقافة؛ الموت الذي يتم في أفق فكرة "الفراغ" البوذية (أنّ العالم فراغ) هو يختلف لا محالة عن الموت في نطاق فكرة "اللاوجود" اليونانية (أنّ أصل الأشياء "الكاووس" أو الفوضى)، كما أنّه يختلف بلا ريب عن الموت في أفق معنى "العدم" لدى الإبراهيميين (أنّ الله خلق العالم من عدم). لنقل مؤقتا: "إنّ العدميين" لا يمكن أن يظهروا إلاّ في نطاق حضارة قامت أسسها الروحية العميقة على فكرة "الخلق من عدم". ومن هنا يمكننا أن نبدأ في التمييز بين العدميين الإبراهيميين وبين "الفراغيين" البوذيين و"اللا-وجوديين" الوثنيين اليونان. إنّ مجتمعات الهند أو الصين أو اليابان يمكن بلا ريب أن تعاني من النمط البشري "الفراغي"، لكنّها لن تعرف أبدا نمط البشر العدمي كما يمكن أن يظهر في فلك مجتمعات الكتاب. إنّ المؤمن الإبراهيمي مثله مثل الملحد الإبراهيمي (أي الذي يظهر في مجتمعات الكتاب) هو كائن "عدمي" وهو يختلف لا محالة عن المؤمن /الملحد البوذي الذي هو كائن "فراغي" كما أيضا عن المؤمن/الملحد اليوناني الذي هو كائن "لا-وجودي".

لكنّ بيت الداء هو هذا: كيف نصلح تجربة الموت في أفق ثقافة إبراهيمية؟- نقول: بإصلاح فكرة العدم. ولكن كيف نصلح فكرة العدم؟ - بأن نؤرّخ لها جيّدا بقصد مراجعتها. بلا ريب، لا يمكن أن نواصل الإجابة عن هكذا إشكال بوسائل سردية مغلقة على الكتب المقدّسة. ذلك أنّ الواقعة الكبرى هي أنّ الإنسانية في عصر التكنولوجيا الفائقة قد غيّرت شطرا واسعا من سرديتها العميقة. ومن ثمّ غيّرت جزءا حاسما من معنى الموت التقليدي. لقد تمّت كتابة تاريخ جديد، أي غير ديني، للعالم، بل للكون غير المتناهي بشكل يتخطّى كل تصوّرات الشعوب التقليدية عن "العالم" مادام "الكون" مفهوما غير تقليدي تماما.

إنّ "الآلهة" هي تقنية خلود خاصة بجيل من الناس ظهر في حقبة معيّنة من تاريخ الحيوان البشري

لقد عرفت الإنسانية (نعني فكرة الهوية التي بلورها النوع الإنساني حول نفسه منذ آلاف السنين) أطوارا سردية متمايزة بشكل هووي لكنّها تدور كلّها حول رهان واحد: إنّه رغبة الخلود، نعني ترتيب سردية للانتصار الرمزي على الموت. الخلود هو الإجابة التقليدية التي اخترعتها الإنسانيات المتعاقبة على مشكلة الموت. ويمكن الافتراض بأنّ الخلود هو أفق المعنى الأساسي الذي حرّك كلّ تجارب الموت في أفق النوع الإنساني إلى حدّ الآن. لكنّ الإجابة عن مشكلة الخلود/ مشكلة الموت لا تتمّ بنفس الطريقة في كل حقبة. وبإمكان "المؤرّخ" (أي "الأنا" العالِم في كل حقبة) أن يلاحظ تطوّرا في تقنيات الخلود التي يضطرّ الحيوان البشري أن يخترعها في كل مرة. يتطلب الخلود في كل مرة تقنية تعبير عن العلاقة مع الأبديّة كما تتجلى في أفق نوع من البشر. والأبدية اسم لكلّ أنواع التعالي التي يمكن أن يكتشفها الأنا الروحي لشعب من الشعوب في كل مرة. مثلا: إنّ "الآلهة" هي تقنية خلود خاصة بنوع أو جيل من الناس ظهر في حقبة معيّنة من تاريخ الحيوان البشري. من "يهوه" إلى "الله" مرورا بكل مفردات الألوهية التي تمّ تطويرها في سرديات الإبراهيميين، تمّ تنصيب جهاز التعالي الذي احتاجته تلك الإنسانية (إنسانية الكتاب والكتابيين) التي ننتمي إليها إلى حدّ الآن. لنقل: إنّ جهاز التعالي هو جهاز ترجمة فقط. هو جهاز ترجمة العلاقة مع الأبدية، والتي تدور عليها كل تجارب الخلود وكل تجارب الموت الخاص، تلك التي كانت بمثابة الخلفية الرمزية العميقة لظهور فكرة العدم في أفق الإبراهيميين في وقت معلوم ووفق نموّ روحي معيّن بات علينا أن نؤرّخ له وليس أن ندافع عنه ضدّ "الكفار" كأنّنا متكلّمون جدد.

إنّ المفهوم الجامع الذي يختفي وراء كل هذه المسائل والصعوبات هو الاستخلاف. لا معنى لمفردات مثل "الشخص" و"النفس" و"الروح" و"المكلّف"، إلخ...في ثقافتنا إلاّ بالنسبة إلى "الآدميين"، أي إلى رهط بشري "يؤمن" بالإله الشخصي، "الخالق" أي الإله الإبراهيمي، نشأ تاريخيّا في نطاق الشعوب السامية، وأدّى إلى بلورة سيرة محدّدة جدّا لنمط السلطة على البشر، ليست فكرة "الخلافة" غير تعبير من جملة تعبيرات أخرى عرفها الإبراهيميون من التوراة إلى القرآن. ويبدو أنّ فرضيّة التفكير هنا هي: لا يمكن إصلاح نمط السلطة على "البشر" الذين تمّ تصنيفهم بوصفهم "آدميين" وتحوّل هذا التصنيف إلى هويّة أخلاقية لهم طيلة آلاف السنين، - إلاّ بإصلاح تصوّرتهم لتجربة الموت، وهو أمر لا يمكن النظر في نواته الروحية إلاّ بمراجعة أطروحة "الخلق من عدم"[12] التي لئن أخذت أمدا طويلا حتى تتكوّن، فإنّها تحوّلت بنجاعة مرعبة إلى تبرير ميتافيزيقي أخير لعلاقتنا بأنفسنا ولرؤية العالم التي ننتمي إليها.

1) العدم الإبراهيمي والفراغ البوذي

ما يميّز الإبراهيميين حقّا هو مفهوم العدم. والعدم يختلف عن "الفراغ" البوذي بشكل مثير. ويبدو أنّ كلّ تعاليم البوذية عن الفراغ، إنّما تدور حول ما يسمّونه "السونياتا" أو "السوناتا"، وهي مسألة تجادل فيها البوذيون-بما فيهم بوذا نفسه- طيلة أكثر من ألفي عام.[13] السونياتا ضرب من الوعي بالفراغ. والسؤال هو: "هل يمكننا أن نسكن في المكان الفارغ من نفسه؟" لكنّ المحذور الأكبر هو هذا: "لا يمكنك القبض على فراغ الزان من خارج، ينبغي عليك أن تجرّبه"[14].

الفراغ بوصفه خاصية ما "لا ذات له" (no-self)، بلا هوية ولا ماهية ولا مستقبل، لأنّه خال من أيّ طبيعة خاصة. ولذلك هو يقال على أنحاء شتى: يمكن أن يكون حالة تأمّل أو سمة للأشياء أو نوعا من الوعي. لكنّ المعنى العام هو تحرير النفس بواسطة الفراغ. لا نتحرّر إلاّ بقدر ما نفرغ العالم من أيّ وجود خاص. أن ننظر إليه بوصفه شيئا "غير قابل للموضعة" (unobjectifiability).[15]

ومعنى الفراغ مبثوث مثلا في كل نواحي الحياة اليومية اليابانية: في المعمار حيث تكون الأبواب والجدران متحركة لإنتاج "الفضاء"؛ وفي الرسم حيث تكمن قوة الرسم الياباني في جذب الفراغ والقبض عليه كما هو، وتركه مرتجلا وغير مكتمل: ترك شيء يمكن للمتفرج أن يكمله. وفي الزان والتاوية ينكشف الجمال عندما ينجح المتفرج في إكمال ما تُرك غير مكتمل. وجاء في مذهب الدفاع عن النفس: "في هذه الرياضة، على المرء أن يعمل على جذب قوة الخصم وامتصاصها بواسطة عدم المقاومة؛ أي بواسطة الفراغ، وذلك مع المحافظة على قوته الخاصة من أجل القتال النهائي". وثقافة "الزان" هي تمارين في البحث عن الفراغ واستعماله بشكل مناسب من أجل إنتاج السكينة.

وعلى خلاف ثقافة "الغرب" التي تقوم على قيمة "الامتلاء" و"الممتلئ"، كتقنية تملّك رسميّة، حيث إنّ الفارغ ليس له سمعة طيبة، ومن هنا تمّ تكريس مبدأ يجري من اليونان إلى ديكارت يقضي بأنّ "الطبيعة تخشى الفراغ"، - يعتقد الياباني أنّ ما لا يقوله المرء هو ملح النقاش. وفي تعاليم الزان أنّ التأمّل موضوعه هو الفراغ: إنتاج الفراغ الباطني. وحده الفراغ يهيّئ مكانا للقاء مع الآخر أكان شخصا أم عالما.

أطروحة الخلق من عدم ليست موجودة حرفيّا في سفر التكوين ولا في كل العهد القديم أو التوراة العبرانية

بيد أنّه إذا كان الفراغ البوذي فضاء فهو ليس فوضى (مثل اللاموجود اليوناني). الفراغ عنصر من النظام، مقبول ومحمود. وهو ليس ثابتا، بل هو ما يساعد الأشياء على الحركة. ولذلك، فإنّ الحرب هي محاصرة الفراغ والسيطرة عليه. الفراغ هنا مصدر معنى. والبوذي ناغارجونا (150-250) الذي أحدث في الهند مبدأ الفراغ قال إنّ الأشياء "لا هي موجودة ولا هي غير موجودة"، بل إنّ الفراغ هو الطبيعية الحقيقة للحياة. والتأمّل الروحي ليس له مضمون، بل هو فهم الفراغ في وجودنا. السونياتا تعني خلاء الموجودات والأشياء من ذات أو ماهية سابقة أو لاحقة لها. والقصد هو أنّه لا شيء يمتلك سلفا وجودا خاصا به. فقط هو يوجد في علاقته بشيء آخر؛ هو فراغ في معنى أنّه خال من الوجود الخاص أو الذاتي أو الجوهري: الأشياء لا ذات/ ماهية لها.

لكنّ السونياتا ليست عدما. ومن ثمّ، فإنّ البوذية ليست عدميّة كما ظنّ نيتشه الذي نبّه في تصدير جنيالوجيا الأخلاق إلى خطر أن تنقلب الثقافة الأوروبية إلى "بوذية جديدة... بوذية أوروبية، أي إلى عدميّة". لكنّ البوذية الآسيوية هي مذهب شرقي في الفراغ، وهو "غير غربي" تماماـ نعني ليس يونانياّ ولا إبراهيميّا. إنّ الراهب البوذي ليس فيلسوفا (ليس له قول في غيريّة اللاوجود)؛ وهو ليس نبيّا (ليس له كتاب مقدّس في الخلق من العدم)؛ بل هو حكيم الفراغ.

والفراغ البوذي ليس مجرّد "تعالق" بين الأشياء كما يفهم العقل الغربي؛ بل هو حدس لمستوى من الحياة علينا اختراعه. جاء في بعض نصوص البوذية: "الفراغ هو شكل والشكل هو الفراغ"[16]. وبهذا المعنى، فإنّ العالم برمّته ضرب من الفراغ. إنّ الفراغ البوذي معناه غياب الاتصال الواقعي الثنائي بين كيانين منفصلين هما "الإنسان" و"العالم"، بين "الشخص" و"الشيء". فإنّ الإنسان البوذي مثله مثل العالم ليس له وجود "في ذاته". وتعلّم البوذية أنّ الأشياء من حبة الرمل إلى جملة الكون هي فارغة. والفراغ فيها له معنى محدّد: هي فارغة من "نفسها" أي من وجود خاص بها، ثابت وباطني ومستقل برأسه. إنّ الفراغ البوذي هو فراغ من الذات، من ادّعاءات السيطرة على أيّ شيء. والأشياء لا وجود لها إلاّ اسماً فقط. فالفراغ يكتنفها من الداخل (من جهة الذات) ومن الخارج (من جهة الموضوع). والفراغ نفسه ليس موضوعا لذاته، بل هو يوجد بشكل فقاقيعي؛ والفراغ حجاب (المايا) لكنه لا يحجب شيئا. ولذلك، فالحرية القصوى (النيرفانا) ممكنة لأنّ الوجود فارغ واللاوجود فارغ- ونحن لسنا مختلفين عن المطلق. وخواطر النفس مثل العصافير: تعبر سماء روحك ولا تترك أثرا.

2) سرديّة العدم الإبراهيمي 1: "توهو وبوهو" التوراتي

نقرأ في مفتح سفر التكوين: "في البدء خلق الله السماوات والأرض، وإذْ كانت الأرض مشوّشة ومقفرة (توهو وبوهو)" (1: 1-2) أو في ترجمة أخرى: "فِي البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالأرْضَ. كانَتِ الأرْضُ قاحِلَةً وَفارِغَةً".

إنّ العبارة التي تهمّنا هنا هي "مشوّشة ومقفرة" أو "قاحلة وفارغة": فهي مدار نزاعات تأويلية خطيرة. ونكتة النزاع تنصرف حسب الترجمة المقترحة من العبرية إلى لغة أخرى، وأوّلها بلا ريب هي اليونانية، ذلك أنّ ترجمة العهد القديم من العبرية إلى اليونانية (وهو ما سمّي الترجمة السبعينية) حوالي 270 قبل الميلاد بطلب من بطليموس الثاني (توفي سنة 246 ق.م.) الذي هو ملك فرعوني حاول التوفيق بين الحضارة اليونانية والحضارة المصرية، - إنّما كانت بمثابة حدث ميتافيزيقي وسياسي من الطراز الكبير، ليس فقط على صعيد روحي، بل على مستوى التحوّل الجذري للتقليد الإبراهيمي لاحقا، نعني بالنسبة إلى تشكّل فكرة الإنسانية "الغربية" بعامة.

إنّ اللفظة العبرية في المقطع المشار إليه هي "توهو وبوهو" (Tohou-va-Bohou). "tohu" (תֹ֙הוּ֙) أي بلا شكل؛ و"bohu" (וָבֹ֔הוּ)أي خالية، فارغة، وهي عبارة مركّبة من لفظين مشتقّين من جذرين غير قياسيين، وتنطوي على معاني انعدام الشكل والشواش والفراغ والخلاء وعدم التمايز.

وقد تمّت ترجمتها إلى اليونانية في معنى "غير مرئية، غير مشكّلة وغير منظّمة، غير معدّة" (aoratos kai akataskeuastos)، وهو ما أخذت به الترجمات اللاتينية (inanis et vacua) التي أخذت تظهر ما بين القرنين الثاني والرابع بعد الميلاد، والتي تمّت أوّل الأمر عن الترجمة اليونانية. وكان ذلك قرارا تأويليا يقع تحت تأثير الفلسفة وخاصة الأفلاطونية التي تذهب إلى أنّ العالم كان في البداية غير منظّم ثمّ تمّ تنظيمه وإدخال التناغم والجمال عليه.

والمتصفّح لاستعمالات هذه العبارة في العهد القديم يكتشف أنّها تقال على معان عدّة ولكن متقاربة: مقفرة، فارغة، موحشة، خربة، قاحلة، صحراء، غير متشكّلة، غير مهيّأة، فوضى، ...

نقرأ في سفر التثنية: "وجدهم في أرض قفر وفي خلاء موحش" (32: 10)؛ وفي سفر صموئيل الأول: "ولا تحيدوا، لأنّ ذلك هو اتّباع الفراغ، وهو لا يفيد ولا ينقذ، ذلك أنّ الأصنام هي فراغ" (12: 21)؛ وفي سفر أيوب: "فتحيد القوافل عن طريقها، وتوغل في الصحراء/ التيه فتهلك" (6: 18)؛ وفي سفر المزامير: "يصبّ الله الهوان على الرؤساء، ويضلّهم في فوضى /أرض تيه ليس فيها طريق" (107: 40)؛ وسفر إرميا (المكتوب أصلا بالآرامية): "ونظرت إلى الأرض: كانت فوضى/ كاووس/ خربة خاوية" (4: 23)...

والسؤال عندئذ هو: ما معنى "خلق" ("برأ" في العبرية) عندئذ؟ أين أطروحة "الخلق من عدم" في العهد القديم؟[17] إلى أيّ مدى يمكن فهم "توهو وبوهو" على أنّه يعني "العدم"؟

علينا الإقرار بأنّ أطروحة الخلق من عدم ليست موجودة حرفيّا في سفر التكوين ولا في أيّ موضع آخر من العهد القديم أو التوراة العبرانية. لكن من الممكن أن نراها ضمنيّة في روح الكتاب وخاصة في دلالة فعل "برأ" في العبرية أي معنى "الخلق" القرآني. وخاصة غياب الإشارة إلى أيّ نوع من "المادة" بل "كلمة" الله هي التي تخلق.

لكنّ ما ينبغي تسجيله هو أنّ فهماً جديدا قد أخذ يتشكّل لمعنى الخلق في سفر التكوين: إنّه فهم فلسفي يتأوّل "توهو وبوهو" العبري في معنى "الكاووس" اليوناني. وبدأ القارئ "الغربي" يُدخل نبرة جديدة غير عبريّة بل يونانية على النص: أنّ "الخلق" هو خلق انطلاقا من "فوضى" سابقة. وهو معنى ترجمة "برأ" العبرية بلفظة "epoiēsen" اليونانية أي "صنع". وذلك في نطاق تقليد يوناني يعود إلى هزيود (القرن الثامن ق. م.): الذي يتحدّث عن "كاووس" الإله السابق على كل العوالم وكل الآلهة. ولكن علينا التنبيه للتوّ بأنّ تأويل "توهو وبوهو" العبري على أنّه يعني "كاووس" اليوناني هو مقترح غير مناسب لأنّه يفقد المفردة العبرية روحها (أي أنّ كلمة الله هي التي "تخلق" العالم من عدم) ويقتصر على حرفيّتها ويقرأها بشكل وثني مثل نص بابلي أو يوناني (أنّ الله "كوّن" الأشياء انطلاقا من تنظيم "الفوضى" السابقة). وكان فولتير في ترجمته للكتاب المقدّس هو أوّل من أعاد اللفظة العبرية "توهو وبوهو" إلى الترجمات الغربية الحديثة عام 1764، وهو نوع من التنبيه إلى أنّه لا توجد لفظة "غربية" (أي من جذر يوناني أو لاتيني) مناسبة للإيفاء بالمفردة العبرية، والأغلب أنّها تدور كلّها في مساحة المعنى التي ضبطتها الترجمة السبعينية؛ أي الترجمة اليونانية: معنى أنّ الأرض (كما هو متكرر في الترجمات الإنجليزية المختلفة) كانت "بلا شكل وفارغة" (formless and empty)، مع معان مصرّفة في هذا المنحى مثل "خشنة"، "مقفرة"، "خالية"، غير متشكّلة...

بكلمة جامعة: إنّ "توهو وبوهو" العبري هو إشارة نحو أطروحة الخلق من عدم، لكنّها إشارة لا تعبّر عنها صراحة؛ فهي تعبير لا يزال يعوّل على معجم وثني للإشارة إلى معنى غير وثني. لكنّ الترجمة السبعينية قد أدخلت نبرة جديدة سرّعت الطريق إلى تلك الأطروحة. وذلك عندما ضخّت معنى "اللاوجود" (mê eon) في لغة العهد القديم حين صار يُقرأ باللغة اليونانية. وصار الخلق لا يعني كلمة "كن فيكون" بل صنع الأشياء "انطلاقا من اللاموجود". إنّ النصّ الإبراهيمي قد تمّ ضخّه في اللغة الغربية الكبرى أي اليونانية، بوصفه قابلا للفهم في معجم الوثنيين: عندئذ تمّ ترجمة الــ"توهو وبوهو" العبراني في "مي أون" اليوناني، وانتقلنا من سيرة "إلوهيم" الخالق بواسطة كلمة "كن" إلى تدبير "زوس" الصانع الذي ينظّم "الكاووس".

علينا أن نلمس التقدّم الضئيل ولكن المتين من معنى "توهو وبوهو" العبري (الوصف الوثني للخلاء أو للصحراء) إلى "اللاموجود" اليوناني (الذي ينجح في جوهرة "النفي" وتحويله إلى مقام أنطولوجي كما نرى ذلك من قصيدة بارمنيدس إلى محاورة السفسطائي).

إلاّ أنّه ثمّة معطى لابد من التعرّض إليه في هذا الطور من البحث: أنّ فكرة "الخلق من عدم" لئن كانت غريبة عن أسفار العهد القديم المعترف بها في التوراة العبرانية؛ فهي قد وجدت طريقها إلى كتّاب أسفار العهد القديم في فترة متأخّرة من تاريخ اليهودية، ونعني بالتحديد في القرن الثاني قبل الميلاد، في سفر المكابيين الثاني، (المكتوب على الأغلب حوالي 124 قبل الميلاد وباللغة اليونانية مباشرة، وهو سفر غير معترف به في التقاليد اليهودية)، حيث نقرأ قصّة أمّ مؤمنة ترى أبناءها السبعة تُسلخ جلود رؤوسهم وتُجدع أطرافهم أمام عيون إخوتهم، وهي تحثّهم على أن يموتوا بشجاعة:

"اُنْظُرْ، يَا وَلَدِي، إِلَى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِذَا رَأَيْتَ كُلَّ مَا فِيهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ صَنَعَ الْجَمِيعَ مِنَ الْعَدَمِ، وَكَذلِكَ وُجِدَ جِنْسُ الْبَشَرِ" (7: 28)

هذه الترجمة تحتوي على تأويل بعيد علينا أن نؤرّخ له: إنّ المفردة المستعملة في هذا السفر ليست "من العدم" كما نقرأ اليوم، بل "من اللاموجود" أو "ليس من الموجودات" (οὐκ ἐξ ὄντων) انطلاقا من الترجمة اليونانية، وهو ما أعطى في اللاتينية لاحقا عبارة "creatio ex nihilo" الشهيرة - "الخلق من عدم" في مقابل "الخلق من مادة" (creatio ex materia).

ومع ذلك، فإنّ الباحثين ينبّهون إلى أنّ أطروحة "الخلق من عدم" تبقى غريبة عن المعجم العبراني ولم تتشكّل إلاّ حوالي 200 بعد الميلاد. - فإنّ الأمّ المكابيّة لم تطرح "مفهوم" الخلق من عدم، بل إنّ كلامها ظلّ في حدود الخطاب الدعوي عن آداب الشهداء. إنّ المؤمن اليهودي هو الذي يكتب هنا باللغة اليونانية عن تجربة الاستشهاد الغريبة عن معجم المجد الوثني: يكتب ضدّ اليونان الذين يريدون فرض آلهتهم الوثنية على اليهود حتى يتركوا الإله الإبراهيمي. وكان أقصى وصية ترفعها الأمّ المكابيّة لأبنائها الشهداء هو التذكير بأنّ الله قد خلق كلّ شيء ممّا لا يمكن لليوناني أن يفهمه ولا لليونانية أن تقوله إلاّ تحت عبارة "اللاوجود".


يتبع

[1]- Cf. Gil Anidjar, ""Once More, Once More": Derrida, the Arab, the Jew", in: Jacques Derrida, Acts of Religion. Edited and with an Introduction by Gil Anidjar (New York and London: Routledge, 2002), p. 3, note 4.

[2]- Mark Silk, "The Abrahamic Religions as a Modern Concept", in: The Oxford Handbook of the Abrahamic Religions. Oxford: Oxford University Press, 2015, pp. 71 sqq.

[3]- Cf. Daniel Daw, A Dessertation on the Sinaitic and Abrahamic Covenants (Hartford: Printed by Peter B. Gleason and Co., 1811), pp. 7, 9, 14, 27,29-30, 47,

[4]- Louis Massignon, Les Trois prières d'Abraham, père de tous les croyants, Paris, Éditions du Seuil, 1949, p. 20-23.

[5]- Cf. Francis E. Peters, The Children of Abraham (Princeton: Princeton University Press, 1986); The Monotheists: Jews, Christians, and Muslims in Conflict and Cooperation (Princeton: Princeton University Press, 1994)

[6]- Jacques Derrida, Acts of Religion, op. cit, p. 7-11

[7]- Jacques Derrida, Jürgen Habermas. Le "Concept" du 11 septembre. Dialogues à New York (octobre-décembre 2001).

[8]- Jon D. Levenson, Inheriting Abraham. The Legacy of the Patriarch in Judaism, Christianity, and Islam. (Princeton University Press, 2012) Chap. 6, pp. 173-214

[9]- Melvin E. Miller, "Dwelling in the emptying place", in: D. Mathers, M. E. Miller and O. Ando, Self and No-Self. Continuing the dialogue between Buddhism and psychotherapy (London and New York: Routledge, 2009), p. 79 sqq.

[10]- Cf. Platon, Le Sophiste, 253-e-259-a.

[11]- قارن: مارتن هيدغر، الكينونة والزمان. ترجمة فتحي المسكيني (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2012)، الفقرات 46-60.

[12]- Cf. G. May, Creatio ex nihilo. The Doctrine of ‘Creation Out of Nothing’ in early Christian Thought. (1978) T&T Clarck Ltd, 1994.

[13]- Melvin E. Miller, "Dwelling in the emptying place", op. cit. p. 80: "Definitions of sunyata"

[14]- Ibid.

[15]- Ibid. p. 81

[16]- Ibid. p. 79

[17]- Cf. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing. Published by Baker Academic, 2005, pp. 29 sqq.