الإسلام الرقمي، مصدر تيه أخلاقي


فئة :  مقالات

الإسلام الرقمي، مصدر تيه أخلاقي

اليوم، أصبحت رقمنة الدين ضرورة بالنسبة إلى كل الأديان، حيث يشعر المنتمون إلى كل دين بكل تنوعاتهم واختلافاتهم أن غياب دينهم في الإنترنيت يفقده الحضور والمصداقية. وتصدق هذه المقولة بالخصوص على الأقليات الدينية وعلى الحركات الدينية المتطرفة وعلى المتحولين الدينيين. فقد تعاظم اليوم الشعور أنه لا وجود ولا هوية للدين خارج الإنترنيت ودونه. لكن لا تخلو رقمنة الدين من التأثير على الدين نفسه، لأن استعمالات النص الديني توظف أكثر فأكثر من قبل أصحابه وأعدائه على حد السواء من أجل أهداف غير دينية، وبالتالي ينعكس ذلك على الممارسات الدينية نفسها وعلى صورة الدين بوجه عام. بتعبير آخر، غيرت رقمنة الدين علاقة الإنسان بالدين، إذ أصبح الأنترنيت ضربا جديدا من العلاقة بالدين؛ بمعنى أنه تحول إلى نمط خاص لمعرفة الدين وإلى نمط خاص في ممارسة الدين. من ثم يميز علماء اجتماع الدين بين الدين في الرقمي (religion online) وبين الدين الرقمي (online religion). تحيل العبارة الأولى على مجمل المعلومات الحاضرة في الرقمي عن الدين بينما تحيل الثانية على التجارب والممارسات الدينية التي تتم بطريقة رقمية.

كيف تنطبق هذه المقاربة على الإسلام؟ كيف هو الإسلام في الرقمي وكيف هو الإسلام الرقمي؟ كيف أصبح الأنترنيت مصدر العلم الإسلامي لدى أغلبية المسلمين؟ كيف أصبح الأنترنيت يوجه ممارسات المسلمين الدينية؟ وكيف أثر على علاقتهم بالأخلاق وبالقيم؟

الإسلام في الرقمي

اليوم، أصبح الأنترنيت عالِما إسلاميا جديدا يعلم الناس الإسلام على الصعيد الدولي، وفي الوقت ذاته عالِما جديدا ينتج بالجملة علماء إسلام جدد. فالإسلام لم يعد علما يؤخذ فقط من الجامعات التقليدية والحديثة ومن المدارس الدينية والمساجد ومن العلماء والأئمة ومن الزوايا والطرق ومن الجوامع ومن الآباء، بل تراجع دور ك هؤلاء في تنقيله إلى الأجيال الناشئة وأصبح يؤخذ أكثر من الأنترنيت مباشرة. من خلال استغلاله للصورة والصوت بالخصوص، غدا الأنترنيت في متناول الأكثرية واستقطب كل مسلم سائل عن شيء ما في الإسلام، فتحول إلى عالِم مجيب مفتي في أمور الدين دون وساطة. فالعلاقة بين المسلم العادي البسيط، وبين الأنترنيت العالِم علاقة مباشرة لأن الأنترنيت فجر العلاقة التقليدية التي كانت تربط بين المتعلم، وبين المؤسسات والهياكل والانتماءات. وهي علاقة كانت منظمة ومراقبة لا تسمح لأي كان بالإفتاء أو بتمثيل الإسلام دون إجازة مؤسساتية. اليوم، وبسبب الأنترنيت و"فضله"، أصبح كل حاصل على حد قدر بسيط من العلم الإسلامي يعتقد أن له القدرة والحق في تمثيل الإسلام وفي الإفتاء وفي تصحيح الآخر وفي التكفير (وفي تنفيذ حد التكفير). لماذا يعتقد المسلم البسيط المتعلم البسيط أن له تلك القدرة وذلك الحق؟

إن عولمة الإسلام المبسط السهل المنال هو ما يوهم بكل سهولة المسلم العادي أنه عالم متمكن من الإسلام

الجواب بسيط أيضا. إن جل المواقع الإسلامية تعلم المسلم إسلاما مبسطا مختزلا في معرفة القيام بالطقوس العبادية (صلاة، صوم) وفي معرفة المحرمات (شرب الخمر والزنا بالأساس). إن الأنترنيت ينشر من الإسلام متنا بسيطا يلخص الإسلام في بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشدد على ما ينبغي القيام به من طرف المسلم، وهو الاختزال الذي يجعل هذا الإسلام إسلاما أصوليا يقف عند ظاهر بعض النصوص الدينية المنتقاة من أجل تبسيطه. وهو تبسيط متعمد لأنه يمكن الإسلام المبسط من الانتشار بسرعة ومن التغلغل بسرعة في صفوف أكثرية المسلمين الذين لا يتمتعون بالحصانة العلمية والفكرية، بل وبالحد الأدنى من التعليم. إن عولمة الإسلام المبسط السهل المنال (بفضل الأنترنيت) هو ما يوهم بكل سهولة المسلم العادي أنه عالم متمكن من الإسلام، وهو ما يحول الكثير من المسلمين العاديين إلى "علماء" إسلام جدد وإلى فقهاء جدد وإلى مفتين جدد، سمتهم الأساسية أن لا كفاءة علمية لهم، وأن ولا وعي لهم بمقاصد تبسيط الإسلام الاستراتيجية.

هدف التبسيط الأصولي للإسلام في الرقمي الرئيس هو القطيعة مع الثقافات الإسلامية المتعددة كما تتمظهر في المجتمعات الإسلامية المتنوعة، وهو إظهار التعدد الثقافي والاختلاف التاريخي في التعامل مع الإسلام كخيانة للإسلام وابتعاد عنه. فالتبسيط الأصولي للإسلام فعل يهدف إلى البرهنة على أن الإسلام الأصولي هو الإسلام الصحيح لوحده، وأنه الإسلام الشمولي الأوحد القابل، لأن يقبل من طرف كل مسلم في كل أنحاء العالم. وبالتالي، فهو الإسلام الواجب قبوله عقيدة وعبادة ومعاملة نظرا لبساطته البدائية. إنه إسلام لا يعطي أهمية للواقع الزمكاني الحاضر بكل تعدده وتعقيده.

الأمة الافتراضية

يقوم الإسلام الأصولي على ادعاء مفاده تراجع الإسلام أو انمحاءه من واقع المجتمعات المعاصرة. فالغرب يعرف انتشار المواقع الأصولية نظرا لهامشية الإسلام في المجتمع، وهو ما يخلق لدى المسلم الشعور بأنه يعيش في غربة دينية قاتلة، وبالتالي يجد في المواقع الإسلامية فضاء جماعيا يجعله يشعر بهويته الدينية رغم افتراضية ذلك الفضاء. وهو الشيء نفسه الذي يعاني منه المسلم الذي يعيش في مجتمع إسلامي لا تطبق فيه الدولة الإسلام تطبيقا حرفيا، ولا تعطي فيه الأولوية للإسلام في تحديد الهوية الفردية والجمعية. في كلتا الحالتين، يؤدي الشعور بغياب الإسلام في المعيش اليومي إلى الارتماء والاحتماء بالمواقع الأصولية الخالقة لأمة افتراضية تمنح الفرد شعورا بالانتماء وبعدم الاغتراب. وبتعبير أدق، يصبح الانتماء إلى الأمة الافتراضية أقوى من الانتماء إلى المجتمع الواقعي، وتصبح الأمة الافتراضية تعويضا عن غياب الأمة في الواقع. من البديهي أن هذه الأمة الافتراضية منسلخة عن كل الدول القائمة ولا توجد فوق أراض معينة. إنها وحدة ما فوق قطرية تعطي المسلم هوية ما فوق قطرية وشعورا بانتماء ما فوق قطري يحرره من كل التزام وطني قطري. أهم "مكسب" إذن هو تحويل المعتقد الإسلامي إلى وطن فوق الأوطان، إلى وطن محمول في العقل وفي القلب، دوما، بغض النظر عن الظرف الزمكاني.

الهوية الجهادية الرقمية

"هويتي هي ديني"، "أنا مسلم، إذن أنا موجود"، تلك هي الخلاصات الوجدانية والوجودية التي يتوصل إليها المدمن على المواقع الأصولية. مدمن يمحي كل المكونات الأخرى لهويته من الوعي، ليحتفظ بالمكون الديني لوحده فيسقط في الأحادية الهوياتية؛ أي في ضرب من العمى الهوياتي. إن تسييد البعد الديني الأصولي في هوية المسلم المرقمن يؤدي حتما إلى الوقوع في التشدد مع الآخرين ومع السلطات القائمة، إذ يتحول ذلك المسلم إلى محاسب رقيب يومي ينهى عن المنكر كما لو أنه النموذج المثالي لمجرد أنه يصلي ويصوم ويطلق اللحية (وتضع الحجاب أو النقاب في حالة المرأة).

يتجلى الإسلام الرقمي في سلوكيات المسلم المرقمن الدينية نفسها؛ ذلك أن الفضاء الرقمي يسمح له بتجاوز حدود المكان والزمان والإكراهات المالية والمعوقات الفيزيقية والحسية. فالأنترنيت يمكن المسلم من أداء صلاة جماعة أو صلاة جمعة في مكة، وهو في بيته في المغرب أو في أندونيسيا، وهو ما يعني أن القيام بتلك الشعيرة لا يحتاج إلى مال وإلى سفر، بل ولا يتطلب الصحة الجيدة، لأن الشخص في وضعية إعاقة جسدية أو حسية بإمكانه أيضا المشاركة في صلاة تقام بعيدا عن مكان تواجده. إنها الأمة التي تستيقظ من حالة الكمون لتدخل حالة الفعل، الرقمي.

إن خلق مواقع إلكترونية إسلامية يشكل في حد ذاته جهادا، وجهادا إلكترونيا بالخصوص. ونحيل هنا على ما قاله القرضاوي سنة 1999، حيث اعتبر افتتاح موقع "إسلام أون لاين" في قطر "جهاد العصر" بامتياز. وقد أراد به "توصيل المعلومة الإسلامية الصحيحة وتعليم المسلمين الإسلام الصحيح المتوازن، الإسلام الوسط، الإسلام الإيجابي، الإسلامي البناء لا إسلام الخرافات ولا إسلام الأضرحة والموالد". إنه موقع يمدح الإسلام ويعتبره أحسن دين أخرج للناس، وبالتالي يعتبر الأديان الأخرى مخطئة وشكلا من أشكال الكفر والضلال.

ويشكل اختراق المواقع الأجنبية، والمقصود بها غير الإسلامية، نوعا آخر من الجهاد الإلكتروني، كما تتم الدعوة إلى الإسلام في مواقع الدردشة، حيث يتم إرسال بعض الآيات قرآنية كصواريخ تبشيرية ونشر أخبار اعتناق الإسلام من طرف متدينين أو ملحدين. ويكمن الجهاد الإلكتروني أيضا في تكفير الناس بالجملة والحكم عليهم بالزندقة عند الاختلاف في الرأي، وفي الهجوم على العلماء والفلاسفة وكل المتنورين.

يتوجب خلق الكثير من المواقع الإسلامية غير الأصولية، لأن محاربة الإسلام الإسلاموي الرقمي محاربة رقمية أيضا

وطبعا يبلغ الجهاد الإلكتروني أوجه عند استخدام الأنترنيت وسيلة للإيقاع بالشبان والشابات في التطرف العنيف. فالمواقع الأصولية الإسلاموية تخلق الحاجة إلى التطرف في نفسية الشباب المسلم من خلال إظهار مدى إهانة الغرب للإسلام، وبالتالي يسهل استقطاب الشباب من كلا الجنسين في التنظيمات الجهادية الإرهابية. إن الرهان الأكبر لتلك المواقع هو رفض قيم الحرية والمساواة من خلال رفض الديموقراطية، باعتبارها قيما غربية تهدم الإسلام. وهو رهان يعضد بفضل تعريف الإسلام كجهاد دفع وطلب، كعنف وكسيادة، بفضل الترهيب والإرهاب. وهذا ما يفسر النجاح الأكبر الذي حققته فيديوهات داعش المصورة للعنف في أقصى وأقسى أشكاله ضد "الكفار" من أجل تطبيق الشريعة في كل أرض الله.

عنف مزدوج، حماية من تيه أخلاقي

بالنسبة إلى المسلم المرقمن بسبب الإسلام الرقمي، تكمن الأخلاق الإسلامية في احترام مواقيت الصلاة وفي الصوم من جهة، وفي تطبيق آلي لظاهر بعض النصوص القرآنية وبعض الأحاديث النبوية المنتقاة. في هذا التشخيص الاختزالي للأخلاق، هناك فقدان للأخلاق الإسلامية من جهة ورفض للأخلاق المدنية من جهة أخرى. فالترقمن الإسلاموي الأصولي يرفض قيمتين إسلاميتين أصيلتين؛ هما قيمتا التسامح الأفقي والتسامي العمودي. بتعبير آخر، لا تقبل للآخر المختلف الديني ولا مفر من الجهاد ضده، ولا محاولة للارتقاء نحو الأفضل في الذات بفضل جهاد أكبر ضد الذات. وطبعا لا مكان لأخلاق مدنية حداثية من خلال تقبل قيمة المساواة بين المسلم وغير المسلم، وبين الرجل المسلم والمرأة المسلمة. هكذا يصبح المسلم المرقمن تائها أخلاقيا، فلا هو بمسلم كامل ولا هو بمواطن حقيقي. من أجل التعويض النفسي عن تيهه، يلجأ إلى العنف ضد اللامسلم وضد المرأة، وهما العدوان القاران البنيويان، دون أدنى شعور بإثم. فهو يقوم بمهمة جهادية وينفذ أمرا إلهيا لا يحتمل التأويل والنظر. إنه عنف مزدوج مُبَنْيِن لشخصية المسلم الرقمي، عنف يعطي معنى لحياته، وهو أيضا آلية دفاعية نفسية تقنع الذات التائهة (أخلاقيا) أنها ليس بتائهة..

خاتمة

لا شك أن هناك بعض المواقع الإلكترونية القليلة جدّا التي تحاول إنتاج إسلام مغاير ومسلم مغاير يقطعان مع المنظور الأصولي الإسلاموي الجهادي العنيف. لكنها مواقع مستصغرة ليس فقط لأنها قليلة، بل لأنها بالأساس لا تلبي حاجية المسلم المقهور في رد الاعتبار لذاته وللإسلام. بالنسبة إلى ذلك المسلم المقهور، لا بد من مصارعة الآخر بالعنف، فالعنف بالعنف. لذا، لا التفات من طرف أكثرية المسلمين لموقع مثل موقع "أمتي" (Ummati.me) الذي يحاول تهدئة الغضب الإسلامي. "قلوب بيضاء": انطلاقا من هذا الشعار، يقترح الموقع على الأكثرية المسلمة الصامتة أن تتحد ضد الإرهاب من خلال رسائل للمسلم (ة) مثل: "أعلم أطفالي أن الأرض تتغذى بالعَرَق لا بالدم، أنا هو المسلم، أنا هي المسلمة"، "أجاهد من أجل الحياة لا من أجل الموت، أنا هو المسلم، أنا هي المسلمة". سيرا على هذا المنوال، يمكن التفكير في قيم تسير في نفس الاتجاه من أجل تعريف جديد لمسلم جديد مثل: "أحترم دين الآخر، أنا هو المسلم، أنا هي المسلمة"، "أجاهد من أجل المساواة بين الرجل والمرأة في كافة الحقوق، أنا هو المسلم، أنا هي المسلمة"، "أجاهد من أجل الديموقراطية، الجنسية والجندرية أيضا، أنا هو المسلم، أنا هي المسلمة"...

يتوجب إذن خلق الكثير من المواقع الإسلامية غير الأصولية، لأن محاربة الإسلام الإسلاموي الرقمي محاربة رقمية أيضا. وفي الواقع، تبدأ تلك المحاربة بتربية رقمية تعلم الحذر من استهلاك المواقع الإسلاموية ومن الإدمان عليها. لكن الواقعية تقتضي أيضا الانتباه إلى أن محاربة الإسلام الرقمي الأصولي الإسلاموي لا يمكن أن تظل رقمية فقط، إن هي أرادت تحقيق بعض النتائج. فالرهان الأساسي يكمن في وقاية المسلم من الانزلاق في الإسلام الأصولي المتطرف العنيف من خلال سن وتنفيذ سياسات عمومية دولية وقطرية (لا تستثني الدول المهيمنة) تلبي معظم حاجياته الأساسية، المادية واللامادية، حتى يتحرر من البؤس المتعدد الأشكال ومن الشعور بالحرمان. دون ذلك، لن يتأهل المسلم المرقمن (بالخصوص) لا إلى التسامح الأفقي، ولا إلى التسامي العمودي، ولا إلى اعتناق مبادئ المساواة والحرية.