التأويل بين الموضوعية والذاتية في الفكرين الغربي والإسلامي (بين الإبستمولوجي والأيديولوجي)


فئة :  أبحاث محكمة

التأويل بين الموضوعية والذاتية في الفكرين الغربي والإسلامي (بين الإبستمولوجي والأيديولوجي)

التأويل بين الموضوعية والذاتية في الفكرين الغربي والإسلامي

(بين الإبستمولوجي والأيديولوجي)

حسب ميشيل فوكو ليست هناك حقيقة مجاوزة للأفق التاريخي، ولكل حقبة تاريخية أفق إبستيمي (معرفي) يحكمها ويشكل وعي أفرادها وإنتاجهم المعرفي والعيني. وجاءت الهرمينوطيقا كإحدى الأدوات التي طرحتها مرحلة استقلال العقل الإنساني عن الرؤية الدينية السائدة في العصور الوسطى، فكانت تمثل الخروج عن القراءة الوحيدة للنص الديني التي تطرحها الكنيسة آنذاك، عن طريق طرح منهج يتسم بالموضوعية وتحديد الأدوات التي تجنب سوء الفهم. ومن ثم تمثل الهرمينوطيقا في أحد جوانبها اعترافاً بعدم جواز الفهم النهائي والصحيح للنصوص الدينية، وخضوع القراءات للانحيازات الإنسانية الطبيعية والأفق الإبستيمي الذي يعيش فيه والاعتراف بالمحدودية الإنسانية للقراءات المقدمة، ونفي إمكانية وجود قراءة واحدة نهائية وصحيحة كلّياً.

وفي السياق العربي، جاء التأويل في بداية التنزيل للخطاب القرآني حاملاً مضمون البحث عن المقصد الإلهي من الخطاب القرآني من خلال سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن المعنى المقصود، ويزداد التأويل تشابكاً وإلحاحاً في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد موت النبي لم يعد هناك من يتلقى الوحي، والقادر على فهمه وتفسيره كالنبي صلى الله عليه وسلم، ومجيء الخطاب القرآني كمشرع وراسم للحياة الإسلامية وتمييزها عن غيرها، جعل لفهمه وتأويله أولوية كبرى عند المسلمين خاصة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واهتمام مجتمع شبه الجزيرة العربية حينها بامتداد وظيفة الإرشاد النبوي، مما أفضى إلى صراعات سياسية اتشحت بوشاح ديني جعلها تقدم مدارس تأويلية ذات منطلقات مختلفة، تزعم كل واحدة منها امتلاك الحقيقة النهائية للخطاب القرآني؛ فعلى الصعيد الكلامي كانت ثنائية المحكم والمتشابه هي المسيرة للعملية التأويلية، فكانت كل فرقة تضع الآيات المتوافقة مع وجهة نظرها في باب المحكم والآيات المعارضة لوجهة نظرها في باب المتشابه الخاضع للتأويل وفي حاجة للانصراف عن دلالته الصريحة/ الظاهرة إلى دلالته المضمرة. وعلى صعيد الفقه، فإن العملية التأويلية تمت عبر ثنائية الناسخ والمنسوخ، وطرحت كل مدرسة فقهية الآيات الموافقة لرؤيتها في باب الناسخ والمعارضة لرؤيتها في باب المنسوخ، وهذا ما سيتم توضيحه من خلال الفصل على النحو الآتي.

1-1- نشأة الهرمينوطيقا في الفكر الغربي

أتت لفظة الهرمينوطيقا Hermeneutics من الفعل اليوناني Hermeneuein، ويعني «يفسِّر»، ومن الاسم Hermeneia، ويعني «تفسير»[1]، ويرتبط لفظ «(hermenea)، من حيث الاشتقاق، باسم الإله هرمس (Hermes)، وسواء كان الاشتقاق ليس له أصلاً تاريخيا، أو كان له أي أصل تاريخي، فإن دلالته تكمن في تحديد المهمة التي يقوم بها 'الهرمانيوط' (hermeneut)، وتماهيها مع مهمة ذلك الإله؛ أي بوصفه رسولاً (angelos)، وخصوصا كونه رسولاً بين الآلهة والبشر»[2]، ففي المعتقد اليوناني لا يعد هرمس إلهاً ولا بشراً، بل روحاً ينقل رسالة الآلهة إلى البشر، كما ينقل أشياء معينة من البشر إلى الآلهة، وهذا ما يقصد بأن دلالة لفظ الهرمينوطيقا تتماهى مع وظيفة هذا الرسول angelos، حيث إنه بمنزلة وسيط بين العوالم[3]، وهذا ما يمكن أن يقال عن الهرمينوطيقا إنها القواعد المنهجية التي يمكن من خلالها صناعة مساحة مشتركة مع النص تمكن من وجود سبل إلى فهم ما به من معنى. وينسب اليونانيون اكتشاف اللغة والخط إلى الإله «هرمس»، وهما وسيلتا نقل الأفكار والمعاني إلى الآخرين؛ وعليه كانت مهمته الأساسية التفهيم، والتي تلعب فيها اللغة دور البطولة بطبيعة الحال[4]. ويشير غادامير Gadamer (1900-2002) إلى أن مهمة هرمس -كما تطرحها الثقافة الإغريقية- تشبه إلى حد كبير مهمة المؤول Heremeneus، كون التأويل الموضوعي يعد نقلاً وإيضاحاً لعبارات غريبة ومبهمة وغير معروفة لدى الثقافة المستقبلة، وجعلها ألفاظاً جليةً ومفهومةً للجميع[5].

والهرمينوطيقا Hermeneutics لا تعني التفسير، بل هي ما يمكن أن نطلق عليه قانون أو آلية التفسير أو منهج التفسير[6]، أو كما يراها نصر حامد أبو زيد «هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء أكان هذا النص تاريخياً، أم نصّاً دينياً. والأسئلة التي تحاول الإجابة عنها -من ثم- أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم أنها تركز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفسر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص»[7]. فالهرمينوطيقا في مرحلتها المنهجية خاصة منذ دلتاي يمكن عدّها ببساطة القواعد والإشارات العامة لتقنين وتنظيم عملية التفسير، وهي ما يمكن أن يطلق عليه منهج التفسير.

إن التفكير الإنساني لم يتطرق إلى وضع نظرية وقواعد للتفسير حتى القرن السابع عشر، وإذا كان للفظة الهرمينوطيقا Hermeneutics تداول في كتابات عديدة منذ أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى العصر الحديث، فإنها لم تطرح بمفهومها المعاصر وبدأ التفكير فيها بهذا الشكل (كنظرية للتفسير) وظهور دراسات منتظمة ومترابطة تحت فرع الهرمينوطيقا قبل القرن السابع عشر، ويذكر غادامير أن أول ظهور للفظة الهرمينوطيقا -كمنهج للتفسير- كان في عنوان كتاب (جون كونراد دانهاور Johann Conrad Dannhauer) عام 1654 (*)، وعدّت كلمة التأويل سمة هذه العصور، خاصة مع ظهور النزعة المنهجية في الفكر الإنساني وتشكل المفهوم الحديث للعلم والمنهج، وأصبح الوعي المنهجي مسألة لا تنفك عن المفهوم الحديث للهرمينوطيقا[8].

وعلى الرغم من أن شلايرماخر Friedrich Schleiermacher (1768-1834) يعد أبا الهرمينوطيقا الحديثة، حيث إنه جعلها فنّاً مستقلاً بذاته عن أي مجال من المجالات المعرفية الأخرى، وحرص على وضع معايير عامة ضرورية لعملية الفهم[9]، فإن هناك تجارب تسبقه في هذا الخصوص. فهذا كلادينيوس Chladenius ينادي بتأسيس مبحثٍ منفصلٍ للتأويل يتميز عن كلٍّ من فقه اللغة (الفيلولوجيا) ونقد النصوص، وكان السؤال الأساسي الذي يشغله هو: هل بالإمكان وضع قواعد أو أحكامٍ لعملية التأويل؟ وجوابه المبدئي الذي حاول بكل جهده أن يبسطه ويتوسع فيه هو كما يتوقع كل من آلَم بالروح المناهجية السائدة في عصر التنوير، قال: «نعم، فإذا ما اتبعنا مجموعةً من القواعد السديدة، فمن الممكن أن نصل إلى التفسير الصحيح والكامل»[10] كما يعد بعض الباحثين كرستيان فولف Christian von Wolff مساهماً بشكل كبير في العمل على استقلال الهرمينوطيقا وتطويرها، حتى عُدّ تاريخ الهرمينوطيقا في القرن التاسع عشر، إما رفضاً لمبادئ فولف أو تطويرها[11]. والواقع أن أغلب المشتغلين بالهرمينوطيقا يعدّون شلايرماخر واضع الأسس النظرية للهرمينوطيقا، فيصرح غادامير أن «المهمة التي يتطلع إليها شلايرماخر هي بالضبط فرز إجراء الفهم، فيحاول أن يجعله منهجاً مستقلاً قائماً بذاته»[12]. وقد كان فكر شلايرماخر وجهوده ينصبان على محاولة تنظيم عملية الفهم واستخلاص قواعدها وتحويل عملية الفهم إلى عملية منظمة؛ وذلك بتنظيم الملاحظات المتفرقة في وحدة مترابطة منهجياً؛ فالفهم في نظره تابع لقوانين وقواعد بإمكان الإنسان اكتشافها وصياغتها وبلورتها واتباعها، فمن الممكن أن يصطلح البشر على قواعد منهجية تنظم عملية الفهم تجعل منها عملية أقرب إلى الموضوعية من الذاتية. لهذا لم تتوقف جهوده عن اكتشاف القوانين وصياغتها، بل كان يرمي إلى أن يعمل على نشأة علم منهجي للفهم؛ بإمكانه أن يرشدنا إلى استخلاص المعنى من النص بالتأويل[13].

لقد وضع شلايرماخر الحدود الفاصلة بين العلم المنظم من الناحية المنهجية وتلك المجالات والعلوم التي يطبق فيها هذا المنهج. فقد وضع التمايز بين منهج وقواعد الفهم وعملية الفهم ذاتها، فلم تعد الهرمينوطيقا تعني التفسير، كما كانت في التاريخ المعرفي، بل أضحت تمثل الآلية التي تسير وفقها عملية استخلاص وفهم المعنى من النص؛ إذ لم يعد يُنظر إلى الهرمينوطيقا على أنها مجال تابع للاهوت أو الأدب، أو تفسيراً لكليهما، بل إنها أصبحت تمثل فن الفهم[14].

ولأن الحاجة هي المحرك للفكر الإنساني بصفة عامة؛ فلابد أن تكون الهرمينوطيقا جواباً أو صدى لحاجة ألحت على الفكر الإنساني، مما دفعته إلى العمل على إيجاد منهج يعمل على تقنين وتسيير عملية الفهم والتفسير. وقد ظهرت الحاجة إلى وجود منهج وقواعد للتفسير مع ظهور نزعة الاستقلال عن الكنيسة في عصر التنوير، ومحاولات الحد من سلطة رجال الكنيسة، وظهور نزعة التفكير العلمي التي عملت على تراجع التفكير الخرافي وتبدي السمة المنهجية التي عُرف بها هذا العصر. في هذا السياق، وجد العقل الإنساني (في هذه البقعة) نفسه أمام تحديات عديدة من أهمها؛ تقنين ومنهجة عملية التفسير، ومحاولة تحجيم العنصر الذاتي داخلها، لضمان عدم وقوع النص الديني تحت أهواء رجال الدين الذين نصبوا أنفسهم مالكين لحقيقة النص. ومثلت عملية التقنين هذه جزءاً كبيراً من آليات الحد من سلطتهم المتفشية داخل الاجتماع الإنساني في هذا العصر.

إن حديث كانط حول عجز الإنسان عن إدراك الأشياء في ذاتها، والكشف عن دور الذات في الحكم، حيث إنها تضفي ما بداخلها على الأشياء حتى تراها كما يتبدى لها[15]. وما قدمه كانط من نقد لملكات العقل، حوٌل الأنظار إلى إبستمولوجية المعارف الإنسانية، وواجه العديد من المفكرين قضية بناء المعرفة الإبستمولوجية (التي لا تحمل ميلاً أو تحيزاً)، وطُرحت تساؤلات عديدة عن المعرفة المناسبة لفهم النصوص، والمقصود بفهم النص[16] وظهرت محاولات تحديد وفهم علاقة المفسر بالنص، وهي كانت مهملة داخل الدراسات الإنسانية منذ أفلاطون حتى العصر الحديث، فكان للمؤلف وعلاقته بالنص دور البطولة في الدراسات الأدبية حتى العصر الحديث[17].

الهرمينوطيقا بوصفها فَن تجنب سوء الفهم

استثمر الفيلسوف ورجل اللاهوت المسيحي شلايرماخر جهوده للإجابة عن سؤال «ما المقصود بفهم النص؟» وأفضت محاولاته إلى القول بضرورة وجود علم ومنهج يدرس ويسيِّر عملية الفهم تبعاً لقواعد مرضية للعقل الإنساني، تعمل على تحجيم الدور الذاتي في فهم النص واتساع المساحة الموضوعية في عملية التأويل. وقد ركز شلايرماخر على قضية فهم النصوص، كون الإنسان يقع في أغلب محاولات الفهم - خاصة فهم النصوص- في سوء فهم. مما جعله يقدم مشروعه مرتكزاً على كيفية تجنب سوء الفهم، وعمل على وضع قواعد وقوانين تحكم عملية فهم النصوص. فلم ينظر «إلى عقبات الفهم وإخفاقاته على أنها عرضية، وإنما عناصر أساسية يجب تجنبها مقدما، لذلك يعرف التأويلية بأنها 'فن تجنب سوء الفهم'»[18] وتحاول هرمينوطيقا شلايرماخر تفادي سوء الفهم، وتضييق حدود العنصر الذاتي، وهي المعنية بحدِّ ورسمِ عملية الفهم وصياغة قوانينها.

وتشمل قوانين وقواعد المنهج المتبعة لتجنب سوء الفهم جانبين: أولهما الجانب الموضوعي في النص، وتمثله اللغة كقاسم مشترك ما بين المؤلف والمؤول، والجانب الآخر هو سيكولوجية المؤلف، لمحاولة إدراك كنه النص والوصول إلى حقيقته من خلال خلق قاعدة مشتركة بين المؤلف والمؤول. ولكي تأتي محاولة فهم النص بثمارها في جانبيها الموضوعي والذاتي، يرى شيلايرماخر «الحلَّ الإيجابي متمثلاً في مجموعة من القواعد النحوية والسيكولوجية للتأويل»[19] فتمثل القواعد النحوية التأويل اللغوي، فهي تعطي الحدود والبنية التي يعمل من خلالها الفكر وتؤطر العملية الفكرية، حيث إن اللغة هي الفكر في صورته المنطوقة. ولم يغفل شلايرماخر الدور السياقي في فهم النص؛ فالتأويل السيكولوجي يتجه صوب إدراك فردية المؤلف وعبقريته، ومن ثم يتطلب اندماجاً وفهماً وجدانياً مع المؤلف، وإعادة معايشة للمواقف الذهنية للمؤلف للوصول إلى الحقيقة الكامنة في النص[20]، بل إنه يقول بالتماهي مع المؤلف، والتماهي لا يعني التساوي بل الاندماج، ويصرح شلايرماخر بأن الهدف فهْم الكاتب أكثر مما فهم نفسه[21]. ولا يُفهم من هذا أنه يحاول دراسة الدوافع والبواعث السيكولوجية للمؤلف، بل هي بمنزلة عملية استحضار فكر المؤلف داخل المؤول للوصول إلى ما يقصده في النص.

وقد أصل شلايرماخر لعلم الهرمينوطيقا، كعلم ومنهج مستقل يعمل على دراسة النصوص كافة، وأخرج الهرمينوطيقا من السياق اللاهوتي، فلم تكن هناك هرمينوطيقا عامة، بل أفرع متباينة، كالهرمينوطيقا الفيلولوجية، واللاهوتية، والقانونية. وكانت الهرمينوطيقا الفيلولوجية عبارة عن مجموعة من القواعد والإرشادات المعدة لحوادث لاهوتية ولغوية بعينها، خالية من أي ترابط منهجي[22]. لهذا يعد شلايرماخر أول من وضع أولى لبنات البناء الهرمينوطيقي (فن الفهم). فنجد أنه «في عبارة افتتاحية لمحاضراته في الهرمينوطيقا يقول: 'الهرمينوطيقا بوصفها فن الفهم لا وجود لها كمبحثٍ عام، فليس هناك غير كثرةٍ من الأفرع الهرمينوطيقية المنفصلة'، وهو بذلك يعلنُ في جملة واحدة، عن هدفه الأساسي: تأسيس هرمينوطيقا عامة بوصفها فن الفهم»[23]. وبالرغم من أنه كان في جزءٍ منه لاهوتياً، فإنه عمل على وجود علم يدرس عملية فهم النص في ذاتها بعيداً عن ماهية النص (تشريعياً، دينياً، أدبياً). مما يجعله يؤكد أن فن التأويل واحد في ماهيته، ويسمح هذا بأن يطور كل مجال أدواته النظرية الملائمة لمشكلاته الخاصة[24].

وعملية الفهم عند شلايرماخر عملية دائرية، وهي عبارة عن جدل بين النص ككل ومكوناته؛ فلا يمكن فهم الجملة بمعزل عن السياق العام للنص، كما أن النص بمعناه الكلي يتوقف على الجملة، وكذا المفردة لا يمكن فهمها بمعزل عن الجملة، وتعتمد الجملة أيضا في بناء معناها على المفردة، فهي عبارة عن علاقة جدلية بين الجزء والكل، فكل منهما موضحة ومكملة للأخرى[25]، فهي بمنزلة عملية حوارية بين المؤول والنص، وشريطة الحوار وجود قاعدة مشتركة، فلا يمكن أن ينتج حوار بين فردين يتحدثان لغتين مختلفتين، لابد أن يتعلم أحدهما لغة الآخر ويستحضر معاجمها معانيها خلال الحوار، وعلى هذا يوجب حوار المؤول مع النص أن يستحضر لغته ومفرداته وسياقاته حتى يتمكن من الوصول إلى حقيقته[26]. فمن خلال قراءة جزء من النص يمكن للمؤول أن يكوِن تصوّراً كلّياً عن النص، وكلما تقدم في قراءة النص يفرض النص تصوراً آخر، ويتغير المعنى بطبيعة الحال، فالعملية التأويلية تعد عملية دائرية تنتقل من التصورات بين الكل والجزء.

الهرمينوطيقا بوصفها فهماً للحياة

بعد وفاة شلايرماخر تراجعت الهرمينوطيقا إلى طور الهرمينوطيقا الفيلولوجية، واللاهوتية والقانونية، ولم تستقر كمنهج لتنظيم عملية فهم النص كما أرادها شلايرماخر. وفي أواخر القرن التاسع عشر، عرف الفكر الإنساني نمطاً وشكلاً آخراً للهرمينوطيقا على يد الفيلسوف الألماني فيلهلم دلتاي Wilhelm Dilthey (1911-1833)، بوصفها ركيزة تقوم عليها العلوم الإنسانية[27]، ومنهجاً لفهم التاريخ كلياً، بل إنه يوسعها لتصبح منهجاً للعلوم الإنسانية[28]؛ فعلى حد قول عبد الرحمن بدوي: «سعى دلتاي إلى إيجاد ثورة 'كوبرنيكية' في علوم الروح (ما يسمى الآن العلوم الإنسانية)؛ وذلك بتأسيس علم تجريبي بالظواهر الروحية (= العقلية)»[29]، فخرج بها من حيز النصوص إلى تأويل التاريخ الإنساني ككل (من إيماءات، وعلامات، وأفعالٍ تاريخية، وصياغات قانونية، وأعمال فنية، وأدبية.....)[30]. وكما قال عادل مصطفى: «كان هدف «دلتاي Dilthey» تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات «صائبة موضوعياً» لــ'تعبيرات الحياة الداخلية'»[31].

وقد انطلقت هرمينوطيقا دلتاي من الخبرة الواقعية والعينية، لا من التأمل النظري؛ فالنص عند دلتاي لا يعبر بالضرورة عن ذات المبدع بقدر ما يعبر عن الظروف التاريخية والاجتماعية التي شكلت الواقع الذي تجسد في تجربة المبدع[32]؛ وعليه فعمليات فهم الإبداعات الفردية «ليست العمليات الباطنة في الشاعر، بل الرابطة التي أُبدعت في هذه العمليات، وإن كانت منفصلة عنها»[33]، فلم يكن الإنتاج المعرفي للإنسان سوى تجل للظروف والتفاعلات الاجتماعية، معبراً عن واقعه التاريخي. فتجربة الحياة عند دلتاي تظهر في أكثر أشكالها اكتمالاً ومثالية لدى الفن بوجه عام والأدب بوجه خاص. إن الفكر والفعل الإنساني لا يحملان الخصوصية ولا العمق اللذين يحملهما الفن تجاه تجربة الحياة، والفكر والفعل الإنساني تجليات لتجربة الحياة بطبيعة الحال، ولكنهما يفتقدان قوة وحيوية الفن[34]. وقد تجاوز دلتاي صيغة التعامل مع النص كغاية في ذاته يحاول فك طلاسمه وفهمه، إلى عًدّه معبراً عن الغير وعن الظروف الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية التي أنتجته، ومن هنا يعد النص ذاته علامة في هرمينوطيقا دلتاي[35].

إذا كانت العديد من النظريات ترى أن العلوم الإنسانية تقف عند حد تحليل الأطر الاجتماعية والعادات والتقاليد، ودور مؤسسات الدولة والأحداث التاريخية، فإن دلتاي يتجاوز هذا الأمر، فالهدف من العلوم اللاإنسانية لديه هو كيفية تشكل العالم بأفضل صورة من خلال أنشطتنا الإنتاجية بمختلف أنواعها[36]. وهدفها مرهون بمعرفة الإنسان ودوافعه، واحتياجاته، وفهم الحياة ومتطلباتها. ولا يمكن أن يكون الإنسان في حالة اغتراب تام عن الآخر؛ فالآخر يحاول تقديم نفسه من خلال العلامات (النصوص والإيماءات والأحداث، ....)، وتحاول الأنا الوصول إلى مراد هذه العلامات وفهمها[37]، وما من وسيلة لفهم أنفسنا وفهم الحياة أفضل من دراسة التاريخ، فمن خلال التاريخ يأتي فهمنا لأنفسنا وللحياة، وتتمثل إشكالية فهم الإنسان في محاولة استرداد وعيه التاريخي[38]، فالتاريخ يحمل الذات والموضوع في آن واحد بالنسبة إلى الإنسان؛ فهو من صنع يده، وهو أيضاً موضوع دراسته؛ فالمعرفة التاريخية يتحد فيها العنصر الخارجي والعنصر الباطني[39]. ويتجلى الفكر الإنساني في التاريخ، ويعدّ الأفراد ألسنة التاريخ والمعبرين عنه بالكلمة المكتوبة، وعلى الإنسان الالتزام بالعملية الإبستمولوجية تجاه التاريخ وبذل المحاولات الجاهدة التي تحول دون الانحراف الأيديولوجي في تفسير التاريخ، وعليه يتحتم وجود نظرية للتفسير تناشد المعرفة مستعينة بالنطق؛ محاولة قراءة الإنسان وتجلياته في التاريخ، والتي تعد عنصراً أساسياً -إن لم يكن رئيساً- في العلوم الإنسانية لدى فيلهلم دلتاي[40]. ومن ثم، فقد دَرَس العلوم الإنسانية مرتكزاً على تاريخية الوجود اللاإنساني: فالإنسان ينشأ داخل المجتمع والتاريخ، فهو كائن تاريخي مقيد بالزمان، يوجد في فترة زمنية محددة، ويتحدد وجوده من خلال التفاعلات الاجتماعية التي هي الأخرى تاريخية[41]. ويرى دلتاي أن عالم الإنسان من عمل الإنسان، فهو يتشكل من علاقات الأفراد ببعضهم؛ ومعنى هذا أن المعرفة مشروطة تاريخياً[42]، ونسبية بالنظر إلى فترة وسياق نشأتها.

ويُعرِّف الفهم على أنه «عملية إدراك الحقائق الروحية من وراء العلامات المستقبلة من قبل حواسنا»[43]، فالفهم هو: محاولة قراءة ما خلف العلامات لإدراك الحقائق المكنونة داخلها، وكما يقول بول ريكور: كان ينظر إلى التاريخ «كوثيقة الإنسان الكبيرة، كأهم تعبير عن الحياة»[44]؛ ومن ثم تعدّ رحلة فهم الإنسان لنفسه بمنزلة جولة هرمينوطيقة داخل التاريخ، وبناءً على هذا يتخذ دلتاي تأويل التاريخ أساساً فلسفياً لعلوم الروح (الدراسات الإنسانية). ويرفض دلتاي تبني وميل بعض النظريات لإقامة العلوم الروحية (الدراسات الإنسانية) على مناهج وطرائق تفكير العلوم الطبيعية[45]، وفقاً لاختلاف طبيعة كل منهما.

ومن هنا يمكن أن يقال عن هرمينوطيقا دلتاي إنها «نظرية لتفسير الحياة الداخلية»؛ أي نظرية لتفسير كل ما أتى به ويأتي به الإنسان. ويلتفت إلى الدور التاريخي في المعرفة الإنسانية، ويعمل على إعادة تسويغ العقل التاريخي[46]، ووضع كيفية ومنهج للمعرفة التاريخية وإثبات إمكانها، وعلى نطاق أوسع منهجة العلوم الروحية[47]. لذلك تعدّ الهرمينوطيقا (نظرية الفهم) الأساس المنهجي الذي تقوم عليه العلوم الإنسانية؛ فالفهم (Verstehen) عند دلتاي هو عملية شرح وتحليل كل ما يتلقاه الإنسان والربط بين أجزائه وتأويله[48]. وفق تعبير بول ريكور تعدّ هرمينوطيقا دلتاي «إدراك الكائن لتاريخه الكوني، كونية الكائن»[49].

ويعدّ دلتاي أول من قام بتعميم مفهوم الهرمينوطيقا على العلوم الإنسانية، وقد سعى كما قال: «ريمون أرون (*) Raymond Aron» إلى إقامة (فلسفة الإنسان ككائن تاريخي)[50]، فالفهم وفقا لما سبق سرده من تعريفات هو: محاولة إدراك وتفسير الحياة من خلال التاريخ، فالحياة عنده تتبدى وتظهر فيما ينتج الإنسان، والفهم ليس غاية في ذاته، بل إنه وسيلة لمحاولة ترتيب الحياة وتوظيفها على أفضل صورة ممكنة بالنسبة إلى العقل الإنساني. وتكون نظرية الفهم (الهرمينوطيقا) بمنزلة منهج تبنى عليه العلوم الروحية الخاصة بفهم الحياة، وتعدّ أساساً معرفياً ترتكز عليه العملية الإبستمولوجية.

الهرمينوطيقا كوجود

وإذا انتقلنا إلى الهرمينوطيقا عند هايدغر Martin Heidegger (1889-1976)، فإنها تتخذ معنى أكثر شمولية، فلم تعد تعمل على تفسير النصوص كما صاغها شلايرماخر، أو فهم الحياة من خلال التاريخ وما وراء النص كما تحدث عنها دلتاي. فهايدغر يقدم التأويل بوصفه ديناً فلسفياً، فالهرمينوطيقا عنده «كشفاً عن حقيقة أو معنى ظواهر الوجود الإنساني»[51] ومهمة الفيلسوف تتحدد لديه في إيضاح معنى الوجود من خلال الإشارة إلى الموجودات[52]. من هنا تعد مهمة التأويل واجباً على كل إنسانٍ واعٍ في العالم، لا سيما الفيلسوف بطبيعة الحال. فقد كان هايدغر يبحث عن طريقةٍ يمكن للمرء بها أن يكشف النقاب عن الوجود ذاته، لا عن مجرد أهوائه وتحيزاته وأيديولوجيته؛ فالوجود عنده لا يقبل البرهان، بل الإيضاح والكشف، والأشياء تظهر عنده من خلال عمليات الفهم والتأويل[53].

فحقيقة أو معنى الظواهر الإنسانية لا تكون واضحة ومعطاة لنا بصورة مباشرة، ومن ثم فهي بحاجة إلى تفسير (نشاط هرمينوطيقي) والحقيقة عند هايدغر «أليثيا» (aletheia)، وتعني حرفياً (اللاتحجب) أو كشف الحجاب[54]. من هنا تعد عملية التفسير تمثل السماح للحقيقة بأن تظهر أو تتكشف وتخرج من حالة التحجب[55]، فتصبح الهرمينوطيقا عند هايدغر بمثابة منهج لإحضار الموجود من تحجبه، عن طريق التفسير الذي يقوم على الوصف[56]. وافتقاد الإنسان الدائم إلى حقيقة الوجود المتحجبة، يجعله يسعى دوما نحو اكتمالها[57] من خلال معرفة الظواهر والأدوات من حوله، وتتم العملية المعرفية من خلال السماح للأشياء بأن تظهر وتتكشف.

هنا تنحو هرمينوطيقا هايدغر منحىً فينومينولوجياً، ويطلق عليها هايدغر الفينومينولوجيا التأويلية، ولا يفهم من هذا أنها أحد افروع فينومينولوجيا أستاذه «إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938)»، بل إنها أكثر من ذلك؛ فهايدغر يعود إلى الجذور اليونانية للفظ فينومينولوجيا Phainomenology ويرى أنه مكون من جزئيين Phainomeno وLogos، والجزء الأول من الكلمة يشير إلى الأشياء التي تظهر في الضوء أو المعرضة للضوء، والذي جعله اليونانيون مكافئاً لما هو كائن، فهو يعني تلك الأشياء العيانية التي يمكن للإنسان تعينها وتحددها من خلال الضوء في مكان وزمان محددين.

أما نصف الكلمة الآخر Logos، فيري هايدغر أنها تدل على الكلام، وليست على الفكر. إنها بمثابة إظهار وانكشاف للفكر من خلال ترجمته في صور كلامية منطوقة أو مكتوبة، بل إن الأشياء نفسها تظهر من خلال اللغة، فهي تعني «ترك الشيء يظهر»[58]، ويلخص عادل مصطفى معنى الفينومينولوجيا في فكر هايدغر بأنها تعني أن «نترك الأشياء تظهر على ما هي عليه دون أن نُقحم عليها مقولاتنا الخاصة»[59]، والفينومينولوجيا بهذا المعنى تعد فينيومينولوجيا هرمينوطيقية، فالفهم لم يعد قائماً على المقولات والوعي الإنسانيين، بل هو ظهور الشيء وانكشافه.

والإنسان عند هايدغر ليس موجوداً حرّاً حرية كاملة، بل إنه موجود متعين، مقيد بالحيز الأنطولوجي الذي وجد فيه، وعلى مدى هذا الوجود، يكون فهمه محدداً للوجود المكتمل[60]. فالفهم الإنساني يمثل القدرة على التعامل الحياتي من خلال ممكنات وجوده وحيزه، وقدرته على إدراك الوجود في سياق العالم الحياتي الذي وجد فيه الفرد؛ فالفهم ليس موهبة خاصة أو قدرة معينة على الشعور، بل إنه شعور متأصل مصاحب لكل إنسان[61]، فهو عبارة عن شكل من أشكال الوجود في العالم، وعليه يكون ممثلاً للوجود الإنساني من جانب إدراك الظواهر والموجودات[62]، فالفهم إذن الإنساني ليس فهماً ثابتاً لا يتغير، بل إنه مقيد تاريخياً بظروف تكوينه من خلال الخبرة في مواجهة الظواهر عبر التاريخ[63]. ويتكون المعنى لدى الفرد مما يلقاه من خبرات، ويصنع للإنسان مرجعية يكون قادراً من خلالها على فهم ما يلقاه مباشرة، باعتباره يحمل رسالة أو معنى ما. ويكون لهذا الفهم جذور تكوَن من خلالها، كحدث عمل على انكشاف شيء ووضوحه، ويمثل الحدث انفتاحاً معيناً على العالم حسب هايدغر[64]. فمن غير المقبول أن يوجد الفهم في الفراغ وإلا ماذا يفهم؟، فمن الضروري وجود حاجة ما للفهم في سياق تاريخي وجغرافي محدد؛ فالفهم عاجز عن الوجود من فراغ أو في ظل غياب أرض مشتركة ويستحيل تكوينه في غياب الخبرات السابقة، يقول هايدغر صراحة: «التأويل ليس على الإطلاق فهماً بلا فروضٍ مسبقة لشيءٍ ما معطى مقدما»[65]. فعلى حد قول الباحث المصري سعيد توفيق: «أن كل تفسير يحدث على أساس من فهم الوجود بطريقة سابقة..... -حتى التفسير العلمي- يكون مرتبطاً بالموقف المعين الذي يوجد فيه المفسر، فالمفسر محكوم على الأقل بالشرط الأنطولوجي لوجوده؛ أي محكوم بزمانيته»[66].

وإذا كانت الهرمينوطيقا قد أصبحت -في فكر هايدغر المتأخر- تمثل الوجود، فإن الكشف عن هذا الوجود في هذه المرحلة، كان من خلال معالجة ظواهر الفن، واللغة والشعر وتحليل النصوص[67]. والنص عند هايدغر يعتبر مشاركة في الحياة، فنلتقي به متسائلين، لا بانفتاح صامت، بل لقاء محدد بالزمان والمكان، ويرفض هايدغر اعتبار العمل الفني شيئاً معزولاً عن العالم -وإلا كان مناقضاً لنفسه- ولكن ماثل فيه، ويفصح عن نفسه من خلال العمل الفني، والعمل الفني مستقل له وجوده الخاص[68]. فقد اعتبر هايدغر العمل الفني ظاهرة معاشة[69].

والوجود الإنساني في مجمله وفقاً لفكر هايدغر هو سعي نحو الموت، فــــــــــــ«الدازاين» (*) أو الإنسان لا يكتمل وجوده إلا بالموت؛ فالموت هو الوجود المكتمل للإنسان[70]. ويعرف هايدجر الموت على أنه «بلوغ الموجود الذي لم ينته نهايته»[71]؛ فالموت عند هايدغر نهاية الهرمينوطيقا، والحياة الإنسانية بالنسبة إليه عبارة عن رحلة هرمينوطيقية، يسعي الإنسان من خلالها إلى فهم وجوده بفهمه لأجزاء العالم، فالعالم عنده عبارة عن أجزاء مترابطة ببعضها البعض[72]. العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الوجودية للإنسان[73]، فالفهم عبارة عن رحلة اكتشاف العالم، والعالم يعبر عن نفسه من خلال الفهم بتكَشفه للإنسان. وعلى جانب آخر، يرى هايدغر أن الإنسان هو الجسر الذي تعبر عليه الأشياء من التحجب إلى الانكشاف؛ فالحقيقة تتبدى وتظهر من خلال الأعمال الإنسانية، فيكون الإنسان هو حامل الرسالة، هو مالك مفتاح الوجود، والمفصح عنه، فكل كلام يقوله يعتبر تأويلاً للعالم، وكل فعل هو تأويل وتكشف للعالم[74].

لقد وضع هايدغر الهرمينوطيقا موضع الفلسفة، وجعلها أداة استقبال العالم/ الوجود بالنسبة إلى الإنسان، مما جعل هرمينوطيقا هايدغر تتسم بالطابع الأنطولوجي، فهي بمثابة رحلة الإنسان الوجودية[75] التي يحاول من خلالها بناء ذاته ومعرفتها، من خلال الخبرة التي تتكون من عملية تكشف الحقائق، ومحاولاته للتكيف مع الاختيارات والظروف الحياتية، من خلال الخبرة التي تكونت ولازالت قيد التكوين حتى الموت. وأيضاً يعد الإنسان أداة هرمينوطيقية يظهر من خلالها العالم، كما ذكرنا سلفاً. وهذا ما يدفع هايدغر للقول إن الوجود الإنساني وجود نحو الموت؛ فالإنسان كل يوم يحاول فهم وجوده وتتكشف الحقائق أمامه منتظراً تكشف حقيقة الموت.

الهرمينوطيقا الفلسفية (مجاوزة الاغتراب)

يتبع غادامير التصور الأنطولوجي عن الهرمينوطيقا برفضه أي نظرية ترى الهرمينوطيقا فناً أو منهجية[76]، ولكنه يجعل منها محاولة لفهم العلوم الإنسانية على ما هي عليه وإدراك العلاقة بين العلوم الإنسانية وبين تجربة الإنسان في العالم، فهو يعتبر عملية الفهم عملية مجاوزة للمنهج، لأن المنهج يقدم إجابات لتساؤلات وفروض معدة مسبقاً، ولكنه يتجاوز المنهج إلى دراسة عملية الفهم في ذاتها[77]. فيلتقي بأستاذه هايدغر بأنه لا يحصر الهرمينوطيقا في نطاق النص أو في العلوم الإنسانية، بل إنه يرمي بها إلى مطلق الفهم، وأنها معنية بدراسة الفهم فقط دون إقحام منهج فيه، يعمل على أدلجة العملية وتنميطها، ويرفض طرح موضوعية العلوم الإنسانية، فيرى أن «العلوم الإنسانية ترتبط بالرقة والدقة وفن الممارسة الذاتية أكثر منه بمناهج مطبقة وقواعد صارمة»[78] والذاتية التي يتحدث عنها غادامير تمكننا من القول إن الهرمينوطيقا الغاداميرية تسعى إلى بناء وعي نقدي بتناهي الإنسان ونسبيته.

نشأت هرمينوطيقا غادامير كأسلوب في التفكير متحرر من شتى النزعات المذهبية، يعترف بإنسانية الحقيقة؛ بمعنى أنها تظل حقيقة بالنسبة إلى قائلها مرهونة بالمحيط الاجتماعي والتاريخي والسياسي، وليست حقيقة في ذاتها. وعليه يرفض كل النزاعات الدوجماطيقية التي تدعي امتلاك الحقيقة الموضوعية. ومن ثم عدها العديد من الباحثين ترياقاً مضاداً للدوجماطيقية أكثر من كونها فلسفة، فهي تهدف في المقام الأول إلى تذويب المواقف المتصلبة والمتحجرة سريعة التجمد[79].

والهرمينوطيقا عند غادامير هي محاولة لاجتياز الاغتراب تجاه شيء ما، فهو يقول: «عندما ينعدم الانسجام، فإننا نتكلم عن إخفاق الفهم»[80]، فإن الحاجة إلى الفهم والتفسير تنشأ مع غموض الشيء وعدم وضوحه. ويتحدث القديس أوغسطين عن العهد القديم، بأن غياب المعنى المعقول يستدعي تأويلاً تاريخياً[81]، ويقول: «تعود كلمة الهرمينوطيقا كما نعلم إلى مهمة المؤول التي هي مهمة تأويل شيء غير مفهوم والتواصل معه؛ لأنه يكون بلغة أجنبية، حتى لو كانت لغة إشارات ورموز الآلهة.... ولمؤول ما هو مكتوب، مثل مؤول القول الإلهي أو الإنساني، مهمة التغلب على الغرابة وإزالتها وجعل تمثله ممكنا»[82]. فعندما يستعصي على الإنسان فهم ومعقولية شيء ما، تنشأ علاقة الاغتراب بين الفرد وهذا الشيء، ولا حيلة للفرد حينها إلا محاولة الفهم والتأويل، لنشأة علاقة الانسجام بينه وبين الشيء المعني بالتأويل.

ورأى غادامير أن العصر الذي يعيش فيه يتسم بالتعقيد والاغتراب اللذين يتمخض عنهما محاولات إنتاج الانسجام والألفة، ومن ثم يرى أن «المجال الهرمينوطيقي ذاته لا يمكن أن يبقى محدوداً في نطاق العلوم الهرمينوطيقية الخاصة بالفن والتاريخ، ولا حتى نطاق التعامل مع النصوص، ولا كذلك في مجال خبرة الفن ذاتها بالتبعية. فعمومية المشكلة الهرمينوطيقة -التي أدركها شلايرماخر من قبل- هي مسألة تتعلق بكل ما يكون قابلا للتعقل؛ أي بأي شيء وكل شيء يمكن للموجودات البشرية أن تسعى للوصول إلى اتفاق عليه، وحيثما يبدو أن الوصول إلى تفاهم أمر مستحيل، بسبب أننا نتحدث لغات مختلفة. إن ذلك يعني أن الهرمينوطيقا لم تنته من مهمتها بعد. وهنا تفرض المهمة الهرمينوطيقية ذاتها بكل جديتها؛ أعني بوصفها مهمة لإيجاد لغة مشتركة»[83]، فمهمة الهرمينوطيقا عند غادامير تفسير وتوضيح الشيء كما هو، وليس توضيح ما يشير إليه؛ لأنه في هذه الحالة يتجاوز الأمر نطاق قراءة شيء ما، إلى ما يشير إليه؛ أي إنها بمثابة ترجمة للشيء غير المفهوم إلى المفهوم[84]. ويحدد مهمة المؤول قائلاً: «فمهمتنا هي أن نفسر شيئاً ما حينما يكون معناه ليس مطروحاً بوضوح، أو حينما يكون ملتبساً»[85] وتتسم علاقة الفهم والتأويل بالتعقيد، وتزداد صعوبة وتعقيداً، كلما اتسعت الفجوة بين المؤول والشيء المعنى بالتأويل، وتقلصت المساحة المشتركة بينهما، وتتقلص المساحة المشتركة بينهما كلما تباعدت المسافة التاريخية، حيث تختلف الظروف التاريخية للشيء المعنى بالتأويل والمؤول، واللقاء بينهما أصبح هشّاً ومتصدعاً[86].

ودائرة الفهم عند غادامير تختلف عنها عند كل من شلايرماخر، ودلتاي، بوصفها علاقة صورية بين الكل وأجزائه، ولكنه يصرح في كتابه فلسفة التأويل قائلاً: «فإننا نصف حلقة التأويل كعلاقة جدلية بين 'تكهن' دلالة الكل وتفسيره اللاحق من قبل اللاحق»[87]؛ فالفرد هو ابن الظروف الاجتماعية والسياسية المعاصرة له التي تكون فكره على كل حال، من هنا ينطلق الفرد بفهم مسبق، لتأويل وفهم النص أو الشيء، ويكون لديه تصور (تكهن) عن الشيء المنوط بالفهم، وكلما تعمق فيه وازدادت علاقة الألفة بينه وبين هذا الشيء، وتقلصت علاقة الاغتراب واتسعت المساحة المشتركة بينهما، كلما وضح النص أو الشيء، وعلا صوته أمام المؤول، فقد يكون كما تصور المؤول، وقد يختلف، وقد يشترك في نقاط ويختلف في أخرى[88]، فعلى حد قوله: «كل فهم للنص يفترض أن تكون هذه العملية في الفهم موجهة من طرف الافتراضات المتعالية، والتي ينبغي أن يبحث فيها عن الأصل في علاقة أهداف النص بالحقيقة»[89]. لهذا تتسم هرمينوطيقا غادامير بأنها ترياق للفكر الدوجماطيقي، حيث إنه لابد أن يسمح الفرد للنص بأن يفصح عما في داخله، وألا يفرض رؤيته وتوجهه الخاص على النص.

هرمينوطيقا ما وراء الرمز

درس بول ريكور Paul Ricœur (1913-2005) الفكر الهرمينوطيقي لكل من سبقوه؛ فدرس أشكال الهرمينوطيقا عند شلايرماخر ودلتاي وهايدغر وغادامير وغيرهم، ولم يقتصر أسلوبه على تبني أحد هذه الأشكال دون غيره، ولكنه دمجها كلها في طريقته الهرمينوطيقية[90]. فتعتبر هرمينوطيقا بول ريكور بشكلٍ ما ردّاً على هرمينوطيقا غادامير الجدلية، فكان من الطبيعي أن يظهر الاتجاه المضاد للامنهجية التي وضعها غادامير للهرمينوطيقا، وتقع محاولة ريكور ضمن الفلاسفة المهتمين بإقامة نظرية موضوعية في التفسير. ويسعي ريكور إلى إقامة منهج للتفسير يمكن من خلاله الوصول إلى الموضوعية في التفسير[91]، فيقول: «ما يريده النص هو أن نخضع أنفسنا في معناه؛ أي -تبعا لمفهوم آخر للمعنى- في نفس الاتجاه... نحن مدعوّون إلى تصحيح مفهومنا الأولي للتأويل والبحث، من جانب عملية التأويل الذاتية كفعل على النص، عن عملية تأويل موضوعية يقوم بها النص»[92]، وإذا كانت القواعد التي يمكن من خلالها إنتاج تخمينات (تأويلات) صحيحة على النص في غياب شبه تام، أو غير متفق عليها، فيعوض عنها مناهج للتصديق على تلك التخمينات التي نقوم بها[93].

وفي كتابه «رمزية الشر» يذهب ريكور إلى أن التعبير عن الشر عادة ما يكون رمزياً، ويوضح أن أساطير الخلق والتكوين هي في أصلها تفسير لوجود الشر في العالم. وتمخض عن اهتمامه برمزية الشر اهتمامه باللغة الرمزية ووسعها لتشمل رموز الحلم والرموز الثقافية، ومن ثم اهتمامه بالتأويل وتوسيعه ليشمل جميع تقنيات التحليل النفسي الفرويدي[94]. ومن ثم ينصب اهتمام ريكور على تفسير الرمز، ويتعامل مع الرمز بطريقتين؛ أولهما، يعتبر الرمز فيها نافذة يطل منها على المعنى، فيعتبر النص هنا وسيطاً شفافاً يعبر عما وراءه. ويتم اعتباره حقيقة زائفة في الطريقة الثانية يجب تجاوزها للوصول إلى المعنى الكامن وراءه، ويمثله كل من فرويد وماركس ونيتشه، وتعد وظيفة التأويل في هذه الحالة إزالة المعنى السطحي الزائف وصولاً إلى المعنى الصحيح الباطني[95]. فلقد عمل كل من ماركس، ونيتشه، وفرويد، على الوصول للمعنى الحقيقي للعقيدة الكامن وراء المعنى الزائف، وهو الممثل للرمز. وبدأوا رحلاتهم في الارتياب والشك في الحقائق الظاهرة ومن ثم يتجاوزونها إلى المعنى الحقيقي الكامن وراءها، فتجاوز ماركس موضع العقيدة الروحي السامي، إلى وظيفتها لتعميم الأحوال غير الإنسانية، وجعل البؤس أكثر احتمالاً، لذلك رآها أفيون الشعوب.

أما نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900)، فرأى أن العقيدة تهدف إلى رفع الضعفاء إلى القوة، وجعل الضعف فضيلة، فهي بمثابة ملجأ للضعفاء. ويراها فرويد أنها بمثابة وهم يحتاج فيه المرء إلى قوة عليا (أب- إله) ليحظى بالسكينة في مواجهة المصاعب[96]. تمثل هذه المحاولات -بالنسبة إلى ريكور- محاولات فهم وتنقية الواقع من الزيف والتشويه وصولاً إلى حقيقته. وحاول ريكور تقديم الهرمينوطيقا على أنها محاولة مجاوزة الفهم الزائف للنص والوصول إلى حقيقته من خلال تأويل الرموز التي يحملها النص[97].

وإذا كان تفسير الرموز عند فرويد ونيتشه وماركس، ينصب على الرموز بمعناها العام، إلا أن الرمز الريكوري يعبر عنه باللغة، فهو يصرح قائلاً: «يعبر كل فهم عن نفسه أولا ودائما في اللغة... ولذا، فإنه ليس من العبث أن يبحث المرء في الجانب الدلالي عن المحور المرجعي لمجموعة الحقل الهرمينوطيقي»[98] فالعملية الهرمينوطيقية تنصب على اللغة، فالهرمينوطيقا عنده تنحصر داخل النص اللغوي خلاف هرمينوطيقا هايدغر وغادامير. فالتأويل عنده «هو الفهم حين يطبق على تعبيرات الحياة المكتوبة»[99] واللغة عند ريكور تختلف عما هي في الفهم البنيوي، فهي ليست بالنظام المغلق من العلاقات الذي لا يدل على شيء خارجه. فاللغة في نظره لا تتكلم ولكن الناس يتكلمون، فاللغة في تعريفه هي «الشفرة -أو مجموع الشفرات- التي ينتج المتحدث استنادا إليها رسالة معينة»[100] والمتكلم هو الذي يختار من بين هذه الإشارات اللغوية واحدة دون سواها وينظمها في شكل علائقي، ليكون منها خطاباً من صنع المتكلم[101]. وكذا يطبق ريكور هذه النظرية على مستوى النص المكتوب، ولكنه ينبه على أن النص المكتوب، رغم خضوعه في فترة التكوين تحت تصرف الكاتب، إلا أنه يحمل في طياته استقلاله من حيث المعنى؛ فالنص المكتوب يغدو فور كتابته -لدى ريكور- صوتاً مستقلاً منفصلاً عن المؤلف وموقفه[102]. ومن ثم تصبح مهمة المفسر هي النفاذ إلى عالم النص وحل مستويات المعنى الكامن فيه، الظاهر والباطن، الحرفي والمجازي[103].

وتمثل عملية صناعة المعنى نقله من الفهم إلى التفسير، ثم نقله من التفسير إلى الاستيعاب. في البداية يكون هناك تصور ساذج للنص ككل، ومن ثم يكون هناك استيعاب (نمط معقد من الفهم) تدعمه إجراءات تفسيرية، إلى أن ينتهي للوصول إلى المعنى[104] وتتخذ هذه العملية شكلاً دائرياً؛ بمعنى أن تخمينات ما عن النص كلية تظهر وتكتسب ضمانة عند التعرف على الأجزاء، والعكس صحيح فعند تفسير التفاصيل نصل إلى المعنى الكلي[105]. والمعنى عند ريكور لا يعني قصدية المؤلف؛ إذ يصرح بأن هرمينوطيقاه عاجزة عن الوصول إلى قصدية المؤلف، ويقول: «علينا أن نخمن معنى النص؛ لأن قصد المؤلف بعيد عن متناول أيدينا... وسوء الفهم ممكن، بل لا يمكن تحاشيه»[106]، بل يعني محاولة تجنب سوء الفهم، ومحاولة الإنصات الجيد للنص ويتم هذا من خلال ما يسمى بالارتياب الازدواجي الذي يطبقه القارئ على نفسه (هل أقوم بإقحام معنى ما على النص؟) ومن ثم يطبقه النص (هل يقول النص هذا حقا)، وكلا القطبين صحيح وضروري، إذا شئنا أن ننصت إنصاتاً جيّداً لما يقوله النص[107]. ولا سبيل لتفادي التأويل الخاطئ والمبتسر إلا بتحري الارتياب الموصول في العملية التأويلية، فهو يحرص على التوتر القائم بين السيادة المطلقة للنص والسيادة المطلقة للقارئ، في عملية التأويل واستخلاص المعنى الموضوعي الكامن خلف رموز النص.

هكذا نشأت الهرمينوطيقا في الفكر الغربي كمحاولة لتحجيم سلطة رجال الكنيسة ومنهجة عملية التفسير، ليتعاطى مع المتطلبات العلمانية، وكإحدى آليات خلخلة سلطة رجال الكنيسة، ومطلباً متناغماً مع الظروف التاريخية التي أفضت إلى ظهور الحاجة إلى تفاعل النص الديني مع الواقع، فسعى إلى إيجاد تفاعل للنص الديني مع الواقع واحتياجاته. وقد تطورت، تبعاً لتطورات العصر والعلوم الإنسانية وتفرعاتها، وحاولت الحد من العنصر الذاتي، ومنح النص المساحة التي يتمكن من خلالها الحديث عن نفسه. ولا يعني هذا أنها خالية تماماً من الانحياز، فهذا أمر غير مقبول على المستوى الواقعي، لكنها حاولت الحد من التفسيرات المغرضة، التي تسعى عادة لتثبيت سلطة ما، أو خلخلة سلطة ما، كما يمكننا القول إن الهرمينوطيقا خضعت لمراحل تكون عديدة كانت كل مرحلة معبرة عن حاجة زمانها والأفق الابستيمي الذي يحكمها، ولكنها تبلورت كمنهج وعلم يتم تناوله بالدراسة والفحص والإضافة، ولها مردودها على الواقع بكل تأكيد، هكذا كانت الهرمينوطيقا في الفكر الغربي الأوروبي، وهي إلى اليوم تعمل على بناء نسقها وتنتقد السابق وتضيف ما لديها.

1-2- التأويل في الفكر الإسلامي

يعني التأويل على مستوى الاصطلاح، -كما يقدمه ابن منظور- من أصل «أول: الأول: الرجوع. آل الشيء يئول أولا ومآلا: رجع. وأول إليه الشيء: رجعه». ويعني حسب هذا الاصطلاح عودة الشيء إلى حقيقته، وهذا ما بدا عليه تعامل أهل شبه الجزيرة العربية مع القرآن، فحاولوا السؤال عن معناه الحقيقي من النبي صلى الله عليه وسلم، ويرادف التأويل في هذه الحقبة وحقباً تليها مفردة التفسير، فمحاولة منهجة التفسير أو تحديد عمليته، كالهرمينوطيقا لم توجد في الثقافة العربية، ولكنها كحضارة قامت على القرآن، فإنها مارست التأويل/ التفسير عليه.

ومن حيث البعد المفاهيمي للتأويل في السياق العربي/ الإسلامي، فإنه مر برحلة طويلة من البلورة السياسية التي قدمت نفسها في مفردات دينية؛ إذ عد نزول القرآن الكريم مسألة مهمة في التاريخ الإسلامي بالخصوص والإنساني بالعموم. ولا شك في أنه عمل على تحفيز الإبداع داخل شبه الجزيرة العربية؛ فصنع من البدو رجال سياسة وفلاسفة وبناة حضارة ومؤثرين في تاريخ العلوم الإنسانية. وفضلاً عن هذا، فالتاريخ الإنساني بعد ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تغير بصورة كبيرة؛ فهناك العديد من الأحداث التاريخية التي لم يكن لها الوقوع لولا نزول القرآن[108]؛ فقد جاء النص الديني(القرآن) محفزاً ومطالباً بالتدبر والنظر في آياته ومحاولة فهمه وتأويله، في مواضع عدة لا حاجة لذكرها هنا. وقد حث القرآن على النظر العقلي في الكون وفي آياته؛ ومن ثم لا يمكن إغفال دوره التأسيسي للفكر الإسلامي.

وقد دارت حول النص القرآني بوصفه نصّاً تأسيسياً للفكر الإسلامي، العديد من التساؤلات ومحاولات فهمه وتأويله؛ فظهر التأويل في الفكر الإسلامي متزامناً مع القرآن[109]، وذهب البعض إلى أن قراءة القرآن تعني فهمه وتدبره، وليست الإدغام (*) والوقف وترديد الألفاظ على الإطلاق، بل هي عبارة عن عملية فهم لمعانيه ومتطلباته، فالجن حسب ما جاء به القرآن جاءته الهداية بعد أن سمع القرآن، {إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ} [الجنّ: 1-2]، فكيف يؤمنون ولم يفهموا، وكيف عرفوا أنه الهادي إلى الرشد؟ لابد من محاولات فهم وبحث وتمحيص أدت إلى هذه النتيجة[110]، فالقراءة هنا تعني فهم المعنى والمراد، وإذا كان ذلك كذلك؛ فالقراءة تعني التأويل، ولا قيمة للنص، إلا حين يُقرأ، إذن لا قيمة للنص إلا حين يؤول.

والنص بعض أجزائه مفهومة بذاتها وأخرى بحاجة إلى بحث وتمحيص؛ فالأجزاء الواضحة بذاتها ليست بحاجة إلى تأويل. أما غير الواضحة بذاتها، فهي بحاجة إلى توضيح وتفسير. وقد كان المسلمون في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسألون عما يلتبس عليهم وكان يجيبهم. وهذا ما حدث حين سأله أصحابه «لما نزل {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعَام: 82] فقالوا: أينا لم يظلم نفسه، ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل عليه بقوله تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمَان: 13]»[111].

ويمتد التأويل ويزداد تشابكاً وإلحاحاً في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد موت النبي لم يعد هناك من يتلقى الوحي، والقادر على فهمه وتفسيره كالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ظهرت مشكلات لم يتطرقوا إليها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بطبيعة الحال. وظهرت خلافات عديدة فور موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ خلافات حول موته، هل مات أو رفع ليحيا بجوار ربه؟ والموضع الذي يدفن به النبي صلى الله عليه وسلم؟ المكيون يطالبون بدفنه في مكة، وسكان المدينة يريدون هذا الشرف. ولا يخفى الخلاف على الإمامة بطبيعة الحال، ولمن تؤول الخلافة بعد النبي[112]؟ وغيرها من الخلافات في التوريث، وأشياء تحدد مصير الأمة[113]. وكان كل فريق يستند إلى نصوص دينية وبعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الحاجة إلى تأويل النص ملحة ومتشابكة، ولم يجد العديد من الصحابة بدّاً من الاجتهاد. ولما كانت لهم مقدرة متفاوتة على استيعاب وفهم أوضاع اللغة، واختلاف طباعهم بوصفهم بشراً في المقام الأول، اختلفت اهتماماتهم وتخصصاتهم، فكل فرد منهم مخصوص بنوع من العلم حسب ما تذكره المدونة السنية (الأحاديث)؛ كعلي بالقضاء، وزيد بالفرائض، ومعاذ بالحلال والحرام، ولم يطلق على أحد منهم بحراً إلا عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم بالتفسير وعلم التأويل[114].

وقد جاء القرآن مشرعاً وراسماً للحياة الإسلامية، فهو المرجع الحياتي للمسلمين؛ لذلك اجتهد خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في فهمه، ومحاولة الحفاظ على الاحتياجات الحياتية للإنسان والمجتمع، فانصرف البعض عن المعنى الظاهري واللفظي للقرآن إلى معناه الباطني[115]؛ وهذا ما فعله أبو بكر وعمر -فيما ورد فيه نص- عندما زال السبب في سهم زكاة المؤلفة قلوبهم (كان لهم سهم يأخذونه من النبي صلى الله عليه وسلم تألفاً أيام ضعف الإسلام وضعف عقيدتهم، ولما جاءوا مطالبين أبا بكر كتب لهم بذلك إلى عمر، فمزق الكتاب وقال لهم: لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم[116]. وما فعله عمر بإسقاط القطع عن السارق في عام الرمادة (عام المجاعة)، وما حدث أيضا في غلمان حاطب؛ عندما سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا بفعلتهم، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب، وقال له: والله لولا أنني أعلم أنكم تستعملون الغلمان وتجوعوهم، حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله فهو حل له لقطعت أيديهم، وغرم عبد الرحمن ضعف ثمن الناقة، ولم يقطع يد السارقين[117]. وهنا خرج عمر عن السياق اللفظي لحفظ مراد النص، والعدالة الاجتماعية، التي هي جزء أصيل من روح النص. وعليه اتخذ المسلمون فترة حكم عمر مثالاً للحكم الفردوسي، وروي عنه أنه أكثر الصحابة عملاً بالرأي لمراعاة مصلحة المسلمين[118]. وهذا ما جعل «أبا ذر» ينطلق من المشاكل الواقعية -ولعل هذا نابع من غفلة السلطة السياسية في هذا العصر عن مطالب الشعب وحاجاته- ويزدري جمع المال في عصر عثمان، وينكر عليه توزيع المال على ذويه وأقاربه، وكان يبشر الكانزين بالنار، ويتلو من القرآن {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [التّوبَة: 34]. كما يُذكر أنه قال لعثمان: لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يقنع حتى يطعم الجائع ويعطي السائل ويبر الجيران، فقال كعب الأحبار من أدى الفريضة فحسبه[119]، فآذاه أبو ذر بلسانه ويده، فلم ينظر أبو ذر إلى الفريضة بقدر ما أمعن النظر في حاجة الناس والمجتمع، وعدّها غاية النص ومقصده.

وقد وصلت مشكلة قراءة وتأويل النصوص الدينية، إلى ذروتها في سياق ميلاد الفرق السياسية وما عرف (بالفتنة)[120]، حيث كانت كل فرقة تبحث عن مشروعية لها من داخل النص الديني. فأصبح الصراع متأججاً على تأويل وقراءة النص الديني[121]، وراح فريق ينادي بالمحافظة الشديدة والقاسية على سنة الشيخين، وهم الخوارج، وفريق آخر ينادي بالإمامة من آل بيت النبي، وهم أشياع علي، وفريق ثالث يرى في الخلافة مُلكاً قيصرياً، وهم معاوية وأصحابه، وآخرون يرون أن يكون الحكم شورى دون وضع حدود لهذه الشورى ولا نظام[122].

لم يكن العقل الإسلامي مستقرّاً حينها على صياغة ورسم صورة لانتقال السلطة. ولعل هذا يرجع إلى عدم تفرغ أبي بكر وعمر لمثل هذه القضية؛ فكان أبو بكر مشغولاً بجمع شتات المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الحروب السياسية للمحافظة على الكيان. أما عمر، فكان مشغولاً بالفتوحات الإسلامية وما جلبته من مسؤولية وحاجات عديدة أدت لاختراع وسائل إدارية جديدة في الدولة. ولعل الفتوحات هي ما جمعت المسلمين بوصفها أحد المشاريع السياسية والدينية المهمة والكبرى حينها.

وأما علي، فما إن تولى أمر الخلافة، حتى تنَكر له قوم من الذين كانوا يعينون أبا بكر وعمر، ولم يلبث الأمر أن ذاع وانتشر داخل المسلمين، وأصبح المسلمون يشنون حرباً على المسلمين[123]. واشتدت الأزمة السياسية، ورفض معاوية وطلحة والزبير وعائشة ومعهم أهل الشام مبايعة علي. في حين أن أهل الكوفة بايعوا عليّاً ورأى في نفسه أحقية الخلافة، كما رأى معاوية في نفسه أيضا أحقية الخلافة، واجتمعا على الحرب في صفين، ولم يلبث أن يُكتب النصر لعلي حتى طرح الداهية عمرو بن العاص على معاوية أن يرفع الجنود المصاحف على أسنة الرماح، ويحتكموا إلى القرآن، ويحول الصراع من سياسي إلى صراع ديني، وتحدث الفرقة بين صفوف علي، وحينها قال عليّ جملته: «حاربناهم بالأمس على تنزيله واليوم نحاربهم على تأويله»[124]. وقال ردّاً على المُحكمة الذين يقولون إن الحكم إلا لله جملته التي خلدها التاريخ: «القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال»[125]، والذي قال عنها الباحث «جوزيبي سكاتولين Giuseppe Scatolin»: «هذه العبارة تلخص في نظري بطريقة جميلة بليغة جوهر المسألة الهرمينوطيقية...النصوص كلها... صامتة، لا تتكلم بذواتها، إنما الناس هم الذين يجعلونها تتكلم إما بالصواب أو بالخطأ»[126]. فــــعليّ يتحدث هنا عن طبيعة النصوص، وأنها تنطق بلسان القارئ، وتنحو منحاه وليس العكس؛ لهذا نجد أن الفرق الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي كانت تستند في آرائها إلى القرآن، وتعمل على تأويل النصوص التي تخالف توجهها. وهذا ما فعلته فرق علم الكلام على اختلاف توجهاتها ومشاربها.

وإذا كان للشق السياسي النصيب الأوفر في نشأة الفرق الكلامية، فإنها أفضت بمدارس تأويلية اختلفت حول تأويل وفهم القرآن. فجميع المدارس الكلامية نشأت في أحضان النص الديني، والأحاديث النبوية. فعلم الكلام بالأساس هو علم الدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولا يمكن إنكار العديد من العوامل الخارجية لنشأته، ولكنه في نهاية الأمر نشأ لأجل الدفاع عن الإسلام وفي أحضانه؛ فكل فرقة أخذت على عاتقها حماية الدين وحمل الراية وقول الحقيقة، وتنطلق الفرق جميعها من النص الديني عينه. فكيف لنص واحد أن يحمل هذا الكم من الخلافات، ويكون ركيزة أساسية لفرق عديدة تختلف فيما بينها اختلافات شاسعة تصل إلى حد التكفير؟ في الواقع خرج هذا التباين من اختلاف زوايا النظر إلى النص الديني وكيفية تأويله. فكانت كل فرقة تتخذ من الآيات المؤيدة لوجهتها ركيزة أساسية لفكرها، لكنهم لا يستطيعون رفض الآيات التي تخالف توجهاتهم، فإما أن يغفلوا عمداً عن ذكرها، أو يؤولوها تأويلاً يوافق رؤيتهم. ومن ثم انطلقت بعض الفرق تكفر الفرق الأخرى بنفس النص الذي تكفرهم الفرق الأخرى به[127]. وكذا مع الأحاديث النبوية يحسنون استخدام الأحاديث الموالية لمذهبهم والداعمة، وينكرون صحة الأحاديث التي تخالف رؤيتهم، بل أدى بهم الأمر إلى أن عملت بعض الفرق على وضع أحاديث عديدة.

لقد كان التأويل، كما يذكر أحمد أمين: «صورة لما في العصر من آراء ونظريات علمية، ومذاهب دينية»[128]؛ مما أدى لظهور تأويلات عديدة ومذاهب تأويلية مختلفة تمخضت عن علم الكلام، ولعل أهمها كما يذكر الشهرستاني: (الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والأشاعرة)[129].

الخوارج وحراسة النص المقدس

الخوارج هم فئة خرجت على علي بن أبي طالب، لقبوله التحكيم في موقعة صفين (الذي اقترحه عمرو بن العاص)، بالرغم من أنهم أول من نادى برجوع الأشتر من الحرب وقبول التحكيم، وقالوا يدعونا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف[130]، حتى نزل عليّ لرغبتهم ولباها. وكان أول من اختار عبد الله ابن عباس، واعترض الخوارج ونزل على رغبتهم أيضاً وأرسل أبا موسى الأشعري[131]، لكنهم بعد ذلك لاموه، وقالوا (إن الحكم إلا لله) فكافر من يُحكم غير الله، وطلبوا منه أن يقر على نفسه بالخطأ، بل بالكفر[132]. وكان الأمر غير مقبول بطبيعة الحال بالنسبة إلى علي، وقال في عبارتهم هذه كلمة حق أريد بها باطل.

وقد تشدد الخوارج وتمسكوا بظاهر النص، ورفضوا أي تأويل له. واتسمت هذه الفرقة بالشجاعة والوضوح، فلم تقبل أن تكوِّن حركات سرية، وجعلوا من أنفسهم حراساً للنص المقدس، وسموا أنفسهم بالشراة؛ أي من اشتروا أنفسهم من الله بالجهاد[133]. ولشدة تمسكهم بحرفية النص «جوزوا ألا يكون في العالم إمام أصلا»[134]، وقالوا إنه لا حكم إلا لله. وقال الإمام «علي»: «كلمة عدل أريد بها جور، إنما يقولون: لا إمارة ولابد من إمارة بر أو فاجر»[135] وأيضاً إسقاطهم لرجم الزاني، حيث إنه لم يذكر في القرآن. وكذا حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع إجازته ووجوبه على من قذف المحصنات من النساء. وتكفير مرتكب الكبيرة وليس تجريمه، فهو ليس بفاسق ولا بمنزلة بين المنزلتين ولا بمرجئ حكمه إلى الله، بل إنه كافر[136].

الشيعة ورمزية النص

تعد حادثة الخوارج أول حادثة خلاف على تأويل القرآن، والقول بالمجاز والانصراف عن حرفية النص إلى معناه الباطني، أو التمسك بظاهره. وتعد الشيعة من أهم الفرق التي قالت بالرمزية للموضوعات الروحية[137]. والشيعة هم أشياع الإمام علي جمعهم حبهم لمن يحبونه ومحاربة من يحاربونه، وهم ينادون بإمامة علي ويقولون إنه أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي فرقة تسرد وتضع من الأحاديث الكثير والكثير لتثبت شرعيتها الدينية.

لا تقف الشيعة على حرفية النص؛ فهو عبارة عن رموز يعرفها العارفون. وللقرآن ظاهر وباطن، ويجب تجاوز الظاهر إلى ما هو أطهر وروحاني في الباطن[138]. ولا يعرف باطن النص وكنهه إلا الإمام (المعصوم)؛ فالنص بمنزلة رسالة خاصة يعجز عن فك شفرتها من هم دون الإمام[139]. وتعد الإمامة هي المحور التأويلي لدى الشيعة، فكل الآيات تؤول لإثبات إمامة علي وذريته ومدحه ومدح ذويه وطاعة الإمام وتقديسه. حتى ذهب البعض إلى إسقاط الشعائر الدينية عن الخاصة من ذويه[140]، وبعض فرق الشيعة المتطرفة مثل الكيسانية، قالت: إن الدين طاعة الإمام، وأوَل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وغير ذلك على رجال، فحمل بعضهم على ترك الأركان الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الإمام[141]. والإمامة عند الشيعة كانت واجبة لعلي بعد النبي، وهذا عن طريق النص من الله ورسوله، وليست بالانتخاب[142] وقد ساقت الاثنا عشرية (إحدى فرق الشيعة) نصوصاً عديدة دينية تثبت إمامة علي، فضلاً عن طابور الأحاديث الطويل. وقد تم الاستيلاء على العديد من الآيات وتأويلها لصالح الإمام علي، فيقول المفيد في الآية {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ} [التّوبَة: 119] إنها نزلت في أمير المؤمنين ومَن مِن ذريته[143]. ويؤولون الآية «{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزَاب: 33] على أنها ذكرت في الإمام علي، بيد أنها واضحة تماما في حديثها عن نساء النبي»[144]، بل غالوا في الأمر حتى قالوا إن علياً كعيسى بن مريم، وإن فيه جزءاً إلهياً، واستقر العديد منهم على أن علم التأويل، وقتال المنافقين، ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر، هي أعمال إلهية وقوة ربانية، ويكون هو الصورة التي ظهر وتجلى فيها الإله، وقالوا إنه كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض[145].

وهناك من ضعف اعتقاده بالقيامة، وذهب البعض إلى القول بالبداء على الله تعالى[146]، وآخرون قالوا بتناسخ الأرواح والرجعة بعد الموت. ورفضوا موت علي، معتقدين أنه حي لا يموت، وأن له رجعة كرجعة المسيح سيملأ فيها الكون عدلا بعدما ملئ ظلماً وجوراً[147]. وسعوا إلى تثبيت أن فهمهم هو الفهم الحق للنص والعلم بمضمونه الحقيقي[148]. وقد حدث هذا من خلال التأويل الذي غالوا فيه، ومن خلال نصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، وهي نصوص لا يعرفها جهابذة السنة[149]. هكذا كان للشيعة موقفهم تجاه النص الديني الذي أخضعوه لرؤيتهم كما فعلت بقية الفرق.

المعتزلة (العقل مناط التحسين والتقبيح)

من عرفوا بزعماء المعتزلة كان أغلبهم تجاراً وحرفيين (*)؛ أي هم أشخاص يحتكون ويتلونون بالواقع، ومن ثم اتسم خطابهم بالسمة العقلانية المنفردة على حساب الفكر النصي والاتباعي. وكان العقل عند المعتزلة قادراً على التمييز بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح[150]، فالقاضي عبد الجبار يذكر أنه «قد روي عن أبي سفيان، حين سأله القيصر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب، لكذبته، ولم يكن يومئذ ذا دينٍ. ولأن الكذب دناءة، والمروءة تمنع من الدناءة»[151]. فالحسن والقبح واجبان بالعقل، وأصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود النص[152]. فيقول النيسابوري: «إنا لا نجوز شيئاً لا يعقل، وإنما نجوز ما هو معقول»[153]هكذا كان العقل أساس التحسين والتقبيح في الفكر الاعتزالي[154]، فهو بمنزلة نور يضيء الطريق للإنسان بوصفه المرشد الوحيد لأعماله[155].

تتبدى مركزية العقل للفكر الاعتزالي داخل عملية التأويل؛ فعملية التأويل الاعتزالية تستند إلى الآية السابعة من سورة آل عمران؛ {*هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} [آل عِمرَان: 7] (*). وقد عملت المعتزلة على صياغة نظرية لتأويل المتشابه من آيات الكتاب، ولكن كيف لها أن تعرف المتشابه من المحكم، والنص القرآني لم يحسم هذا الأمر؟ ومن ثم جعلت المعتزلة المعرفة العقلية مقياسا للمحكم، فما يتفق مع الأحكام والمفاهيم العقلية بنصه المباشر (الواضح بذاته) هو المحكم، وما يكون غامضاً ويبدو أنه متناقض مع الأحكام العقلية فهو المتشابه الذي يعوزه التأويل[156]. وقد وجدت المعتزلة في لفظة المجاز حلاً لإزالة الغموض عن المتشابه، والولوج إلى معناه ولإشكالية التعارض بين النص والعقل[157].

والمجاز لغة يعني المعبر(القنطرة)، فالمجازة كما ذكر ابن منظور: الطريق إذا قطعت أحد جانبيه إلى الآخر[158]. والبحث عن مادة جوز: جزت الطريق وجاز الموضع جوزاً وجوّوزاً وجوازاً ومجازاً وجاز به وجاوزه[159]. وقد أثبتت المعتزلة بالمجاز في اللغة والقرآن، واستخدمته كقنطرة للعبور من المتشابه إلى المحكم، ورفع التناقض بين النص والعقل. وعليه جاء الفكر الاعتزالي كمناهض لفكر الظاهرية والتمسك بحرفية النص[160]. فها هو القاضي عبد الجبار يقول: «إن السامع للقرآن والقارئ له إذا رأى المحكم والمتشابه كالمتناقض في الظاهر لم يكن بأن يتبع أحدهما أولى من الآخر فيما يرجع إلى اللغة، فيلجئه ذلك، إذا كان ممن يطلب الدين والبصيرة، إلى الرجوع إلى أدلة العقول لينكشف له بها الحق من الباطل، فيعلم عند ذلك أن الحق في المحكم، وأن المتشابه يجب حمله على موافقته»[161]، وهذا ما فعله حيال الآية الكريمة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} [البَقَرَة: 7] بأن أوّلها كالآتي: «ويجب أن يحمل على أن المراد به أنه علّم على قلوبهم بعلامة تَعْرِف بها الملائكة أنهم من أهل الذم، كما كتب فى قلوب المؤمنين الإيمان؛ لكى تعلم الملائكة أنهم من أهل المدح»[162].

كما رأينا، فقد انتبهت المعتزلة إلى دور العقل للإنسان ونادت بحريته[163]، واستخدمت المجاز لتجاوز المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن الذي يتعلق به تعلقاً تاماً[164]. مما أدى إلى احتدام الصراع واشتداده، وبخاصة أنها جاءت بنزعة تجديدية تنادي بحرية الفرد، ضد النظام المحافظ الذي يقلص دور العقل والفرد.

الأشاعرة (العودة للسنة والجماعة)

ظهر الفكر الأشعري كرد فعل أو خروج على الفكر الاعتزالي، فهو محاولة الخروج عن المكانة التي أعطتها المعتزلة للعقل والعودة إلى الاحتماء بالنقل والاهتداء به. وتنسب الأشعرية إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري[165]. فقد نشأ أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة وفي أجواء فكرهم، لكنه أعلن ابتعاده عن مذهب المعتزلة واعتناقه مذهب أهل السنة على حد زعمه، والرجوع إليه[166].

وقد أنكر الأشعري أي دور للعقل في الواجبات، وجعلها كلها سمعية جاء بها النص؛ فالفعل المأمور به في النص حسن، حتى وإن لم يتبين للعقل أنه كذلك[167]، فقلبت الأشعرية النظرية الاعتزالية، ولم يعد المعيار العقل الإنساني، بل أصبح على العقل أن يتغافل ويذعن للنص ويعدّ اخضاع الأشاعرة العقل للنص هو السمة المميزة التي يتسم بها المذهب، فمتى تعارض العقل مع النقل نحوا العقل جانباً وأخضعوه لحكم النقل[168]. وليس أدل على ذلك من نظرية الكسب الأشعري التي من خلالها سُلب من الإنسان القدرة على الفعل، حيث إن مؤداها أن الأفعال كلها خلق لله كسب للإنسان[169]، كما يتجلى التزامهم بالنقل في رؤيتهم للعدل، فهم يرفضون وجوب شيء على الله، وأن كل ما يفعله عدل حتى وإن عذب من أطاعه. فالحكمة عندهم وضع الشيء في موضعه، والإنسان مِلك لله عز وجل، فعدل أن يفعل الله ما يشاء في مُلكه فكل تصرف فيه عدل لأنه مُلكه[170]. وهكذا رفعت الأشاعرة سلطة النقل على العقل، وعملت إلى حد غير قليل، على التمسك بحرفية النص وظاهريته، حتى وإن تسنى لها الخروج عن هذه الحرفية، اتبعت مذهب القدماء في التفسير (الصحابة والتابعين).

قد أسفرت الخلافات الكلامية عن خلافات عديدة ومدارس حول تأويل النص وكيفية فهمه، لكن هناك مدارس أخرى للتأويل نشأت تحت لواءات مختلفة، كالتصوف والفلسفة؛ فالتصوف أمعن في التعمق داخل النص وعمل على تجاوز حرفيته، والفلاسفة عادة ما حاولوا إيجاد شرعية لدراستهم للفلسفة من النص القرآني. وسأتناول في الجزء القادم قطبين من أقطاب الفلسفة والتصوف بنوع من التفصيل.

1-3- التأويل ما بين التصوف والفلسفة

اتسم الفكر الإسلامي في القرنين الأولين الهجريين بالتواتر والرواية؛ أي بوصفه موروثاً ينتقل من جيل لآخر، إلى أن بدأ المسلمون في تدوين الحديث والسيرة النبوية، ومناقشة الأحكام على نمط علمي، ومن ثم صبغت كل العلوم صبغة علوم الحديث، فكانت مادة الحديث تشمل جميع المعارف الدينية تقريباً، فتروى الأحاديث للأحكام الفقهية، وأحاديث للغزوات، وأحاديث للحالات الاجتماعية، وكذا أحاديث لتفسير القرآن. فالتفسير جرى عليه ما جرى على غيره من العلوم، وأصبح فرعاً من فروع علم الحديث يتخذ شكله، وباباً من أبوابه[171]. وسمي علم استنباط الأحكام الدينية بالفقه، بيد أن الحال لم يستقر على ذلك؛ فقد رأى البعض أن الكمال الديني هو البحث في المعاني الباطنة للأحكام، وعدم الوقوف على ظاهريتها، وكان هذا إيذاناً بظهور علم جديد هو التصوف[172].

التصوف (الثورة على الفقه)

رأى الصوفية أن الدين تحول على يد الفقهاء إلى جملة رسوم وطقوس، لا حياة فيها؛ وعليه سعت الصوفية إلى إحياء الدين -في نظرهم- من دين رسوم وقواعد إلى دين حيّ عملي وروحي[173]. فالتصوف هو -كما يقدم نفسه- علم الحقيقة، يبحث عن اليقين والحقيقة مجاوزاً المراحل الحسية والعقلية. والحقيقة في الفكر الصوفي هي المعنى الباطن والمتخفي وراء الشريعة، والشريعة هي الرسوم والأوضاع التي تعبر عن ظاهر الأحكام وتجرى على الجوارح. ولم يفهم المتصوفة من الدين حرفيته، ولا من الشريعة محض طقوسها[174]. وقد نظر الصوفية إلى باطن الشريعة وليس ظاهرها، وإلى الحكمة من وراء التشريع، فالتكليف ليس غاية في ذاته، بل إنه وسيلة لغاية عليا يقصدها المشرع[175]. فالحكمة الصوفية أو الفهم الصوفي علم الباطن الذي يلقيه الله في القلب ويدرك القلب حلاوته ذوقاً، وليست هي بالحكمة النظرية التي يمكن أن تكتسبها بالعقل[176]، فمصدر المعرفة الصوفي ليس هو الحس أو العقل، بل إنه مجاوز لكليهما، قد يكون الحدس، وقد يكون الذوق، ولكنه مجاوز للعقل على كل حال[177]؛ وبناء على ذلك تكون طريقة استنباط الحقيقة من النص خارج أي سياق عقلي، فتتم عملية الاستنباط عبر تلاوة الآية وتكرارها وتدبر معانيها وألفاظها، وهم لا ينتقلون إلى آية أخرى حتى يشاهدوا معنى الأولى[178].

أما عن الكيفية التي تتم بها عملية التأويل الصوفية -التي من خلالها يعرف غاية المشرع- فهي جديدة كل الجدة، فيبحث الصوفي عن الفناء والتوحد مع الله ومع الكلام الإلهي. ويتم هذا عبر ثلاث خطوات (المكاشفة، والتجلي، والمشاهدة)؛ والمكاشفة تعني: أن الحقيقة خفية وراء الأشياء يجب التخلي عن الأشياء لتكشفها، ويتم فيها معرفة جمال الله، كأسرار حكمته، وكلامه، وحضوره. وفي التجلي يبدو النور الإلهي، وتتجلى معه الأشياء الإلهية، ومنها حقيقة النص بطبيعة الحال. ففي التجلي يكون الحجاب قد زال، وفي المشاهدة تضاء الروح، ولا يبقى سوى الرؤية، فالمشاهدة معرفة مباشرة.

ومن هنا كانت الثورة الروحية في الفكر الإسلامي، والتي نجم عنها نمط جديد من التأويل لم يعرفه الفكر الإسلامي من قبل، وإن كانت له جذور لدى الشيعة، بيد أن التأويل بالنسبة إلى الصوفي هو إدراك الحقيقة وتكشفها من وراء النص أو ظاهر الشريعة. وغاية الطريق الصوفي هي إدراك الحقيقة، ومن هنا تكون عملية التأويل الصوفية عملية وجودية.

التأويل بين الغزالي وابن رشد

نحن الآن بصدد الحديث عن قطبين كبيرين في الفكر الإسلامي أثرا كثيراً في حركته، وما زالا يؤثران فيه حتى الآن؛ أولهما الإمام أبو حامد الغزالي الذي يحمل لقب حجة الإسلام، ويوضع في أحيان عديدة موضع الأئمة الأربعة. وأما الآخر، فهو ابن رشد الحفيد، ويعدّه المسلمون البناء التحتي للحضارة الغربية، بل إن البعض يرى أن الحضارة الغربية ما هي إلا فكر ابن رشد والإسلاميين. ويتخذه أنصار التيار التنويري مثالاً يحتذى به في حاجة إلى الدراسة والتطبيق. لم يتزامن الشيخان، ولكن جاء ابن رشد بعد الغزالي، وحاول الرد عليه في أمور عديدة، مما يجعل جمعهما معا وكأنهما في حوار جدلي، أمراً مهمّاً يستحسن اتباعه، وعليه سيتم عرضهما وكأنهما في نقاش معاصر ومحاولة توضيح أوجه التشابه والاختلاف بينهما.

اتفق الشيخان في التأكيد على ضرورة التأويل، فقد أكد الغزالي في مواضع عدة على ضرورة التأويل؛ وذلك لإبعاد الجسمية والتشبيه عن الله وفهم القرآن[179]، يقول في قانون التأويل: «فإذا قيل لك 'إن الأعمال توزن' علمت أن الأعمال عرض لا يوزن فلابد من التأويل، وإذا سمعت 'أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح' علمت أنه مؤول إذ الموت لا يؤتى به إتيانا.... فإذا لابد من التأويل»[180]. ويدلل ابن رشد على ضرورة التأويل منطلقاً من المنظومة المنطقية الأرسطية التي تميز بين العامة والخاصة[181]، فمن خلال اختلاف الناس وتفاوتهم جاء النص الديني مخاطباً لهم، فهناك من يصدق بالبرهان، وآخر يصدق بالأقاويل الجدلية، وثالث بالأقوال الخطابية[182].

وهما يتفقان أيضا في تعريف التأويل، فنجد أن تعريف الغزالي للتأويل هو «عبارة عن احتمال يعضده دليل، يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر. ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز»[183]. والاحتمال عند الغزالي نوعان: القريب والبعيد؛ فالقريب يحتاج إلى دليل قريب، وإن لم يكن بالغ القوة، والبعيد يحتاج إلى دليل قوي لصرف اللفظ عن ظاهره إلى المجاز. ويكون هذا الدليل، إما قرينة مشابهاً، أو قياساً، أو ظاهراً أقوى منه[184]. ويعرف ابن رشد التأويل بأنه «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه»[185]. فالتأويل عند كليهما محاولة مجاوزة الدلالة الظاهرية إلى الدلالة المجازية في النص، وليس البحث عن معنى باطني للنص ككل[186].

وهما يلتقيان أيضا عند نقطة عدم اختلاف العقل مع الشرع؛ فالغزالي يرى أن لا تعارض بين العقل والشرع، «ومن كذب العقل فقد كذب الشرع؛ إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل ما عرفنا النبي من المتنبي (*)، ولا الصادق من الكاذب»[187]، ويقول ابن رشد في فصل المقال: «الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات... فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي»[188]، لكنهما يختلفان في المقصود بالعقل عند كل منهما، كما أنهما يختلفان أيضاً في الغاية من التأويل، ومنهج التأويل وكيفيته. فالعقل عند الغزالي هو ما يمكن أن نطلق عليه العقل العام الذي يحكم باستحالة الأشياء، أو إمكانها، ولكن ما هي الكيفية التي يحكم من خلالها العقل باستحالة الأشياء، أو إمكانها، فيتحدث عنها بوصفها البديهة؛ أي إن الأمر يكون واضحاً بذاته أمام العقل. في حين أن العقل عند ابن رشد يتمثل إلى حد كبير في الفلسفة اليونانية[189]، ولم يكن في عصره ممثلاً للعقل في مقابل الشريعة غير الفلسفة اليونانية؛ وذلك لنمطها الفكري المغري للعقل حين ذاك.

والشيخان يتفقان في أهمية المنطق ودراسته، ويختلفان في استخدامه. فقد دافع الغزالي عن أهمية المنطق في مؤلفاته، بل عمل على تدشينه، فكان له السبق في تدشين القياس الأرسطي كمنهج[190]، وكان يستخدمه في مواجهة أصحاب الفكر الباطني وتعاليم الإمام المعصوم[191]، وتوظيفه للمنطق في الدفاع عن المذهب الأشعري في علم الكلام، ضد المعتزلة من جهة والفلاسفة من جهة أخرى[192]. والمنطق الأرسطي هو مفتتح طريق المعرفة لدى ابن رشد، فالمنطق هو السبيل إلى التجريد العقلي عن المحسوس، والانتقال من الجزئي إلى الكلي، ويتعلمه الخاصة بطبيعة الحال، بيد أن العامة يظلون متعلقين بالحس[193]. كذا علم التأويل، فيعد المنطق منهجاً وطريقاً لتأويل النص، وليس أدل على هذا من أنه خص بالتأويل ما أسماهم بالخاصة فقط. ليس على العامة اللجوء إلى التأويل، وهذا واجب بالنص وذلك بقوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عِمرَان: 7]، وعلى ذلك فإن وقع المؤول في الخطأ إذا كان من أهل العلم، فهو معذور، وإن لم يكن من العلماء فخطأه إثم محض[194].

والغاية التي ينشدها كل منهما من التأويل تختلف أتم الاختلاف، بل يمكننا القول إن الغاية من التأويل عند ابن رشد هي محاولة الفكاك من فكر الغزالي وسيطرته آنذاك. فغاية الغزالي ضبط حركة التأويل بهدف الدفاع عن أصول العقيدة، ضد مفسديها. فلم يكن الغزالي متسامحاً قط مع الباطنية وبعض المتكلمين وبعض الفلاسفة (الفارابي، ابن سينا، إخوان الصفا) فيجب ألا يخرج التأويل عن حد العقل والشرع[195]. والعقل عند الغزالي قادر على الوصول إلى الحقيقة شريطة أن يتنازل عن أي جهد أو رغبة في عملية الاستدلال من العلة والمعلول؛ وذلك ليقتصر دوره كمكتشف للنظام الإلهي. والعقل المنير بمساعدة العلماء السابقين الذين يحفظونه من الخطأ هو القادر على الوصول إلى الحقيقة[196]. وعلى الرغم من اعتداده بالعقل، فإنه وضعه في مرتبة أدنى من الحدس، فاليقين عند الغزالي يتم عبر الرؤية، فــ «الرؤية هي نفس اليقين وهي المشاهدة والمعاينة التي لا شك فيها»[197]، فالعقل محصور دوره على شرح عمليات الحدس العجيبة للقلب، وإذا ترك العقل، فإنه يقود إلى الخطأ والالتباس لا الحقيقة، وهذا ما فعله الفلاسفة؛ في نظر الغزالي[198].

أما عملية التأويل الرشدية، فيمكننا القول إنها بمنزلة محاولة شرعنة وتبرير لدراسة الفلسفة اليونانية -الممثلة للعقل آنذاك- وعدم تحريمها، من خلال إثبات ما جاءت به (أي الفلسفة اليونانية) من النص الديني، ووضوح وتجلي الاتفاق وعدم التعارض بينهما[199]. وقد عمل ابن رشد علة التشريع لدراسة الفلسفة وإرساء منهجه في التأويل عبر كتابين له؛ هما كتاب (الكشف عن مناهج الأدلة) و(فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). ويأخذ ابن رشد في كل كتاب طريق مختلف لإثبات شرعية دراسة الفلسفة وعدم تعارضها مع الدين؛ ففي الأول يبدأ من الشريعة وينتهي إلى النتائج التي وصل إليها العقل (الفلسفة اليونانية)، وفي الثاني يأخذ الطريق العكسية، حيث يبدأ من الحكمة العقلية الممثلة في الفلسفة اليونانية -وتحديداً الأرسطية- وينتهي إلى ما جاء به الوحي أو ما يطلق عليه الشريعة[200]؛ فهو يرى العلاقة بينهما، على حد تعبير دي بور، «كالعلاقة بين النظرية وتطبيقها العملي»[201].

يصبح موقف ابن رشد واضحاً ومفهوماً عند فهمنا طبيعة البيئة التي وجد فيها؛ فكان كل شخص مارس الفلسفة زنديقاً، وإن زلّ، إما أن يقتل بيد العامة، أو يقتله السلطان تقرباً لهم[202]. فكان لزاماً عليه أن يقف مدافعاً عن الفلسفة، محاولاً إضفاء مشروعية عليها، ولم يعرف العصر حينها شكلاً للمشروعية غير المشروعية الدينية، التي تتم من خلال النص بطبيعة الحال، ومن ثم كان حجر الزاوية في التأويل الرشدي إثبات عدم تعارض النص الديني (الشريعة) مع الفلسفة اليونانية (الحكمة). وهذا ما ذكره في مستهل كتابه فصل المقال[203]، وليس أدل على هذا من محاولته إثبات قدم العالم من خلال النص القرآني في كتابه «تهافت التهافت»، فأخذ بعض الآيات مثل: {أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالأَرْضَ كانَتا رَتْقاً} [الأنبيَاء: 30]، وقوله سبحانه {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} [هُود: 7]، وقوله أيضاً: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} [فُصّلَت: 11][204]، دليلاً شرعياً على ما قدمته الفلسفة اليونانية بخصوص العالم وخلقه من الهيولي أو أي مادة سابقة، ولم تكن مسألة خلق العالم من عدم مقبولة الطرح داخل الفلسفة اليونانية.

وفقا لما تم ذكره، فإن التأويل عند الغزالي أقرب إلى التأويل الصوفي، فهو يتم عبر الدخول إلى ذواتنا والبحث في قلوبنا[205]. فالمعرفة الحدسية هي الوصول إلى الحقيقة عند الغزالي، فالعامة يصدقون ما يخبرهم به أهل الثقة، كأن يقال لهم إن فلاناً في البيت فيصدقونه. والعلماء يتوصلون بالاستنباط، فهم إذا سمعوا صوتاً يتكلم استنبطوا أن هناك من في البيت. ولكن هناك مرتبة العارفين الذين يرون الحق دون حجاب، وهم من دخلوا البيت ورأوا الرجل بأعينهم[206]. في حين أن التأويل عند ابن رشد هو محاولة الانتقال بين دلالات الألفاظ، لإثبات أن ما تجلى به العقل الإغريقي من فلسفات لا يتعارض مع الشريعة، بل إن الشريعة تثبته، وإذا كان يتفق في ظاهره فلا حاجة لنا بالتأويل. وقد دافع ابن رشد عن حق كل فرد في دراسة الفلسفة وحرية رأيه، كما أنه دافع عن العقل، ولكن العقل يختلف هنا عن العقل المعتزلي، بل إن العقل هنا ما يمكن أن نسميه بالفلسفة اليونانية.

مما تم تقديمه، يتضح أن التأويل في الفكر الإسلامي ينحصر في حدود النص الديني، ولعل هذا نابع من طبيعة الحياة التي كانت تتسم بالسمات الدينية الصرفة في كافة السياقات الاجتماعية؛ بيد أنه إلى يومنا هذا لم يرق التأويل على يد المفكرين القابعين في النطاق العربي الإسلامي إلى أن يكون مبحثاً خاصّاً، أو منهجاً خاصّاً يعتد به، ولعل هذا ما يبرر ضرورة لجوء الباحثين العرب إلى منهج الهرمينوطيقا، ليس بوصفه منهجاً غربياً، بل بوصفه منهجاً إنسانياً أثبت جدارته أمام العقل الإنساني، ويفتح باب التنقيح والإضافة أمام الجميع.

[1] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم (مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير)، مؤسسة هنداوي سي أي سي، المملكة المتحدة، 2017، ص15

[2] - موسوعة الهرمنيوطيقا ج1، جونزاليس (فرانشيسكو)، الهرمنيوطيقا في الفلسفة اليونانية، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018، ص44

[3] - المرجع السابق، الموضع نفسه، أيضاً، فاطمة إسماعيل، مقالات في فلسفة التأويل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2019، ص143

[4] - Palmer, Richard E, Hermeneutics, NorthWestern University Press, 1969, pp12-13. Routlege Encyclopedia of philosophy, Ed by Edward Greg, volume 4, 1998, p385

[5] - غادامير (هانز غيورغ)، فلسفة التأويل (الأصول - المبادئ - الأهداف) ط2، ترجمة محمد شوقي زين، الدار العربية للعلوم منشورات الاختلاف، الجزائر، المركز الثقافي العربي، الرباط-المغرب، 2006، ص61

[6] - موسوعة الهرمنيوطيقا ج1، ملباس (جيف) Jeff Malpas، مقدمة الهرمنيوطيقا والفلسفة، ص23- 27. سعيد توفيق، في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2015، ص76

[7] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2014، ص13 (*) كان اسم كتاب دانهاور «الهرمنيوطيقا القدسية أو منهج تفسير النصوص» Hermeneutica sacra sire methodus exponendarum sacrom litterarum

[8] - غادامير (هانز غيورغ)، فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص ص63-64

[9] - مبروك (أمل)، دراسات في الفلسفة المعاصرة، أم القرى للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص 272

[10] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص48

[11] - موسوعة الهرمنيوطيقا، بايزر (فردريك)، ص111

[12] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص272

[13] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص61

[14] - المرجع السابق، ص62

[15] - إبراهيم (زكريا)، كانط، ط2، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص211. راجع أيضاً، مجدي عز الدين سعد حسن، من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا، جامعة النيلين - كلية الآداب، مجلة آداب النيلين، مج1، ع3، أكتوبر 2011، ص ص131-132

[16] - الشبستري (الشيخ محمد مجتهد)، قراءة بشرية للدين، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت، 2009، ص ص9-15

[17] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص ص13-16

[18] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص271

[19] - مجدي عز الدين حسن، ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان، الحوار المتمدن، العدد: 3670- 17/3/2012

[20] - المرجع السابق.

[21] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص280

[22] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص56

[23] - المرجع السابق ص55 راجع أيضاً، غادامير، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص272

[24] - المرجع السابق، ص55

[25] - المرجع السابق، ص57

[26] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص62 راجع أيضاً، فاطمة إسماعيل، مقالات في فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص177

[27] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص ص65-66

[28] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص ص287-288، و312

[29] - بدوي (عبد الرحمن)، موسوعة الفلسفة ج1، ص475

[30] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، 66

[31] - المرجع السابق، الموضع نفسه.

[32] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص26

[33] - Dilthey, w. The Formation of the Historical World in the human sciences, selected Works, vol. 3,eds. R. A. Makkreel and F. Rodi, Princeton: Princeton University press. 2002.pp.107 نقلاً عن: موسوعة الهرمنيوطيقا.ج1، ماكريل (أ. رودلف)، ديلثي: الهرمنيوطيقا والكانطية الجديدة، ص168

[34] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص26

[35] - ريكور (بول) من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة، حسن بورقية، ط1، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 2001، ص66

[36] - موسوعة الهرمنيوطيقا - ج1، ماكريل (أ. رودلف)، ديلثي : الهرمنيوطيقا والكانطية الجديدة، ص168

[37] - ريكور (بول)، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، سبق ذكره، ص64

[38] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص68

[39] - قارة (نبيهة)، الفلسفة والتأويل، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1998، ص51

[40] - المرجع السابق، ص250

[41] - بدوي (عبد الرحمن)، موسوعة الفلسفة، ص476

[42] - المصدر السابق، الموضع نفسه. راجع أيضاً، غادامير، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص315

[43] - Dilthey,w. Hermeneutics and the Study of History, Edited, with an introduction, by Rudolf A. Makkreel & Frithjof Rodi, Princeton University Press, Princeton, NJ, 1996, PP236

[44] - ريكور (بول)، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، سبق ذكره، ص63

[45] - المرجع السابق، الموضع نفسه.

[46] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص312

[47] - جواق (سمير)، دلتاي وصياغة التأويلية كأساس منهجي للعلوم الإنسانية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، 5 يوليو 2016، ص5

[48] - موسوعة الهرمنيوطيقا - ج1، ماكريل (أ. رودلف)، ديلثي: الهرمنيوطيقا والكانطية الجديدة، ص157 راجع أيضاً، غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص314

[49] - ريكور (بول) من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، سبق ذكره، ص66 (*) ريمون آرون (بالفرنسية:) (بالإنجليزية: Raymond Aron) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ولد 14 آزار سنة 1905 في مدينة باريس وتوفي سنة 1983

[50] - قارة (نبيهة)، الفلسفة والتأويل، سبق ذكره، ص51

[51] - توفيق (سعيد)، في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، سبق ذكره، ص79

[52] - بدوي (عبد الرحمن) موسوعة الفلسفة، ج2، ص ص600-601

[53] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص126

[54] - توفيق (سعيد)، في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، سبق ذكره، ص79

[55] - المرجع السابق، ص79

[56] - توفيق (سعيد)، الخبرة الجمالية (دراسة في فلسفة الجمال الظاهرتية)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت الحمراء، 1992، ص83

[57] - المرجع السابق، الموضع نفسه.

[58] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص121-125

[59] - المرجع السابق، ص125

[60] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص32 راجع أيضاً، بوشنسكي (إ.م)، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة عزت قرني، سلسلة عالم المعرفة، ع.165، الكويت، 1992، ص281

[61] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص127

[62] - نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص33

[63] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص125-126

[64] - موسوعة الهرمنيوطيقا، ج1، فارين (إنجو)، هايدجر التحول الهرمنيوطيقي، ص216

[65] - نقلاً عن، عادل مصطفى، فهم الفهم، سبق ذكره، ص133

[66] - توفيق (سعيد)، في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، سبق ذكره، ص80

[67] - توفيق (سعيد)، الخبرة الجمالية، سبق ذكره، ص83

[68] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات ااتأويل، سبق ذكره، ص ص33-34

[69] - إبراهيم (زكريا)، فلسفة الفن المعاصرة، مكتبة مصر، القاهرة، 1988، ص218 (*) الدازاين Dasein تعبيرٌ ألماني يعني حرفيّاً، «الوجود هناك» و«هايدغر» قد استخدمه لتعبير عن الوجود الإنساني المتعين، وهو وجودٌ مدمجٌ في علاقةٍ وجدانية بالأشخاص والأشياء المحيطة. نقلاً عن، عادل مصطفى، فهم الفهم، سبق ذكره، ص123

[70] - بوشنسكي (إ.م)، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، سبق ذكره، ص278

[71] - هايدجر (مارتن)، نداء الحقيقة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص84

[72] - المرجع السابق، ص ص57-59

[73] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص130

[74] - المرجع السابق، ص144

[75] - موسوعة الهرمنيوطيقا، ج1، جاندر (هانز هيلموث)، جادامر عالمية الهرمنيوطيقا، ص268

[76] - المرجع السابق، الموضع نفسه.

[77] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص ص28-29

[78] - غادامير (هانز غيورغ)، فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص15

[79] - توفيق (سعيد)، في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، سبق ذكره، ص ص73-74

[80] - غادامير (هانز غيورغ)، فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص41

[81] - المرجع السابق، ص42

[82] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص666

[83] - Gadamer, philosophical Apprenticeship, trans. Robert R, sulivan (Cambridge: Massachusetts, 1985, p.180 نقلاً عن سعيد توفيق في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، ص86

[84] - غادامير (هانز غيورغ)، تجلي الجميل، ترجمة سعيد توفيق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 1997، ص163-166

[85] - المرجع نفسه، ص166

[86] - غادامير (هانز غيورغ)، الحقيقة والمنهج، سبق ذكره، ص687

[87] - غادامير (هانز غيورغ)، فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص50

[88] - المرجع السابق، ص ص50-53

[89] - المرجع السابق، ص51

[90] - موسوعة الهرمنيوطيقا، ج1، جان جرواندان، ص289

[91] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص44

[92] - ريكور (بول)، من النص إلى الفعل (أبحاث التأويل)، سبق ذكره، ص120

[93] - ريكور(بول)، نظرية التأويل (الخطاب وفائض المعنى)، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003، ص124

[94] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص265

[95] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص44

[96] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص270

[97] - المرجع السابق، ص271

[98] - ريكور (بول)، صراع التأويلات (دراسة هرمنيوطيقية)، ترجمة منذر عياشي، م. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، 2005، ص42

[99] - ريكور (بول)، نظرية التأويل، سبق ذكره، ص120

[100] - المرجع السابق ص25

[101] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص46

[102] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص273

[103] - المرجع السابق، ص ص46-47

[104] - ريكور (بول)، نظرية التأويل، سبق ذكره، ص121.

[105] - المرجع السابق، ص125

[106] - ريكور (بول)، نظرية التأويل، سبق ذكره، ص ص122-123

[107] - مصطفى (عادل)، فهم الفهم، سبق ذكره، ص271

[108] - العقاد (عباس محمود)، عبقرية محمد، دار ليان للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص144

[109] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996، ص230، 313 (*) الإدغام في اللغة: مصدر أدغمَ يُدغم، وأدغم إِدغاماً، فهو مُدْغِم، أدْغَمَ الشيءَ في الشيءِ إدغاماً: إذا أَدخلَهُ فيه، أمّا في القراءة فيُقال: أدغمَ الحرفَ في الحرف: أَدْخَلَه فيه وضمّه إليه، والإدغام في الاصطلاح: هو التقاء حرف ساكن مع حرفٍ آخر متحرّكٍ، حيث يصبح الحرفان حرفاً واحداً مُشدَّداً، فيرتفع اللسان ارتفاعةً واحدةً إذا نطق بهما القارئ، وكأنّه حرف، وهو بوزن حرفين.

[110] - السيوطي (جلال الدين)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق. شعيب الأرنؤوط، تعليق مصطفى شيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، 2008، ص9

[111] - الزركشي، (الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله)، البرهان في علوم القرآن، سبق ذكره، ج1، ص ص14-15

[112] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، ط5 مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2014، ص ص42-43

[113] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، تحقيق على عبد الباسط مزيد، مكتبة الإيمان للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص33-38

[114] - المصدر السابق، ص8. راجع أيضاً أحمد أمين، فجر الإسلام، 230-239، 316-319، 321

[115] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، سبق ذكره، ص ص372-373

[116] - العقاد (عباس محمود)، التفكير فريضة إسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص105

[117] - المرجع السابق، ص ص105-106

[118] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، سبق ذكره، ص377

[119] - حسين (طه)، الفتنة الكبرى، ج1 (عثمان)، دار المعارف، القاهرة، 2014، ص ص163-164

[120] - أبو زيد (نصر حامد)، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء- المغرب، بيروت- لبنان، 2014، ص173

[121] - حسن (مجدي عز الدين)، مجلة دراسات إسلامية ع4: التأويل عند الإمام الغزالي، جامعة الخرطوم كلية الآداب قسم الدراسات الإسلامية، 2012، ص15

[122] - حسين (طه)، الفتنة الكبرى، ج1، عثمان، سبق ذكره، ص45

[123] - حسين (طه)، الفتنة الكبرى، ج2 (علي وبنوه)، ط17، دار المعارف، القاهرة، 2014، ص32. راجع أيضاً، الشهرستاني، الملل والنحل، ص38-40

[124] - أبو زيد (نصر حامد)، الخطاب والتأويل، سبق ذكره، ص174

[125] - الطبري (محمد بن جربر)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج5، ط2، دار المعارف، القاهرة، د.ت، ص66

[126] - سكاتولين (جوزيبي)، قراءة للنص الصوفي ملاحظات هرمنيوطيقية، مجلة دفاتر فلسفية العدد الثالث، 2012، ص، 47. نقلاً عن، فاطمة إسماعيل، مقالات في فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص23

[127] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص ص36-37

[128] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، سبق ذكره، ص327

[129] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص26

[130] - المصدر السابق، ص ص129-130

[131] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص182

[132] - أمين (أحمد) فجر الإسلام، سبق ذكره، ص406

[133] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص181

[134] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص131

[135] - المصدر السابق، ص132

[136] - المصدر السابق، ص137

[137] - أركون (محمد)، قراءات في القرآن، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت-لبنان، 2017، ص196

[138] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، سبق ذكره، ص432

[139] - أبو زيد (نصر حامد)، مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، ص234

[140] - المصدر السابق، الموضع نفسه.

[141] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص ص161-162

[142] - أمين (أحمد)، فجر الإسلام، سبق ذكره، ص423

[143] - المرتضي (السيد الشريف)، الفصول المختارة من العيون والمحاسن، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، مؤسسة الإمام الصادق، 2000، ص137

[144] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص ص126-127

[145] - المرجع السابق، ص204

[146] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص163

[147] - المصدر السابق، ص ص161-162

[148] - المصدر السابق، ص101

[149] - مقدمة ابن خلدون، نقلاً عن، أحمد أمين، فجر الإسلام، ص423 (*) هذا ما جعلهم ينطلقون من الواقع وأزماته، وجعل الحسن والقبيح محكوما بالعقل والواقع، فهم كانوا راغبين في تعديل الواقع، عمليين بشكل ملحوظ.

[150] - إسماعيل (محمود)، في تأويل التاريخ والتراث (دراسة نظرية وتطبيقية)، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007، ص34-37

[151] - القاضي عبد الجبار، المغني، تحقيق، عبد الله بن عبد المحسن التركي- عبد الفتاح محمد الحلو، ج14، ط3، دار عالم الكتب للطاعة والنشر والتوزيع، الرياض، 1997، ص ص152-153

[152] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص58

[153] - النيسابوري (أبو رشيد سعيد بن محمد)، في التوحيد (ديوان الأصول) تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، وزارة الثقافة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1969، ص305

[154] - إسماعيل (محمود)، في تأويل التاريخ والتراث، ص37. راجع أيضا، عادل السكري، النزعة النقدية عند المعتزلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017، ص ص67-68

[155] - نصري (ألبير)، فلسفة المعتزلة، ج2(العدل)، مطبعة الرابطة، 1951، ص53 (*) {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبابِ} [آل عِمرَان: 7]. أي أن الراسخين في العلم لا يملكون تأويله ولكنهم يملكون الإيمان به.

[156] - أبو زيد (نصر حامد)، التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، بيروت. لبنان، الدار البيضاء. المغرب، 2014، ص142

[157] - المصدر السابق، ص136

[158] - ابن منظور، لسان العرب، سبق ذكره

[159] - المصدر السابق، ص326

[160] - أبو زيد (نصر حامد)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، سبق ذكره، ص130

[161] - القاضي عبد الجبار أبو الحسن الأسد آبادي، متشابه القرآن. تحقيق، عدنان محمد زرزور، دار التراث، القاهرة، د.ت، ص96

[162] - المصدر السابق، ص123

[163] - إيرنانديث (كروث)، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ترجمة عبد العال صالح، مراجعة، جمال عبد الرحمن، تقديم عبد الحميد مدكور، ج1، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016، ص ص191-192

[164] - أبو زيد (نصر حامد)، الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة)، ط3، المركز الثقافي العربي، الرباط، 1996، ص94

[165] - الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم)، الملل والنحل، سبق ذكره، ص108

[166] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص201-203

[167] - التفتازاني (أبو الوفا الغنيمي)، علم الكلام وبعض مشكلاته، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، ص ص159-160

[168] - عون (فيصل بدير)، علم الكلام ومدارسه، سبق ذكره، ص306

[169] - المرجع السابق، ص314 انظر أيضاً، أبو الوفا التفتازاني، علم والكلام وبعض مشكلاته، سبق ذكره، ص150

[170] - التفتازاني (أبو الوفا الغنيمي)، علم الكلام وبعض مشكلاته، سبق ذكره، ص14

[171] - أمين (أحمد)، ضحى الإسلام (نشأة العلوم في العصر العباسي الأول)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص137

[172] - عفيفي (أبو العلا)، التصوف (الثورة الروحية في الإسلام)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013، ص ص115-116

[173] - المرجع السابق، ص ص118-119

[174] - عفيفي (أبو العلا)، التصوف، سبق ذكره، ص123

[175] - المرجع السابق، ص127

[176] - المرجع السابق، ص122

[177] - عون (فيصل بدير)، التصوف الإسلامي (الطريق والرجال)، مكتبة سعيد رأفت جامعة عين شمس، 1983، ص34

[178] - المرجع السابق، ص120

[179] - حسن (مجدي عز الدين)، مجلة دراسات إسلامية ع4: التأويل عند الإمام الغزالي، جامعة الخرطوم كلية الآداب قسم الدراسات الإسلامية، 2012، ص17-22

[180] - الغزالي (أبو حامد)، قانون التأويل، تحقيق، محمد بن زاهد بن حسن الكوثري، مطبعة الأنوار، 1940، ص ص10-11

[181] - منصور (أشرف)، العقل والوحي، سبق ذكره، ص102

[182] - العراقي (عاطف)، الفلسفة العربية والطريق إلى المستقبل (رؤية عقلية نقدية)، دار الرشد، القاهرة، 1998، ص323

[183] - الغزالي (أبو حامد)، المستصفى من علم الأصول، ج1، تقديم وتحقيق أحمد زكي حماد، دار الميمان للنشر والتوزيع السعودية، ص373

[184] - الخضيري (عائشة)، التأويل وقانونه عند الغزالي بين الإشكالات النظرية وقواعد المنهج، مجلة مشكاة، ع13-14، جامعة الزيتون، ص251 https://search.mandumah.com/Record/825537

[185] - ابن رشد (أبو الوليد)، فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، سبق ذكره، ص97

[186] - منصور (أشرف)، العقل والوحي، سبق ذكره، ص104-108 (*) مدعي النبوة.

[187] - الغزالي (أبو حامد)، قانون التأويل، سبق ذكره، ص9

[188] - ابن رشد (أبو الوليد)، فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، سبق ذكره، ص87

[189] - المصدر السابق، ص96

[190] - الجابري (محمد عابد)، بنية العقل العربي، ط9، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص236

[191] - مهران (محمد)، المنطق والموازين القرآنية (قراءة لكتاب القسطاس المستقيم للغزالي)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص14

[192] - الجابري (محمد عابد)، بنية العقل العربي، سبق ذكره، ص236

[193] - دي بور (ت. ج)، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة. محمد عبد الهادي أبو ريدة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص382

[194] - محمود (زكي نجيب)، قيم من التراث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص ص30-31.، راجع أيضاً، أشرف منصور، العقل والوحي سبق ذكره، ص102-104. راجع أيضاً، مقدمة مراد وهبة لكتابي فصل المقال والكشف فن مناهج الأدلة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2016، ص9. راجع أيضاً، فاطمة إسماعيل، فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص27

[195] - إسماعيل (فاطمة)، مقالات في فلسفة التأويل، سبق ذكره، ص50

[196] - إرينانديث (كروث)، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ج1، سبق ذكره، ص ص494-495

[197] - الغزالي (أبو حامد)، مكاشفة القلوب في حضرة علام الغيوب، تحقيق ط2. طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الإيمان بالمنصورة، 2006، ص207

[198] - إيرنانيث (كروث)، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ج1، سبق ذكره، ص487

[199] - المصدر السابق، الموضع نفسه.

[200] - محمود (زكي نجيب)، قيم من التراث، سبق ذكره، ص22

[201] - دي بور (ت. ج)، تاريخ الفلسفة في الإسلام، سبق ذكره، ص390

[202] - رينان (أرنست)، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957، ص52

[203] - محمود (زكي نجيب)، قيم من التراث، سبق ذكره، ص24

[204] - ابن رشد (الوليد)، تهافت التهافت (انتصارا للروح العلمية وأخلاقيات الحوار) ط1، تقديم وتحليل محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة التراث الفلسفي العربي، بيروت، 1998، 277.وراجع أيضاً، فصل المقال، تقديم مراد وهبة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2016، ص31

[205] - إيرنانيث (كروث)، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ج1، سبق ذكره، ص487

[206] - دي بور (ت. ج)، تاريخ الفلسفة في الإسلام، سبق ذكره، ص346