التأويل في الفكر الغربي بين الفلسفة والدين

فئة :  أبحاث محكمة

التأويل في الفكر الغربي بين الفلسفة والدين

التأويل في الفكر الغربي بين الفلسفة والدين

تمهيد:

إن التأويل صفةٌ كامنة في النفس البشرية، نابعةٌ من حاجات الإنسان الوجودية والغريزية، والفطرة الاستكشافية التي ينفرد به العقل البشري يلازمها عجز نسبي وتطلع مستمر يتوق إلى الإحاطة بكل أسرار الوجود. ولطالما توقّفَ هذا الكائن المؤوِّل أمام غوامض الكون وخباياه يصفها ويفسرها، يسائلها ويؤوِّلها، وهذا يعني أن الكائن البشري "يعتقد في شيء أنه أصل أو أوّل أو أساس، (...) وبهذا الاعتقاد يعمد إلى التأويل بطريق رد الغائب إلى الشاهد، على أن قدرة الكائن البشري المحايثة له القابلة للتطوير وللتنمية، وأن إمكانات الكون لا محدودة، وكلتا المؤهلتين متفاعلة مع الأخرى، ولا يتحقق وجودها إلا بها، فهذه من تلك وتلك من هذه. (...)، يعكس التأويل، إذن، الأوّليات والمبادئ والأعراف ومشاغل أمة من الأمم"[1].

أوّل ما تعلمه أبو البشر آدم عليه السلام هو التأويل؛ وذلك حين علمه الله سبحانه وتعالى "الأسماء كلها"، فصار يعلم الألفاظ وما تدل عليه من مدلولات؛ وذلك "ليس سوى أرضية فهم أو كينونة لفاهمة الإنسان تؤهله لكي يخوض زحام التأويل"[2]. وقد يكون "التعليم الذي تلقاه آدم بإلقاء علم ضروري في نفسه، حيث يخطر في ذهنه اسم شيء، عندما يُعرَضُ عليه فيضع له اسما بأنْ ألهمه وضع الأسماء للأشياء، (...) وذلك بأن خلق قوة النطق فيه وكان ذلك سببا لتفضيل الإنسان على بقية أفراد جنسه، فالإنسان لـمّا خُلق ناطقا معبراً عما في ضميره فقد خلق مدركا أي عالماً"[3]. ولا يكون ذلك إلا بالتأويل؛ إذ يحصل العلم بالموجود الذهني، ولا يتحقق هذا الموجود في الأذهان إلا بتفسير وتأويل الأشياء في الأعيان.

وجماع الأمر أن التأويل قديم قِدم الإنسان نفسه، فهو ليس مجرد ممارسة علمية تنحو إلى التفسير أو الاستكشاف (...) إن التأويل ضرورة وجودية لهذا الكائن "العاقل"، وفطرة متأصّلة في ذاته ميّزه بها الحقُّ سبحانه. وكلّ معنى يواجهه الإنسان، "إنما هو متعلق بوجود تاريخي، عيني محدد، مرتبط بتاريخية معينة منسوب لها محمول عليها، مسند إليها، [إننا] نتشارك الوجود ونتقاسمه من خلال رموز عامة أو علامات مشتركة"[4]. واللغة إنما هي وجه واحد من تلك الرموز، بل هي أهمها وأكثرها تداولا واستعمالاً، وأشدها تركيبا وتعقيداً.

لا مراء أن التأويل كانت له قيمته ومكانته المعرفية، ليس في تأسيس العلوم وتأصيلها، بل في مسار الفكر الإنساني بشكل عام، غير أن استعمالات هذا المفهوم (التأويل) ضمن حقول معرفية متباينة، ووصفه بأسماء مختلفة ومتقاربة (التأويل، التفسير، الفهم، الهرمنيوتيقا)، يطرح جملة من الأسئلة المتعلقة بتاريخ التأويل وماهيته، وبتطور مناهجه وتفاوت مداخله من علم إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى. لأجل ذلك، سنحاول في هذا المقال الوقوف عند أهم المراحل والتطورات التي مرّ منها التأويل عبر تاريخ الفكر الغربي، موجهين تركيزنا بشكل مخصوص إلى الدراسات الفلسفية والدينية. وسنحرص في هذا البحث على اتباع منهج تاريخي وصفي، يتدرج من الأقدم إلى الأحدث، بغية رصد التقلبات والتغيرات التي عرفها هذا المفهوم في الفكر الغربي.

ينتظم هذا المقال في تمهيد وثلاثة محاور ثم خاتمة؛ المحور الأوّل سنعود فيه إلى الفلسفة الأرسطية، لنتعرف على طبيعة التأويل الأرسطي كما بسطه المعلم الأول في الأورغانون. أما المحور الثاني، فإنه يختص بدراسة الهرمنيوتيقا أو نظرية التأويل الديني كما تناولها الفكران المسيحي واليهودي. وأما المحور الثالث، فإننا نخصصه لدراسة التأويليات الفلسفية بالوقوف عند أهم الأسماء التي بصمت التفكير التأويلي في الفلسفة الغربية، بدءاً بـ"شلايرماخر" ومروراً بـ "هيدغر" و"غادامير" وصولاً إلى "بول ريكور". وسنذيل هذا المقال بخاتمة موجزة نستحضر فيها أهم الخلاصات. ولا يفوتنا أن نشير في ختام هذا التمهيد إلى أنّ الحديث عن التأويل في التقاليد الغربية حديث ذو شجون. لذلك، فإننا لا نطمع أن نوفيّه حقه ونحيط بكافة جوانبه وتفاصيله، وإنما نفترض أن هذا العمل لا يعدو أنْ يكون مدخلاً موجزًا لهذا الموضوع المركّب.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] محمد مفتاح: التلقي والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994م، ص: 217

[2] رسول محمد رسول: إنسان التأويل؛ هبة إلهية ومُكنة إنسية، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2020م، ص:14

[3] محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، (د ط)، 1984م، الجزء الأول، ص: 410

[4] يُنظر: عادل مصطفى: فهم الفهم؛ مدخل إلى الهيرمنيوطيقا؛ نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير، مؤسسة هنداوي سي آي سي، (د ط) 2018م، ص- ص: 09 – 10