التاريخ والحقيقة لدى "مارك بلوخ"


فئة :  مقالات

التاريخ والحقيقة لدى "مارك بلوخ"

"في زماننا هذا الذي أصبح يتعرّض أكثر من أي وقت مضى لسموم الكذب والخبر الكاذب، يا لها من فضيحة عندما نرى أنّ المنهج النقدي لا يجد مكاناً له غير ركن صغير من برامج التعليم! ذلك أنه توقّف عند كونه مجرد مساعد متواضع لبعض أعمال مراكز أبحاثنا، وبرغم ذلك، تنفتح أمامه ـ من الآن فصاعداً ـ آفاق أكثر اتساعاً، ويحقّ للتاريخ أن يحسب من بين أمجاده الأكثر تأكيداً أنه بإعداده تقنية بعينها إنما يفتح أمام البشر طريقاً جديداً نحو ما هو حقيقي، وبالتالي ما هو حق"[1].

مارك بلوخ

لم يكن من قبيل المصادفة أن الكتابات التأسيسية الكبرى حول التاريخ قد شهدت ذروتها في فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما، فأمام هذا الموت والخراب الذي حلّ بالعالم، وأمام شعور البشر بأنّ التاريخ لا يسير إلى الأمام، وأمام افتقاد الثقة بالتاريخ وبمبادئ عصر التنوير ارتفعت تساؤلات كثيرة في ثقافات مختلفة عن مسار التاريخ ومغزاه وطبيعته، وعن طبيعة الحقيقة التاريخية، وعن إمكانية معرفتها، وجدواها[2].

بالطبع، كانت هناك تقاليد عريقة ممتدة عبر الزمن لمؤرخين كانوا يطمحون دوماً إلى نقل الحقيقة عن أحداث الماضي كما وقعت بالفعل، وكان البحث عن الحقيقة هو الدافع والمحرك الرئيس لكثير من المؤرخين، في العصور القديمة والوسيطة والحديثة، لكن النقلة النوعية التي حدثت في مجال الكتابة التاريخية، أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما، شكلت لحظة فارقة كشفت عن أعمال كبرى لفلاسفة ومؤرخين من رواد المدارس التاريخية في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا...

وكانت هذه الكتابات، في مجملها، تعكس تطلع أصحابها نحو الحقيقة باعتبارها هدفاً تاريخياً، وأنّ الحقيقة هي روح التاريخ، بل يمكن الوصول إليها بواسطة التاريخ أكثر من العلم[3]،وكانوا يدركون، في الوقت ذاته، كم يحمل التاريخ من الأخطاء والأكاذيب التي ينبغي عليهم كشفها وفضحها من خلال مناهج دقيقة موثوق بها.

كان سؤال الحقيقة، ومعيار الحقيقة، ودرجة اليقين في المعرفة المتوفرة يتواكب دوماً مع النظر من جديد في المناهج التاريخية المستخدمة من قبل المؤرخين، وكلما تطورت المناهج وتقدمت في فلسفاتها وإجراءاتها تقدمنا أيضاً في إدراك الحقيقة والاقتراب منها أكثر فأكثر، فثمة علاقة تلازم بين تقدم المناهج وتقدم إدراك الحقيقة، ومن ثمّ فإن سؤال التاريخ والحقيقة يعني ضمن ما يعني سؤالاً عن المناهج والحقيقة بالضرورة.

ومن يتابع تطوّر الوعي المنهجي الغربي بشكل عام والتاريخي بشكل خاص، ومسار هذا التطور والانتقال من منهج إلى آخر، وكيفية هذا الانتقال أو الصدام بين المناهج وتقويض منهج جديد لمنهج سابق عليه، يكتشف أنّ قضية التاريخ والحقيقة هي، في الوقت ذاته، قضية المناهج والحقيقة.

يشكّل إسهام مارك بلوخ (1886ـ 1944)، ضمن إنتاج هذه المرحلة الفارقة في الكتابة التاريخية،علامة ممّيزة على طريق الوضوح المنهجي والاقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة. ولم يكن غريباً أن يصف البعض إسهام هذا المؤرخ الفرنسي بأنه كان نقطة انطلاق نحو تاريخ جديد، أو اكتمال نموذج إرشادي جديد لعلم التاريخ، وأنّ أفكاره لم يتجاوزها الزمن بعد، فمداها المنهجي والإبيستمولوجي والما بعد تاريخي يمكن أن يساعد في كتابة جديدة للتاريخ[4]. وقد ارتكز في سعيه نحو الحقيقة على تقديم أدوات التاريخ وإجراءاته ومناقشة فعالياتها وحدودها ودرجة اليقين التي يمكن أن يصل إليها المنهج التاريخي.

ويرى البعض أنّ مارك بلوخ من المؤرخين الذين يربطون بين التاريخ والحياة، فالمؤرخ عنده ليس متعهداً للحوادث الماضية، وإنما هو من يضطلع بشؤون الحياة والحاضر، قبل أن يكون منقباً في شؤون الماضي البعيد. كما أنّ مهمة التاريخ والمؤرخ لديه هي البحث عن الحقيقة[5]، غير أنّ الحقيقة عنده لا تنفصل عن الحق وعن الحياة. وهو عندما يطرح سؤال الحقيقة يجيب عنه من خلال الممارسة العملية للمؤرخ، وليس من خلال التصورات النظرية المسبقة، وفي هذه الممارسة يتخلص من الحياد المزعوم والانعزال عن المجتمع والسياسة الذي كان يشكل أحد الأركان الرئيسة للمدرسة الوضعية المنهجية التي نهض بلوخ ضد أطروحاتها، وقدّم نموذجاً فريداً جمع بين المواطن الصالح وبين الإبقاء على المتطلبات العلمية، وخاض معركة مزدوجة على صعيد البحث العلمي وعلى صعيد العمل السياسي، أي أنه خاض معركة التاريخ بالمعنى الشامل للكلمة، وربط بن التاريخ والحريّة.

ويؤكد جيرار نوارييل المعنى ذاته، وهو أنّ الإنجاز الحقيقي لمارك بلوخ هو أنه نقل الاهتمام بالتاريخ من مجال مألوف سائد إلى مجال واسع المقاصد متعدد الرؤى، فقد أكد على أنّ أفضل طريقة في التفكير حول التاريخ هي الاهتمام بممارسات المؤرخين أنفسهم، وهو ما أدى إلى تحول في إدراك الحقيقة التاريخية، والتي لم تعد تقتصر على التطابق بين الواقع وتمثيله، وما يفضي إليه ذلك من مناقشات نظرية وفلسفية، وإنما تصير الحقيقة التاريخية حقيقة من خلال إدراكها في أبعادها العملية أي: كصيرورة اجتماعية، وبخاصة عندما يدركها المؤرخون المتخصصون على أنها حقيقة عبر ممارساتهم المهنية المرتكزة على تقسيم العمل والتخصص والمعرفة التي تتطلب تدريباً وتفترض خبرات وتعاوناً بين كل الممارسين للمهنة. وعندما نطرح السؤال الأهم: ماهي الحقيقة التاريخية؟ نجد أمامنا اتجاهين يفضل أولهما مسألة التطابق بين الواقع وتمثيله وينتهي إلى المناقشات الفلسفية التي تتركز منذ قرن ونصف ـ على الأقل ـ على مسألة موضوع التاريخ ومكانته، وهل هو علم يمكنه أن يدرك بصورة دقيقة وقائع ماضية؟

الاتجاه الآخر: هو اتجاه مارك بلوخ، الذي كان أوّل مؤرخ فرنسي يستكشف فعلياً مسألة الحقيقة التاريخية في أبعادها العملية، حيث يمكن في هذا المنظور أن نعتبر واقعة تاريخية حقيقة عندما يعترف بها كذلك من قبل المختصين في المجال المعني بالأمر، وهذا لا يعني القول: إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تراجع، أو تعدل، أو تنقد. لكن منطق التفنيد ينبغي أن يسلك هذا الطريق من التدليل ومن التصديق الجماعي لأصحاب مهنة التاريخ، ولا تسير علوم الطبيعة بصورة مختلفة عن ذلك[6].

في كتابه الشهير "التاريخ والحقيقة" يعود بول ريكور، كما في كتبه اللاحقة، إلى أهمية إسهام مارك بلوخ، لا سيما في تأكيده على أسبقية العمل التاريخي العلمي، لأنه بفضل مهنة المؤرخ تتضح معالم "الواقعة التاريخية" من حيث هي واقعة بنائية، تؤكد موضوعيتها تماماً مثل أيّة واقعة علمية [7]. ما يري بول ريكور، في كتاب آخر هو: "الزمان والسرد" أنّ الإنجاز الحقيقي لمارك بلوخ ينبغي البحث عنه في التعليقات التي كرّسها لـ "التحليل التاريخي" ـ وهو عنوان الفصل الرابع من كتاب بلوخ ـ حيث أدرك أنّ التفسير التاريخي في حقيقة الأمر يكمن في تأليف سلاسل من الظواهر المتشابهة، وإقامة علاقات بينها، وأنّ هذه الأولوية التي منحها للتحليل على التأليف سمحت له بإجراء نقاش مهم لمشكلة تصنيف الوقائع الماضية، وتسمية الأحداث "النومين كلاتور" بلغة مناسبة، وذلك عندما تساءل: أيحق لنا أن نسمّي الوقائع الماضية بالمصطلحات الواردة بالوثائق ذاتها مخاطرين بنسيان أنّ مفردات الوثائق هي على طريقتها صورة أخرى من صور البرهان، ومن ثمّ فهي موضوع للنقد؟ أم يحق لنا أن نسقط عليها مصطلحات حديثة[8]؟

أمّا جاك لوجوف، فيشير إلى أنّ مارك بلوخ يقف طويلاً أمام مشكلة أثيرة لديه، وهي مشكلة "ملاحقة الخطأ والكذب"، والتي يمتلك خبرة بها لا تتصل بعمله كمؤرخ فحسب وإنما أيضاً بحياته كإنسان وكعسكري عبر الأخبار الزائفة للحرب الكبرى، وهي خبرة أثّرت فيه حتى أنها تركت بصمتها على كتابه "الملوك صناع العجائب"، إنهم أولئك المستفيدون من شعبية ساذجة اعتقدت ـ لعدة قرون ـ بقدرة ملوك فرنسا وإنجلترا على شفاء المرضى من داء الخنازير. حيث يصف مارك بلوخ بدقة ـ في هذا الكتاب ـ الشروط التاريخية لأنماط مجتمعات تابعة، مثل تلك التي كانت قائمة في الغرب في العصور الوسطى، التي لم تكن تعتقد فيما تراه في الواقع، وإنما "فيما تقدر أنه من الطبيعي أن تراه في بعض الفترات".

كما يشير لوجوف أيضاً، إلى أنّ مارك بلوخ الذي يكره هذا الصنف من المؤرخين الذين يغرقون في هوس إصدار الأحكام بدلاً من الفهم: يجذر التاريخ بعمق في إطار الحقيقة والأخلاق. فالعلم التاريخي لا يكتمل إلا في الأخلاق، والتاريخ ينبغي أن يكون حقيقة، والمؤرخ يكتمل كأخلاقي وكعادل. وعصرنا الذي يبحث باستماتة عن أخلاق جديدة ينبغي عليه أن يضع المؤرخ بين هؤلاء الباحثين عمّا هو حقيقي وعمّا هو حق، ليس خارج الزمن وإنما داخله[9].

يمكن النظر أولاً إلى ملامح العلاقة بين التاريخ والحقيقة لدى مارك بلوخ، عبر كتابه "دفاعاً عن التاريخ، أو مهنة المؤرخ"، في إطار حضاري معبّر عن قلق المرحلة التي عاشها بلوخ، والتي دفعته إلى مساءلة التاريخ وهو يبحث عن الحقيقة. حيث يقول بلوخ في تقديمه للكتاب: من غير المتخيل أن تنصرف حضارتنا يوماً ما عن التاريخ. وسيكون من الحكمة أن يفكر المؤرخون في هذا الأمر؛ فالتاريخ عندما يدرك بصورة سيئة يمكن ـ إذا لم ننتبه لذلك ـ أن يفضي في النهاية إلى فقدان مصداقية الأشياء بما في ذلك التاريخ ذاته. وإذا كان علينا أن نصل يوماً ما إلى هذه المرحلة، فإنّ ذلك سيكون مقابل قطيعة حادة مع أكثر تقاليدنا العقلية رسوخاً. في اللحظة الراهنة نحن لسنا في هذا الوضع، نحن لسنا سوى في مرحلة امتحان الضمير. وفي كل مرة تعيش مجتمعاتنا الحزينة أزمة نمو مستمرة تأخذ في الشك بذاتها؛ ونراها تتساءل عما إذا كان لديها الحق في مساءلة ماضيها، أو إذا ما كانت قد ساءلته بصورة جيدة... وفي قلب هذه الدراما قدر لي الإمساك بهذا القلق بصورة عفوية تماماً. لقد كان ذلك في يونيو 1940، في اليوم ذاته، إذا كانت ذاكرتي جيدة، الذي دخل فيه الألمان باريس، ففي حديقة نورماندية، وحيث يمضي رئيس أركاننا المعزول عن قواته وقت فراغه، كنا نتساءل عن أسباب الكارثة، وكان أحدنا يتمتم: "هل كان ينبغي علينا أن نعتقد بأن التاريخ خدعنا"؟ هكذا نرى أمر اكتمال القلق يتفق بمرارة مع الفضول الفطري، وعلينا في كل الأحوال أن نجيب على الفضول والقلق معاً.[10]

وبعد أن ربط مارك بلوخ بين التاريخ والحضارة والبحث عن الحقيقة معاً، شرع في مجمل صفحات كتابه في الربط بين المنهج والحقيقة، وحاول ضبط وتدقيق خطوات المنهج التاريخي كأداة ناجعة في الوصول إلى الحقيقة التاريخية، وصحّح في الوقت ذاته بعض تصورات وممارسات أقرانه في مهنة التأريخ. وهو في هذا الشأن يختلف في بحثه عن توجهات الفلاسفة في سعيهم نحو الحقيقة، ولاسيما فلاسفة التاريخ على وجه التحديد. إنّ تناول مارك بلوخ لمشكلة الحقيقة هو تناول المؤرخ صاحب المهنة، وليس فيلسوف التاريخ الذي يفرض على الوقائع التاريخية أفكاره وغاياته المسبقة.

وعندما نتوغل أكثر داخل متن الكتاب/الوصية الذي تركه بلوخ قبل إعدام الاحتلال النازي له في 1944، نجد أنّ كلّ القضايا تقريباً، التي تطرّق لها بلوخ تلمس بشكل أو بآخر قضية التاريخ بوصفه بحثاً عن الحقيقة، فهو منذ البداية، في تعريفه للتاريخ وهل هو علم أم سرد؟ يرى أنّ "زمن التاريخ ينفر من التنميط القسري على غرار التقسيم الآلي لزمان ساعة الحائط. وأنه لا مناص له من مقاييس متوافقة مع تنوع إيقاعه، وأنه بهذا الثمن فقط من المرونة يمكن للتاريخ أن يأمل ـ وفقاً لكلمة برجسون ـ في إقرار تصنيفاته "مع حدود الواقع ذاته"، وهو ما يشكّل -تحديداً- الهدف الأخير لكل علم"[11].

وحينيدين الولع الشديد بالبحث عن الأصول يرى على النقيض من ذلك: "أنه لن يحدث قط أنّ ظاهرة تاريخيةيمكن أن تفسر بشكل تام بمعزل عن دراسة لحظتها وينطبق هذا - كأمر حقيقي - على كلّ مراحل التطور، مثل تلك المرحلة التي نعيشها أو مثل أخريات، والمثل العربي قد قال ذلك قبلنا" الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم"، ونظراً لانعدام تأمل هذه الحكمة المشرقية فإن دراسة الماضي تفقد أحيانا مصداقيتها"[12].

ويدافع مارك بلوخ بقوة في كتابه عن التعددية في مجال البحث التاريخي. وعنده أنّ علوم الإنسان ليست "في حاجة للتخلي عن أوصولها ولا عليها أن تشعر بالخجل"، لأنّ كلّ علم "إنما هو جزء من الحركة العالمية نحو المعرفة"، ويمتلك جمالية لغة خاصة به، كلّ علم يشكّل "منظوراً ينبغي أن تكمله آفاق أخرى". ويزيد الأمور توضيحاً بقوله: "يأتي الخطر عندما يدّعي كلّ منظور أنّ له وحده حق النظر وعندما تأخذ كلّ منطقة من مناطق المعرفة نفسها على أنها وطن المعرفة"[13].

غير أنّ هذه التعددية لم تفضِ به مطلقاً - كما يرى جيرار نوارييل ـ إلى تبني منظور نسبي يعتقد أنّ لكل واحد حقيقته، كما يرى اليوم أنصار ما بعد الحداثة، وإنما يقدّم لنا ما يمكن أن نسميه "نسبية متوازنة" قد تفضي أحياناً إلى قدر من سوء الفهم في تحليل آراء ومواقف مارك بلوخ، حيث يتم اجتزاء بعض أفكاره بعيداً عن الصورة الكاملة لما خلّفه لنا من أفكار وتوجهات في مجال البحث التاريخي.

ويمكن أن نفهم، في إطار هذه "النسبية المتوازنة"، موقف مارك بلوخ الذي يرى أنّ كلّ بحث تاريخي يتأرجح بين حدّين يحدّدان فضاء الخبرة الخاصة بالمؤرخ، فمن جهة: لا يستطيع المؤرخ أن يسقط لغة عصره على الماضي )حتى لا يقع في مغالطة تاريخية(، ومن جهة أخرى، لا يمكنه أن يتجاهل أنه دائماً ابتداء من الحاضر، ومن وظيفة الحاضر يقوم بقراءة الماضي. وهنا يرى بلوخ أنّ أفضل شيء يمكن أن يقوم به المؤرخ في هذه الشروط هو أن يوضح القناعات التي يرتكز عليها البحث الإمبريقي، وأن يحدّد للأشخاص الذين يتوجه إليهم معنى المصطلحات التي يستخدمها، لأن العمل الحقيقي للمؤرخ لا يمكن أن يبدأ إلا عندما نتثبث من معاني المصطلحات المتفق عليها. وأنّ دور المؤرخ ليس تقديم دراسات حول الزمن، وإنما إزاحة العقبات من خلال إعداد مناهج وتقنيات وقضايا من خلالها تكون العوالم التي سبقتنا أقلّ غموضاً أمامنا. ولهذا السبب تحتلّ قضية المنهج التاريخي، بوصفه اللغة المشتركة التي تجمع بين كل المؤرخين، مكانة كبرى في إسهام مارك بلوخ، لأن المنهج لديه هو الذي يسمح للمؤرخين بالتقدم تدريجياً نحو إعداد قواعدهم الخاصة للحقيقة. إنّ نقد المصدر والتأمل في الشهادات والوثائق يعتبران من الوسائل الناجعة في قضية حسم الزائف والحقيقي في التاريخ.

ونجد هذه "النسبية المتوازنة" لدى مارك بلوخ في أكثر من قضية، وفي أكثر من موضع، أثناء سعيه للوصول إلى ما يمكن أن يكون "حقيقة تاريخية"، فهو ينطلق من البداية في معركة داخل الجماعة التاريخية الفرنسية مقدماً تصوراً جديداً للتاريخ يختلف عن تصوّر رواد المدرسة الوضعية المنهجية السابقة عليه، مشككاً فيما يتصورونه من حياد مزعوم للمؤرخ أمام الوثيقة موضوع البحث، أو الواقعة موضوع التأريخ، التي كانوا يرون أنّ على المؤرخ أن يسردها كما هي، دون تدخل منه، وأن ينمحي أمامها تماماً، بينما بلوخ - ومعه رفيقه لوسيان فيڤر - يرى على العكس: أنّ تدخل المؤرخ ضروري وفعاّل أمام الوثيقة، وليس هنالك شيء من تلقاء نفسه، ليس هنالك شيء معطى، كلّ شيء يبنى، "عندما لا نعرف عمّا نبحث لا نعرف ماذا نجد"[14] كما كان يقول لوسيان فيڤر. وإنّ عمل المؤرخ لا يمكن أن يبدأ مع جمع الوثائق فقط، وإنما هنالك تساؤلات تسبق هذه المرحلة قد تصل أحياناً إلى درجة التشكيك في التسميات المستخدمة في الوثيقة، كما أشار إلى ذلك في الفصل الرابع من الكتاب والخاص بالتحليل التاريخي.

غير أنّ "النسبية المتوازنة" التي تبناها مارك بلوخ لم تجعله ينطلق بعيداً في هذا الشأن، كما يفعل فلاسفة التاريخ الذين يدخلون حقل البحث التاريخي وهم محمّلون بتصورات وفلسفات كاملة يبحثون عن وقائع تاريخية تسندها لتؤكد "مغزى التاريخ" وغاياته على النحو الذي يؤمنون به. فمن الصحيح أنّ مارك بلوخ لا يؤمن بالحياد المزعوم للباحث التاريخي، لكنه من الصحيح أيضاً أنه لا يبتعد كثيراً عن هذا الحياد، وهو ما طوّره بول ريكور، فيما بعد، بتعبيرات أخرى عن ممارسة تاريخية لنوع من التوتر الدائم بين موضوعية لا تكتمل أبداً وبين ذاتية منهجية مطالبة بأن تتخلص من جزء من ذاتها. وفي خضم هذا التشابك بين الذاتية والموضوعية الذي يسيطر على التاريخ يرى ريكور أنّ من الضروري التمييز بين ذاتية حسنة وذاتية معيبة[15]تنغمس في تفكيرها بعيداً عن متطلبات الممارسة المهنية للبحث التاريخي، ويحذر من إغراء تاريخ يدّعي الموضوعية حيث لا يكون فيه مكان إلا للبنى والقوى والمؤسسات، وليس أبداً للبشر والقيم الإنسانية. ويخلص ريكور، استناداً إلى مارك بلوخ الذي عرّف التاريخ بأنه "العلم الذي يدرس البشر في الزمان"، يخلص إلى القول بأنّ "موضوع التاريخ هو الذات الإنسانية نفسها".

تتبّع فرانسوا دوس، في دراسته الرائدة عن مدرسة الحوليات، عملية الدفاع عن التاريخ والبحث عن الحقيقة التي بدأها بلوخ مع فيڤر منذ تأسيسهما لمجلة الحوليات عام (1929)، ويرى دوس أنّ سرّ نجاح مدرسة الحوليات يكمن في استراتيجاتها في استملاك إجراءات ولغات العلوم الاجتماعية المجاورة للتاريخ. وأوضح أنّ مارك بلوخ ولوسيان فيڤر كانت لديهما مرونة كبيرة وحركية واسعة وقدرة على إدماج ما يمتلكانه من حقول معرفية أخرى مجاورة للتاريخ، وكانت استراتيجيتهما الصارمة في التحالفات المعرفية تسمح لهما بإقصاء الخصوم بسهولة كبيرة، كما حدث مع رواد المدرسة الوضعية المنهجية، مما دفع ببعض الباحثين إلى إعادة نظر في الصورة التي رسمها بلوخ وفيڤر للمدرسة السابقة عليها. لقد كانت استراتيجية مارك بلوخ ترفض الذوبان في العلوم الاجتماعية المجاورة للتاريخ، لكنها في الوقت نفسه تتبنّى إجراءات هذه العلوم وتدمجها في مناهج ومفاهيم التاريخ، على نحو ما قام به مارك بلوخ في دراسته التأسيسية والفريدة عن "المجتمع الإقطاعي"، حيث أدمج مقولات سوسيولوجية في خدمة التاريخ[16].

ويمكن النظر أخيراً إلى ملامح التاريخ والحقيقة لدى مارك بلوخ من منظور منهجي وأخلاقي في آنٍ واحد. فضبط قواعد المنهج التاريخي وتصحيح ممارسات المؤرخين، على صعيد تطبيق المنهج والإجراءات تتوافق مع ما يمكن أن يكون "أخلاق الحقيقة"، فهو من الذين تحدّثوا مبكراً عن ضرورة الفهم المتعاطف أو التفهم أوّلاً، وصرخته الشهيرة التي يتدوالها المؤرخون والسياسيون عن روبيسبير خير نموذج لهذا المنظور المنهجي والأخلاقي في إدراك الحقيقة التاريخية.

ويقدّم بلوخ ـ تحت عنوان في ملاحقة الكذب والخطأ ـ تحليلاً عميقاً "يرى أنّ هناك فترات، مثل الأفراد، مولعة بالكذب، كما في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن التاسع عشر، لدى أجيال ما بعد الرومانطيقيين، وفي حقبة الرومانطيقيين (....)، كما يمثل العصر الوسيط، ولا سيما من القرن الثامن حتى القرن التاسع، نموذجاً آخر لهذا الوباء الجماعي (من الكذب). بالطبع أغلب هذه الوثائق المزورة، مراسيم بابوية، وسجلات أديرة اخترعت بأعداد كبيرة في تلك الأوقات، وذلك بغرض استجلاب منافع بعينها".

يشير بلوخ إلى أنّ "من بين كلّ السموم القادرة على إفساد الشهادة/الوثيقة يشكّل الكذب أكثرها بروزاً"، كما يشير إلى أنّ الكذب يمكن أن يأخذ شكلين "إنه أولاً الخداع حول المؤلف وتاريخ الشهادة، من قبيل التزوير بالمعنى القانوني للكلمة؛ فكلّ الخطابات المنشورة، على سبيل المثال، باسم ماري انطوانيت لم تكن هي كاتبتها، حيث حدث أن زورت في القرن التاسع عشر؛ ويأتي بعد ذلك الخداع في المضمون حيث هناك أخيراً شكل أكثر مكراً في الخداع، وبدلاً من حقيقة مضادة متوحشة (أي كذبة صريحة، إذا جاز القول) هناك ذلك التعديل الماكر، حيث الحشو في المواثيق الأصلية، وذلك في الرد والمزينات، وفي ثنايا وثيقة مؤكدة بشكل واضح تلصق تفاصيل خارجية عن الأصل...".

ويصل مارك بلوخ في نهاية تحليله إلى نتيجة مفادها أنه لا يكفي قط ملاحظة الخداع بل ينبغي أن نكشف دوافعه أيضاً، لأنه إذا لم نلاحق أثر ذلك الكذب أولاً بأول وبصورة دقيقة، وإذا ظلّ هناك شك حول أصول هذا الخداع فسيظل الأمر مستعصياً على التحليل، ونصل فقط إلى نصف برهان، وخاصة أنّ الكذب هو على طريقته نوع من الشهادة[17].

وعلى الرغم من اعتراف مارك بلوخ، في تقديمه للكتاب، بنقص في التكوين الفلسفي وفي تقييم إجراءات التحقيق التاريخي، من خلال ربطها بمعظم الاتجاهات التي تظهر في اللحظة ذاتها، ضمن أنظمة العلوم الأخرى، والحال كما يقول بلوخ: "أنّ هذه الدراسة للمناهج تشكل في حد ذاتها، وعلى طريقتها، تخصصاً يلقب الممارسون له بفلاسفة. وهو لقب لا أسمح لنفسي به، ولا يمكن لي أن أقدّم هذا الكتاب إلا بما هو عليه، أي بوصفه يوميات صانع يود دائماً أن يتأمل في مهمته اليومية، ودليلاً للعامل الذي اعتاد حمل المسطرة والشاقول الأفقي، دون أن يحسب نفسه عالماً رياضياً"[18]. أقول برغم هذا الاعتراف، وهذا التواضع الذي يسم كبار المؤرخين، فإنّ مارك بلوخ قدّم لنا رؤية فلسفية متناثرة عبر ملاحظاته الصائبة والتي تميزت بـ "نسبية متوازنة" جديرة بالتأمل، ودون أن تبتعد كثيراً عن المتطلبات العملية للبحث التاريخي.

المراجع:

-مارك بلوخ، دفاعا ًعن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، القاهرة (2013)، الطبعة الثانية.

-هنري ايريني مارو، من المعرفة التاريخية، ترجمة جمال بدران، ومراجعة دكتور زكريا إبراهيم،الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة (1971)

-بيفرليسوسجارت، التاريخ ماذا؟ ولماذا؟، ترجمة دكتورة فريال حسن خليفة، مكتبة مدبولي، (2013)

-اوليفية دو مولان، مارك بلوخ، دار مطبوعات العلوم السياسية، باريس (2000)

-اولريش رولف، مارك بلوخ مؤرخ القرن العشرين، منشورات دار علوم الإنسان، باريس (2005)

-د.ميلود بالعالية دومة، التواصل والتاريخ (بحث في فلسفة التاريخ عند بول ريكور)، دار ابن النديم والروافد الثقافية، الجزائر (2012)

-فرنسوا دوس، التاريخ المفتت، ترجمة د. محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت (2009)


[1]مارك بلوخ، دفاعاً عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، القاهرة (2013)، الطبعة الثانية، ص 189

[2]هنري ايريني مارو، من المعرفة التاريخية، ترجمة جمال بدران ومراجعة دكتور زكريا إبراهيم،الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة (1971)، ص 7 و183 و201

[3]عن الإلياذة، الأنشودة الثانية، البيتان 204 و502، نقلاً عن المرجع نفسه، ص 61

[4]اوليفية دو مولان، مارك بلوخ، دار مطبوعات العلوم السياسية، باريس (2000)، ص 129

[5] أولريش رولف، مارك بلوخ مؤرخ القرن العشرين، منشورات دار علوم الإنسان، باريس (2005) ص 317

[6]مارك بلوخ، دفاعاً عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، القاهرة، (2013)، الطبعة الثانية، ص 43

[7]د.ميلود بالعالية دومة، التواصل والتاريخ (بحث في فلسفة التاريخ عند بول ريكور)، دار ابن النديم والروافد الثقافية، الجزائر (2012)، ص 77

[8]المرجع نفسه، ص 120 و121

[9]مارك بلوخ، دفاعاً عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، القاهرة، (2013)، الطبعة الثانية، ص 75

[10]المرجع نفسه، ص 88 و89

[11]المرجع نفسه، ص 67

[12]المرجع نفسه، ص 110

[13]المرجع نفسه، ص 42

[14]قول منسوب لريموند بوانكاري نقلاً عن لوسيان فيفر.

[15]د.ميلود بالعالية دومة، التواصل والتاريخ (بحث في فلسفة التاريخ عند بول ريكور)، دار ابن النديم والروافد الثقافية، الجزائر (2012)، ص 54

[16]المرجع نفسه، ص 64

[17]مارك بلوخ، دفاعاً عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، القاهرة، (2013)، الطبعة الثانية، ص 154 و170

[18]المرجع نفسه، ص 98