الشّعر والرّواية في العالم العربي: من ثقافة الأذن إلى ثقافة العين


فئة :  مقالات

الشّعر والرّواية في العالم العربي:  من ثقافة الأذن إلى ثقافة العين

"الشّعر هو أن تحكي رواية العالم في جملة"

مقدمة:

ظلّ الشعر ديوان العرب منذ نشأتهم دون أن يزاحمه في ذلك فن قولي آخر، إلى أن جاءت الرواية وبدت منافسة حقيقية له، بل غزت كلّ قلاعه وحصونه الكائنة والممكنة، خاصة مع بروز الرواية كجنس أدبي عالمي بات يحظى بالإجماع والشهرة، وغدا كتاب الرواية من الجنسين الأكثر شهرة من بين باقي الأدباء والكتاب والفلاسفة والمفكرين؛ فما الذي حدث حتى يتحول العالم كله من الشعر والقصيدة إلى الرواية والسرد؟

في العالم العربي، كيف يمكن استيعاب تحول الرواية إلى ديوان العرب الجديد؟ وكيف توارت القصيدة إلى الخلف مفسحة المجال للرواية والروائيين؟ هل الأمر مرتبط بالدعم الكبير الذي باتت الرواية العربية تلقاه من قبل عدد من المؤسسات الثقافية، خاصة مع بروز جوائز ضخمة، البوكر، كتارا....إلخ. خاصة على مستوى العائد المالي، بعد أن أصبح لها في التلقي العالمي موطئ قدم، ومساحة تجلي، خصوصا بعد أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، وهو ما توافق شكليا وفنيا مع تحولات كبيرة شهدتها الرواية العربية خاصة على مختلف مستويات التجريب: الشكل، التقنيات، الأسلوب...إلخ، وطبعا هي تحولات شملت أيضا الشعر العربي الذي عرف بدوره انقلابا على مستوى الشكل، كما عى مستوى اللغة والإيقاع، وهي تحولات باتت تنحت مسارا يضيق الفجوة ما بين الجنسين، خاصة مع قصيدة النثر المفتوحة على أشكال ونصوص أقرب إلى السرد منها إلى الشعر، حتى وإن كان الشعر كائنا ثاوياً في كل بنية وفي كل جنس، ما دام الشعر جوهر الوجود الإنساني وأساس فعل المحاكاة إن جاز لنا أن نستحضر أرسطو في كتابه "فن الشعر".

شكل الانتقال من ثقافة الأذن المرتبطة بحاسة السمع، إلى ثقافة العين المرتبطة بالصورة، مرحلة أساسية في تاريخ العرب الذين غزتهم العولمة والتقنية

تحولات السرديات الكبرى وانهيار مفهوم الجماعة:

في المغرب كما في العالم العربي، انتقل عدد كبير من الشعراء من القصيدة إلى الرواية، وقبل ذلك من القصيدة إلى القصة القصيرة، وهو انتقال شمل عددا مهما من الأسماء المشهود لها بالإبداع والكفاءة، وهناك أسماء أخرى زاوجت ما بين الاثنين، خاصة ما بين القصة القصيرة والشعر، وهي مرحلة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. ومن بينهم: جمال بوطيب، صاحب روايتي، "سوق النساء"، و"خوارم العشق السبع"، والشاعر عبد السلام المساوي، صاحب "عناكب من دم المكان"، والشاعر مهدي حاضي صاحب رواية "حين ينضج الصمت". ناهيك عن شعراء زاوجوا القصيدة بالقصة القصيرة من قبيل ياسين عدنان، الذي كتب أيضا الرواية من خلال روايته "هوت ماروك"، طه عدنان، ورواد الغارة الشعرية بمراكش، وقبل أن ينتقل عدد كبير من الكتاب من الشعر إلى الرواية، انتقالا تأسيسياً، ارتبط بهجران القصيدة واعتناق الرواية، في المغرب كما في العالم العربي، ولعل من بينهم الشاعر محمد الأشعري، صاحب روايات: "جنوب الروح"، "القوس والفراشة"، "علباء الأسماء"، "ثلاث ليال"، والشاعر المغربي حسن نجمي، صاحب رواية "جيرلترود"، والشاعرة المغربية عائشة لبصير، صاحبة رواية "ليالي الحرير"، والشاعر اللبناني، شربل داغر، صاحب رواية، "شهوة الترجمان"، "ابنة بونابرت المصرية"، و"وصية هابيل"، الشاعر الليبي عمر الكدي، صاحب روايات: "حرب ماريش وثوراتها الثلاث" و"حوليات الخراب"، والشاعر الأردني جهاد أبو حشيش، صاحب رواية "بيمان: درب الليمون"، والشاعر العراقي عبدالهادي سعدون، صاحب رواية "مذكرات كلب عراقي" ...إلخ من الأسماء العربية المتعددة.

وإذا كانت معظم هذه الأسماء من الجنسين قد اشتهرت رواياتهم وانتقالهم من القصيدة إلى الرواية مع بداية الألفية الثالثة، فإن التأسيس لهذا الانتقال، بدأ مع نهاية الثمانينيات. لقد كان العالم يمر من مرحلة مهمة في تاريخه، وهو التاريخ الذي جعل الشعر في العالم أجمع يتوارى إلى الخلف، بعد انهيار السرديات التأسيسية الكبرى، وبروز الفردانية كفاعل وجودي، وعامل من عوامل الهوية الجديدة، ولعلنا نجد في انهيار السردية الماركسية، بانهيار المعسكر الشرقي، نهاية الثمانينيات، مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، بكل ما ارتبط بذلك من تحولات كبرى، شملت هوية الفرد كما الجماعة، وهو ما يتجلى في بروز نحو فردي جديد (UN nouveau grammaire de l’individu) بتعبير دانيال ما رتيسولي، بموجبه أصبح فعل التلقي- كما فعل التجاوب- الأدبي فرديا بالأساس، باعتباره فعلا مغتربا عن مفهومي الجماعة والنسق.

إن أفول هذه السردية، كان قد تأسس على مستوى الشكل، قبل المضمون، في السياسة كما في الثقافة والاجتماع عموما، وهو تأسيس شمل البنية المعمارية كما في تحولات الهندسة المعمارية للمساكن والمباني، وهو ما شكل جوهر السوق بمفهومه الليبرالي للكلمة.

كان العالم في هذه الفترة، يشهد تحولات على مستوى العمق والكثافة، وهي تحولات شملت القصيدة كما شملت القصة التي أصبحت تميل نحو القصر والكثافة، ونحو الإيجاز والاختصار، وهي الكثافة التي ستؤسس جوهر التعالق ما بين الشعر والرواية لاحقاً، على مستوى كثافة الصورة الشعرية، ورحابة الصورة السردية. فمن القصة إلى القصة القصيرة، ومن القصة القصيرة إلى القصيرة جدّاً إلخ، والشعر من القصيدة الطويلة إلى القصيرة إلى الشذرة إلى شعر الهايكو، إلى القصيدة السطر... كلها تحولات تعالقت ثقافيا واجتماعيا مع تحولات في هندسة العمل والسكن واللباس وما إلى ذلك.

عربياً عرف الشعر العربي تحولات كبيرة، هيأت الشعوب العربية لتقبل انهيار عدد من السرديات الكبرى، ومن بينها انهيار القومية العربية، انهيار الاشتراكية، انهيار الوطنية ....إلخ، تطوراً كبيراً على صعيد الشكل والأسلوب أيضاً..، وهي تحولات شملت الشكل والأسلوب معاً، حيث ولدت القصيدة التفعيلية التي أحدثت انقلاباً في الذاكرة الشعرية للعرب التي ألفت العمودية، ولا شك أنه حدث كبير أن تقتنع الذائقة الشعرية العربية بهذا الوافد الجديد بعد عقود طويلة من تلقي الشعر العمودي، ونجحت قصيدة التفعيلة وانتشرت وأثرت الشعر بآفاق جديدة من الإبداع على مستوى الشكل والموضوعات والأسلوب والتأثيرات أيضاً.

الشعر والرواية من ثقافة الأذن إلى ثقافة العين:

شكل الانتقال من ثقافة الأذن المرتبطة بحاسة السمع، إلى ثقافة العين المرتبطة بالصورة، مرحلة أساسية في تاريخ العرب الذين غزتهم العولمة والتقنية وحملتهم مجبرين على اعتناق عالم الصورة دون أن يتأسس هذا الفعل على قاعدة معرفية تجلت بالنسبة إلى المجتمعات الغربية في التعليم والكتابة أساسا. فالكتابة/ القراءة؛ أي تعالق الحسي بالحركي، واليد بالعين، ظلت في العالم العربي نخبوية إلى حد كبير، بل وإيديولوجية مرتبطة بالسلطة والسياسة، حيث ظلت الأذن رمزاً تلخيصيا للجماعة وللتلقي الجماهيري، لذلك ظل الشعر في تاريخ العرب رهانا لهذه السلطة ولإجماع الجماعة، ولذلك ظل الشعر ديوان العرب بامتياز، حيث لم يكن ممكنا تصور الفرد ولا الفردانية، ولا تصور تخييل في غياب مخيلة الشعراء. ولا تصور للعين في أبعادها السيميولوجية والوظيفية، حيث ظلت الأذن وسيلة العين في الوصف والعبارة.

إن انهيار سردية الأذن، ليس في العالم العربي فحسب، بل في كل العالم، جعل سلطة الأذن تنهار نتيجة ضربات الصورة التي اجتاحت العالم من كل حدب وصوب، وهو ما كان للعالم العربي موعد معه بدءاً من الخمسينيات بانتقال التلقي الجماهيري للإعلام من الراديو إلى التلفاز، ومن التلفزة إلى الفيديو، وما فيديو إلى الدش، ومن الدش إلى الفضائيات المفتوحة، ومنها إلى شبكات التواصل الاجتماعي. وضمن هذا الأفق لم يكن العالم العربي يستوعب حجم الهزات والتحولات التي شملت الأدب والفكر، كما شملت السياسة، وتحول الخطاب من بنائه الجماعي وتلقيه الجماعي إلى بنائه الجماعي وتلاقيه الفردي؛ فالقصيدة كانت فردية الإنتاج، لكنها جماعية الإنصات والتلقي في المهرجانات والملتقيات، وكان الشعر لا يقرأ شعره إلا بمشاركة آخرين، حتى كان للقصيدة جسد جماعي، وخطاب الزعيم السياسي لم تكن له قيمة إلا في تجاوب الأنصار، الذي كان يسجد حضوره وفق مفهوم الامتداد، وحتى إذا تم ارتجاله، فإنه كان ارتجالا جماعيا، مخترقا بتناصات زعماء وقادة سياسيين آخرين، خاصة في اليسار التقدمي. إنها سطلة الأذن التي انهارت أمام سطوة الصورة، بعد أن انهار الليل أمام النهار الذي باتت له ذاكرة بصرية مستقلة عن ذاكرة الجماعة الشفهية.

أصبحت للرواية قدرة رهيبة على تمثل واستيعاب أنماط أدبية وسردية متعدد ومختلفة مكنتها من تمثيل وتقديم الواقع بمختلف تجلياته

ضمن هذا السياق، كانت الصورة تتوسع على حساب الصوت، وتتمدد العين وتكبر على حساب انكماش الأذن، وهو ما جعل القصيدة تتحول، وفي تحولها تحاول أن تتكيف مع حجم التحولات التي يعرفها العالم كما العالم العربي. وبعد أن زاحمت القصة القصيرة الشعر في تسعينيات القرن الماضي، سيكون لارتباط الرواية بالسينما والدراما أثر كبير في تحولات المشهد الأدبي العربي، إذ سرعان ما سوف يحتد التنافس في سوق الرواية والسرد عموما، خاصة بعد أن شملت التحولات لغة التواصل اليومي التي أصبحت أكثر جفافا بابتعادها عن التجريد والاستعارات، بل أصبحت بنيات المشابهة أكثر ميكانيكية، مما جعل تلقي الشعر يسقط في خلل وظيفي، جعل الناس تنعته بالغموض والإبهام، في مقابل انفجار الدلالة في الرواية نتيجة كثافة المعنى وعمقه الناشئين عن تحالف الشعري بالسردي، والوصفي بالحكائي. بإيجاز، لقد أصبحت للرواية قدرة رهيبة على تمثل واستيعاب أنماط أدبية وسردية متعدد ومختلفة مكنتها من تمثيل وتقديم الواقع بمختلف تجلياته، مستوعبة في ذلك الحجم كما الشكل.

لقد كان الشاعر عبر تخييلاته وبنائه للصور واستعاراته الجميلة هو من يغذي الذاكرة الجماعية بالصور عبر توظيف بنيات المشابهة في توليد العوالم الممكنة، بيد أن ولوج عصر الميلتيميديا، وعصر كثرة النماذج والصور، جعل الذاكرة الجماعية تنشطر على مستوى التلقي، وتتحول إلى ذاكرة بصرية فردية، لم تعد في حاجة إلى صور الشاعر. "مرة أخرى، فإن هذه الشعرية ستكون موجودة أو غائبة، وهو ما يتوجب الاستمتاع به أو العثور عليه. وخلافاً للقصة القصيرة، فإن الشعر القائم على السرد لا يمنح نفسه بالسهولة ذاتها بسبب الكثافة المفترضة في بنائه والدقة في اختبار أقلّ مفرداته شأناً والإحكام في ضرباته النهائية. لن تكون سارداً فقط، لكنك ستكون في اللحظة عينها شاعراً. وهنا تقع العقبة القصوى. عين على الحكاية المتخيّلة وعين متزامِنة على نقاء الكلام الذي يتوجب إبقاؤه في الفضاء الشعري وحده. إن السرد في الشعر عنصر يشتغل على يد الشاعر وبرؤيته. عنصر واحد قد يكون طاغياً في تجربة محدّدة ومختفياً في تجربة وجودية أخرى" (الحمامصي، موقع البيان، 2011). ضمن هذا الأفق، فإن انتصار شكل على شكل، أو جنس على جنس أدبي آخر، لا يعني انتفاء الشعرية عنهما، بقدر ما يعني انتصار الكتابة لزمنية الواقع، وهي زمنية تخضع لشرط التحول المستمر. والراهن بات منصهرا في زمنية مجتمعات الفرجة.

على سبيل الختم:

إذا كانت الأجناس الخالصة محض اختلاق، أو يوتوبيا لا تنفصل عن عالم خالص متخيل، فإن واقع الوجود الإنساني في تجلياته الفنية والجمالية والإبداعية، يشهد على درجات من التلاقح والتناص والاختراق، ولهذا، فإذا كان الشعر أصل لكل فعل تخيلي، ولكل محاكاة، بما أن شعر هو فن الوجود، فإن كل فن أدبي هو مخترق بالضرورة بما هو شعري. من هنا فتواري القصيدة التي منحت مكانتها للرواية، لا يعني البتة تواري الشعر، لأن الشعري ماثل ومحايث للروائي، مهما اختلفت وتعددت الأساليب والأشكال.

إن توظيف بنيات المشابهة وفق قواعد الخلق الفني والجمالي، بما يتوسله من تجديد وتجريب هو في الأساس فعل شعري، ولذلك، فالرواية بالنهاية هي تسريد للشعري وتفكيك للتكثيف، وتمديد للاختصار. لقد تحول العالم مع تضخم الليبرالية المتوحشة، وتضخم الفردانية نتيجة انهيار السرديات الكبرى إلى بنية منعزلة عن صوت الوجود، الذي تحول بدوره إلى مجرد سيمولاكر، يعاني الهشاشة التي تؤسس لثقافة الصورة، وقد تحولت إلى مجرد نسخ. من هنا، ينشأ الاغتراب والتنافر الحواسي ما بين أذن تنصت لعمق العالم، وعين تكتفي بالسطح، وهو ما تشتد وتيرته في المجتمعات العربية، خاصة في زمن شبكات التواصل الاجتماعي ومجتمع الفرجة، حيث كلما توغلنا في هذا الاغتراب، كلما فقدت القصيدة سطوتها وغدت مجرد كليات غامضة، في حين أن زمن الفرجة والمشهدية يحتاج إلى الرواية، باعتبارها قدرة رهيبة على سرد التفاصيل، وهو سرد لا يكتمل بهاؤه دون شعرية.