المرأة المصرية في عهد عبد الناصر بين الهوى والمنطق


فئة :  مقالات

المرأة المصرية في عهد عبد الناصر بين الهوى والمنطق

المرأة المصرية في عهد عبد الناصر بين الهوى والمنطق

منى مسالمه

لم يكن الأمر عاديا بالنسبة إليّ، أن أنشأ في بيت رجل ناصري، كانت تلك الصورة التي ماتزال مطبوعة في ذاكرتي حتى هذه اللحظة بكل وضوح، والتي تعود لرجل ورثنا محبته منذ الطفولة. لا أنكر أنني ما زلت أحمل ذات المحبة الطفولية لهذا الرجل.

صادفت الكثير ممن يحملون عكس قناعاتي تجاه عبد الناصر، وكنت في بداية الأمر أتخذ موقفا حادا منهم، إذ كنت لا أستطيع تقبل أي شيء خارج نطاق "ناصريتي الموروثة".

لست بصدد الدفاع عنه، أو كسر ما أحمله في وجداني له، هي مجرد رغبة في الاطلاع على وضع المرأة المصرية في عهد عبد الناصر؛ وذلك حين طالعت بعضاً من تاريخ النسوية المصرية، بعد تجربة جميلة في التعرف على التاريخ الشفوي، والتي كانت سببا في هذه القراءة، وكان لا بد من الإشارة السابقة لأكون أكثر وضوحاً وحيادية في كلامي اللاحق.

وبما أنني لا أؤمن بأن وضع المرأة ومكانتها أمر ثانوي، يؤجل على حسب سلم أولويات تعكس ماهية تلك المجتمعات، ولا أستطيع تقبل الفصل بين الحرية العامة للشعوب واستثناء مؤقت لحرية المرأة على أنها مواطن من الدرجة الثانية. ولدي قناعة أن مكانة المرأة هي انعكاس لمستوى تقدم المجتمعات على اختلافها، هذا وقد صادفت في الوضع السوري الحالي آراء لبعض الأصدقاء وغيرهم يستهزئون فيها بأي مطلب يندرج تحت مسمى النسوية على أنه ترف بغير أوانه.

وضع المرأة في عهد عبد الناصر هو أيضا انعكاس مهم لتلك الحقبة الناصرية، والتي توصف ما بين عهد الدكتاتور والدولة الشمولية، أو البطل القومي للعرب ومقاوم الاحتلال والاستعمار ونصير الفقراء إلخ.

لمحة عن تاريخ النسوية المصرية

تعد الحركة النسوية المصرية الأقدم والأهم في المنطقة العربية، فغالبية المصادر تُرجع نشأتها إلى مظاهرات عام 1919، والتي لعبت فيها النساء المصريات دورا كبيرا، وهذا ما ترفضه الدكتورة هالة كمال في ورقتها "لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها"[1]، إذ أكدت في أن هناك مصادر تاريخية تشير إلى مشاركة النساء المصريات في مقاومة الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وبحسب رأي الدكتورة نفسها، والذي ذكرته في ذات الورقة[2] (يمكن النظر إلى تاريخ الحركة النسوية المصرية، باعتباره نضالاً متواصلاً في سبيل العدالة والمساواة في المجالين العام والخاص)، ثم أضافت "وعلى الرغم من عدم إنصاف قدر كبير من المشاركة النسائية في العمل السياسي بصفة النسوية من حيث عدم تعبيرها عن مطالب نسوية مباشرة مثل المطالب المناهضة للاحتلال البريطاني في مطلع القرن العشرين أو تلك الساعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن أي فعل اجتماعي تقوم به النساء وبصرف النظر عن مطالبه المباشرة يحمل في رأيي بعداً نسوياً"[3] وهذا ما أتفق معها عليه بشدة، إذ إن نضال النساء بغض النظر عن الهدف المباشر هو مشاركة غير مباشرة في نضالهن النسوي أيضا.

تزخم الحركة النسوية المصرية بالأسماء؛ ففي البدايات كانت هناك أسماء مثل ملك حفني ناصف، نبوية موسى، هدى شعراوي، سيزا نبراوي وغيرهن، وهناك اسمٌ مرّ معي لم يتكرر كثيرا، وهو هند نوفل، سيدة سورية هاجرت إلى مصر مع عائلتها بعمر عشر سنوات، وكانت أول امرأة في العالم العربي تؤسس أول صحيفة تختص بقضايا المرأة فقط، وكان ذلك في عام 1892.

غالبا ما يؤكد أنصار الرئيس جمال عبد الناصر على أن العهد الناصري أنصف المرأة، ومنحها في دستور عام 1956 حقوقها السياسية كاملة، وضمن لأول مرة حق المرأة في الانتخاب والترشح، وطبق عليها مبدأ تكافؤ الفرص وتساوت مع الرجل في الأجور والمرتبات؛ وذلك دون ذكر لدور الناشطات اللائي قمن بالإضراب عن الطعام لنيل تلك الحقوق، وكانت درية شفيق أولى تلك الأسماء، والتي قامت بالاحتجاج لعدم وجود امرأة واحدة في اللجنة الدستورية. وعليه، قامت بإضراب عن الطعام مع صديقاتها لمدة عشرة أيام استطاعت على أثره انتزاع حقوق سياسية للنساء، وقد اختلفت مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي فرض عليها الإقامة الجبرية وأغلق مجلتها.

هنا يتجاهل الطرف الناصري ذكر مثل تلك الأسماء ومساهمتهن في تلك الإنجازات، وما تعرضن له من مضايقات، ولكن بالمقابل هل يُعتبر قبول عبد الناصر أمراً إيجابياً؟، حتى ولو أخذت هذه المطالب بنضال سيدات من مصر، ولم يمنحها من تلقاء نفسه. وهل كان مرغماً عليها تحت أي ضغطٍ كان قد توافق مع تلك الفترة الحساسة من توليه الرئاسة، أم إنها عكس ذلك؟

في مصر وتحديدا ما قبل عبد الناصر، لم يسبق أن دخلت المرأة المصرية للبرلمان أو قامت بتولي منصب وزاري وغير ذلك من المناصب التي كانت حكرا على الرجال فقط، بينما حدث ذلك في عهده، حيث تولت المرأة المصرية العديد منها، فكانت راوية عطية أول نائبة بالبرلمان عام 1957، وكانت أول امرأة تعمل كضابطة في الجيش المصري، حكمت أبو زيد، وهي أول وزيرة للشؤون الاجتماعية في مصر عام 1962، وكانت أمينة السعيد، أول رئيسة تحرير وأول سيدة عضوة منتخبة في مجلس نقابة الصحفيين عام 1959، وأول سيدة تولت منصب وكيل نقابة الصحفيين.

بخلاف ذلك، صاحب تأميم العمل الأهلي وحل الأحزاب من طرف عبد الناصر إلى حل الاتحاد النسائي المصري والحزب النسائي المصري، ليحتكر النظام الحديث مصالح النساء كما أشارت الدكتورة هالة كمال في ذات الورقة[4] شارحة: لقد تبنى النظام قضايا المرأة إذ اتخذ مسارا متناقضا بين "الإطار التقدمي" المتمثل في تعديل القوانين بما يضمن مزيدا من الحقوق للنساء في القوانين المدنية، بينما يتمسك بالإطار "المحافظ" فيما يتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية المتحكمة في المجال الخاص".

وبالعودة إلى ما سبق، تصنف الدكتورة هالة الحركة النسوية المصرية في أربع موجات أعرضها بشكل مختصر:

- الأولى امتدت من نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، وكانت تناضل للحصول على حقّي التعليم والانتخاب، فاستجابت القوى السياسية حينها بمنحهن الحقوق التعليمة وحرمتهن من حقوقهن السياسية.

- أما الموجة الثانية، والتي شملت عهد عبد الناصر، فحصلت فيها النساء على الكثير من الحقوق الدستورية والقانونية، ولكن في سياق نسوية الدولة (ويشير هذا المصطلح إلى إعطاء الدولة حقوق للمرأة، ولكن بالمقابل تقوض الدولة من استقلال المرأة، وتجعل منها أداة لتلبية مصالحها)

-  امتدت الموجة الثالثة من ثمانينيات القرن العشرين، حتى ثورة يناير 2011 (نسوية المجتمع المدني)

- أما الموجة الرابعة، فكانت من يناير 2011 فصاعدا، تحدثت فيها الدكتورة هالة عن أثر ثورة يناير في قضايا المرأة المصرية، فتقول: "سأسعى فيما يلي تحديد ما يبدو لي - كنسوية - من أهم معالم التغير في فاعلية النساء وخاصة في سعيهن من أجل إيجاد مساحة لتحركاتهن في الشارع، ومن هنا سأتوقف أمام تأثير الثورة على النساء ومظاهر تقوية النساء ونضالهن، لإدراج حقوقهن في عملية صياغة الدولة والمجتمع المصري خلال السنوات الماضية، ويمكن القول بوجود قضيتين اثنتين أساسيتين فرضتا نفسيهما منذ انطلاق ثورة 2011، وهما مسألة العنف الجسدي والجنسي وصياغة حقوق النساء في الدستور الجديد، وهما مسألتان ارتبطتا ارتباطا مباشرا بثورة يناير".

وفي الحديث عن الحركة النسوية، لا بد من الإشارة إلى رائدات كنّ جزءاً مهما منها، وواكبن عصر عبد الناصر تحديدا، ومنهن:

- إنجي افلاطون: كانت أولى القضايا التي اهتمت بها، هي قضية العدالة والمساواة بين جميع طبقات المجتمع، ولاحقا أخذت قضية المرأة المصرية حيزا كبيرا من اهتمامها. كونت مع صديقاتها جمعية نسائية مستقلة، أعلن عنها في منتصف عام 1945، واستمرت الجمعية في نشاطاتها المحلية والعالمية ضد الرجعية والاستعمار. تعرضت إنجي للاعتقال في زمن عبد الناصر عام 1959 لمدة 4 سنوات ونصف، ثم أفرج عنها عام 1963، بعد خروجها من السجن أصبح الرسم هو نشاطها الرئيس، والذي كان يعكس بشكل واضح قضايا النساء السجينات.

- وداد متري: تملك تاريخ نضالي طويل، اهتمت بقضية فلسطين، وكانت من أشد المناضلات ضد الاستعمار، ومن المشاركات في معركة الدستور 1956، تتحدث في مقابلة نشرتها مؤسسة المرأة والذاكرة عام 2018 على قناتها في اليوتيوب، عن المضايقات التي تعرضت لها في انتخابات نقابة المعلمين، ورغم التحذيرات بعدم ترشحها، إلا أنها ترشحت وفازت، ولكن بعد أسبوع تم إبلاغها بفصلها من الاتحاد الاشتراكي، والذي كان الانتساب إليه شرطا لحصول أي شخص على موقع قيادي في مصر، وكان ذلك عام 1970. تعرضت وداد أيضا للاعتقال عام 1960 لمدة أربعة أشهر، وكان ذلك لدواعي التحقيق، بينما ربطت سبب توقيفها بنشاطها الثوري. شاركت في فيلم وثائقي يتحدث عن نسوة مصريات، وهن صافيناز كاظم، أمينة راشد، وشاهندة مقلد.

- شاهندة مقلد: هي طالبة الأستاذة وداد متري وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، لها تاريخ نضال مبكر وخاصة في قضايا الفلاحين، تُحسب شاهندة مقلد على التيار الناصري، إذ تقاطعت معه في قضايا كانت تتبناها قبل قيام ثورة 23 يوليو. كانت من أوائل المشاركات في خوض النضال من أجل دستور1956 أيضا، تعرضت للاعتقال عام 1975 و1981 (في عهد السادات). تقول في حديث لها لأخبار الخليج 2015.[5] إن عبد الناصر كان سباقا لمنح المرأة حقوقها، وبأنه استجاب للحركة الناهضة. وأكدت أن الوضع الحالي للمرأة (في فترة حكم الإخوان) كان بفعل فاعل وبأن حكم الإخوان استهدفوا المرأة مشيرة إلى أن العمل بالخليج لعب دورا في خفض وعي النساء المصريات؛ لأن من كان يسافر كان يعود بزي مختلف وعقلية مختلفة (وهذا ما يمكن ملاحظته في مناطق عدة من سوريا). تؤكد شاهندة مقلد أن حقوق المرأة تؤخذ ولا تعطى؛ لأن ما يعطى يؤخذ ثانية كما أنه لا يوجد من يدافع عنها.

في حديث آخر نشر بمقالة في دنيا الوطن عام 2017[6]، تقول شاهندة مقلد: إن الحقبة الناصرية لها إنجازات وإيجابيات تمثلت في تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي والقضاء على الإقطاع وإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، والتي مثلت بداية لبناء الدولة المصرية الوطنية القوية، وفي المقابل هناك سلبيات لتلك الحقبة، ولعل من أبرزها إلغاء الحياة السياسية وحل الأحزاب والزج بالجيش في السياسة والدخول في حروب ما كان لنا بها ناقة كحرب اليمن، وكذلك ظهور الدولة الشمولية وتقييد الحريات، بالإضافة إلى إسناد المناصب إلى أهل الثقة وليس أهل الخبرة والكفاءة.

تبقى النظرة الثانوية هي السائدة في مجتمعاتنا العربية تجاه حرية المرأة وحقوقها، مهما كان الظرف ومن غالبية الأطراف، وهذا ما أشارت إليه الدكتورة هالة كمال، إذ تقول: "إن أصواتا عديدة داعمة لحقوق النساء ترى أنه لا يجوز أن تحتل حقوق النساء الصدارة أو الأولوية على القضايا الاجتماعية والسياسية، إذ يرى أصحاب تلك الدعاوى أن النساء سيحصلن على حقوقهن بمجرد تحقيق الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية تبعا للموقف الذي تتبناه".

[1]- الورثة صادرة عن مؤسسة المرأة والذاكرة عام 2016، ص 10

[2]- الورقة نفسها، ص 6

[3]- الورقة نفسها، ص7

[4]- ص 17

[5]- أخبار الخليج، 2015 http://www.akhbar-alkhaleej.com/13446/article/2257.html

[6]- دنيا الوطن، 2017 https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2017/07/25/441572.html