ذهنيّة الأصولي: الخطاب ومعالم الأزمة


فئة :  مقالات

ذهنيّة الأصولي: الخطاب ومعالم الأزمة

لكلّ مجتمع ما يبرّر عودته إلى الوراء، أو إقامته في الماضي من أجل البحث عن المزيد من التّعويض عن إخفاقات الحاضر أو غموض المستقبل؛ هو الإنسان نفسُه في كلّ زمان ومكان من يشعر بهذا الحنين الوجودي إلى الاحتماء، وكأنّ قدرنا أنْ نعيش فرادى أو جماعات مرفوقين بالتردّد، واجترار الماضي، والخوف من العقاب، دون أنْ تكون لنا القدرة على اقتحام المجهول، والتخلّص من أعباء هذا الإرث الذي لم نعُد فيه سوى كائنات عاجزة عن الفهم والاستيعاب، بلْه أنْ نكون قادرين فيه على التّجاوز والانتقال. إنّه مجتمع ممزَّق بين الماضي والحاضر، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين التّاريخ والمستقبل. أو لِنقُل إنّه: "مجتمع يعاني من جروح نرجسية اكتشف فيها أمام ثقافة الآخر بأنه بلا ثقافة. لهذا لا يمكن أنْ ينتج إلاّ قطيعتين: قطيعة عن الحاضر الغربي، وقطيعة عن ماضيه نفسه[1]"، وذلك سرّ قلقه الوجودي.

الإنسان المتخلّف يشبه المجتمع المتخلف، فهو سلفي تماما لا ينتهي عشقُه للماضي عند هذا الحدّ، كما تزداد سلفيته وتبرز بمقدار النّقص الذي يحياه في واقعه، أو بمقدار الحصار الذي تفرضه عليه الثّقافة المنغلقة، حيث يتحوّل فعل النّكوص إلى وسيلة دفاعية يتغيّا من خلالها تثبيت حصون التخلّف بمسمّيات تتفق في المضمون وتختلف في الشّكل، هدفها الأوّل توقيف حركة النّقد، وتعطيل آلية الفكر والتّفكير[2]؛ لأنّ التخلُّف في نهاية المطاف ليس قصوراً في العقل، ولكنَّه إطلاق العنان للنّقل، حيث يصير المرء عارياً من كلّ شيء إلا الأوهام. ولعلّ ما أكّد عليه إبراهيم البليهي في مكاشفاته يفيدنا في هذا الصّدد، فالإنسان المتخلِّف أو المجتمعات المتخلّفة التي لم تستطع أنْ تبرح مكانها، أو تنزاح حركتها عن مسار الرّكود والجمود لا تستحقّ حتى أنْ توصف بالمجتمعات المتخلّفة، لأنّ الوصف بالتخلّف يوحي للمتتبع قارئاً كان أو مستمعاً بأنّ المتخلّف يركض خلف الّذين سبقوه، ولكنّه لم يستطع بعد اللّحاق بهم. لهذا قال: "التخلّف لا يعود إلى التأخّر في بداية الانطلاق، وإنّما يرجع إلى الجهل بنقطة البداية أو الرّفض الصّريح أو الضّمني لهذه البداية"[3].

وعلى الرّغم من أنّ الخطاب الأصولي وكلّ ما يدور في فلكه هو خطاب ماضويّ يبحث عن الفردوس المفقود، غير أنّه يقدِّم نفسه للإنسان على أنّه المالك لليقين، والقابض على الحقيقة وذلك مكمن خطورته. فالعودة إلى الأصول ليس فقط عودة تأمّلية، أو وقفة للاعتبار والتأسّي، بقدْر ما هي عودة إلى حيث النّقاء والصّفاء والطّهرانية التي تجعل الإنسان ضحيّة نزعة معيارية صنمية للتّراث، ملغياً بذلك طابعه الإنساني، نازعاً عنه الدّوافع المحرّكة للتّاريخ والبشر، في انتقائية تحوِّل الحدث الإيديولوجي، والفكرة التّاريخية إلى صنمٍ يفضي بالإنسان إلى تقديس المعيار، أو بتعبير أدقّ تقديس الوهم. لسبب بسيط أكّد عليه مصطفى تاج الدين،[4] حينما قال في معرض انتقاده للنّزعة المعيارية في التّاريخ الإسلامي:

-  إكراه الواقع للانسجام مع المعيار يخلق التطرّف

-  إكراه المعيار للانسجام مع الواقع عبر التّأويل يخلق تطرّفاً أشدّ، إذا فشلت تجربة الملاءمة والمواءمة.

وهكذا يتحوّل الخطاب الأصولي إلى حاضنة وبيئة لإنتاج الوهم في استعادة الماضي بتفاصيله وحيثياته، كما يصير مدخلا لصناعة أجهزة عقائدية لرعاية أشكال التطرّف والتشدّد والإرهاب والتخلّف. ولا ضير ما دام الإنسان المتخلّف جزءاً من مجتمع له نفس التّوصيف السّابق يصرّ على استدامة "بنيات التخلّف والانطواء على الذّات ومواصلة تأكيد أوهام الامتياز والإصرار على الاكتفاء وتعليق العجز على مؤامرات الأعداء لتبقى الذات بريئة من الخطأ والتّقصير"[5].

الأصولية ووهم العودة:

لا يمكن أنْ نتحدّث عن ذهنية الأصولي بعيدا عن قوالب التفكير لديه، ولعلّ أهمها ذلك الالتصاق بالماضي، في تماهٍ واضحٍ يكرّس النّظرة الدّونية لكلّ ما هو حاضر ومستقبلي، ويمجّد الماضي بتعبيرات طوباوية لا تستقرّ إلا في ذهنية مثالية تقرأ التّاريخ بإطلاقية، اعتمادا على تأويلات ونصوص شاهدة على حجم التّزييف الذي يمكن أنْ يقع فيه إنسان يؤمن بحتمية أسطورة العود الأبدي، كما نظّر لها نتشه، وتعني أنّ مجموع الأحداث والظّواهر والأحداث سيتكرّر من جديد، بنفس النّظام والطريقة والمقدار الّذي وُجد فيه في الدّورة السّابقة على هذه الدّورة الثّانية. وهكذا تستمرّ الحال وتأتي دائما دورات جديدة لا نهائية ما دام الزّمان غير متناهٍ[6].

إنّ الاحتماء بالماضي بتعبير طارق حجي[7]، وهو يعدّد عيوب تفكير العقل العربي، يعيدنا إلى نقاش إشكالية التّراث، أو الموروث الدِّيني بشكل عام، إذ لكلّ باحث منطلقاته الفكرية. ومنذ أنْ توقّفتْ حركة الاجتهاد، ابتعد الموروث الدّيني عن عملية النّقد، والبحث، والتّنقيب، ونتجَ عن هذه العملية إعادة إنتاج للماضي، بوصفه محطّة تاريخية قد جاوزَتْ حدود النّقد. واعتمد الناس آليتي الحِفظ والتكرار، وتقدّست العلوم، وتكدّست في كتب صفراء، دون السّماح لآليات مغايرة أفرزها الواقع العلمي الجديد، أنْ تقارب الموروث الثّقافي بشكلٍ يعرِّي بعض نواقصه، أو يعزِّز ما يمكن أنْ يكون محطَّاتٍ مضيئة داخل تاريخنا.

كانت ولا تزال قضية التّراث من هواجس العقل التّجديدي في الفكر الديني، وكذا العقل السّلفي الذي ظلّ يقارب مشكلة التّراث، بوصفها إطاراً مقدّساً يصعب الاقتراب منه، حيث أنّ المعرفة لدى هذا العقل هي ما أنتجه الأسلاف، والمقدَّس هو ما تشكَّل في التّاريخ الماضي. فهواجس العقل السّلفي اقترنت بملامسة التّراث أو مقاربة مضامينه. وما الضّوابط، والقواعد، والسِّياجات المعرفية التي صنعها، إلاّ محاولة لتعزيز الحماية لشكْل هذا الموروث الإنساني، وضمان استمراريته لأجيال مقبلة.

لم يُقرأ هذا التّراث من هذا المنظور السّالف قراءة علمية، بل كانت الإيديولوجية بمعناها القدحي[8] هي من تحرِّك هذا العقل؛ لأنّ القائمين على هذا التّيار خلطوا بين مفهومين لا يمكن الجمع بينهما، وهما التّراث والدّين. وحينما يمسُّ التّراث يمسُّ الدِّين وفق الضّرورات المنطقية لهذا العقل.

لقد كان الجابري واعياً بإشكالية التّراث، حينما سمّى قراءته له بالمعاصرة، فهي قراءةٌ لأنّها تتجاوز مسألة البحث والدّراسة لتعطي للمقروء معنىً أو تأويلاً. كما أنّها معاصرة، لأنّها تحرص على جعل المقروء معاصراً لنفسه على صعيد الإشكالية، والمحتوى المعرفي، والمضمون الإيديولوجي[9]. أمّا عن معاصرة المقروء لنا، فهي إضفاء المعقولية على المقروء، بتوظيفه في إغناء الذّات، وإعادة بنائها.

إنّ القراءة السّلفية للموروث الدِّيني من وجهة نظر الجابري هي قراءةٌ لا تاريخية في تمجيدها للماضي. ولو تأمَّلنا قليلاً لوجدْنا بأنّ هناك مأخذين يأخذهما الجابري عن التيّار السّلفي والحداثي على حدٍّ سواء؛ فالأول: انكبَّ على التّراث من غير أنْ يستطيع أنْ يجعله معاصراً لنا؛ والثّاني: أراد أنْ يستورد مقوِّمات الحداثة، ويستورد حتى أصولها، أراد أنْ يُحدِّث دون أنْ يؤصِّل[10].

لهذا يقترح:

أ- ضرورة القطيعة مع الفهم التّراثي للتّراث: بما أنّ الفكر العربي المعاصر كلّه، ينتمي من ناحية المنهج والرؤية للاتّجاه السّلفي في التّفكير. لا يجب الاختيار بين هذا المنهج، أو ذاك من المناهج الجاهزة سلفاً ( القراءة السّلفية/ اللّيبرالية/ اليسارية )، بل فحْص العملية الذِّهنية التي سيتمّ بواسطتها، ومن خلالها استخدام المنهج؛ بمعنى آخر علينا نقْد العقل، لا استخدامه بهذه الطّريقة أو تلك[11].

يلفت الجابري أيضاً داخل هذا المنهج المقترح، الانتباه إلى مسألة القطيعة الإبستمولوجية؛ فتوظيفُها في هذا السِّياق لا يعني بالضّرورة التخلي الكلّي عن مسألة التراث. فهذه الرؤية نفسُها حسب الجابري، لا تنفكُّ عن القراءات السّلفية التي كانت نتيجة طبيعية لترسّبات الفكر التّراثي في عصر الانحطاط. فالقطيعة هنا تتجاوز المعنى الدّارج، لتصير في مفهومها: "التخلّي عن الفهم التّراثي للتّراث؛ أيْ التحرّر من الرّواسب التّراثية في عملية فهمنا للتّراث."[12].

ب- فصْل المقروء عن القارئ مشكلة الموضوعية: ليست الموضوعية هنا بالمعنى المتداول عنها. فما يريده الجابري أعمق بكثير من الدّلالة العادية، التي يقتضيها اللّفظ في مجال تداوله اللّغوي. فالموضوع هنا هو التّراث بشكلٍ عام، والمطلوب هو إيجاد فصل بين القارئ، وهذا الموضوع، لأنّ هناك اتِّصالا كبيرا بين الإنسان العربي المعاصر، وتراثه إلى حدٍّ يصعب فصله؛ فهو الذي يشكِّل وجدانه، وفكره، وأحاسيسه. ففصْل الذّات عن التّراث عملية ضرورية، لأنّها تشكِّل الخطوة الأولى نحو الموضوعية، والمكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة. ولاكتساب هذه الخطوة يقترح:[13]

  • المعالجة البنيوية: وتتلخّص في معاملة فكر صاحب النصّ ككلّ تتحكّم فيه ثوابت، ويغتني بالتحوّلات التي يجريها عليها حول محور واحد.
  • التّحليل التاريخي: ويتعلق الأمر أساسا بربط فكر صاحب النصّ الذي أعيد تنظيمه بمجاله التّاريخي، بكلّ أبعاده الثّقافية والإيديولوجية والسّياسية والاجتماعية.
  • الطّرح الإيديولوجي: إنّ التحليل التّاريخي سيظل ناقصاً، صورياً ومجرّدا، ما لم يسعفه الطّرح الإيديولوجي؛ أيْ الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية التي أدّاها الفكر المعني الذي ينتمي إليه.

ج- وصْل القارئ بالمقروء مشكلة الاستمرارية: اختراق حدود اللّغة والمنطق لا يتمُّ إلا بالحدس، فهو الذِّي يجعل الذّات القارئة تعانق الذّات المقروءة، فتعيش معها إشكالياتها ومشاغلها، وتحاول أنْ تطلَّ على استشرافاتها[14].

الأصولية وتكريس الجهل المقدّس:

العقل الإنساني هو القوّة الوحيدة التي يحتاج تطوّرها إلى أفكارٍ مؤلمة تخترق حدود الصمت الممكنة، لا إلى مهدئات ومسكّنات تغرق الإنسان في التفاؤل حدّ تقديس الجهل. وهنا يمكننا أنْ نتحدّث عن هذا المصطلح الفريد والمنحوت بدقّة وعناية من طرف أوليفيه روا. فالجهل ليس دوماً مقابلا للعلم، بل قد يصبح هو العلم نفسه، أو هو القداسة نفسها حينما يحاط بهالةٍ تخرج به عن سلبيته، وتتوسّل بكلّ الإمكانيات المتاحة للمحافظة عليه. ولتوضيح المصطلح "الجهل المقدّس" يرى أوليفيه روا بأنّ العولمة ساهمت بشكل سلبي في بلورة المشروع الفكري للأصوليات، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية؛ لأنها استفادت من هذا الكمّ المتاح أمامها من التّقنيات لتنشر أفكارها على نطاق واسع[15].

لم يدرك الإنسان بأنّ مسلسل العولمة، وهو يبحث عن غزوٍ للأسواق، وتكسير للحواجز الاقتصادية، وفرْضِ نمطٍ ثقافيّ غربيّ على ما اعتبروه عالَماً ثالثا، قد يتحوّل بالطريقة نفسها إلى غزوٍ آخر، يستفيد من هذه التّقنيات في تكسير عوالم ظلّت حكراً على من أنْهوا التاريخ في نظمٍ اصطنعوها، وسوّقوها لتكون نماذج جاهزة، يتمّ تداولها على نطاق واسع في حرب ناعمة تهدف إلى السّيطرة على عقول الناس ومقدّراتهم. لم تكن العولمة إلا ذلك المارد الذي يخفي في طيّاته خطرا وجوديا على الإنسان، وبدل أنْ يتحكم فيها، تحكّمتْ فيه. وهذه طبيعة الأشياء. وهكذا نحن إزاء فتْحٍ كونيّ اسمه العولمة، يقلِب الصّورة من جديد لعالم لم يعد يتعامل مع الأشياء كما كان يتعامل معها من قبْل، عبر السّلع والمصنوعات، أو عبر النّتاجات الذّهنية من أفكار وعقائد وأساطير. ولكن بدخول عصر الحاسوب تنقلب الأمور بكلّية، إذ يجري التّعاطي مع العالم بأدواته المادية وأجهزته الإيديولوجية، وتلك هي مفاعيل ثورة المعلومات كما يقول علي حرب[16]. فالتقنية ليست شيئاً محايدا لأنّ ماهية التّقنية ليست شيئا تقنيا كما يؤكد هيديجر. وهكذا، فإننا لن ندرك أبدا علاقتنا بماهية التّقنية طالما اقتصرنا على تمثُّلها وممارستها، وعلى محاولة التّلاؤم معها أو الهروب منها. ومهما فعَلْنا، فسنبقى خاضعين للتّقنية ومحرومين من الحريّة، سواء دافعنا عنها بانفعال أو أنكرناها[17].

إنّ العداء الّذي تفرضه الأصوليات اتّجاه الثّقافة كما يرى هاشم صالح، نابعٌ من كون الثّقافة بالنّسبة إليها منتوج وثني لا يضيف إلى الدّين أيّ شيء، أو إنّ الثقافة بإفرازاتها المتنوّعة تقف حائلاً ومانعا من تطبيق الدّين في المجتمع. وهكذا يتحوّل الجهل بقيمة الأشياء من فنّ ومسرح وموسيقى وسينما إلى غاية الغايات؛ أيْ الجهل الذي يحمينا من لوثة موزار وبيتهوفن ومايكل أنجلو وغيرهم كثير. والجهل الذي يحمينا من أفكار أرسطو وأفلاطون وأساطين الفكر الفلسفي القديم والمعاصر[18]. إنّها طبيعة الأصوليات وعلاقتها بالجهل حينما يرسِّخ قواعده في العقل الإنساني، ويتغوّل إلى الحدّ الذي يصيغ فيه العقول والعواطف. ومن هنا يمكننا فهْم دعوة إبراهيم البليهي إلى التّأسيس لعلم الجهل؛ أيْ ذلك العلم الذي يعرّي فظاعة الخرافة، ويكشف زيف كلّ الموروثات التي تتسلّط على الإنسان بدواعي مختلفة. وبما أنّ الجهل أصبح محمياً بفعل الثّورة التقنية، وبفعل البرامج التّعليمية التي تزكّيه وتنشره على نطاق واسع، أصبحت الحاجة ملحَّة إلى من يكشف الوهم، ويزيح السّتار عن المخبوء، إذ العلم حسب إبراهيم البليهي: "ليس معلومات، وإنّما هو رؤية لأنّ الروح العلمية هي انتقالٌ من العيني إلى المجرّد، ومن الاستسلام للمألوف إلى إخضاع هذا المألوف للمراجعة والتّمحيص، ومن الخضوع لأوهام الوضوح إلى إدراك أنّ الحقائق لا تنجلي إلا للّذين يكافحون من أجلها".[19]

ولنستبين العلاقة بين الأصوليات والجهل المقدّس، أو الجهل المركّب، أو الدّعوة لتبنّي الخرافة وإخضاعها قسراً لقواعد العلم، لا بدّ لنا من التعرّف على مرتكزات الفكر الأصولي وأسُسه كما أشار إليها أحمد موصللي:

1- رفض الواقع: وذلك من خلال رفض نسبية التّفكير، والإيمان بمطلقيته، وكذلك رفض سلطة الشّعب، ورفض عرض الدّين على المكتشفات العلمية، ورفض دعوات التّجديد والاجتهاد.

2- تصحيح الواقع: إذا كان الواقع مرفوضا في العقل الأصولي، فإنّه يحتاج بالضّرورة إلى تصحيح، وهو العودة إلى الأصول الأولى حيث النّقاء والطّهارة والصّفاء، والابتعاد عن كلّ ما يبعد عن الفطرة الأصلية من شركٍ وبدع. كما أنّ الدّولة وفق هذا المنظور يجب أنْ تُساس بحاكمية الله وشريعته، وليس بالتشريعات الوضعية أو المكتسبات الإنسانية.

3- الثورة على الواقع: ويعتبرها الفكر الأصولي واجبٌ أخلاقي يضمن استمرارية الدّين الإسلامي، ويضمن تصحيح مسار المجتمع الإنساني، وحمايته من الانحراف عن القيم المثلى التي جاء لترسيخها[20].

تشريح العقل الأصولي: علي حرب مفكِّكاً

نحتاج لتشريح العقل الأصولي إلى المزيد من تفكيك بنياته ومرتكزاته لنكشف عن المخبوء وراء كل الأفعال والتصرّفات النّاشئة عن هذا العقل؛ لأنّ فِعل التّفكيك كما يرى علي حرب قد يكون في أبسط أشكاله وأفعاله فكٌّ للحرف لدركِ المعنى. وقد يكون اشتغالا على المعنى بتفكيك بنيته وأصوله، أو تعريف مُسبقاته أو محجوباته، أو تبيان خُدعه وألاعيبه، أو فضْح سلطته وتحكّماته، للكشف عمّا يمارسُه الكلام من الحجب والخداع والاعتباط، أو الادعاء والتحكُّم والمصادرة.[21]

ولنكشف عن ثنايا هذا العقل الأصولي، سنستعين بتفكيكية علي حرب لنشرح البنيات والأصول والألغام التي يتستّر فيها أو حولها محاولاً التّمويه، ويمكن تلخيصها في ما يلي[22]:

- الهوية العنصرية أو وهْم الخيرية: وقوع الإنسان في مصيدة الاستثناء، أو الظن أنّه يمتلك ما لا يمتلكه غيره من خصائص ومميِّزات، هو خطوته الأولى نحو ممارسة فِعل التّخريب. هذه الذهنية التي يتحرّك وفقها العقل الأصولي أفرزت واقعاً يرى فيه الأصولي نفسه خير النّاس، ويجسّد فيه نرجسيته العدوانية تجاه الآخر المختلف، ليسقط ضحية لداء الاصطفاء وفخّ الاستثناء، كما سقط فيه القدامى حينما حوّلوا الدين إلى ساحة حرب وصراع بين فرق متناحرة ومتقاتلة كلّها تزعم أنّها تقبض على المعنى الصحيح، وتسير على الصّراط المستقيم، ليصدق فيهم قول الجبران: "لا قُبْح ولا سخرية أكثر من صلاة الفرقة الناجية. سبعون فرقة للنّار وواحدة ناجية. لكَمْ جعلوا الله قاسياً، حتَّى القاضي الدّنيء لا يقبل سبعين سجينا وبريئا واحدا...من يكسب عشيرة يخسر الله. فلا عشيرة لله، إنّه مشاعٌ كما الوجود.إذن كنْ بلا فرقة تكنْ ناجياً"[23].

- الجرح الرمزي أو عقدة تفوّق الآخر: ما نريد أنْ نثبته هنا هو أنّ العقل المتديّن هو امتدادٌ طبيعيٌّ لعقل مصابٍ بفصامٍ نفسيٍّ، وعقدةٌ سببُها هذه الجروح النّرجسية للذّات الإسلامية من جرّاء تفوّق الآخر، وتخلّف الذات التي تعتبر نفسها خير أمّة أخرِجت للنّاس. وهذا نفسه ما أشار إليه طرابيشي حين قال إنّ الذّات العربية تعاني من جرحٍ نرجسيٍّ، يُكشَف عنه بالمقارنة مع باقي الجروح التي عانى منها الإنسان. فأوّل هذه الجروح هو الجُرح الكًسمولوجي الذي أحدثته نظرية كوبرنيك؛ وثانيها هو الجرح البيولوجي مع نظرية داروين؛ وثالثها هو الجرح السّيكولوجي بالتركيز على اللاّشعور عند فرويد. أمّا الجرح الأخير، فهو الجرح الأنثروبولوجي، وهو الذي يعاني منه بشكل كبير الإنسان العربي، والمتمثّل في تقدّم الآخر، وتأخُّر الذّات.

لقد عبّر عن هذا الواقع حامد عبد الصمد أيضا، حين أعطى مثالا بما ورد عن جان بول سارتر في كتابه "الوجود والعدم" وهو يحكي ميلاد قصّة الخجل؛ يحكي قصة رجل يراقب مجموعة من النّاس من خلال ثُقبٍ مفتاح أحد الأبواب. وطالما كان يراقب الآخرين لم يكن يشعر أنّه يرتكب خطأً، بل إنّه لم يكن حتى يشعر بذاته. ولكن حينما جاء شخص آخر من خلفه، وأمسك به متلبساً بفعلته أحسّ بذاته وشعر بالخجل. وقد أمسك بنا الأوروبيون ونحن متلبّسون بالتخلّف، فتشنّجنا ولم نقوَ على الاعتراف بالحقيقة. الآخرون دائماً هم الذين يولّدون شعورنا بالخزي. نظرات الآخرين هي الجحيم بعينه[24].

- الأسلمة الشّاملة: إنّ ما يطرحه الفكر الديني أمام الدّارس من بنيات وقواعد تأسيسية، يعدّ أكبر العوائق المانعة من اقتحام المعرفة الإنسانية إلى حقل النّص الديني، وهي رؤية متعالية على الواقع ترى بأنّ الدّين مستوعب لحياة الإنسان بتفاصيلها الدّقيقة، دون السّماح له بهوامش التحرّك والانفلات الفكري والسلوكي، ممّا يحول دون الانفتاح على آفاق الإنسان ومكتسباته.

- التألّه والتوحش: إنّها العودة الرديئة للعقل الأصولي، حيث تمّ استجلاب النّموذج الأفظع بغية الوصول إلى إدارة أماكن الصّراع وصولا إلى التّمكين وتطبيق الشّرع الإلهي بمفهومهم القاسي، حيث يتحول فعل التشريع إلى إرادة إلهية دون مراعاة لمصالح الناس، أو توقّف عند السّقف المعرفي الذي وصلت إليه الإنسانية في علاقتها بالجانب التّشريعي.

عود على بدء:

يكمن خطر الأصولية الدينية، في كون حربها حربٌ وجودية، لا مكان فيها للمساومات أو التّنازلات أو المنافسة السّياسية، في تدبير الصّراع على السّلطة. ولعلّ شعاراتهم وتحيّزاتهم وتمسّكهم بأوهام الهويّة تبرز هذا البعد السّيكولوجي في نفسية الأصولي. فالعنف الذي يسعى الأصولي إلى عولمته، هو ناتج عن هذه العقلية الدّوغمائية التي لا يمكن أنْ نقرأ إجرامها كما يؤكد كولن ولسن: "على أنّه نوع من الشّذوذ والطيش والتهوّر أو نزعة لانتهاك القانون، بقدر ما هو نتيجة حتمية لتطوّر ونموّ الذّكاء البشري، أو الوجه الآخر لنموّ قدرتنا على الخلق والإبداع"[25]. إنّه العقل الغارق في أحلام الماضي، وأمل استعادته في نقائه وصفائه، متجاوزاً الشّروط الموضوعية لإنتاج الفكر والممارسة والسّلوك، إذ الفكر الأصولي آثر المنتوج الثّقافي على النصّ التأسيسي، بل وصار المنتوج الثقافي نصّاً تأسيسياً. والسّبب هو أنّ الأصولي لم يجعل مسافة بين القارئ والمقروء؛ فكلّ قراءة لنصّ هي تحريف للنصّ وإزاحة لمعانيه، وتلك مشكلتنا.


[1]- طرابيشي، جورج. هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. بيروت: دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب، 2006. ص: 96

[2]- انظر ما كتبه حول الموضوع مصطفى حجازي. التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط9، 2005. ص: 101 وما بعدها.

[3]- البليهي، إبراهيم. حصون التخلف: موانع النهوض في حوارات ومكاشفات، بغداد-بيروت، منشورات الجمل، ط1، 2010. ص: 148

[4]- تاج الدين، المصطفى. مؤسّسات الإسلام في عصر التّأسيس: جدلية الشّريعة والسّلطة والمجتمع. الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، ط1، 2018. ص: 11

[5]- البليهي، إبراهيم. المرجع السابق. ص: 149

[6]- بدوي، عبد الرحمن. خلاصة الفكر الأوروبي: سلسلة الفلاسفة. نتشه. الكويت: وكالة المطبوعات، 1975، ط5. ص: 252

[7]- حجي، طارق. نقد العقل العربي: من عيوب تفكيرنا المعاصر. سلسلة اقرأ، شهرية تصدر عن دار المعارف. العدد: 633. ص: 73

[8]- لم يأخذ ماركس مفهوم الإيديولوجيا من فلاسفة الأنوار مباشرة رغم تشبعه بتعاليمهم وإعجابه باتجاههم. بل استعار المفهوم الرائج في الأوساط الاشتراكية الباريسية، حيث عادت الأدلوجة تعني التفكير غير العقلاني، وغير النقدي الموروث عن عهد الاستبداد. انظر:

العروي، عبد الله. مفهوم الإيديولوجيا. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993، ط5. ص: 30

[9]- الجابري، محمد عابد. نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993، ط6. ص: 11

[10]- عبد السلام، بن عبد العالي. سياسة التراث: دراسات في أعمال محمد عابد الجابري. الدار البيضاء، : دار توبقال للنشر، 2011، ط1. ص: 47

[11]- نحن والتراث. ص: 20

[12]- المرجع نفسه. ص: 21

[13]- المرجع نفسه. ص: 23 وما بعدها.

[14]- المرجع نفسه. ص: 25

[15]- نقلاً عن هاشم، صالح بتصرف. الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ. بيروت، دار الساقي، ط1، 2013. ص: 30 وما بعدها.

[16]- علي، حرب. حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2004، ط2. ص: 10 وانظر كذلك: تركي، الحمد. الثقافة العربية في عصر العولمة. بيروت: دار الساقي، 1999، ط1. ص: 101

[17]- مارتن، هيديجر. التقنية الحقيقة الوجود. ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح. المركز الثقافي العربي. ص: 43

[18]- هاشم صالح. المرجع السابق، ص: 31

[19]- إبراهيم البليهي. المرجع السابق. ص: 157

[20]- أحمد الموصللي بتصرف، نقلا عن حجازي، مصطفى. حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998. ص: 94

[21]- علي حرب. هكذا أقرأ ما بعد التفكيك. بريوت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005. ص: 26

[22]- بتصرف علي، حرب. المصالح والمصائر. صناعة الحياة المشتركة. منشورات الاختلاف، ط1، 2010. ص: 31 وما بعدها.

[23]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية الله: سماء وجودية.pdf، ص: 250

[24]- عبد الصمد حامد. سقوط العالم الإسلامي. ملف pdf. ص: 16

[25]- ولسون، كولن.(2001). التاريخ الإجرامي للجنس البشري(1): سيكولوجية العنف. ترجمة رفعت السيد علي.(ط1). جماعة حور الثقافية. ص: 9