عاشقان لصحراء العرب


فئة :  مقالات

عاشقان لصحراء العرب

يصحّ القول بأنّ الرحالة الإنجليزي "ويليفرد ثيسيغر" أحد أكثر الرحالة إنصافا للمجتمعات التي زارها في شبه جزيرة العرب؛ فقد لجم الخلفية الثقافية والدينية التي تربّى عليها، وكبح مفعولها، فاندمج في مجتمع الصحراء، معتقدا أنه لا يمكن أن تكون تجربته صادقة، إلا حينما يشارك الجماعة التي رحل إليها بتقاليدها وعلاقاتها، وبغير ذلك سيبقى غريبا عنها، وأشبه ما يكون بنتوء شاذ يثير الاستغراب، وليس التعاطف والاهتمام. وشأنه شأن كافة الرحالة الغربيين إلى الصحراء العربية انتحل اسما، وهو "مبارك بن لندن"، ودوّن رحلته الشائقة في كتاب عنوانه: "رمال العرب".

بدأت رحلة "ثيسيغر" من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى شمالها، فقام بسلسلة من الرحلات من الجنوب الشرقي باتجاه الربع الخالي، ثم ألحق ذلك برحلات في الحجاز ثم الأطراف الشرقية، فالجنوبية، وجاءت رحلتة شائقة، وجذابة، وكأنها ملامسة لطيفة، ولكنّها عميقة، لكثبان الصحراء، وافتتان بأهلها، على خلفية من وصف صعاب الارتحال في طبيعة قاسية وجدت صداها في صفحات مشرقة من النثر، ومواقف سردية بارعة، وتأمّلات فكرية شفّافة ساعدت صاحبها على امتحان صبره ومراجعة نفسه، وتغيير منظوره للعالم، وقد استوفى شرطا أساسيا في الانضمام إلى نخبة الرحّالة، وهو أن يرمي بنفسه إلى الأقوام التي يعاشرها دونما خوف، فيودعها ثقته، وينتزع ثقتها به، ويفصح عن رغبة في التعلّم عبر المشاركة والمعايشة، ولا يشحّ في بذل الوقت والجهد والمال من أجل ذلك، فلكي يحوز الرحّالة صفته فلابد أن يتخطّى عثرات العزلة، ويكون شجاعا في عبور الحواجز التي تفصله عن الآخرين، فيصبح جزءا من عالمهم مع عدم نسيان ذاته، إلى ذلك فالرحّالة الحقّ مسكون بارتحال لا ينتهي، فلا يركن لعمل يقعده في مكان، إلا حينما يعجزه الزمن من السعي وراء تلك الرغبة الغامضة في الترحال، ولا ينبغي له تشويه الحقائق، ورسم صور ينتقص بها من جماعات تخالفه في الرؤية والثقافة والمعتقد والعرق واللون. فقد اندمج في الحياة الصحراوية، ومخر عبابها، مما جعله "فوق الجميع بين كلّ الكشافين في مجال استكشاف الجزيرة العربية المشرّف".

واجه "ثيسيغر" صعابا قاسية في معرفة صحراء الربع الخالي، لكنه ظل يعترف بأن ذلك كان متعذرا لو لم يمدّ عرب الصحراء له يد العون

أمضى "ثيسيغر" شطرا طويلا من عمره مترحّلا، بل أسرف في ذلك من دون أن يظهر عليه أي نوع من الإعياء، والملل، فطاقته كبيرة في مغالبة الصعاب، ومع أنه تعرّض في بعض الأصقاع للظمأ والجوع والإرهاق، وخامرته شكوك بهلاك محتّم في مفازات نائية لا سبيل للنجاة فيها، لكن الروح الإنساني كان يستيقظ في أعماقه فيتغذّى بالأمل، وتلك حالات عبور نفسية ينبغي أخذها بالحسبان في أدب الرحلة، فليس الإقدام وحده من يفضي بالرحّالة إلى جني ثمرة المغامرة في أرض الآخرين إنما تكالب الصعاب، وزحف الأخطار، والتشويش على الأهداف الكبرى.

ولعل ما كان يثير الشغف في نفس "ثيسيغر" رغبته في معايشة جماعات تحكمها التقاليد، والأعراف، والطقوس، ولم تمتد بعد إليها يد السلطة الكاملة، إذ يخشى أن تخرّبها المدنية التي لا توقّر طقسا، ولا تحتفي بمعتقد، فلم يقبل باقتلاع هذه الجماعات عن مواطنها، أو إجراء تغيير كبير في طرز حياتها، إذ سُحر بعذريتها، وحياتها الخاضعة لأعراف الطبيعة أكثر من خضوعها لشروط الثقافة. ولعل النغمة الرابطة لكل رحلاته حرصه على تقدير الجماعات التي يرتحل إليها، فمن ذلك ما ذكره عن عرب "الأهوار" العراقية، في كتابه "عرب الأهوار"، حيث شعر بأنه يقيم في بيته ووطنه، فتقبّلته العشائر كأنه فرد منها، ووفّرت له المساعدة والحماية، وأقام معها صلات غدت موضوع احتفاء دائم من طرفه، فكان يزورها بين وقت وآخر على مرّ السنين، ولذلك ما يناظره في إنشاء علاقات متينة مع عرب صحراء شبه الجزيرة، إذ مكّنوه من مخر عباب ديارهم في تطواف شاق، لأنه محض ثقته للجماعة المرافقة له، وارتحل بحمايتها.

طاف "ثيسيغر" في كثير من أرجاء شبه جزيرة العرب، وواجه صعابا قاسية في معرفة صحراء الربع الخالي، لكنه ظل يعترف بأن ذلك كان متعذرا لو لم يمدّ عرب الصحراء له يد العون، فقد وفّروا له الحماية حيثما كان، فوصف تضامنهم الأخلاقي، وكرمهم الذي ارتقى إلى كونه سجية طبعت حياتهم، حتى لو كانوا فقراء لا يملكون شيئا، ففكرة المشاركة في الأشياء، ولاسيما الطعام والحماية، تتجاوز التقاليد الحديثة القائمة على الاستئثار والجشع والنهم، ولهذا جعل أهل الصحراء من الكرم عادة تتحقّق بها هويتهم، ولعلّ كل هذا يضع تحت الضوء مفهومي وفرة الطعام وندرته، فما دام تداول الطعام في الصحراء خاضعا للصدف، فلا يجوز أن يبخل به أحد على عابر سبيل، فمن كان يتوفّر عليه اليوم سيكون بحاجة إليه غدا، وعلى هذا فلا يجوز الشحّ به، إنما المسارعة إلى منحه مهما كان قليلا، ومهما كانت الحاجة ماسّة إليه، فذلك تعبير مباشر عن مشاركة ضمنية بظروف يكاد يتساوى الجميع فيها، لكنه تأسيس لعلاقات رمزية تصونهم وقت الكفاف، وعند الحاجة.

من الصحيح أن "ثيسيغر" واجه صعابا أفاض في وصفها، وأظهر صبرا على مواجهتها، لكنّ حماية رجال الصحراء وفّرت له قدرة على تخطّيها، فما يكاد ينتهي من رحلة إلا ويستأنف أخرى مؤجّلة، فعرف عُمان واليمن والحجاز، ثم الأصقاع الشاسعة في الطرف الجنوبي من جزيرة العرب، فضلا عن الشرقية منها، وطوال ذلك كان يرحل بحماية جماعة من الرجال المتمرّسين بالمشاق، والعارفين، في الغالب، بالطريق الصحراوية المخادعة التي لا تبيت على حال، فكانت الاتجاهات هي الدليل الموجّه لهم وليس العلامات الطبيعية المتغيرة. ومع التقتير العام في كل ما يتّصل بحياة الصحراوي، فقد سعى لحمل حاجاته الضرورية من حبوب وزيوت له وللجماعة الحامية، وما لاح عنده أي نوع من الازدراء لحياتهم، بل ظلّ مشغولا بضرورة انقطاعه عن نسق حضري من الحياة والاندراج في نسق طبيعي. وكانت الحصيلة كبيرة، فلم ينجح في وصف أطراف كثيرة من تلك المناطق النائية، فحسب، إنما وصف المتع الكبيرة التي أحسّ بها، وهو يقطعها طولا وعرضا، وقد انغمر في حياة الناس حيثما ذهب.

ولئن شغف "ثيسيغر" بالصحراء، وصفا ومعايشة، فإنّ "ليوبولد فايس" منحها نفسه، مثيرا الإعجاب في التماهي مع حياة أهلها أمانا وثقة وحماية. وتتفرّد رحلته إلى شبه جزيرة العرب عن سواها من الرحلات بالتحوّل الجذري الذي لحق بصاحبها، فما حدث أنّه لم يعد إلى ما كان عليه من قبل بأيّ حال من الأحوال، إذ أسلم وغيّر اسمه القديم، متخذا اسما جديدا هو "محمد أسد". ومع أهمية الكشوفات التي قدمها "فايس" عن البيئة الصحراوية، فقد كان هدفه الأساس صوغ تجربة روحية تبلورت في أحضان الصحراء عبر المخالطة والملازمة، فكان يذلّل الصعاب الثقافية والدينية التي تربّى عليها بالمساءلة والمقارنة، وانتهى إلى الأخذ بهوية جديدة غير التي كان عليها من قبل "غادرت الغرب لأعيش بين المسلمين، ولكني لم أعرف أنني خلّفت ورائي ماضيّ كله. فمن دون أيما إنذار، كان عالمي القديم يقترب من نهايته، عالم الفكرات والمشاعر والمساعي والتخيلات الغربية. كان هنالك باب يقفل ورائي بهدوء، بهدوء كبير إلى درجة أني لم أشعر به، ولم أدركه. لقد ظننت أنها ستكون رحلة كسائر الرحلات السابقة، عندما كنت أجول في البلدان والأراضي الغريبة لأعود دائما إلى ماضيّ: لكن الأيام كان لا بد من أن تتبدّل بالكلية، ومن أن يتبدّل معها اتجاه الرغائب جميعا".

أما هذا التحوّل الجذري في الهوية، فقد أفصح عن كيفية حدوثه حينما وجد نفسه بين ظهراني العرب "قابلت وجها لوجه إدراكا لمعنى الحياة كان جديدا بالكلّية بالنسبة إلي، فقد بدا لي أن هناك نسمة دافئة إنسانية تسيل من دم هؤلاء العرب إلى أفكارهم وحركاتهم خالية من أيّ من تلك الصدوع الروحية المؤلمة، تلك الأشباح من الخوف والنهم والكبت التي تجعل الحياة الأوروبية بشعة جدا ولا توحي إلا بالقليل من الأمل. لقد بدأت أجد في العرب شيئا طالما فتّشت عنه من غير شعور: رشاقة عاطفية في معالجة مسائل الحياة جميعا وذوق شعوري أعلى"، وما أن تحقّق له ذلك حتى اعترف "منذ أن أتيت إلى الجزيرة العربية لا أزال أعيش كما يعيش كل عربي. لقد ارتديت الثياب العربية، ولم أتكلّم سوى اللغة العربية، ولم أحلم إلا بالعربية. والعادات والتخيلات العربية، بصورة لا شعورية تقريبا، كيّفت أفكاري وصاغتها. ولم تحيّرني تلك التحفّظات العقلية التي تجعل، في العادة، من المستحيل على الأجنبي، مهما كان عارفا بلغة البلاد وعاداتها، أن يجد الطريق الصحيح إلى مشاعر أهلها، وأن يجعل من عالمهم عالمه الخاص" فتحقّق له ما كان يصبو إليه "أن أكون جزءا من أمة مؤلّفة من أخوة".

لم يكن اختيار "فايس" للاسم الجديد انتحالا للتخفّي والتنكّر، إنما طابق فيه بينه وبين معتقده الجديد، فباليهودية استبدل الإسلام، وتعلّم لغة القرآن ليتفقّه في أحكامه، فأجرى بذلك قطيعة مع كل ما ربطه بالماضي؛ فكان ذلك مبعث أسى لعائلته اليهودية، التي ازدرته على اختيار أمر لا يحتمل، لأنه انزلق إلى ما تحذرّ منه اليهودية عبر التاريخ، إذ يُحرّم هجرها واعتناق سواها، فذلك ارتداد صريح ينطبق عليه حكم الردّة فيها، كالعصيان، والفسوق، ومفارقة أمر الله.

ما أن حطّ "فايس"رحاله في شبه جزيرة العرب حتى سارع إلى التعرف إلى الإسلام مباشرة، وراح يتعلّم العربية بالمعايشة في وسط عربي صميم متصل بالصحراء

وفي عام 1927 هجر "فايس" الغرب واليهودية معترفا بأن عالمه القديم بلغ نهايته المحتّمة. وقع تحوّل لم يكن قد طرأ في البال، لكنه تنامى ببطء، ثم فجأة استقام حقيقة لا يمكن نكرانها. وحينما يتعرّض المرء إلى هزّة عنيفة مثل هذه، فلا بد أن يلازمه قلق السؤال، والحال هذه، فإن الانقطاع عن عالم قديم وملامسة عالم جديد، بعث في نفسه الارتياح أكثر من الحيرة، فكأن سنوات تأمّله قد أنضجت ثمرة اختياره، ولم يبق إلا أن يرمي نفسه في لجة الاختيار الجديد، ويتمرّس بالوسيلة الموصلة إليه. وما أن حطّ رحاله في شبه جزيرة العرب حتى سارع إلى التعرف إلى الإسلام مباشرة، وراح يتعلّم العربية بالمعايشة في وسط عربي صميم متصل بالصحراء ومتفاعل معها، وكانت تلك فترة مضطربة عرفت محاولات عبد العزيز بن سعود بلمّ أطراف شبه الجزيرة العربية، بحملات عسكرية لا تكاد تنتهي وسط تحولات عالمية كثيرة، فظهر له من المناسب أن يتعرّف إلى أفكار هذا الوافد الذي تخلّى عن حضارته الغربية ومعتقده اليهودي، واعتنق الإسلام ووجد في حضارته الحلول المناسبة، وسرعان ما محضه الملك ثقة مؤكّدة، فأمضى سنوات اندمج فيها في المجتمع الصحراوي، وتوفّرت له الأسباب للعيش فيه، بما في ذلك مصاهرته.

تأتي فرادة رحلته التي دوّنها في كتاب "الطريق إلى مكة" من أن صاحبها رسم ببراعة تجربة مزدوجة كشف فيها الإسلام والمجتمع الصحراوي معا، فلغته صافية، وتصويره غني، وأحاسيسه مرهفة، وتركيبه عجيب. وقد تزامن فيه مستويان مادي وروحي؛ ففي الوقت الذي تقدّم فيه كرحّالة لاكتشاف عمق الصحراء العربية، انبثق في داخله تحول ديني من اليهودية إلى الإسلام، فانتهى إلى الربط بين المعرفة والتحوّل بما لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فهجر معتقده واسمه، واكتسب بديلين لهما رافقاه إلى نهاية عمره، وبذلك أصبح اسمه الأول، ومعتقده الموروث، مجرّد ذكرى تتصل بالحقبة الأولى من حياته، فوجب منذ هذه اللحظة أن يعرّف بغير ما كان يعرّف به من قبل.

وفيما بدأ "محمد أسد" رحلته الصحراوية المضنية من نجد إلى مكّة برفقة دليله "زيد" توازت في كل مرحلة من مراحل رحلته الصحراوية تجربتان: حياتية وروحية، بما يمثل توازيا محكما بين السرد والحكاية، وداخل كل منهما تضمينات متناثرة عن ماضيه الأسري والمهني، وحالما بلغ مشارف مكّة، بلغ أيضا نهاية وصف رحلته الروحية إلى الإسلام، ولكن ليس عبر بناء متتابع للأحداث، إنما في انتخاب وقائع متداخلة عبّرت عن ذرى التحولات النفسية لديه. لكن رحلته لم تقفل عند هذا الحدّ، وتنغلق على نفسها، إنما جاءت كشفا حفريا، وتاريخيا، ودينيا، واجتماعيا، وسياسيا، لعالم شبه الجزيرة العربية في العقد الثالث من القرن العشرين، ولكثير من المجتمعات الإسلامية في إيران، والعراق، ومصر، وشمال إفريقيا، حيث جاب هذه الأماكن في مهمات كثيرة أظهرته مقاوما للصعاب، وراغبا في خوض المغامرة. أما تصويره لحالات التأمل، وهو يمخر البيداء العربية فقد تدفق كتيار صاف من الماء العذب، ومع أنه خيّل إليه بأنه يلاحق سرابا متباعدا كلما اعتلى كثبان رمل، أو انحدر إلى وهد، فقد ارتوى ظمأه في مياه الحقائق الكبرى، فأعاد تمثيل تجاربه بشغف غزير يقارب شغف حدوثها.