في نقد المنظومة الفقهية


فئة :  مقالات

في نقد المنظومة الفقهية

نروم في هذه المقالة بيان أهم العناصر المنتقدة في المنظومة الفقهية كفرض التقليد، وشمولية ضوابط أصول الفقه، وأثرها الحاسم في استنباط الحكم، ووصف الرأي الاجتهادي بحكم الله، كما أننا نسعى في خطوة أخرى إلى بيان عناصر التجديد المقترح للفقه.

1- التقليد:

منذ قال الشافعي في القرن الثاني، إن كل من لم تجتمع فيه شرائط الاجتهاد يتعين عليه التقليد، توالى بعده ترسيخ المبدإ الذي انزلق إليه مفكرون مرموقون، مثل ابن رشد الذي قرر أن العوام لا يعتد برأيهم لأن "فرضهم التقليد"، والغزالي الذي قال: "ويجب على العامي إتباع المفتي إذ دل الإجماع على أن فرض العوام إتباع ذلك كذب المفتي أو صدق، أخطأ أم أصاب. فنقول قول المفتي... لزم بحجة الإجماع، فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا".([1]) وبهذا التوجه:

ـ غيب مبدأ مسئولية الفرد.

- أهدر المبدأ الأساسي في الإيمان بالدين وبقيمه، وهو: المعرفة والاقتناع وليس مجرد التقليد والاتباع. "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف: آية 22)

ـ أعفي الفرد المسلم من المسئولية التي يتحملها بصريح عشرات الآيات القرآنية:

"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا". (الإسراء: آية 36)

"أيحسب الإنسان أن يترك سدى"؟. (القيامة: آية 35)

"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان". (الأحزاب: آية 72)

"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى". (الإسراء: آيات 13 ـ 15)

ـ أبعدت آية: "وأمرهم شورى بينهم". (الشورى: آية 35)

ـ ساعد على قيام الطوائف والمذاهب التي ينادي كل منها بالانفراد بالحق وبضلال غيرها.

2- شمولية ضوابط أصول الفقه:

جميع الأحكام التفصيلية المكونة للمنظومة الفقهية توصف بأنها استنبطت من نصوص الشريعة بالضوابط والقواعد التي يتقن "المجتهد" دراستها في أصول الفقه. وبهذا الإسناد المباشر استحقت صفة "أحكام الشريعة".

لكن ما يجب أن يلاحظ هو أن ضوابط أصول الفقه تعالج الدلالة اللغوية للنص من منطوق ومفهوم واقتضاء، وهي بذلك لا تتناول إلا النصوص الجزئية، وهو ما يؤكده صراحة تعريف الأصوليون أنفسهم للفقه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية" فضوابط أصول الفقه تبحث في أوجه دلالة الأدلة السمعية الجزئية وهي المنطوق والمفهوم والاقتضاء، إضافة إلى المعنى أو المعقول عند بعضهم.

والنصوص الجزئية الواردة في شؤون الحياة العامة / المعاملات محدودة جدا مقارنة بملايين وقائع الحياة التي يراعى في تقرير أحكامها عدم معارضة قيم الشريعة ومبادئها العامة، أو بعبارة جامعة يراعى فيها تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.

والقيم والكليات والمصالح والمفاسد معان عقلية عامة يشترك جميع العقلاء في إدراكها كما يقول الشاطبي ولا علاقة لتنزيلها على الجزئيات بالدلالة اللغوية التي تبحثها ضوابط أصول الفقه؛ فمثل العدل والظلم والفحشاء والمعروف والمنكر، واليسر والعسر... ليست لها دلالة لغوية على واقعة أو عدة وقائع معينة.

لذلك عند الاختلاف بشأنها، تكون المناقشة بالاستدلال العقلي والمنطق وليس بضابط من ضوابط أصول الفقه.

مثلاً: اختلف في ضرب المتهم بجريمة لحمله على الاعتراف هل هو مصلحة أو مفسدة فتحاجج الغزالي والشاطبي بما يلي:

يقول الغزالي: "فإن قال قائل المصلحة داعية إلى الضرب بالتهم في السرقة والقتل
وما يجري خفية وغيلة، فإن الجاني لا يقر على نفسه مختاراً، وإقامة الحجج والبينات على الاختزال الجاري في ظلام الليل ممتنع، وتعطيل الحقوق لا سبيل إليه وقد رأى مالك ذلك... قلنا هذه المصلحة غير معمول بها عندنا وليس لأنا لا نرى إتباع المصالح ولكنها لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها، فإن الأموال والنفوس معصومة، وعصمتها تقتضي الصون عن الضياع، وإن من عصمة النفوس أن لا يعاقب إلا جان، وأن الجناية تثبت بالحجة، وإذا انتفت الحجة انتفت الجناية، وإذا انتفت الجناية استحالت العقوبة. فكان في المصير إليه نوع آخر من الفساد، فإن المأخوذ بالسرقة قد يكون بريئا من الجناية، فالهجوم على ضربه تفويت لحق عصمته من نفسه ناجزاً لأمر موهوم يرجح حاصله إلى التشوف إلى تأكيد عصمة المال، فإن كانت مصلحة ذي المال في ضربه رجاء أن يكون هو الجاني فيقر، فمصلحة المأخوذ في الكف عنه وترك الإضرار به. وليس أحدهما برعاية مصلحته أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع في أن لا عقوبة إلا بجناية ولا تظهر الجناية في حقه في الخفاء إلا ببينة...

ولو قيل أن من ظهرت عدالته لا يعاقب، وإنما يعاقب متهم بأمثال ذلك.

لقيل: وبم تعرف وجه التهمة ولا سبيل إلى تصديق صاحب الحق فيه، فإنه في الدعوى متهم أيضا والأغراض متطرقة إليه؟

فإن قيل إن التهمة تثبت بكونه معروفاً بالسرقة، وبما يعرف من حاله في الترداد على الموضع الذي جرت فيه السرقة قبل ذلك الوقت أو بعده، أو ما يجري مجراه من المخاييل.

فنقول يستحيل الهجوم على عقوبته بالسرقة السابقة التي عرف بها وعوقب عليها،... فليس من ضرورة كل من سرق شيئا أنه يسرق أمثاله وإن كان من ضرورته...، فالهجوم على عقوبته تعرض لحقه الناجز بالتفويت لأمر هو موهوم".([2])

ودافع الشاطبي عن الضرب، لأنه: "لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

فإن قيل هو فتح باب تعذيب البريء، قيل ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن. فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته فتغتفر... فإن قيل: لا فائدة في الضرب، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال (أي عملا بمذهب مالك الذي لا يؤاخذ بالإقرار المكره عليه) فالجواب أن له فائدتين:

إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه، وهي فائدة ظاهرة.

والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع هذا الفساد".([3])

هذا المثال المختلف في حكمه المحقق للمصلحة، نجد كل فريق يؤيد رأيه بالتحليل العقلي للواقعة وآثارها، وبالاستدلال المنطقي على نتائجها. ولا إشارة لدى الفريقين معا إلى أي ضابط من ضوابط التفسير الأصولية التي تشكل مجال تخصص "الفقيه"، وهو ما يؤكد أن تنزيل كليات الشريعة ومبادئها على الجزئيات لا يحتكره دارس أصول الفقه، وإنما يشاركه فيه كل متمتع بملكة العقل والتحليل المنطقي الغريزي مع إدراك ولو محدود لوقائع الحياة وملابساتها كما يعيشها الناس بإيجابياتها وسلبياتها.

لذلك، فإن ما يقال من اختصاص الفقيه وحده بتحديد المصالح والمفاسد، والاستقلال بإدراك مقاصد الشريعة ـ لا يبدو سليماً، ولإثبات عكس ما نقول نطلب تقديم مثال واحد لمصلحة أو مفسدة أو مقصد من مقاصد الشريعة يعتمد في إثباتها على ضوابط التفسير الأصولية بعيداً عن معايير التحليل العقلي والبرهنة المنطقية.

وإلى جانب تنزيل الكليات الذي لا مبرر لاحتكاره من دارس أصول الفقه، نجد نصوصاً جزئية لا يخضع تفسيرها لضوابط أصول الفقه، إضافة إلى مجالات كثيرة من شئون الحياة العامة يتوقف حسن تنظيمها ومراعاة قيم الشريعة بشأنها، على معارف بعيدة عن تخصص الفقه وأصوله.

من أمثلة الأولى: تحديد سن الرشد، وسن الحضانة، وفترات الطهر والحيض لاحتساب العدة، وفترة الحمل... إلخ التي لم يكن "المجتهد" فيها متوفراً على المعرفة المساعدة على تحديد الحكم، ومع ذلك وجد نفسه مفروضاً عليه الجواب عن كل الأسئلة، ولو كان الجواب لا صلة له بالواقع مثل ربط الرشد بتكون الحيوان المنوي والبويضة الذي كثيرا ما يكون في الحادية عشرة وما قاربها ومن يكون في هذه السن يكون بعيدا قطعا عن "الرشد" والخبرة بالحياة.

ومثل ذلك إنهاء الحضانة بالاثغار، أو بقدرة الطفل على الأكل والشرب وارتداء ملابسه وحده...

وإمكانية اعتداد المرأة بثلاثة أقراء في أقل من شهر، أو في فترة خمسة عشر عاماً، إذا كانت فترات طهرها المألوفة خمس سنوات... وتمديد فترة الحمل إلى خمس وسبع سنوات...

إن القائلين بهذه الآراء الشاذة معذورون، لأن عدم جواب السائلين كان يعني في الثقافة السائدة نقصاً في الشريعة التي ينطق المجتهد أو المفتي باسمها.

ومن أمثلة الثانية كثير من مرافق المجتمع الحديث التي يتطلب تنظيمها معارف وتخصصات بعيدة عن المتخصص في أصول الفقه.

مثلاً سياسة أسعار السلع والخدمات: فصنف أول من السلع والخدمات يترك للعرض والطلب، وصنف ثان يخضع للسعر الإجباري، وصنف ثالث تحكمه قوانين المنافسة، وصنف رابع تضاف إلى سعر تكلفته ضريبة للخزينة العامة أو الجماعية، ويتفاوت مقدارها بين عشرات المواد والخدمات. وصنف خامس يدعم من الدولة ليعرض في السوق بأقل من سعر التكلفة... إلخ.

هل يتصور أن يستقل فرد ـ وإن يكن نابغة في الموضوع معرفة ودراية ـ بوضع قوائم للأصناف المشار إليها في مكتبه، ويلزم المجتمع بتنفيذها دون مناقشة؟ أليس هذا مستحيلا بالبداهة؟

وإسناد ذلك إلى المجتهد أو العالم أو الفقيه ألا يبدو أكثر غرابة؟ : فإلى جانب تعذر جمع المعارف المؤلهة للتقرير، فإن الموضوع بعيد كل البعد عن تخصصه الذي هو ضوابط أصول الفقه المساعدة على إدراك منطوق النص أو مفهومه أو مقتضاه.

وخلاصة ما سبق: إن ادعاء استنباط كل الأحكام المدونة في المنظومة الفقهية، بقواعد وضوابط التفسير الأصولية، غير صحيح، لأن هذه الضوابط لا تهم إلا النصوص الجزئية، وهي قليلة جدا مقارنة مع الأحكام المقررة بتنزيل الكليات والمقاصد، أو بالمعرفة المتخصصة والخبرة بوقائع الحياة ونوامسها.

3- ضوابط التفسير استئناسية وليست حاسمة:

مع النسبة المحدودة للأحكام المسندة إلى النصوص الجزئية، فإن ضوابط تفسيرها
ليس لها إلا دور استئناسي في فهم هذه النصوص، والدليل القاطع على ذلك تعدد الآراء. فهناك من ناحية الاختلاف في عدد من الضوابط وفي ترتيبها، ومن ناحية ثانية عدم التزام نفس المجتهد لذات المبدإ كالعموم والمفهوم، والشرط والصفة... إضافة إلى تعدد النصوص، سيما ظنية الورود ـ الذي يشكل مصدراً للاختلاف في نسبة عالية من الأحكام الفقهية.

إن دلالة النص اللغوية التي تساعد على إدراكها ضوابط التفسير الأصولية لا تزيد عن كونها أحد العناصر المرشدة للمفسر إلى جانب مراعاة كليات الشريعة وقيمها، وآثار الحكم حالاً ومآلا والواقع وملابساته المتغيرة... واستحضار كل العناصر وتقديرها يختلف بشأنه الأفراد اختلافاً جوهرياً، وهذا ما يفسر تعدد الأحكام الاجتهادية في الأغلبية الكاسحة وربما تعدد جميعها دون استثناء.

وحضور كليات الشريعة ومقاصدها ومبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد في تفسير النصوص الجزئية إلى جانب معرفة الواقع وملابساته المتنوعة والمعقدة، كل ذلك يجعل اعتماد رأي الفرد في ذلك التفسير غير مقنع، بل غير مقبول لأن ما يتعين التوفر عليه من معرفة، واستحضاره من فرضيات نتائج الحكم وآثاره تنوء عنه طاقة الفرد، لذلك تعين أن تبقى صلاحياته قاصرة على إبداء الرأي. أما التقرير فيكون للجماعة؛ أي المؤسسة التي تنتدبها لذلك.

4- وصف الرأي بحكم الله:

من الموضوعات التي نعتقد ضرورة مناقشتها في المنظومة الفقهية، وصف الرأي الاجتهادي بأنه حكم الله الأزلي أو حكم الله التابع لحكم المجتهد.

الواصفون للرأي الاجتهادي بحكم الله الأزلي يؤسسون رأيهم على مثل قول الشافعي في الرسالة: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على الهدى فيها" وقول الشاطبي في الموافقات: "فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم من الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله".([4])

ويبدو هذا الرأي غير مؤسس، ومما يؤكد ذلك:

ـ أنه يتضمن التكليف بما لا يطاق إذ لا وسيلة لمعرفة تطابق الرأي الاجتهادي مع الحكم الأزلي ولو على سبيل الظن؛ فالأحكام الاجتهادية تتعدد وتختلف إلى حد التعارض ولا سبيل إلى معرفة مطابقة واحد منها للحكم الأزلي الواقع به التكليف، وهو ما يعني التكليف بما لا يطاق، والقرآن ينفي التكليف بالعسر فبالأحرى ما لا يطاق "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"

ـ أنه أسس لتكوين الفرق العقدية والمذاهب الفقهية التي شكل "فقه" كل مذهب منها "أحكام الشريعة" التي لا يجوز العمل بما يخالفها مع ما تبع ذلك من فرض التقليد وإعلان انتهاء الاجتهاد.

ـ المبالغة في تضخيم معارف المجتهد والسمو بمصدرها؛ فهو قد بلغ فهم قصد الشارع في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فيصدر الأحكام بما يريه الله، والحال أن هذا المقام لم يبلغه حتى خاتم الرسل الذي عاتبه القرآن على بعض اجتهاداته الشخصية، وكيف ينطق كل مجتهد بما يريه الله ويتناقضون في عشرات بل مئات الأحكام ؟

ـ كيف يفهم المجتهد قصد الشارع في كل جزئية وفي كل باب والأغلبية الساحقة من مجالات الحياة ـ سيما اليوم ـ لا إلمام له بمعرفتها؟

والواصفون للرأي الاجتهادي بأنه متبوع بحكم الله و"موافقته" عليه، نجد فيه من المغالاة والاضطراب ما لا يخفى.

هل هناك مغالاة أكثر من اعتبار حكم المجتهد متبوعا وحكم الله تابعا له؟

وأي اضطراب أشد من كون هذا الرأي لا يترتب عنه "البراء" فقط الذي تنكره كل المذاهب السنية وإنما يستلزم براءات متعددة ومتناقضة لنفس الواقعة عندما تختلف آراء المجتهدين وتتعارض.

وأخيراً، فإن وصف رأي المجتهد بحكم الله أو بحكم الشريعة، تبعه تلقائيا:

أولاً: تحصينه من الإلغاء أو التعديل؛ فلا يملك ذلك فرد ولا جماعة ولا الأمة ذاتها،
قد يظهر اجتهاد مخالف أو مناقض له، وغاية ما ينعت به أنه "حكم شرعي" ثان ولا أثر له على الاجتهاد الأول.

ثانياً: تهيب مناقشته، لأنه حكم الله أو حكم الشريعة، والمطلوب من المؤمن الامتثال لأحكام الله وليس المجادلة في صلاحيتها، ولذلك كثيراً ما يتم الاستشهاد بآية: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا". (الأحزاب: آية 36)

ثالثاً: تشكل ثقافة عامة بعدم التمييز بين الأحكام النصية والأحكام الاجتهادية ووصف الجميع بأحكام الله أو أحكام الشريعة.

رابعاً: ظهور تيارات استقطبت نسبة مهمة من الأمة، ومع اختلافها في بعض التفاصيل يجمعها اعتقاد أن فهم السلف لنصوص الشريعة هو الفهم الصحيح والنهائي الذي لا تجوز مناقشته أو إعادة النظر فيه.

5- التجديد المقترح للفقه:

من أهم الأفكار المتداولة في المنظومة الفقهية حول التجديد وتقديم فقه يستجيب لحاجات الفرد والمجتمع المعاصرين: الاجتهاد الجماعي، واعتماد مقاصد الشريعة.

قدمت عشرات الاقتراحات عن الاجتهاد الجماعي الذي يكون من كبار العلماء في القطر الواحد أو في كل العالم الاسلامي أو بمشاركة "المتخصصين" في معارف الحياة المختلفة، أو بتكوين "العلماء" في التخصصات الحديثة... إلخ.

وتعذر التطبيق لأي اقتراح لاستحالة الاتفاق على تحديد "كبار العلماء" واستبعاد غيرهم ومنعهم من إبداء آرائهم الاجتهادية، وعلى طريق التعيين أو الانتخاب لكبار العلماء ومن يشارك في الانتخاب؟ والمختصون في المعارف الحديثة ما هي نسبتهم؟ وهل يشاركون في التقرير أم يقتصر دورهم على تقديم "الخبرة"؟

وقبل كل ذلك الاقتراحات كلها تتجاهل الأوضاع الدستورية في الدول الإسلامية التي من المؤكد أن مجتمعاتها لن تتنازل عن حقوقها في التقرير استجابة لمن يدعي الوصاية عليها في ذلك دون سند أو وسيلة إقناع.

وبالنسبة لما سمي بالاجتهاد المقاصدي تشعب التنظير له بعشرات الآلاف من المؤلفات والأطروحات فضلاً عن الأبحاث والمقالات العصية عن الحصر. أما التطبيق، فلا أثر له رغم استمرار الدعوة إلى الاجتهاد المقاصدي أكثر من قرن من الزمن.

وأقصد بانعدام الأثر عدم وجود جزئيات اتفق على تغيير أحكامها تحقيقاً لمقاصد الشريعة وذلك لسببين أساسيين:

الأول: ميل عامة "الفقهاء" المنادين بالاجتهاد المقاصدي إلى الالتزام عمليا بالتقليد، وهذا ثابت من الجزئيات التي يفتون فيها وحتى من مؤلفاتهم التي يتعرضون فيها لبعض الأحكام الفقهية. ولا يقتصر هذا على فتاوى الأفراد، مثل الضرائب التي ما تزال عشرات الفتاوى تصدر بتحريمها، وإنما يشمل كذلك "الاجتهاد الجماعي" من ذلك مثلا قرار "مجمع الفقه الاسلامي" التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي بجدة، بربوية عقود التوريد وعقود البورصات العالمية التي لا يؤدى فيها الثمن فور إبرام العقد، دون بيان للمقصد الذي يفوته تأخير أداء الثمن أو يحققه تعجيله في ظل ملابسات هذه العقود التي تتم بعشرات أو مئات الملايين، ويتأخر تسلم المبيع فيها بضعة أشهر الأمر الذي يعرض المستورد لخسارة مؤكدة بحرمانه من جزء من رأسماله واستفادة المورد منه، في الوقت الذي نظمت فيه إجراءات المحافظة على حقوق الطرفين معا بما يسمى "خطاب الضمان".

والثاني: أن ما قد يراه عالم أو مفت من تعديل أو تغيير لبعض الأحكام استعمالا للاجتهاد المقاصدي، يبقى مجرد رأي شخصي للقائل بها ولا يكتسب صفة الحكم الاجتهادي الملزم، لأنه لا أحد تم الاعتراف له بصفة "مجتهد" طيلة كل الفترة التي كثر الحديث فيها عن الاجتهاد المقاصدي؛ أي منذ قرن من الزمن أو أكثر.

وأخيراً، فإن الخطاب السائد هو قصر الاجتهاد ـ أيا كان مستنده ـ على المجتهد / العالم / الفقيه، الذي تبدو معارفه بعيدة عن كثير من مرافق المجتمع الحديثة وما يحدث فيها كل يوم من تطور في التنظيم والتدبير. فكيف يفصل مثلا في جزئيات سياسات: الأسعار، ومكافحة التضخم، وخفض نسبة البطالة، إلى تحديد علاقات الدولة بغيرها من الدول... ما دام الفقه يشمل "جميع تصرفات العباد لا يخرج عنها اعتقاد، أو قول أو عمل" فيشمل "علاقة المكلف بربه، وبنفسه وبغيره، وبالدولة... وعلاقة الدولة بغيرها من الدول في زمن السلم والحرب" فهو يشمل مختلف المجالات "العقيدة، والعبادة، والمعاملة، والمال، والاقتصاد، والأسرة، والسياسة، والحكم، والقضاء، وغير ذلك" ـ البيان الختامي للمؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها ـ المنعقد بمكة في 17 ـ 20 يناير 2010.

فهل يتصور أن تكون للفقيه الكلمة الفصل في كل هذا، وأنه باستعمال "مقاصد الشريعة" يحسن إدراك تفاصيله، وملايين جزئياته التي تتغير ظروفها وملابساتها باستمرار زمانا ومكانا؟

ثانياً: البديـــــــــــــــــل:

باختصار شديد، يلخص البديل الذي أدعو إليه في تجاوز ما يبدو منتقداً من عناصر المنظومة الفقهية:

1ـ خطاب الشريعة ليس قاصراً على الفرد، وإنما موجه كذلك إلى الأمة / المجتمع في كل الشئون المرتبطة بالحياة المشتركة وأداء أمانة الخلافة في الأرض، وهو ما يفرض التخلي عما اصطلح عليه بـ. "فروض الكفاية" التي يدخل فيها كل المصالح المادية والمعنوية الجماعية.

إن اعتبار الخطاب بها موجها إلى الفرد، وإلى تقديره المحكوم بإمكانياته المعنوية والمادية ينتهي حتماً إلى تخلف الانضباط في إنجازها، بل إلى تعذر هذا الإنجاز للكثير من المصالح العامة التي يستحيل تنفيذها بإمكانيات الفرد المعرفية منها والمادية.

2ـ العقل مناط التكليف، لذلك ينبغي تجاوز: "العقل لا يحسن ولا يقبح" نعم عقل الفرد الواحد قد يشطت أو يزيغ، ولكن ما نقصده: عقل الجماعة بعد تبادل آراء الأفراد ومناقشتها.

3ـ الأمة مكلفة بالبحث عن الدلالة الظنية للنصوص ظنية الدلالة، وعن التنزيل الظني كذلك للكليات على الجزئيات، وليس بالبحث عن الحكم الأزلي، لأن التأكد من الوصول إليه مستحيل ولا وجود للتكليف بمستحيل. والحكم الظني هو الذي تقرره الأمة عن طريق الشورى. أما ما يصل إليه الفرد، فهو رأي ظني وليس حكماً ظنياً.

ووصف الحكم بالظني يقتضي قابليته مبدئيا للتعديل والتغيير في كل وقت تطبيقا لمبدإ "الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً" ويتحقق ذلك:

إما بما يكشفه التطبيق من خطأ في التنظير، أو في تقدير المآل.

وإما بتغير أحوال الواقع وملابساته وطوارئه.

4- المطلوب من الأمة في تنظيم شئونها وعلاقات أفرادها ليس الاستناد في حكم
كل جزئية إلى نص من الشريعة، وإنما الممنوع هو معارضة النص ومصادمته، وهو أمر لا يحتاج إلى زيادة شرح. فكل ما رأت فيه مصلحة راجحة على نقيضها كان تشريعه مقبولاً، ولو لم يتم الاستناد فيه إلى نص جزئي أو كلية من الكليات العامة للشريعة.

5ـ ضوابط التفسير الأصولية تساعد فقط على الفهم الظني للنصوص الجزئية إلى جانب الملابسات الواقعية والمعرفية للواقعة المعنية التي يتعذر أن يحيط بها ويستحضرها الفرد الواحد.

6ـ طبيعة فهم الأفراد التعدد الذي يتناقض مع وحدة الحكم التي يفرضها تنظيم شئون الحياة لذلك لا مناص من الفصل بين الرأي الذي يبقى حقاً مشاعاً بين كل الراغبين في إبدائه، وبين تقرير الحكم الذي هو صلاحية تملكها الأمة من خلال مؤسساتها وليس الأفراد.

7ـ هذا الفصل بين إبداء الرأي وبين تقرير الحكم هو الذي تقرره صراحة آية "وأمرهم شورى بينهم" وثانياً هو ما انتهى إليه فكر الإنسان في مسيرته الاستخلافية باهتدائه إلى "دولة المؤسسات" التي تجمع بين ممارسة الفرد لحريته وحقوقه وأداء واجباته وبين تشخيص حق الأمة في التقرير عن طريق مؤسسات تضبط اختصاصاتها ومسئولياتها قواعد نظامية دقيقة، وتتبادل الرقابة التي تحد من الغلو والتجاوز.

8ـ الأنظمة الدستورية السائدة اليوم في الدول الإسلامية تضم العناصر الأساسية لما تأمر به آية الشورى، وما تنبغي العناية به هو الجوانب السلبية التي تكاد تجردها من أهدافها الجوهرية.

ويبدو من أهم الجوانب السلبية:

ـ انتشار الأمية المترتب عنه غياب الوعي الذي يحصن المواطن من السير على غير هدى.

ـ القصور الملاحظ في الخطاب الديني الموجه إلى السلوك الذي يلخصه حديث "الدين المعاملات".

ـ الولاء الحزبي الذي يغتال في حالات غير قليلة الشعور بالمسئولية والوفاء بالتعهدات الانتخابية.

- ما يرافق الدعاية الانتخابية من الوسائل المالية المنحرفة، والمبالغة في الوعود التي
لا تتورع عن الإغراء حد الكذب والاستخفاف بقيم الأمانة والمسئولية.

إن النظام الدستوري الشائع اليوم مع ما يرافقه من سلبيات لن تتخلى عنه المجتمعات المعاصرة ـ وبالأحرى المقبلة ـ وهو في جوهره تطبيق لمبدأ الشورى المقرر في القرآن.

لذلك، فإن المطلوب هو السعي إلى تخليصه من الشوائب في اتجاه تحقيق التوازن بين حقوق والتزامات الفرد والمجتمع، وترسيخ دولة المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة التشريع، حتى يتحقق فيها التمثيل الحقيقي لإرادة الأمة. هدف عزيز وصعب التحقيق، ولكن لا محيد عنه تنفيذاً لسنة الله التي لم تترك الإنسان سدى، وطبعت فيه غريزة البحث المتواصل عن الأفضل. ونسأل الله الهداية إلى سواء السبيل.


[1]ـ المستصفى ـ 387/2

[2]ـ شفاء الغليل، ص 110

[3]ـ الاعتصام، ص 120

[4]ـ الموافقات، 106/4