التفكير في الاجتهاد الفقهي


فئة :  مقالات

التفكير في الاجتهاد الفقهي

التفكير في الاجتهاد الفقهي

الاجتهاد من بذل الجهد وتحمل المشقة، بهدف الوصول إلى الحكم الشرعي بالنظر والاستدلال والاستنباط والاستقراء، فيبذل المجتهد كل ما يستطيع من جهد لإدراك الحكم الشرعي، وعيا منه أن مقصد الشريعة الإسلامية هو تحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان، بتنظيم أحكام الدين والدنيا وأحكام المعاملات، فهي خاتمة الشرائع ومصدرها الوحي الإلهي. وعليه، فالاجتهاد "هو مخزون الطاقة الأثري الذي أورث الشريعة المرونة والتجدد والاستمرار، وهو الذي أمد الأمة بثروة زاخرة من الأحكام العملية والنظريات الحقوقية التي وجهت حياتنا الخاصة والعامة ردحا من الزمن"[1]. الاجتهاد درب من دروب التجديد في حركة الأمة، وفي المنظومة الثقافية الإسلامية، وقد يبدأ من الفقه ويمتد لمختلف مجالات المعرفة بمختلف أنواعها.

المتتبع للكتابات ولمختلف ما ينشر في المكتبة العربية والإسلامية، سيلاحظ أن هذا الموضوع موضوع مصاحب لمختلف رواد النهضة ورجال الإصلاح منذ أواخر القرن التاسع عشر ومرورا بالقرن العشرين؛ فكل الذين ألفوا وكتبوا في مختلف ميادين الفكر والمعرفة كان هدفهم بشكل مباشر أو غير مباشر العمل على بسط فكر ومعرفة وثقافة تستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة. وهذا لا يعني أن كل المتدخلين والفاعلين في الشأن الفكري والمعرفي يشتركون في نفس الفكر والتصور والتوجه؛ فموضوع الاجتهاد والدعوة إليه كمفهوم ومصطلح تبناه المختصون في المعرفة والعلوم الشرعية، والكثير منهم من خريجي الجامعات والمؤسسات الدينية مثل: الأزهر والقرويين والزيتونة. وأهم ما تميز به اجتهاد الكبار من هؤلاء مثلا: (محمد شلتوت أو محمد بن الحسن الحجوي في المغرب أو الطاهر ابن عاشور في تونس وغيرهم). لم يكن فقههم مثل فقه الكثير من الذين وقفوا عند فقه الأحكام فقط، دون فقه الواقع وإفتاء الأحياء بما قال به الأقدمون، فالعمل على ترجيح مختلف الأقوال التي تتوفر عليها مدونة الفقه الإسلامي، وإنما كان فقه هؤلاء يجمع بين فقه الواقع وفقه الأحكام، وهو الأمر الذي جعلهم يظهرون بكونهم مجتهدي الأمة، في مقابل فئة أخرى من خريجي المؤسسات الدينية اكتفوا بالبقاء على مضامين المدونة الفقهية كل حسب مذهبه، ومنهم من أنكر كثيرا وحذر من اجتهاد الذين جئنا على ذكرهم.

فبالإمكان تقسيم الذين يقولون بالاجتهاد إلى فئتين؛ الأولى: تقف عند القول بالاجتهاد ولا تعمل به، وهذه هي الفئة الغالبة، والثانية: وهي التي تنظر إلى الاجتهاد نظرة حضارية، نتيجة وعيها بالتغيرات الثقافية والاجتماعية ذات الطابع العالمي التي صاحبت القرن العشرين وما بعده، وهي تغيرات لها أثر بليغ على موضوع الاجتهاد من جهة طبيعة الإشكالات والقضايا التي تتطلب الأخذ باجتهاد ينسجم ويتوافق مع السياق الاجتماعي والثقافي، وهو سياق يتميز بنظم ومؤسسات وقوانين عالمية ومواثيق دولية منظمة لطبيعة العلاقة بين الدول والأمم، مع العلم أن مختلف تلك المواثيق والقوانين تنبعث من تصورات ومنطلقات وخلفيات مرجعية مفارقة في كثير من الأحيان للمرجعية الإسلامية؛ فالاجتهاد من هذا المنظور هو "حالة اجتماعية وحضارية فالانتفاع بثمراته وفوائده متوقف على مقدمات ضرورية".[2]

فتقلص الاجتهاد وقلة المجتهدين تعود إلى تقلص دائرة الاهتمام والاشتغال بمختلف العلوم. وفي هذا السياق، يقول محمد الحجوي: "ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر حياتها التي أجلَها العلُوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدين مع علماء الدنيا، فيظهر المجتهدون".[3] والأمر المنهجي الذي يجمع كل هؤلاء الفئة الأولى والثانية، كونهم لا أحد فيهم خرج عن الأصول والمرجعية القديمة للتفكير والاجتهاد الفقهي؛ أي المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي (القرآن والسنة والإجماع والقياس) وبهذا فهم يشكلون اتجاها ينطلق من الأصالة وهذا لا يعني أنهم ضد المعاصرة.

وهناك تيار آخر كبير ومتنوع (فهو يجمع بين اتجاه توفيقي واتجاه القطيعة مع التراث...)، لم يتبنّ مقولة الاجتهاد، واستحدث مصطلحات ومفاهيم بديلة عنه من قبيل المعاصرة والتحديث والتجديد، وهذا الاتجاه في أغلبه تلقى تكوينا عصريا في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وبالتالي فهو لا يفكر داخل سياق مدونة الفقه وأصول الفقه، وقد اشتغل بشكل كبير على قضايا فكرية تتعلق بسؤال تبيئة واستيعاب مختلف القضايا والأفكار في الفكر والفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية، ونضرب مثالا عن هؤلاء بكل من: (أحمد أمين، حسن حنفي، محمد عابد الجابري، أركون).

فمفهوم العالم والمثقف في العالم بعد القرن التاسع عشر، سار مفهوما مزدوجا بين وجهين؛ الأول: المثقف الفقيه والعالم، والثاني: الأستاذ والدكتور والخبير؛ أي تيار الأصالة وتيار المعاصرة، وهي مشكلة معرفية أثارت نقاشا كبيرا من خلال مؤتمرات وندوات فكرية.[4] الوجه الأول له اهتمام كبير بامتلاك وضبط مختلف متون معارف العلوم الشرعية، بينما الثاني له اهتمام أكبر بسؤال المناهج والمدارس وسؤال الفهم والتحليل، وهذه الازدواجية يعكسها اللباس والمكان وخطاب التواصل وطبيعة الحضور في المجتمع... الفقيه والعالم مكانه بدرجة أولى المؤسسة الدينية والمسجد، بلباسه وزيه التقليدي ... أما الأستاذ والدكتور والخبير، فهو قريب من الجامعة والمؤسسات والمختبرات العلمية. فهناك تقسيم للمجال بشكل عفوي، فمن النادر جدا أن تجد رجلا يرتدي لباسا عصريا على منبر المسجد، يحاضر في شأن تاريخ الفقه والفلسفة مثلا أو في مجال من مجالات العلوم الحديثة، فالمثقف من هذا النوع يأتي إلى المسجد مثله مثل باقي عموم الناس يصلي وينصرف. لا ننكر أن هناك نماذج من المثقفين تجمع بين ما هو أصيل وبين ما هو عصري على مستوى الشكل. أما على مستوى المضمون والمنهج، فهذه هي عين المشكلة.

صحيح أن الجامعات في العالم الإسلامي تدرس العلوم الشرعية في كليات الشريعة وكليات وشعب الدراسات الإسلامية، ولكن لا ينبغي أن نغفل أن هذه الكليات السابقة الذكر، لا تستحضر بالشكل الكافي العلوم الإنسانية على مستوى المنهج، في الفهم والتحليل من جهة تدريس الطلاب. بقدر ما هي منجذبة بشكل كبير، إلى ضبط المتون والأقوال ... وعلى العموم هناك نوع من الفصل ما بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، وبهذا الخصوص، نستحضر ما قدمه الدكتور ساري حنفي في كتابه: "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة أليس الصبح بقريب؟" وكتاب نحو إعادة بناء الدراسات الإسلامية (كتاب جماعي) تحرير كل من رضوان السيد، ساري حنفي، بلال الأرفه لي. فالغاية من هذه الطروحات الفكرية هي إنعاش وتقوية الاجتهاد الفقهي بتحرير الاجتهاد من الدائرة الفقهية القديمة، وربطه بالدائرة الأوسع، وهي دائرة الحضارة وإشكالاتها ومقتضياتها في الزمن الحديث. ففقيه اليوم بالضرورة يكون قريبا من السيسيولوجيا والتاريخ ... ليس من باب التخصص، ولكن من باب المعرفة العامة والكلية. وحتى لا نلقي بكل اللوم على الدراسات الإسلامية، فالمشكلة معكوسة في مختلف الشعب الأخرى التي تعاني غياب المعرفة والاطلاع على المبادئ الأولية والعامة للعلوم الشرعية. هذا كله يعني كون المعرفة في العالم الإسلامي تفتقد لرؤية كلية تكاملية للمعرفة بما فيها المعرفة القديمة والحديثة. المسألة هنا ليست بالبسيطة، فهي تعكس مشكلة حضارية ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فجذور المشكلة تعود إلى لحظة التقاء أوروبا والعالم الإسلامي.

فقد التقت أوروبا بالعالم الإسلامي، وهي لازالت حينها تعرف مخاض التحول لحظة الحملة الفرنسية على مصر (1798م - 1801م) التي شكلت نقطة التقاء بين حضارتين كانت كل واحدة منهما لا تدري ماهية الأخرى بشكل واقعي وملموس؛ فالعالم الإسلامي كان حينها يفترض في نفسه بأنه لازال يحمل مشعل العلم والمعرفة والحضارة وينظر إلى أوروبا الكافرة بأنها تقبع في بؤر التخلف والتفكك والبعد عن المدنية كما عهدها من قبل. أما أوروبا التي عرفت تحولات كبيرة منذ ق 16، فلم تع بشكل كامل طبيعة الحالة التي عليها العالم الإسلامي بفعل الصورة النمطية التي كانت لها من قبل عن الإمبراطورية الإسلامية القوية. وقد شكلت حملة نابليون على مصر نقطة اكتشاف وتحول كبير في نظرة كلا الطرفين إلى بعضها، نظرة يغلب عليها ما هو واقعي بدل ما هو ذهني ومتخيل. لقد كانت المواجهة بين البندقية والسيف، بالأساس مواجهة بين حضارة ناهضة واعدة، وحضارة آفلة[5] فأهم ما نبهت له هذه الحملة هي الحقيقة التي أخفتها العزلة عن العالم لحقبة طويلة، والتي تتجلى في تأخر العرب والمسلمين المزدوج، عن ماضيهم الحضاري المرجعي وعن عصرهم ومدنيته الجديدة"؛ [6] فأهم الأسئلة التي طرحها جيل النهضة الأول هي لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون؟ وكيف يمكن اللحاق بالركب الحضاري؟ وهذه الأسئلة لديهم لا تنفصل عن التفكير في الاجتهاد الفقهي.

أسئلة الجيل الأول من رجال الإصلاح كان همهم إصلاحي، وكل همهم الاستفادة من الحاضر والماضي معا، بينما الذين جاءوا من بعدهم، كانت تحكم الكثير منهم نزعات مذهبية وتحيزات مدرسية فكرية. من كلا الطرفي؛ أي وجهي المثقف والعالم كما بينا سالفا، والذي يؤكد هذا أن مجمل العلماء والمثقفين الذين ظهرت مؤلفاتهم وطروحاتهم الفكرية ما بعد أربعينيات القرن العشرين، لا يختلفون حول موقف المدرسة الإصلاحية؛ أي رجال النهضة الأوائل جمال الدين الأفغاني، والطهطاوي، محمد عبده، والكواكبي... من جهة الموقف، فاختلافهم حول هؤلاء يعود إلى القراءة التأويلية لتراثهم، فالطهطاوي مثلا يظهر رجلا قوميا عند القوميين العرب، ورجلا عقلانيا بامتياز، وقد تسحب منه عمامته الأزهرية، وتجده فقيها وعالما عند المحافظين. فمحمد عبده تجده أبو الإصلاح والاجتهاد ورجل مؤسسة دينية عند البعض، بينما عند البعض الآخر يظهر بكونه رجل إصلاح ديني يدعو إلى الخروج عن المؤسسة الدينية، مثلا يحضر محمد عبده عند يوسف القرضاوي، ويحضر كذلك عند محمد أركون وعبد الله العروي، إلا أن الحضور هنا حضور مختلف ومتباين، بل متعارض أحيانا بطبيعة تعارض نظرة كل طرف عن الآخر، فمجمل المثقفين المحسوبين على الحداثة والتحديث، يرون أن خريجي المؤسسة الدينية يرتمون في أحضان الماضي غارقين في فقهيات التراث الإسلامي، الذي ينبغي القطع مع جوانب كثيرة منه؛ لأنه لم يعد يصلح في نظرهم للعصر. ويرى معظم خريجي المؤسسات الدينية أن نخبة المثقفين الحداثيين مقلدون للغرب وثقافته، هذه الصور النمطية كانت من بين الأسباب، التي جعلت التفكير في الاجتهاد الفقهي دون مردودية سواء على مستوى المنهج أو المضمون، فالفقيه كل همه أن يثبت أن هناك أصالة لا ينبغي التفريط فيها، ورجل الحداثة كل همه أن يثبت أن هناك مطلبا حداثيا لا مهرب منه. وهنا موطن النزاع، فقد كتب يوسف القرضاوي كتيبا من 187 صفحة بعنوان: "الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة" وكتب برهان زريق كتابا بعنوان "الأصالة والمعاصرة بين المحاكات والتقليد" وهناك مؤلفات بين الطرفين بنفس العنوان.

يشترك كل من تيار الأصالة وتيار المعاصرة في غياب النقد المزدوج بتعبير المغربي عبد الكبير الخطيبي، فأصحاب الأصالة لا يجعلون التراث موضعا للنقد والتحليل والاستيعاب والتجاوز، كأنه نص مكتمل في نظرهم. أما أصحاب المعاصرة، فالحداثة وتبعاتها في أعينهم كأنها فوق النقد.

[1] عبد الحميد عشاق، منهج الاجتهاد مقاربة في منهجية الاجتهاد، مركز الموطأ للدراسات والتعليم، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2018م، ص.15

[2] نفسه، ص.29

[3] نقلا عن المرجع، نفسه، 45

[4] من بين تلك الندوات، الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، القاهرة، سنة 1984م. (الأصالة والمعاصرة) التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، القاهرة، سنة 1984م.

[5] انظر: أحمد محمد سالم، الخطاب الإصلاحي عند رفاعة الطهطاوي، مقالة في مجلة التسامح العدد 10

[6] عبد الإله بلقزيز، من النهضة إلى الحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.1، 2009م، ص. 39