مدونة الأسرة وضرورات التجديد


فئة :  مقالات

مدونة الأسرة وضرورات التجديد

مدونة الأسرة وضرورات التجديد

تقديم:

كلما تجدد النقاش حول ضرورة تمكين المرأة والطفل والرجل على حد سواء، في قانون أسمى خاضع للتعديل والتغيير، وحركية المجتمع، كلما تجدد النقاش، أو لنقل الصراع الخفي بين تيارات ترى أحقيتها في التحدث باسم المجتمع، وباسم تنوعه واختلافاته، لكن قلما يخرج هذا التجاذب عن قطبين أساسيين: الأول: حركات أصولية دينية محافظة، تريد أن تحافظ على الوضع القائم، ولا ترغب في تجدد العقل المسلم في تعاطيه مع قضية المرأة والطفل، ولا تهمه كل التحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لعالم اليوم. وفي الوقت الذي يعيش فيه هذا العقل الحداثة في أبهى صورها من خلال انخراطه اللامشروط في الفضاء التواصلي، والاستعانة بما وصلت إليه العلوم والتقنيات في كل المجالات، فإن هذه العقلية تبدي مقاومة هشة تجاه النقاش العمومي المتعلق بحقوق المرأة والأطفال، في رغبة مستميتة لإدامة وضع لم يعد قادرا على الدفاع عن ذاته، بله أن يدافع عنه أحد؛ الثاني: تيارات حقوقية وحداثية تريد أيضا أن تفصل المجتمع عن جذوره وترمي به إلى المجهول، دون أن تسمح للآخرين أن يعبروا عن تخوفاتهم وهواجسهم، ودون أن يعتبروا بأن التغيير أيضا هو شروط موضوعية تحتاج لنضج اجتماعي وعقلي يواكب المرحلة وحساسيتها.

وفي صلب هذا الاستقطاب الحاد يذوب النقاش العمومي، ويتحول الصراع إلى دين ولا دين، أو إلى دين في مواجهة قيم الحداثة. في حين أن صلب النقاش يجب أن يكون هو الإجابة عن تساؤلات حارقة: هل مدونة الأسرة المغربية تستجيب لمطالب فئات اجتماعية كثيرة تتضرر من بعض البنود الواردة فيها؟ هل الآراء الفقهية والقواعد الأصولية ثابتة أم متغيرة خاضعة لصيرورة المجتمع وتحولاته؟. هذا هو النقاش الهادف الذي يهدف إلى الارتقاء بالمجتمع، وليس النقاش العامي الذي يتداول في منصات التواصل الاجتماعي، حيث يقود الحملة ضد هذا الاتجاه أو ذاك أناس لا ثقافة قانونية لهم، ولا معرفة بقواعد الدين والفلسفة والاجتماع البشري تحكمهم. وانطلاقا من هذا المعطى، يمكن أن نبحث عن طريق ثالث يعيد النقاش إلى سكته الأصلية، ويبحث عن استعادة وهج الفضاء العمومي كما نظر له هابرماس؛ أي تلك المساحة التي يشارك فيها الناس كأنداد في نقاش عقلاني طلبًا للحقيقة والصالح العام، بما في ذلك كل المفاهيم المثيرة للجدل من قبيل الشمولية والمساواة والحرية. وألا يبقى النقاش والمشاركة في الفضاء العام حبيس المقاهي والصالونات والدوريات الأدبية التي كانت منتشرة في القرن الثامن عشر، وحكرا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء، لكن بالرغم من هذا التوجه، فإن الناس كما قال الجبران لن تقبل ذلك؛ لأنهم غدوا نسخة كهنوتية أكثر عصبية من الكهنوت نفسه.

فلماذا دوما تواجه دعوات التجديد والتغيير بالرفض والاستهجان؟

الثقافة التقليدية تمجد النص على العقل:

ما يميز الفكر التقليدي السلفي الأصولي هو أنه عقل يقف عند حدود النص باعتباره المنتهى، وليس باعتباره العتبة التي يلج من خلالها الباحث إلى القراءة والفهم والتأويل؛ فكل نص هو إشارة إلى مكان وزمان ما، وبنية فكرية معينة، وليس كل نص هو حقيقة إذا صادق عليه هذا الاتجاه أو ذاك، ومن هنا يمكن أن نفهم أيضا القاعدة الفقهية المشهورة أينما توجد المصلحة فثم شرع الله، ولكن لأن العقل السلفي هو عقل نقلي لم يخرج عن حدود الرواية، فإنه لا زال يعتبر الحقيقة ملتصقة بالنص، وكأن بين الحقيقة والنص نوع من التلازم، في حين أن النصوص هي إشارات يجتهد قائلها في قراءة الواقع وفق سقفه المعرفي الذي لا يتعدى حدود الزمان والمكان. ومع ذلك، فإنّ الملاحظ للاستقصاء اللّغوي الذي قام به نصر حامد أبو زيد لمفهوم النص، يتبين له بأنّ الدَّلالة التي يمكن أنْ تكون ملازمة للفظ "النَّص" هي البروز والانكشاف والارتفاع، ولم تخرج دلالتها عن هذا الإطار. فحسب أبو زيد ظلَّ اللّفظ محافظا على دلالته، وإنْ تحوّل اصطلاحيا إلى معنى إجرائي يدلُّ على الواضح الذي لا يختلف فيه اثنان، أو هو ما لا يحتاج إلى بيان من غيره.

ودلالة النّص التّي لجأ إليها الشّافعي في رسالته، هي نفسُها الدّلالة السّابقة التّي عدّت النّص بمثابة الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان، حين قال: "فجِماع ما أبانه الله لخلقه في كتابه مما تعبَّدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه. من وجوه: فمنها ما أبانه لخلقه نصّاً، مثل جمل فرائضه، في أن عليهم صلاة وزكاة وحجًّا وصوما، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصُّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء مع غير ذلك مما بيّن نصّاً".

إذن فالشّافعي وعلى دربه سار الكثير مِمَن اشتغل في الحقل الفكري الديني، من مجالات واختصاصات متعدّدة، استعملوا لفظ "النَّص" بالمدلول الواضح، والبيِّن، والمستغني عن البيان، وهي دلالات تضعنا أمام مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بتحديد أنواع النصوص، فهل هناك نصٌّ واحد أم نصوص متعدّدة؟. فالنّص بهذا التحديد يقتضي التّعالي على التّدخّل البشري في عملية الفهم والتأويل، ويضع مسافة بين النّص بوصفه مصدراً، وبين المتلقّي وأدواته المعرفية. لهذا قالوا عبارتهم المشهورة: لا اجتهاد مع نص. فحسب هذا الفهم تتوقف حدود الفهم والتأويل والقراءة عندما يكون هناك نص، ولكن ما وجب التنبه إليه هو أن هذه العبارة، أو لنقل القاعدة الفقهية كانت سببا مباشرا في تعطيل أهمية الاجتهاد، وبالتالي إضاعة الكثير من الأمور الناتجة عن تفعيل الاجتهاد البشري، ومواكبة التطورات المعاصرة، وخلق ديناميات اجتماعية تقلب النظرة إلى الاجتهاد خارج دائرة النص. فإذا لم نجتهد في النصوص التراثية، ففي ماذا سنجتهد؟ في نهاية المطاف النص هو بوصلة العقل الأصولي، وإذا لم يجتهد في فهم النص، واستلهام مقاصده، والانفتاح على امتداداته وإشاراته، تحول النص إلى عائق، وتخلف المجتمع، ولما حققت الإنسانية ما وصلت إليه لو ظلت متشبثة بفقه النصوص. ومن هنا يمكننا أن نفهم عبارة الجبران أن التراث مسودة كذب أكثر مما هو مسودة معرفة. لذا، فطمعنا أن نخلص الدين من الكذب حتى وإن لم نصل إلى الحقيقة.

لكن ماذا تفيد هذه العبارة لا اجتهاد مع النص؟ هل هي سليمة من الناحية المنطقية؟

هنا يمكننا أن نشير إلى بعض المغالطات التي تحتوي عليها هذه العبارة:

  • الاختلاف في مفهوم النّص: هل النّص في سياق هذه القاعدة يقصد به النّص قطعي الثّبوت وقطعي الدلالة؟ أم هو النّص ظنيُّ الثّبوت وظنيُّ الدلالة؟. فلو سلَّمنا جدلاً بأنّ المقصود هنا هو القطعي الثّبوت والقطعي الدلالة؛ بمعنى أنّ قطعي الدّلالة هو ذلك النّص الواضح الذي لا يحتمل تعدُّد المعاني، واستبدلْنا العبارة "لا اجتهاد مع وجود نصّ" بعبارة "لا اجتهاد مع وجود نصّ قطعي الدلالة"، فإنّنا حينها سنحوِّل كما يقول عادل ضاهر العبارة الأصلية إلى مجرد تحصيل حاصل، مؤدّاه أنْ لا اجتهاد مع وجود نصّ لا يحتاج إلى اجتهاد. والعبارة الأخيرة لا شكّ أنّها لا تقول شيئا.
  • معيار اتّفاق العقول: وهي قاعدة مفادها أنّ العقول تتّفق على معنى النّص؛ أيْ بصورة أدقّ اتّفاق العقول حول الحكم المقصود من النّص. ويشترط لتحقيق هذا المبتغى، أنْ لا يكون النّص قطعي الدلالة في الماضي والحاضر والمستقبل مثار خلاف بين الناس، أو بين منْ توفّرت فيه شروط النّظر في النّصوص الشرعية. فإذا تأمَّلنا في هذا المعيار وجدناه مخالفا للمنطق؛ لأنّ المستقبل مفتوح والوقائع متجددة، ولا يمكن أنْ يعرف الإنسان إمكانية استخراج معاني النصوص، بالحكم بثبات الفهم والمعنى وحبس الاجتهاد.
  • اعتبار النّص القطعي الدلالة، هو ذلك المرتبط بشقّ الشّريعة خاصة في مسألة الحدود: ويكفي أنَّ النّصوص نفسها التي تُعدّ عند فريق قطعية الدّلالة لا تحتاج إلى اجتهاد، هي عند فريق آخر خاضعة للتَّأويل والتفسير، ليسقط هذا البناء النّظري غير العقلاني في بنية المؤسَّسة الدينية التقليدية، التي أغلقت باب الاجتهاد بقواعد خلقتها وأنتجتها، وسيّجت من خلالها عملية الابتكار والإبداع في مجال المعرفة الدينية.

الاستقطاب الأصولي والحداثي الحاد لا يخلق تجديدا:

لا يمكن أنْ نتحدّث عن ذهنية الأصولي بعيدا عن قوالب التفكير لديه، ولعلّ أهمها ذلك الالتصاق بالماضي، في تماهٍ واضحٍ يكرّس النّظرة الدّونية لكلّ ما هو حاضر ومستقبلي، ويمجّد الماضي بتعبيرات طوباوية لا تستقرّ إلا في ذهنية مثالية تقرأ التّاريخ بإطلاقية، اعتمادا على تأويلات ونصوص شاهدة على حجم التّزييف الذي يمكن أنْ يقع فيه إنسان يؤمن بحتمية أسطورة العود الأبدي، كما نظّر لها نتشه، وتعني أنّ مجموع الأحداث والظّواهر والأحداث سيتكرّر من جديد، بنفس النّظام والطريقة والمقدار الّذي وُجد فيه في الدّورة السّابقة على هذه الدّورة الثّانية. وهكذا تستمرّ الحال، وتأتي دائما دورات جديدة لا نهائية ما دام الزّمان غير متناهٍ.

إنّ الاحتماء بالماضي بتعبير طارق حجي، وهو يعدّد عيوب تفكير العقل العربي، يعيدنا إلى نقاش إشكالية التّراث، أو الموروث الدِّيني بشكل عام؛ إذ لكلّ باحث منطلقاته الفكرية. ومنذ أنْ توقّفتْ حركة الاجتهاد، ابتعد الموروث الدّيني عن عملية النّقد، والبحث، والتّنقيب، ونتجَ عن هذه العملية إعادة إنتاج للماضي، بوصفه محطّة تاريخية قد جاوزَتْ حدود النّقد. واعتمد الناس آليتي الحِفظ والتكرار، وتقدّست العلوم، وتكدّست في كتب صفراء، دون السّماح لآليات مغايرة أفرزها الواقع العلمي الجديد، أنْ تقارب الموروث الثّقافي بشكلٍ يعرِّي بعض نواقصه، أو يعزِّز ما يمكن أنْ يكون محطَّاتٍ مضيئة داخل تاريخنا.

أما مشكلة الحداثي أيضا، فقد توقفت حركة التاريخ عند حدود ما أبدعه العقل الأوروبي في الخروج من عصر الظلمات إلى عصر التنوير. لهذا، لا بد من التوازن ونحن نقارب قضية اجتماعية بحجم الأسرة، وما يترتب عليها من إشكاليات قانونية وثقافية ومعرفية. وهنا أود استحضار نقطة مهمة قد أشار إليها جمال علي الحلاّق، وهو يدعو إلى ضرورة تفعيل نقد الدين، باعتباره خطوة نحو الانفتاح المنشود، وهنا استحضر تجربة ماركس وفيورباخ. فهذا الأخير ساهم في تطوير فكرة النّقد الديني، غير أنّ ماركس المهووس بفكرة التّغيير قفز بعيدا عنها. فقد قال في مقدمته في نقده لفلسفة الحق عند هيجل: "إنّ نقد الدين قد انتهى من حيث الجوهر بالنّسبة إلى ألمانيا، والحال أنّ نقد الدين هو مقدمة لكلّ نقد آخر".

هكذا كان نقد ماركس بمثابة النّزول من الجبل إلى الوادي، ومحاولة الدّخول في جسد الفراشة. مشكلة هذا الكلام أنّ ماركس قفز بعيدا، وجعل من النّقد خطابا نخبويا، دون أنْ يتشبع به عامة الشّعب. وكأنّ ماركس قفز إلى نقد النّقد قبل أنْ يتشبّع الشارع بثقافة نقد الدّين. لم يترك المجال للفكرة أنْ تنضج، وربّما قطفها قبل أنْ تختمر في عقول الشّعب الألماني. لقد كان نيتشه أكثر اتّصالا بفيورباخ منه بماركس، عندما حفر في أصل الأخلاق وفصلها. وما يثير الانتباه في هذا السّياق هو أنّ تجربة ماركس وفيورباخ يمكن نقلها إلى السّاحة الإسلامية، في علاقة الإسلام بالأحزاب الشّيوعية، حيث إنّ هذه الأخيرة بدأت بنقد النقد، دون أنْ تمرّ بمرحلة نقد الدين، ولم تستثمر التّجارب المتاحة في بلدانها كتجربة الزهاوي في ثورة الجحيم في العراق، أو محمد إقبال في الهند، وعلي عبد الرازق في مصر، غير منتبهين إلى أنّ حركة التّاريخ لا تعرف القفز على المراحل. إنّها حركة ديالكتيكية تراكمية بحتة كما يقول الحلاق. لا مجال للقفز فيها، ولا حتى الطيّ والاختزال. ومن هنا يبقى سؤال النّقد الديني سؤالاُ ملحّاُ في واقعنا المعاصر؛ لأنّ وحده القادر على وضع التّجربة الدينية على المحكّ، وإخراجها من هالة التقديس، إلى رحابة النقد.