قراءة في كتاب "تاريخ التكفير في تونس" لشكري المبخوت


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "تاريخ التكفير في تونس" لشكري المبخوت

عوائق الاجتهاد الدّيني وإكليروس المؤسسة الدّينية في الإسلام:

قراءة في كتاب "تاريخ التكفير في تونس" لشكري المبخوت([1])

من المؤلّفات المهمّة للغاية التي صدرت، مؤخّرا، في مجال نقد التفكير الدّيني التقليدي وقراءة مسارات الجدل وصراع تأويلات النصّ الدّيني في علاقته بالعقل والتاريخ والمجتمع، وقضايا التكفير والإيمان، كتاب أ. د شكري المبخوت "تاريخ التكفير في تونس"([2])، حيث تمّ تقديم الكتاب، ومناقشته على منابر فكرية وعلمية كثيرة، كان من ضمنها الجلسة المتميّزة التي عقدت بفضاء مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" بتونس، في 3 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018.

من هذا المنطلق، بدت لنا أهميّة محاولة قراءة المادّة المعرفية التي تضمّنها هذا الكتاب، عبر دراسة أهمّ محاوره الفكرية والنقدية، وطبيعة اشتغال آلياته ومنواله في دراسة قضايا التكفير الدّيني، في علاقتها بعمل العقل وبرسالة شيوخ الدّين، وبحقيقة تعاليم الدّين ودلالات منطوق خطابه. ولعلّ ذلك لا يستقيم بمعزل عن التطرّق إلى أهمّ خصائص المنوال المعرفي المعتمد في التحليل والدّراسة، لا سيّما أنّه يأتي من عالم لسانيات وباحث متخصّص في البلاغة الجديدة، جذبته الدّراسات الحضارية ومباحث تاريخ الأفكار، فرأى أهميّة في تحليل قضايا الخطاب الديني، ودراسة جذور فكرة التكفير وخطورة تداولها وانعكاساتها السلبية في مجال الفكر والثقافة وفي فضاءات الحياة اليومية للأفراد. ومن ثمّ، يصير بالإمكان أن نتبيّن أهمّ مميزات ما تطرحه تلك المقاربة من قراءة جديدة لتاريخ التفكير الدّيني ولطبيعة الخطاب المجسّم لتلك التحوّلات، في مستوى القيم المعرفية والحضارية التي تؤسّس وجود الكائن.

والأستاذ المبخوت مؤلّف هذا الكتاب، جامعي تونسي ينتمي إلى قسم اللغة والآداب العربية، بجامعة منوبة، عُرف ببحوثه المتميّزة في مجال اللغة واللسانيات والبلاغة الجديدة. في هذا السياق، أنجز أطروحته؛ "إنشاء النفي وشروطه النحوية الدلالية في اللغة العربية" (صدرت عن كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة بالاشتراك مع مركز النشر الجامعي بتونس، 2006). وألّف في هذا المجال، أعمالا كثيرة صارت مرجعية، منها كتاب "الاستدلال البلاغي" و"نظريّة الأعمال اللّغويّة" و"دائرة الأعمال اللغويّة" و"توجيه النفي"، وبحوث حول "المعنى المحال"، و"نظرية الحجاج في اللغة"، (صدر ضمن الكتاب الجماعي "أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم"، بإشراف حمّادي صمّود، كلية الآداب بمنوبة، 1998). غير أنّه بالتوازي مع ذلك اهتمّ بالدّراسات الأدبية وتحليل الخطاب والترجمة، فقد ترجم كتاب "الشعرية لتودوروف (بالاشتراك مع رجاء سلامة وصدر عند دار توبقال للنشر بالمغرب، في طبعتين: 1987م و1990)، وكتب في نقد السيرة الذاتيّة كتبا ثلاثة هي "سيرة الغائب وسيرة الآتي" عن أيّام طه حسين و"أحفاد سارق النار" عن السيرة الذاتيّة الفكريّة و"الزعيم وظلاله" عن السيرة الذاتيّة في تونس. وألّف في قضايا دراسة النثر والشعر في الأدب العربي القديم، كتابه "جمالية الألفة: النصّ ومتقبّله في التراث النقدي". وهو إلى ذلك روائي متميّز، إذ فازت روايته "الطلياني" بجائزة البوكر للرواية العربية" (2015) - وصدرت له بعدها مجموعة قصصيّة بعنوان "السيّدة الرئيسة" ورواية "باغندا".

ويرى الأستاذ المبخوت أنّ وظيفته بوصفه جامعيّا ومثقّفا، تحتّم عليه ألّا يبقى أسير دائرة التخصّص الضيّق (اللغة والّلسانيات)، بل عليه أن ينفتح على قضايا عصره، ويبحث أيّ دور يمكن أن تؤدّيه المعرفة الأكاديمية بالنسبة إلى الشأن العام. في هذا السياق، تبيّنت له مدى الأهميّة الّتي يمكن أن تحصل من وراء الاشتغال بقضايا الفكر عامّة وتحليل الخطاب الدّيني، إذ في ذلك اختبار لفاعلية أدوات تحليل الخطاب مطلقا، إثراء لمناويل نقد الفكر، حيث يتمّ اكتشاف زوايا أخرى لطبقات المعنى ومستويات الدلالة، ومن ثمّ إدراك خصائص بنيات الفكر الدّيني التي تتكوّن في نهاية الأمر عبر استعمالات اللغة في مجال المعرفة، حتّى إن بدا موضوع "تاريخ التكفير" مبحثا تاريخيا، كما يمكن أن تفيد بذلك عتبة عنوان هذا الكتاب، مما يجعله إضافة متميّزة لأعمال أولئك المؤرّخين والمختصين في دراسة الحضارة، لكونها تعمّق مدارات اشتغاله على النصوص بوصفها بدرجة أولى مادّة لغوية، وبدرجة ثانية كثيرة ما تكون خطاب حكاية؛ أي بنية سردية.

1- بنية الكتاب وخصوصية المقاربة

جاءت دراسة المبخوت في هذا الكتاب لتمنح البحث في موضوع التكفير خصوصية، بعد أن أضفى على ذاك التشكيل الذي رام إنجازه لمسارات سير أولئك المفكّرين الزعماء طابعا سرديّا جميلا، إذ استخدم في دراسة مغالق مسائله، أدوات لسانية وبلاغية، كشفت المعتّم في مستويات بنياته النصيّة.

يشتمل كتاب "تاريخ التكفير في تونس" على أربعة فصول خُصّص أوّلها لبحث قضيّة التكفير في بعدها الدّيني التاريخي، كيف ظهرت، وكيف تمّ تقنينها فقهيا، وعلى صوة وردت أخبار الذين وقع تكفيرهم في أمّهات كتب التراجم ومصادر التاريخ، مثل: "مروج الذهب للمسعودي"، وتاريخ الخلفاء للسيوطي"، والبداية والنهاية لابن كثير"، و"المنتظم" لابن الجوزي. وقد بحث المؤلّف في ظهور نعت التكفير داخل الملّة الإسلامية بوصفه ضدّا للإيمان الصحيح، إضافة إلى تكفير أهل الأديان والمذاهب الأخرى كالثنوية والمجوسية، ونظر في الكيفية التي بها تتطوّر تهمة الزندقة إلى تكفير، كما هو الشأن في قضيّة عبد الله بن المقفّع، الذي قُتل لزندقته، (ص 12)، ليكون بعد ذلك التكفير صورة من صور إقصاء المخالف والمناقض في مجتمعات لا تعترف إلّا بالشبيه والمماثل" (ص 23). وليظهر لاحقا، كيف أنّ قضيّة التكفير في ظاهرها دينيّة، ولكّنها سياسية في جوهرها، حيث ظلّ هنا قانون يحكم التاريخ الإسلامي، بخصوص مدى ارتباط الدين بالسياسة، سواء من جهة ضبط إيمان الدولة والمجتمع أو والأفراد، أو من جهة التحالف بين الدّين والسلطان". (ص 28). ولقد كان خطاب "التكفير" والحكم بالضلالة عبر تاريخ الإسلام وراء الإيقاع بأعلام من المفكّرين والأدباء والفلاسفة، سواء من قتل منهم أو من عُذّب ورمي به في السجون والمنافي، أو شُرّد وهُمّش، هكذا كان مصير الحسين بن منصور الحلّاج وحكيم الإشراق السُّهروردي وابن رشد وابن عربي الصوفي الحكيم، ومن قبل بشّار بن برد والجعد بن درهم الذي ذُبح يوم العيد كما تذبح الأضحية.

وقد خصّص المؤلّف لاحقا، كلّ فصل من الفصول الثلاثة الأخرى لدراسة تجربة إحدى الشخصيات الثلاث (الثعالبي والحدّاد وبورقيبة)، في مستوى الفكر والحياة.

انطلق مؤلّف كتاب "تاريخ التكفير في تونس" في البدء، من رصد تعدّد الأبعاد الدلالية لبعض نصوص فصول الدستور التونسي الجديد (2014)، ومن استدعاء نقدي لما حفّ بها من جدل وتعارض، هو عبارة عن عمل فكري نقدي أكاديمي حاول مؤلّفه رصد أهمّ لحظات أو وقائع التكفير التي شهدها مسار الفكر والثقافة في تونس أثناء القرن العشرين، وانعقد مدار مادّته المعرفية على تحليل ثلاث تجارب في الفكر والإصلاح الديني والسياسي، عبر دراسة سياقاتها الإشكالية على مستوى النظر والواقع، كما جسّمتها إنجازات زعماء ثلاثة، هم: عبد العزيز الثعالبي (تـ 1944)، المصلح والمجدّد للخطاب الدّيني والمناضل السياسي في وجه الاستعمار الفرنسي، ومن أشهر كتبه "روح التحرّر في الإسلام"، والطاهر الحدّاد (تـ 1935)، وهو أوّل من دعا إلى حرّية المرأة وإعطائها حقوقها كاملة، منطلقا من قراءة جديدة ومغايرة لمصادر التشريع الإسلامي، تنقض تحجّر الأحكام الشرعية التي هي من وضع الفقهاء والمجتهدين، وتنظر نظرة نقدية في ما آلت إليه أوضاع المرأة في ظلّ واقع الحياة الاجتماعية، وله في ذلك كتابه الذائع الصيت "امرأتنا غي الشريعة والمجتمع" الذي انتهى فيه إلى تقويض مقوّمات المنظومة الفقهية الإسلامية. وآخر هؤلاء الزعماء هو الحبيب بورقيبة (تـ 2000)، وهو مؤسّس الدولة الوطنية وأبو الحداثة السياسية في دولة الاستقلال الذي حرّر المرأة التونسيّة ومنع تعدّد الزوجات، من خلال إصدار مجلّة "الأحوال الشخصية"، سنة 1957، ورفض التعليم الدّيني التقليدي المحنّط، حيث استبدل التعليم الزيتوني بالتعليم المدرسي والثانوي العصري، والقائم على الانفتاح على المناهج والنظريات الحديثة، وأمر ببعث الكلّية الزيتونية للشريعة وأصول الدّين، لتتقوم بتدريس الدّين والثقافة الإسلامية في إطار أكاديمي مدني عصري، ووحّد القضاء بإلغاء المحاكم الشرعية.

2- المنوال ومستويات المقاربة

يذهب مؤلف الكتاب شكري المبخوت إلى القول: "إنّ مقصدنا من هذا الكتاب أن ننظر في السياقات والأبعاد والأفكار والأبعاد والتفاصيل التي حفّت بالقضايا التكفيرية الكبرى في التاريخ التونسي. وتجمع مقاربتنا للمسألة بين سرد التاريخ في حبكة واضحة تكشف المنطق الذي يشدّ تفاصيل ما وقع والأطراف الاجتماعية المتصارعة من جهة، وتحليل الأفكار التي أدّت إلى تكفير هؤلاء من جهة أخرى" (ص 15)؛ وذلك بهدف الوصول إلى معرفة "الروابط بين ذاك "الحكم الشرعي"، كما تبلور في نظر المكفّرين (أي الذين رأوه وقالو به) و"الدوافع الظاهرة والخفيّة التي أفضت إليه" (ص 15؛ ذلك أنّ الوجه الحقيقي للتكفير، ما هو في نظر المؤلّف، إلّا "فعل بشري يتلفّع في ضرب من التعالي عن بشريته بلحاف شرعي، يجعل فاعليه يد الله التي تنفّذ شريعته (من ثمّ يكون من واجب) الدّارس أن يزيل القشرة ليصل إلى اللبّ السياسي". (ص 15)

من هذا المنطلق بالذّات تكمن طرافة هذا الكتاب، حيث يرصد مؤلّفه مدى أهميّة التقاء مفارقات كثيرة في علاقتها بتحوّلات إشكالية وعميقة أثّرت في مسار الشخصيات الثلاث التونسية التي لاقت تكفيرا ورفضا لأفكارها من قبل القوى التقليدية المحافظة، ومن المتشدّدين من شيوخ الدّين وأغلبهم من الزيتونيين. فالثعالبي رغم أنّه "تلقّى تكوينا زيتونيّا تقليديّا، (وهو الذي أشبع) فضوله بدراسة علمي الكلام والأصول والتصوّف دراسة شخصيّة مع انجذاب إلى التاريخ"، تبيّن له من خلال نظره النقدي "أنّ علم شيوخ التعليم الزيتوني منقوص يكتفي باللغة والفقه. وثبت لديه أنّ شيوخ العلم، في الزيتونة بمناهجهم في التدريس ومحافظتهم الفكرية لا يجْدون نفعا" (ص 88)، وهو في ذلك اتّبع آراء الشيخ الإمام المصلح محمّد عبده، متأثّرا بما طرحه خاصّة عند زيارته الثانية إلى تونس في صائفة 1903م. فالتقاء فكر الثعالبي مع "التيّار الإصلاحي في العالمين العربي والإسلامي، قد يكون شجّعه على أن يصدح بآرائه التجديدية الجريئة" (ص 93). ومن ثمّ صدح الثعالبي قائلا: "إنّني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحقّ وتتجافى جنوبهم عن مضاجع الصدق" (ص 94). ليقدّم صورة لتشدّدهم ووثوقيتهم ورفضهم النقد والمراجعة، والأخذ بالرأي الصائب، حيث يقول: "إذا قلت لهم هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا (...) وقالوا هذا آخر الزمان، ووشوا عنك أنّك كافر لا تؤمن باليوم الآخر..." (ص 95)، وهنا تكمن خطورة الموقف، إذ يعدّ الكافر خارجا عن الملّة، وهو مبدّل لدينه، ولدى بعض الفقهاء حكم المرتدّ الخارج عن الإسلام التصفية الجسدية. وقد اختزل الثعالبي جرأة طرحه عند تقديمه الموجز حول كتابه "روح التحرّر في القرآن"، ومن أبرزها:

-         انحسار العقل في الدائرة الضيّقة التي وضعها أرسطو بأقيسته النظرية.

-         حسر مفهوم العلم في التعاليم الدينية

-         التحجير على تعليم النساء

-         اعتقاد أنّ العلوم الكونية علم لا ينفع وجهل لا يضرّ

-         تصوّر أنّ ما عليه غير المسلم كفر

-         عدم الجمع بين علوم الدّين وعلوم الحياة

-         تعصّب الفقهاء لمذاهبهم، واختلاف فقهاء المذهب الواحد في المسألة الواحدة إلى آراء

-         إنكار آراء علماء الإفرنج (الغرب) في الفلسفة وغيرها مع التسليم الأعمى بآراء اليونان. (ص 99)

وفي السياق نفسه، جاءت آراء الطاهر الحدّاد الذي ذكر قائلا: "التفكير بدء الحياة، ولكنّنا نضع في وجهه سلاح التكفير لنثير عليه الشعب"، وهو الذي توصّل في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" إلى أنّ روح الإسلام هي الحرّية، إذ جاء الدّين لتحرير الفرد، ولذلك أقرّ رفض كلّ أشكال العبودية والاسترقاق، وإن "لم يستطع في حينه أن يقرّر حكما نهائيّا غير إعلانه الرغبة في العتق (فهو قد) عوّل على تشوّف الشارع للحرّية. وإدراك الفقهاء لما في الشريعة من العطف والتقدير لحرّية الإنسان" (المبخوت ص 183)، وهو ما يقتضي ضرورة تفهّم منطق التطوّر في التشريع في ضوء تطوّر الحياة، والعمل بقاعدة النسخ التي أقرّها الإسلام. ويقود إلى إقرار "مبدإ التدرّج في كشف جوهر الإسلام وتخليصه من ملابسات الظروف السابقة التي تنزّل فيها النصّ. ويقتضي مبدأ التدرّج بهذا الفهم آلية النسخ التي يفرضها تبدّل الواقع وإدراكا لروح الشريعة" (المبخوت ص 184)، من هنا علينا أن نفهم، كيف أنّه "ليس الواقع هو الذي يفرض تغيير الأحكام التي لم تعد تسايره أو تستجيب لرغبات الناس. وإنّما يعود ذلك إلى الدّين نفسه" (الصفحة نفسها). بذلك، تبرز وجوه التباين بين الحدّاد والمعترضين عليه، وهو ما خصّص له المبخوت فصلا بعنوان: "في الفروق بين الحدّاد ومنتقديه"، بيّن فيه أهم خصائص البناء المعرفي والمرجعية الفكرية التي كانت وراء أفكار الحدّاد وأقوال منتقديه.

وهكذا كان لمثل هذه الأفكار التي تقدّم ذكرها، والتي صار أكثرها بعدا محوريّا في سياسة الزعيم الحبيب بورقيبة، لا سيّما بعد تولّيه حكم البلاد، منذ سنة 1956، وذلك على إثر حصول تونس على استقلالها، كما صار لتلك الأفكار التحرّرية الأثر البارز في النخب وفي وعي الفئات المثقّفة، غير أنّ جمعا كبيرا من الفقهاء وعلماء الدّين المتشدّدين الرافضين لمنطق التقدّم وتطوّر حركة التاريخ، ظلّوا يكفّرون كل قائل بها، ويبدّعون كلّ من يتبنّاها أو يساندها. وليس عجبا أن ترى إلى اليوم من شيوخ الدّين المتشدّدين ومن بعض رموز الاسلام السياسي، وممن ينسبون أنفسهم إلى البحث في مجال الفكر الإسلامي وعلوم الدّين والشريعة، يكفّرون هؤلاء الزعماء ويبدّعون المفكّرين المصلحين، ويخرجونهم عن دائرة الملّة الإسلامية، وهم لم يصدحوا بالكفر، ولم يرد في آرائهم التي قدّموها على أنّها اجتهادات، ما فيه إنكار لوجود الله أو لنبوّة أنبائه أو للوحي بوصفه الرسالة الخاتمة.

وهنا تجدر الإشارة إلى دلالة استعارتنا ضمن عنوان هذا المقال لمصطلح "الإكليروس"، الذي استخدمه مؤلّف كتاب "تاريخ التكفير في تونس"، ضمن عنوان الفصل الثالث الذي جاء كالآتي: "مأساة الحدّاد مع إكليروس الزيتونة" (ص 143) وفق صيغة كان قصدها الدلالي تحديد شكل المؤسسة الدينية عند تعاملها مع الفكر الحرّ، ومن ثمّ ليس من باب المطابقة مع التقليد المسيحي، إذ كان الإكليروس يُطلق على النظام الكهنوتي الخاص بالكنائس المسيحية، حيث يتمتّع البابا بأعلى سلطة، لاسيما في الكنيسة الكاثوليكية، مقارنة بنظيره في الكنيسة الأرثوذوكسية، أما في المؤسسة الدينية في الإسلام، فيظهر حين ننظر في ما قام به علماء الشريعة وفقهاء الإسلام من ذوي المناصب العليا، حيث قاموا بأدوار التكفير أو إضفاء الشرعية، أيضا تعيير إيمان الأشخاص وكفرهم ودرجة الأسلمة ومظاهرها، كما هو الحال في قضيّة هؤلاء الثلاثة.

ولئن اكتفت الدّراسة المنجزة ضمن هذا الكتاب، "تاريخ التكفير في تونس" بالتركيز على مسح فترة القرن العشرين إلى حدود منتصفه في انتظار كتابة جزأين آخرين من تاريخ التكفير في تونس، فإنّ التكفير يمتدّ في أشكال مختلفة إلى قرون بعيدة خلت. غير أنّ أهمّ ما ميّز هذه المقاربة التي حملها هذا التأليف، كونها جاءت طريفة وجادّة وعميقة، لا سيّما وأنّها قامت على توظيف أدوات ساعدت على كشف مدلول منطوق الخطاب، وأظهرت خصائص سياقات تداوله في بعدها الفكري الدّال.

ولعلّ وجوه الطرافة تظهر أكثر، عند إدراك أوجه استدعاء المؤلّف مفاهيم وتقنيات سردية ركّب استنادا إليها أحداث التاريخ ومسارات الشخصيات الفكرية ونضالها، وذلك ضمن معمار نصّي جديد، بدا أكثر وضوحا ودلالة، من جهة تصوير مفارقات ظاهرة التفكير وخطورتها على الحرّيات وحياة الأفراد ومعتقداتهم على السواء، وهو ما أشارت إليه عبارته: "سرد التاريخ في حبكة واضحة..." ـ أي أنّه المؤلّف قام بكتابة مسارات التكفير من زاوية المؤرّخ وفي آن واحد من زاوية المبدع المفكّر الناقد الذي قام، من خلال، استدعاء تقنيات سردية لأجل الاشتغال على دراسة وقائع التكفير في تونس القرن العشرين كتابة "قصّة التكفير" من خلال سرد مسيرة ثلاثة من كبار المفكّرين والزعماء السياسيين في تونس القرن العشرين، تماما كما فعل أحمد أمين وزكي نجيب محمود، حينما كتبا "قصّة الفلسفة اليونانية".

لقد أنجز المبخوت إبداعا إنشائيا لقصّة التكفير في تونس، قوامه تركيب سردي لمادّة حكاية القصّة، جاء في صيغة فنيّة جميلة حرص المؤلّف على دعمها بوثائق ونصوص تؤكّد وقوعها في التاريخ والواقع، حيث أعاد تشكيل الأحداث ومحاكمة الشخصيات، وقصّ مسار التحوّلات التراجيدية التي لاقتها الشخصيات الثلاث دفاعا عن أفكارها ومشاريعها التحرّرية، في متعة حكي وبهجة وصف واضحتين، رغم جدّية الموضوع وقتامة مصير التفكير في مواجهة التكفير.

3- ظاهرة التكفير: الانعكاسات، وأهميّة استئناف البحث العلمي

لقد كان للكتابة بروح الناقد المبدع والأديب السارد في موضوع وقائع تاريخ التكفير في تونس الأثر البارز في رصد تلك الانعكاسات الفكرية والسياسية القاتمة، على الحياة الدّينية والاجتماعية ووضع الحرّيات على مستويات مختلفة، حيث عطّلت نزعات التكفير مشاريع التقدّم والتمدّن، ونتيجة لها تمّت مصادرة الآراء الحرّة والمخالفة بحثا عن سيطرة النموذج الواحد والمذهب الواحد، لأجل تثبيت الامتثالية للمؤسّسة الدّينية باسم شرعية دينية هي في الأصل شرعيّة هيمنة المذهب الواحد، والقراءة الأحادية.

وقد جاءت قراءة المبخوت لظاهرة التكفير سياقية نقدية، إذ كان عبد العزيز الثعالبي يكتب، وهو مرتبط بالرسالة الحضارية للمثقّف وعالم الدّين المجدّد، تفعيلا لدور العقل في تحرير الفرد. وفي الإطار نفسه، تتنزّل تجربة الزعيم الحبيب بورقيبة الذي قدّم آراءه بوصفها أفكارا، استلهمها في الأصل من الطاهر الحدّاد وغيره من رواد الإصلاح والتنوير الذين أرادوا تحرير العقل الديني من سيطرة خطاب المؤسّسة الدّينية والمذهب الواحد، لتحرير الفرد من سيطرة الأحكام الفقهية التي صاغها بعض الفقهاء اجتهادا منهم في الشريعة كان وفق مقتضيات وسياقات قد يكون تجاوزها منطق تسارع حركة التاريخ وتقدّم الحضارة. في حين، كان على المؤسّسات العلمية الدّينية، أن تعمل على الاضطلاع بجدّية وعمق معرفي بمهمّة تطوير الفكر وتوسيع دائرة التفسير والفهم للارتقاء بشكل التعبير عن القيم والمثل التي جاء بها الإسلام إلى مستوى رفيع من الوعي والإنسانية والتسامح تجاه المختلف.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الدراسات الحضارية ومناويل تحليل الخطاب في الفضاء الأكاديمي المغاربي خاصّة، بدأت، وعلى الأدقّ ضمن تخصّصات أقسام الآداب العربية (الحضارة) والعلوم الإنسانية (التاريخ، السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، الفلسفة)، تهتمّ بدراسة مدوّنة التراث الإسلامي ونقد نصوص الفكر الديني وتحليل أدبيات الإصلاح التي ظهرت فجر العصر الحديث، بحثا عن وجوه التباس الدّيني بالسياسي ورصدا للانزياحات السلبية التي أنتجتها وتنتجها القراءات المغرضة للنصّ المؤسّس (القرآن الكريم)، بوصفها قراءات أحادية الجانب، وتأويلاتها ظاهرية، لكونها ناجمة عن قناعات أيديولوجية جاهزة، ظلّ هدفها مرتبطا بالرغبة في إضفاء الشرعية على مقالاتها وإقصاء كلّ رأي مختلف، ابتغاء نسفه وصدّ كل باب أمام القائل به، ويجري ذلك بالتوازي مع تبرير مفاده أنّ صاحب الرأي المخالف خارج عن مقصد الشارع وضالّ عن طريق الهدى، ومن ثمّ يبدو لهم إمكان القول بتكفيره. وهو ما يعني أنّ "التكفير"، في أصله، ناتج عن صراع عميق مداره على اكتساب الشرعية والرغبة في امتلاك الكلام باسم الله، للسيطرة على الشأن الدّيني للمسلمين باسم شرعية يمكن أن تضفيها جماعات الإسلام السياسي والجهادي، على نفسها دون وجه حقّ من جهة الدّين أو العقل.

من المعلوم أنّ "التكفير" بعد ثابت في خطاب أغلب الجماعات الدينيّة والفرق الكلامية (مذاهب العقيدة وأصول الدّين) منذ القديم، حيث تمّ الاستناد إلى منطق الفرقة الناجية، انطلاقا من تأويل لحديث منسوب إلى الرسول (ص)، نصّه: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". وقد مضى عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفَرق بين الفِرقِ"، يفصّل ويفرّق بين فروع الفرق والمذاهب العقدية الكلامية، ويطرق أحيانا ما ينجرّ عن ذلك من أحكام فقهية شرعية جزئية، بحثا عمّا يمثّل الثلاث والسبعين فرقة، بأيّ وجه.

لقد قَصَمَ هذا الحديث النبوي المنحول– إذ لم يرد أصلا في الصحيحين، وقيل أُخرج على شروط صحيح مسلم- ظهر الأمّة الإسلامية، وفرّقها شيعا ومذاهب تتناحر باسم شريعة متعالية، ما أدرك أحد كنهها على الوجه الذي أراده الله، فكان منطلقا لدى بعض المذاهب والمتكلّمين باسم الشريعة لإشاعة التكفير بين أفرادها والتناحر بين مذاهبها، ومن ثمّ اعتمد من ضمن دعائم إباحة الاقتتال وسفك الدماء باسم الجهاد، وتحت راية شرعية لم تُثبت بعد وجاهتها بنصّ ثابت أو ببرهان عقليّ بيّن.

وهو ما يدفع أكثر بالنخبة الأكاديمية اليوم إلى مزيد التفكير النقدي في قضايا "التكفير" وتنويع مناهج البحث العلمي في مقاربة مظانّه ودراسة منطلقاته وانعكاساته السلبية التي لم تتعلّق فحسب بالمصير المؤلم لأعلام الفكر والدّين، بل كانت وبالا أعاق تقدّم المعرفة والثقافة، ومن ثمّ عطّل رقيّ الحضارة الإسلاميّة وإعلاء شأن منزلة الإنسان وكرامته.

وهكذا، فاليوم بعدما أحرزته المؤسّسات الأكاديمية من تقدّم معرفي في مجال البحث العلمي في الآداب والعلوم الإنسانية، وقطعها أشواطا مهمّة في الانفتاح على النظريات والمناهج الجديدة في تحليل الخطاب وعلوم النصّ، ونقد الأفكار في ضوء إبستمولوجيا أكثر معقوليّة، ولطبيعة الواقع الذي نعيش، حيث تكاثرت وجوه التكفير والجهاد، يجدر أن تتكثّف جهود الباحثين الجادّين من النخب الأكاديمية التي لا يحرّكها إلّا قصد إدراك المعرفة العلميّة الوجيهة، لأجل نقد خطاب العدم والتكفير الذي عانت منه النخب المثقّفة عبر التاريخ، ومن ثمّ الكشف عمّا يقع وراء راياته من دعوات، لا هدف لها إلّا القتل والإقصاء وتقديس الرأي الواحد ومقالة المذهب الواحد، ومن ثمّ إلغاء ثراء التجربة الفكرية والرّوحية الدّينية التي ميّزت حضارة الإسلام، وجعلتها تدخل التاريخ العام للإنسانية جمعاء، في ما تقدّم، وتنال ضمن مساراته منزلة مهمّة.

[1] نشرت هذه القراءة في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 52

[2]- صدر عن منشورات مسيكيلياني، شوقي العنيزي، تونس، 2018م، في 352 صفحة.