لقاء حواري حول الذات وفلسفة الاعتراف مع الدكتور أحمد برقاوي والدكتور حسام الدين درويش المعرض الدولي للكتاب – أبو ظبي 2023
فئة : حوارات
لقاء حواري حول الذات وفلسفة الاعتراف
مع الدكتور أحمد برقاوي والدكتور حسام الدين درويش
المعرض الدولي للكتاب – أبو ظبي 2023
حاروتهما د. ميادة كيالي
د. ميادة كيالي:
الأعزّاء الحضور، أرحّب بكم في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب 2023، وأرحّب بأستاذنا الفيلسوف الدكتور أحمد برقاوي، مؤسِّس "بيت الفلسفة" في الفجيرة، والذي تشرفت دار "مؤمنون بلا حدود" بإصدار العديد من مؤلفاته. كما يسعدني أن أرحّب بضيفنا العزيز، ضيف "مؤمنون بلا حدود"، الدكتور حسام الدين درويش، الذي نحتفي به اليوم بمناسبة صدور كتابه "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية، نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية"، وهو الباحث والأستاذ المحاضر في الأكاديميا الألمانية.
قبل أن نشرع في الحوار، وندخل في سجال "الاعتراف" بين الفيلسوفين، أودّ أن أنوّه و"أعترف" بالنقلة النوعية التي شهدتها الإمارات في مجال الثقافة منذ عام 2007. حيث كنتُ شاهدةً على هذا التطوّر الكبير، وما رافقه من عناية متزايدة بقضية نشر الفكر وبناء المعرفة الرصينة. وبوصفي مديرة سراج للأبحاث والدراسات في الميديا بأبو ظبي، ومديرةً لدار نشر "مؤمنون بلا حدود"، فقد لمستُ أشكالًا عديدةً من التشجيع والدعم، ليس فقط في تسهيلات الاشتراك في المعرض، بل أيضًا في مختلف الأنشطة الثقافية المصاحبة له وخارجه، وفي كل ما يسهم في الحفاظ على مشهدٍ ثقافي متنوع ومتعدد.
لقد برزت فكرة هذا اللقاء في جناح "مؤمنون بلا حدود"، هذا العام، نتيجة وجود رغبةٍ لدينا في ربط جمهور القرّاء بالمفكرين والكتَّاب، وفتح المجال للنقاش في فضاء يسعى إلى أن يجعل الأفكار حيّة نابضة، لا تبقى حبيسة النصوص أو أسيرة البرج الأكاديمي العاجي، بل تنزل إلى سماء الإنسان المثقف والباحث عن الحقيقة.
أرحّب بكم جميعًا مرة أخرى، وأبدأ معك أستاذي الدكتور أحمد، من تقديمك لكتاب "في فلسفة الاعتراف ..."، حيث قلتم في المقدّمة عن الدكتور حسام: "إنه ليس مؤلفًا تقميشيًّا بالمعنى المتعارف عليه من هذا المصطلح، بل هو فيلسوف ينحت فكره عبر الرؤى والبحث وبناء فلسفة خاصة في الاعتراف". وكذلك هو الأمر بالنسبة إليك، أستاذي، فقد أبدعت في فلسفتك، ولم تكن يومًا "تقميشيًّا"، بل كانت لك فلسفة متميزة في "الأنا" و"الذات" و"الاعتراف". لقد نشرنا لك، منذ سنواتٍ، كتاب "أنطولوجيا الذات"، الذي خصّصت فيه فصلًا كاملًا بعنوان: "سماء الذات والاعتراف".
وبما أنّ ضيفينا الكريمين قد كتبا في الموضوع نفسه، فلسفة الاعتراف، فإن دوري هنا لن يكون الدخول في سجالٍ فكري مباشر، بل طرح أسئلة مفتوحة تتيح لهما النقاش وتبادل الرؤى، حيث نستمع جميعًا إلى حوارٍ حيٍّ بين فيلسوفين اشتبكا مع المفهوم كلٌّ بطريقته الخاصة. لقد تحدّث الدكتور حسام الدين درويش في كتابه عن "فلسفات الاعتراف"؛ أي عن تعدّدٍ في الفلسفات والرؤى التي تناولت هذا المفهوم. والسؤال الذي نطرحه هنا: أين يلتقي مفهوم الاعتراف عند الدكتور أحمد برقاوي مع فلسفة الاعتراف التي بلورها الدكتور حسام الدين درويش؟ وأين يفترق عنها؟
د. أحمد برقاوي:
تناول مفهوم الاعتراف في الثقافة العربية يكاد يكون معدومًا، بالمناسبة. وإذا بحثتِ في تاريخ هذا المفهوم، لن تجدي كتابًا أو فصلاً حتى حول الاعتراف في كثير من الكتب. الآن، الانتباه إلى هذا المفهوم هو نوعٌ من أنواع اللمعة العقلية عند الفيلسوف. قد لا يعرف الفيلسوف سبب هذه اللمعة في ذهنه، لكن يستطيع بعد ذلك أن يشرح ويفسر أن فكرته حول الاعتراف هي المعيار الحقيقي، وهي من وجهة نظري المعيار الحقيقي للحديث عن حرية الكائن والاعتراف بالآخر. والمسألة التي نعاني منها على مستوى الداخل والخارج هي أننا لا نؤمن بحق الاختلاف؛ لأن الاعتراف، تأسيسًا على ما أرى، هو اعتراف بحق الآخر المختلف عني، دون أن يعني ذلك أنني أتبنّى ما يؤمن به الآخر. لكن للآخر الحق في أن يعتقد عكس ما أعتقد، وأنا كذلك.
إذا أُلغيت مفهوم الاعتراف من العلاقات البشرية، يصبح المجتمع غابة، لماذا؟ لأن كلّ مثلي مبدأه عدم الاعتراف، وما يتبعه من نقد يؤدي إلى ظهور كلّ مثلي مماثل، وتنشأ العداوات.
النقطة الثانية المهمة التي انتبه إليها حسام، مع حفظ الألقاب، هي أنه لا يطالبنا بما نجيب عنه. أنا لم أنتبه إليها من جهة، ولم أجعلها محورًا من محاور كتابي؛ لأنني كنت أعمل على الذات والاعتراف.
تناول حسام مفهوم الاعتراف من زاوية أوسع: كيف يكون الآخر المختلف، ابن الحضارة، في علاقته بالمختلف الآخر؟ ما علاقة الأوروبي بنا مثلاً؟ فهذا شكل من أشكال العلاقة أو تعيّن لمشكلة الاعتراض، وقس على ذلك.
هو جعل من الاعتراف كتابًا كاملًا، بينما أنا وضعت فصلًا ضمن فصول كتابي "أنطولوجيا الذات". ولهذا يجب أن نبرز هذه النقطة: أيّ مفهوم يتعيّن انطلاقًا من تناول الفيلسوف الخاص له، وبالتالي كيف أرى تعين المفهوم، وما هي فلسفتي حول هذا المفهوم وقس على ذلك.
لذلك، عدد من الأوروبيين تناولوا مشكلة الاعتراف، لكن عندما تناولناها نحن، تناولناها من زاوية مختلفة، انطلاقًا من الواقع المعيش، دون أن ننفي صفة الكلّية عن المفهوم، بل عينّا المفهوم في حقله التاريخي والاجتماعي.
د. ميادة كيالي:
أشكر د. أحمد على هذا التوضيح التاريخي. إنّ ما تذكرونه يضعنا أمام سؤالين مترابطين: الأول منهما تاريخي- مقارن: لماذا لم تتحول فكرة الاعتراف في مشهدنا الفكري إلى "مفهومٍ" فلسفيٍ مُتاح للنقاش الأكاديمي كما ورد لدى الأوروبيين؟ والثاني منه منهجي-أنطولوجي: كيف نُبرّر، من منظور أنطولوجي، اعتبار الاعتراف معيارًا لحرية الكائن؟ هل هو معيار مستقلّ بذاته، أم يتبع شبكات أعمق من العلاقات الاجتماعية والسياسية؟
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لكِ على المبادرة إلى تنظيم هذه الندوة، وعلى التقديم اللطيف وعلى هذا السؤال. وأشير، بدايةً، إلى أنني لاحظت أن أستاذي العزيز أحمد برقاوي – مع حفظ الألقاب – يبدأ الفصل الذي يتحدث فيه عن مفهوم الاعتراف، في كتابه، بملاحظة فيها استغراب مع شيء من الاستهجان؛ وتتعلق بأن الفلسفة غير الغربية عمومًا، نادرًا ما تناولت هذا المفهوم، على الرغم من أهمية هذا المفهوم؛ فهو مؤسسٌ للذات، ويمكن تقسيم البشر كلهم إلى معترفين أو معترف بهم. وفي مناقشة هذا الأمر، أرى ضرورة يجب التمييز بين الفكرة أو المفهوم والمصطلح أو الكلمة المعبرة عنه؛ فالاعتراف، بوصفه فكرةً أو مفهومًا، موجود قبل صياغته في كلمة خاصة به، وبالانفصال الجزئي والنسبي عن تلك الكلمة. فالناس الذين يناضلون من أجل حقوقهم، ويطالبون بالاحترام والتقدير، ويدركون وجود أو عدم وجود الظلم أو الاعتراف او العدالة والإنصاف. والسؤال هنا: لماذا لم تتحول هذه الفكرة إلى فلسفة؟ لماذا لم تتحول إلى موضع لسؤال فلسفي؟ ما معنى الظلم هنا؟ ما معنى الاعتراف؟
د. أحمد برقاوي:
وبالتالي، انتقال الفكرة المتعينة إلى حالة المفهوم، وهذه هي أهمية الفلسفة.
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، وأرى أنها لم تتحول إلى سؤال يتناول ماهية الفكرة نفسها، وهذا سؤال فلسفي بامتيازٍ. وفي خصوص تاريخية الفكرة، وتاريخ فلسفة الاعتراف، نجد فوكوياما يعود إلى أفلاطون. ويمكن القول إن أطروحتي في الكتاب تعود بالتأسيس الأساسي للمفهوم إلى روسو، على الرغم من أننا لا نجد عنده استخدامًا خاصًّا ومميّزًا للكلمة التي تُستخدم في اللغة الفرنسية المعاصرة للتعبير عن مفهوم الاعتراف. فعلى الرغم من أن روسو لم يستخدم أيّ كلمة للدلالة على هذا المفهوم؛ فإنَّ المعنى والفكرة موجودان، من دون استخدام الكلمة. وهنا أيضًا التمييز بين الكلمة والمفهوم ضروريٌّ دائمًا. على سبيل المثال، أقول إن أول من طرح فكرة العلمانية في الفكر العربي الحديث هو بطرس بستاني، على الرغم من أنه لم يستخدم كلمة "علمانية" مطلقًا، ولم يستخدم أيّ كلمة خاصة للتعبير عن ذلك المفهوم، لكنه تحدث عن (ضرورة) الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة. إذن، المفهوم موجود، والفكرة موجودة، دون أن تكون هناك كلمة خاصة للتعبير عنه. لكن أحيانًا يكون هناك خلط كثير عند البحث عن فكرة؛ يبحثون عن الكلمة وتاريخها، مع أن تاريخ الفكرة قد يكون مختلفًا.
هناك مسألة ثانية، أظن أنها مسألة جوهرية أو تأسيسية: فكرة الاعتراف بالذات؛ أي إن الذات هي ذات معترف بها، دون أن تكون قد اعترفت هي بنفسها. وفي خصوص نيل الاعتراف، كان الحديث في الفلسفة، غالبًا، عن الصراع أو النضال، من أجل أن تكون الذات عبر الاعتراف بها، بدل الحديث عن ذات مكتملة وناجزة ومعترف بها. وتنوس الذات الإنسانية بين ذات لا تكون إلا من خلال الاعتراف بها، وذات تريد أن تكون من دون أيّ اكتراثٍ باعتراف الآخرين بها. فثمة ذات مريضة، مهووسة بالاعتراف؛ بمعنى أنها لا تحظى بأي شكلٍ من التقدير الذاتي؛ فثمة أناس هم في حاجةٍ دائمةٍ إلى التقدير وإلى من يقدرهم؛ لأنه من دون التقدير الخارجي ليس لديهم أي تقدير ذاتي لذواتهم؛ فهؤلاء الناس لديهم هوس وتعلق شديد باعتراف الآخرين أو آخرين بهم. وهذه حالة مَرَضيَّةٌ غير مُرضيةٍ على الإطلاق. والحالة المقابلة ليست أقل مَرَضيَّةً أو أكثر صحيةً، وهي الحالة التي تستغني فيها الذات عن الآخر تمامًا: لم أعد بحاجة إليك على الإطلاق، لست بحاجةٍ إلى تقديرك أو احترامك أو محبتك، لكي أقدر ذاتي أو لكي أعي قيمة ذاتي. وهذه حالة مرضية؛ لأن الشخص فيها، لا يعترف بالآخر ولا يعترف قيمة اعتراف الآخر به. ومن ناحية أنطولوجيا الذات، أنطولوجيا البينذاتية، تكون الذات ذاتًا من خلال العلاقة الاعترافية مع الآخر.
د. أحمد برقاوي:
ذكرت في كتاب "أنطولوجيا الذات" حالة شوبنهاور، لا أعلم إن انتبهتم إليها. فشوبنهاور يعد نفسه فيلسوفًا كبيرًا، وهو كذلك. لكن المؤسسة الأكاديمية آنذاك في ألمانيا لم تعترف بشوبنهاور، فصبَّ جام غضبه على المؤسّسة الأكاديمية الألمانية. وبعد ثلاثين عامًا من نشر كتابه "العالم إرادة وقوة"، اعترفوا بالكتاب، فكتب بعد ثلاثين عامًا فرِحًا بأنهم قد اعترفوا به فيلسوفًا وصاحب كتاب كذا وكذا. إن عدم الاعتراف بشوبنهاور لا يعني أنّه ليس مهمًّا؛ فقضية الاعتراف لا تمنح بالضرورة الأهمية الحقيقية للكائن.فالشُّهرة، ما هي إلّا شكل من أشكال الاعتراف؛ فقد نجد شخصًا مشهورًا عند عامة الناس، لكن بمعايير معرفية أو فلسفية لا يُعدّ مهمًّا. وطبعًا، لا نستطيع توجيه الوعي العام المعترف به بنقد مباشر لذلك المعترَف به. النقطة المهمّة في الذات التي تبحث عن الاعتراف، هي أنّها قد لا تنطوي على إمكانية تحقق الاعتراف أصلًا؛ أي ليس لديها ما يُعترَف به.
د. حسام الدين درويش:
لكن أنطولوجيًّا، وقيميًّا، لدى كلّ إنسان، دائمًا، ما يمكن وينبغي الاعتراف به، بالحبّ، والتقدير، والاحترام، فكل إنسان يستحق، من حيث المبدأ، الحبّ والتقدير والاحترام.
د. أحمد برقاوي:
أعطيكم نموذجًا، وحسام يعرف هذا المثال؛ عندنا أستاذ فلسفة لا يعترف به الطالب، ولا الأستاذ، ولا الموظف، ولا أحد أنه ينتمي إلى الفلسفة، ومع ذلك يجهد جاهدًا ولم يُعترَف به، وبالطبع لا أريد ذكر اسمه. فقد تكون هناك أسماء عند البعض، طيب. هذا عنده معاناة حقيقية، لكنه وقح؛ لأنه رضي أن يقتحم عالمًا لا علاقة له به أنفًا عن الآخرين، وكوّن وضعه كشخص يعمل أستاذًا في الفلسفة انطلاقًا من فكرة القوة المفروضة على الآخرين. أنا أضرب مثالًا على ذلك الشخص الذي يسعى إلى الاعتراف وليس لديه ما يُعترف به.
د. حسام الدين درويش:
المطالبة باعترافٍ غير مستحقٍ، ونيل مثل هذا الاعتراف، أمران يتعارضان مع مفهوم الاعتراف. فالاعتراف ليس مسألة اعتباطية ولا هدايا يمكننا توزيعها على مزاجنا، بغض النظر عن عامل الاستحقاق والجدارة. وينبغي هنا التمييز بين جانبين. من ناحيةٍ أولى، ثمة اعتراف مساواتي يناله، و/ أو يستحق أن يناله، من حيث المبدأ، كل الناس. فمن حيث المبدأ، كل الناس يستحقون أن يُعاملوا باحترام وألا تُمسَّ كرامتهم، وفي هذا اعترافٌ بإنسانيتهم. وكل الناس يستحقون، من حيث المبدأ، أن يحظوا بعلاقات حبّ وودّ دافئة مع أهاليهم وأصدقائهم وأقاربهم ... إلخ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ثمة اعترافٌ قائمٌ على الجدارة والاستحقاق، وهو بالتالي غير مساواتي كما هو حال الاعتراف الأول. فإذا كان من حقّ كلّ إنسانٍ أن يحظى، بوصفه إنسانًا، بتقديرٍ أوليٍّ ما، فمن حق بعض الأفراد أن يحظوا بتقديرٍ أكبر من أفرادٍ آخرين إذا كان هناك تفاوتٌ في الإنجاز يسوِّغ التفاوت في التقدير.
والمثال الذي يطرحه العزيز أحمد برقاوي يشير إلى مطالبة باعترافٍ غير مستحقٍّ. وفي هذه المطالبة توجه ليس لنيل اعترافٍ/ تقديرٍ غير مستحقٍّ فحسب، بل ولحرمان آخرين من اعترافٍ أو تقديرٍ مستحقٍّ، وإفقاد الاعتراف/ التقدير ذاته قيمته المعنوية، جزئيًّا على الأقل.
د. ميادة كيالي:
مثال شوبنهاور يفتح أمامنا محورًا عمليًّا: هل الاعتراف يُمنح عبر صدفة تاريخية أو حدث اجتماعي (مثل الاعتراف الأكاديمي بعد سنوات)، أم إن هناك آليات ومؤسسات ومسارات يمكنها تأسيس الاعتراف بشكلٍ منهجي؟ وبعبارة أخرى: ما دور الضبط المؤسساتي (الأكاديميا، النشر، الإعلام) في نقل ذاتٍ من خانة "العدم المعترف به" إلى خانة "المعترف به"؟
د. أحمد برقاوي:
الخطاب سلطة، الكتابة سلطة، القول سلطة، الفيلسوف سلطة. وما الفيلسوف؟ هو سلطة، ويعتبر نفسه سلطة، بالمعنى الفوكوي للكلمة. الخطاب سلطة؛ نحن ننتج الخطاب. أنتِ مثقفة لديك دار نشر مهمة جدًّا اسمها "مؤمنون بلا حدود". سأنطلق من تجربتك: عندما تفكرين تكونين مهمومة بالهم الكلي، تبحثين عن الخطاب المرتبط بالهم الكلي، هكذا أنا أفهم. أنت تأتين إلى سين من الناس لتنشري كتبه؛ أنتِ اعترفتِ به. لكن إذا جاءك شخص ليست لديه قدرة على أن يكون حاضرًا، ليس الاعتراف بل حضور، أنتِ ترفضين ذلك، أليس كذلك؟
بهذا المعنى، الاعتراف هو علاقة متبادلة بين الذات والآخر، وهناك معايير شبه طبيعية لدى الناس. الآن، الكذب قد يؤدي إلى الاعتراف.
د. ميادة كيالي:
ما حدود الاعتراف؟ ومتى يؤدي الكذب إلى الاعتراف؟
د. أحمد برقاوي:
يؤدي الكذب إلى الاعتراف، عندما يُظَن أن الكذب صدق.
د. حسام الدين درويش:
من الممكن أن تُطرح مسألة الاعتراف ومسألة الحقيقة. الاعتراف هو إقرار بشيء أو بحقيقة أو بقيمة موجودة مسبقًا، لكن الفعل نفسه يضفي قيمة إضافية على ما هو موجود مسبقًا، أو ينقل إلى مستوى الوجود الفعلي ما كان كامنًا في مستوى الوجود الممكن.
د. أحمد برقاوي:
أليست التعيينات متعددة الاعتراف؟ فالذات، أيّ ذات، شئنا أم أبينا، لديها نزوع نحو الحصول على الاعتراف، بأيّ شكل من الأشكال، من أدنى شخص إلى أعلى شخص، فهو يتصرف من أجل نيل الاعتراف. إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فأدوات الاعتراف متعددةٌ، وأدوات نيل الاعتراف متعددةٌ، أيضًا.
هذا الاعتراف العفوي؛ أي إنني أكتب ليس طمعًا في الاعتراف، لكنك أنتِ رأيتِ الكتاب. هذا جدير بالاعتراف، أليس كذلك؟ وفعلتِ فيه. في الحياة هناك ما هو أعقد بكثير من مجرد أن يحصل شخص على الاعتراف؛ لأنه ينطوي على إمكانية الاعتراف.
سأعطي مثالًا حصل معنا في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. جاءنا كتاب من الجامعة اللبنانية يحتوي على مقالين مسروقين نشرهما شخص باسمه. المقالان مسروقان، وكشفهما أحد اللبنانيين فأرسل رسالة إلى رئاسة الجامعة، والمقالان مكتوبان عام 1925 من مستشرق. تشكلت لجنة للتحقيق، هو ماذا يريد؟ يريد أن يصبح أستاذًا بمقالات مهمة؛ أي إنه ينزع نحو نيل الاعتراف. حقيقةً، اكتشفنا أن المقالين مسروقان. بعد انتشار الأمر، صار من الصعب الاعتراف به حتى لو كان لديه ما يُعترف به.
د. حسام الدين درويش:
السعي إلى الحصول على اعترافٍ غير مستحقٍّ يمكن أن يفضي إلى حرمان الشخص ذاته من اعترافٍ مستحقٍّ. وقد يكون في هذا الحرمان إنصافًا. وهذا ما يمكن قوله في حالة الشخص الذي سرق المقالين المذكورين.
من ناحيةٍ أخرى، يكون للاعتراف معنى وقيمة بقدر اعترافنا بمن يقوم به. فإذا جاءني الاعتراف من شخص، لا أرى أصلًا أن له قيمة أو جدارة في خصوص موضوع الاعتراف في سياقٍ ما، ولا أرى أن له معرفة تُؤهله بأن يعترف بي، فإن قيمة اعترافه بي تكون، من وجهة نظري على الأقل، ضئيلةً، إن لم تكن معدومةً. مثلًا، قد يقول شخصٌ ما لشخصٍ آخر: "أنت فيلسوف عظيم"، وهو لا علاقة له بالفلسفة، ولا يحبها، فليس لاعترافه قيمة (كبيرة)، إذا لم يكن معترفًا به بوصفه ضليعًا في الفلسفة، ويحظى بتقديرٍ ما فيها. وباختصارٍ، ليس لاعترافي بالآخر قيمةً (كبيرةً) إن لم يكن هذا الآخر يعترف بي وباعترافي به. إذن، العلاقة تكون تبادلية بهذا المعنى؛ فكل طرف يعترف بالثاني ليكون للاعتراف قيمة. ولا أريد أن يكون الاعتراف تجاريًّا، بالمعنى السوقي: "اعترف بي، وأنا أعترف بك". فمن الممكن أن أعترف بالشخص حتى لو لم يعترف بي.
متداخلة:
أنا آمنت بنفسي، وقدرت ذاتي، ووصلت إلى درجة من التقدير، وبالتالي لا يهمني أن يُعترف بي؟
د. حسام الدين درويش:
لا شك أن التقدير الذاتي لذواتنا، والمستقل نسبيًّا عن وجهة نظر الآخرين بنا، أمر ممكنٌ وإيجابيٌّ، من حيث المبدأ. لكن عدم الاكتراث المطلق والدائم بآراء الناس جميعًا، في خصوص أقوالك وأفعالك وشخصك وحياتك وتأثيرك وإنجازاتك ...إلخ ليس حالةً طبيعيةً أو صحيةً على الأرجح. فمثل هذه الحالة تتعارض جذريًّا مع أسس فلسفة الاعتراف ورؤيتها للإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًّا وكائنًا بينذاتيٍّ بالجوهر والضرورة. وعدم الاكتراث الكامل باعتراف الآخرين بنا يعني، من ضمن ما يعنيه، عدم اعترافنا بأيّ آخر وبأي اعترفٍ منه. وفي هذا السلوك اعتراف/ تقدير مفرط بالذات، و/ أو عدم اعتراف/ عدم تقدير مجحف بالآخر.
د. ميادة كيالي:
تقول د. أحمد عن الذات التي بلغت درجة الاكتمال أو الاكتفاء، واعترفت بذاتها إلى الحد الذي لم تعد بحاجة إلى الاعتراف من الآخر مع حبها للتقدير. ألا يثير هذا مفارقة أظنها مهمة: أنه إذا ادّعت الذات اكتفاءها التامّ فلا حاجة لها للاعتراف، فهل نعدّ ذلك اكتمالًا أنطولوجيًّا أم انزواءً مرضيًّا؟ أقترح تمييزًا تحليليًّا هنا بين: (أ) اكتفاء نقديّ نابع من تقدير ذاتي متزن، و(ب) إنكار احتياجٍ يؤدي إلى فصل الذات عن شبكات الاعتراف الاجتماعية - والفرق بينهما هو محكّ صحة الذات وعلاقتها بالآخر. ما رأيك دكتور حسام؟
د. حسام الدين درويش:
من وجهة نظري، هذه الحالة ليست موجودة، وينبغي ألا تكون موجودة؛ وقد يكون من المستحيل أن تكون موجودة. والطريف هنا أن الجملة تنتهي بـ "ذات ليست بحاجة إلى اعتراف مع حبها للاعتراف"، وما الحب إلا حاجة إلى التقدير؟ هذا الحب للتقدير هو أحد أشكال الاعتراف: الرغبة في الاعتراف، والاعتراف بالآخر، والاعتراف بأهمية اعتراف الآخر.
د. أحمد برقاوي:
قيل لابن حزم الأندلسي – وما أدراك ما ابن حزم الأندلسي – يشطُبونك يا ابن حزم ولا تردّ عليهم، لماذا؟ قال: "عرفونا، فشتمونا، ونحن لا نعرفهم". وبالتالي، الذات التي امتلأت بكل أسباب الحضور، صارت في غنى عن توسل الحضور؛ امتلأت بكل أسباب الحضور.
د. ميادة كيالي:
كيف تكون الذات في غنى عن الاعتراف، ويسعدها، في الوقت نفسه، الاعتراف بها!؟
د. أحمد برقاوي:
يسعدها، ولا أحد لا يرغب في أن يسعد، ولكن إذا جاء نفي أو شتيمة، حتى لو شُتمتِ أنتِ، لا يكون هناك اهتمام. كان صديقنا صادق العظم لا يغضب من الشتيمة إطلاقًا. عندما صار سجالٌ بيني وبينه في مجلة الناقد، أنا قسوت عليه؛ لأنه ليس لديه لغة عربية قوية مثل لغتي، فاستخدمت سلاح اللغة ضدّه، ولم يغضب، ولم أغضب عندما هاجمني. ظللنا أصدقاء مع بعض، وهذا الصديق ممتلئ بأسباب الحضور، ويرى نقده جزءًا من حضوره.
عرفونا فشتمونا. أما الآخرون الذين لا نعرفهم ويشتموننا، فنحن لا نعرفهم، وبالتالي نحن في غنى عنهم.
د. ميادة كيالي:
وهذا يرتبط بالكلام الذي ذكره الدكتور حسام، ممن يأتي الاعتراف.
د. أحمد برقاوي:
بالضبط، لكن هذا لا يأتي فقط من الاعتراف وعدم الاعتراف.
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، دكتورة ميادة. هذه النقطة غاية في الأهمية، وينبغي إبرازها والتشديد عليها مجدَّدًا. بالطبع، يمكن ويحصل ألا نكترث بآراء كثيرات وكثيرين بنا؛ لأننا لا نعرفهم، أو لأننا نعرفهم ونعرف ألا قيمة لرأيهم، لأسباب متنوعةٍ ومختلفةٍ. وفي هذا الخصوص، أتفق معك ومع الدكتور أحمد تمامًا. ما أردت التشديد عليه، في المقابل، أن السمة الذاتية للإنسان، بوصفه كائنًا اجتماعيًّا بالضرورة، تعني عدم إمكانية أن نكون لا مبالين، بالمطلق ودائمًا، باعتراف الآخرين، كلهم، بنا.
ولإزالة أي سوء فهم محتمل في هذا الخصوص، ينبغي هنا الانتباه إلى أمرين أساسيين.
الأمر الأول هو أننا عندما نتحدث عن الاعتراف لا نتحدث عن التقدير فحسب، بل نتحدث، أيضًا، عن الاحترام والحب والإقرار بمعروف الآخر وصنيعه ... إلخ. فأن نُعامَل باحترام وبإنصافٍ وبودية وبلباقة إلخ، كل ذلك وغيره يمثِّل شكلًا من أشكال الاعتراف بنا، وأستبعد أن يكون هناك شخصٌ لا يكترث بمثل هذا الاعتراف. الحب شكلٌ من أشكال الاعتراف، وإذا كنا نحب من يشعرون تجاهنا بالحب، فمن المستبعد جدًّا ألا نكترث لحبهم لنا؛ أي لاعترافهم بنا. وفي حال وجود عدم الاكتراث المذكور، فمعنى ذلك أن الشخص لا يحب أحدًا. وإذا كان الشخص غير المكترث باعتراف الآخرين به، هو ذاك الذي لا يتضمن قلبه، ولا تتضمن حياته، أيّ شعورٍ بالحب، فإن ذلك يبيِّن مدى ضرورة أن نكون مكترثين بمسألة الاعتراف.
الأمر الثاني هو ضرورة عدم اختزال الاعتراف في أبعادٍ نفسيةٍ من الشعور بالاكتراث أو عدم الاكتراث بهذا الآخر أو ذاك، أو بهذا الاعتراف أو ذاك. ومن هنا تأتي ضرورة التشديد المتكرر على أن المسألة أنطولوجية واجتماعية، أو تنتمي إلى طبيعة الوجود الاجتماعي للإنسان، وليست خاضعة، خضوعًا كاملًا على الأقل، لرغبات الإنسان ومزاجه وأوضاعه النفسية، وغير النفسية المختلفة. وإذا قارنا الرغبة في الاعتراف بحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب – على الرغم من الاختلاف الشديد بين الرغبة والحاجة المذكورتين، يمكننا القول إن الإنسان يمكن أن ينفر أو يكره بعض أنواع الطعام أو الشراب، ويمكن ألا يكترث بالأكل والشرب لفترةٍ ما، ويمكن أن يصوم، بطرائق مختلفةٍ ولفتراتٍ متباينة، لكن يستحيل ألا يكترث الإنسان، بالمطلق ودائمًا، لهذه الحاجة ولإشباعها. والحال قريبٌ من ذلك في خصوص الاعتراف. فهو مكوِّنٌ لطبيعة حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية ووجودنا المعنوي والمادي أيضًا.
د. أحمد برقاوي:
هذا مستوى آخر.
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، ولهذا ينبغي النظر إلى المستويات المتعددة من المسألة، عند مناقشة مثل هذه المسألة.
د. أحمد برقاوي:
إذا ناقشتِ النظام الديكتاتوري، فما هو النظام؟ هو نظام عدم الاعتراف، السلطة الديكتاتورية، بالتعريف، لا تعترف بالآخر، والآخر بالنسبة إليها موضوع شك وسيطرة ونفي، وهكذا.
ما أهمية الديمقراطية التي انتصرت في أوروبا؟ الاعتراف. لذلك، كلما زاد الاعتراف بالحق، زاد الصدق.
د. حسام الدين درويش:
أتفق معك تمامًا. هذا التمييز بين النظامين الديكتاتوري والديمقراطي، من منظور مفهوم الاعتراف، مفيدٌ جدًّا لتوضيح مضمون الاعتراف وأهميته وضرورته وتعدد مستوياته.
د. سليمان الضاهر:
سوف أشير إلى مسألة بخصوص الاعتراف. تحدث الدكتور أحمد في كتابه عن الذات والاعتراف على المستوى الفردي، والذات التي ابتدأت فيها ليست باحثة عن الاعتراف، موقع الفكرة هو الذي وسع المجال لكي يعترف بها الآخر؛ لأنها أثبتت وجودها ومعرفتها.
د. أحمد برقاوي:
نحن جالسون الآن ونحوز على اعتراف متبادل.
د. سليمان الضاهر:
هذا المفهوم الذي أنا أسمّيه: أعترف بالمعنى الفردي، والاعتراف بالمعنى الجماعي، كما ذكر الدكتور حسام الاعتراف معكوسًا. لماذا تهمّنا مسألة الاعتراف؟ أعتقد أنه في خلفيتنا الفكرية شيء من الانهزام أمام الثقافة الأوروبية التي حققت تقدمًا على المستوى العلمي، ولذلك نحن نبحث عن الاعتراف. الآخر إذا كتب حول الاعتراف، إلى أيّ مدى يبحث، أو إلى أيّ مدى يعترف بنا نحن؟ مثلاً، الفلسفة العربية باللغة الروسية، هي الفلسفة المكتوبة باللغة العربية؟
د. أحمد برقاوي:
والفلاسفة العرب هم مجرد شرّاح لأرسطو.
د. سليمان الضاهر:
أصبحت مسألة الاعتراف على المستوى الثقافي وعلى مستوى الوعي. إرنست رينان يقول كل ما قدمه العرب في العصور الوسطى من فلسفة ليست سوى نقول عن أرسطو وأفلاطون وباقي الفلاسفة.
في النتيجة، الحضارة الأقوى هي التي تفرض نفسها على الآخر ليعترف بها؛ لأن ساحة الوعي عندهم أكثر انتشارًا، وأثبتت الحضارة الأوروبية ذلك، بينما نحن نبحث عن الاعتراف من قبل الآخر بنا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا على إثارة هذه النقطة المهمة. وبالتأكيد الاعتراف، من المنظور الفلسفي، وغير الفلسفي، ليس مجرد مسألة أخلاقية تتعلق بقيم أو واجبات أخلاقية، وإنما الاعتراف مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلاقات القوة. وقد أشار الدكتور أحمد إلى الارتباط الوثيق بين مسألتي السلطة والاعتراف. وتحدثنا عن الاعتراف بالسلطة وعن سلطة الاعتراف. وقد كتبت آنفًا في ضرورة التمييز بين نوعين من السلطة: السلطة القائمة على الإكراه، على الإجبار، على القسر، وغيرها، والسلطة القائمة على الاعتراف؛ أي الاعتراف الطوعي. مثل: الطلاب مع أستاذهم، إذا افترضنا أن هذا الأستاذ لا يمارس أي نوع من الإكراه، لكن من خلال المحبة والتقدير، يرى الود، فيعترف به الآخرون، وتصبح له سلطة عليهم، ليس لأنه يكرههم، وإنما لأنه يتصرف معهم بطريقة التقدير، بل من خلال نوع من الاعتراف. وهذا مشابه لعلاقة الوالدين مع الأطفال، فإذا تصرفوا بطريقة معينة، قد يحصلون على الاعتراف الطوعي، وليس القسري.
فعلاقة الاعتراف بالسلطة ليست مجرد خضوع وإكراه، وإنما يمكن أن تحصل طوعًا وعلى أساس القناعة والحب والاحترام والإنصاف...إلخ.
د. أحمد برقاوي:
حتى في ثنايا السلطة التي تنطوي على نوع من الحب، تظل السلطة نوعًا من الإكراه؛ فكل سلطة هي إكراه، لكن هناك إكراه أنت محمول عليه، وآخر أنت غير محمول عليه.
د. حسام الدين درويش:
هو إكراه، بمعنىً، ومن ناحيةٍ، وليس إكراهًا، بمعنىً آخر، ومن ناحيةٍ أخرى.
د. أحمد برقاوي:
انتبه صديقي، إذا نقلنا الاعتراف إلى العلاقات البشرية، فهل هناك سلطة للأب أم لا؟ السلطة بالنسبة إلى الابن هو يعترف بسلطة أبيه، لكنه يكره هذه السلطة، فلا مجال للجدل. إذن، هذه السلطة التي يعترف بها الطفل أو الذي كبر قليلًا، هي سلطة مؤسّسة على العلاقة بين الأب والابن، لكنها ليست مؤسّسة على حبّ السلطة، لذلك يتمرد عليها. هناك شروط موضوعية قد تؤدي إلى أن يصبح الاعتراف انطلاقًا من بنية قيمية وأخلاقية؛ الأمّ مثلاً، خاصة في الوعي العربي، لها تقديس خاص مبالغ فيه، لا تنطق عما تريده. إذا تخاصمت مع زوجتي، أنا مع أمّي، لماذا؟ لأنك مع أمك؟
د. ميادة كيالي:
أرى أنّ التمييز بين الاعتراف والتقدير مهمّ جدًّا: التقدير قد يكون شعوريًّا أو أخلاقيًّا، بينما الاعتراف ينطوي على إقرارٍ بمكانة أو حقيقة وجودية. هل يمكننا إذن أن نفكّك "الاعتراف" إلى طبقات: اعتراف وجودي (الحق في الوجود)، اعتراف قيمي (الاحترام والتقدير)، واعتراف معرفيّ (الاعتراف بالقيمة المعرفية)؟ وكيف تتداخل هذه الطبقات في سياق مؤسساتي أو سياسي.
د. أحمد برقاوي:
هذا اعتراف بسلطة تاريخية هي الأم؛ سلطة الأفراد المقدسة. والأيديولوجيا هي أكبر سبب لعدم الاعتراف وللاعتراف الزائد. في روسيا، قلت مرة إن لينين ليس فيلسوفًا، لم أعدّه فيلسوفًا، قامت الدنيا ولم تقعد عليه، وبلغت الأمور أعلى المستويات. برقاوي قال: "لينين ليس فيلسوفًا"؛ أي مثل ما تسبّين الرسول، مثلاً، كافر يسبّ الرسول.
د. حسام الدين درويش:
سؤالك مهم جدًّا العزيزة ميادة. وبالفعل، ينبغي التمييز بين الاعترافات المذكورة أو المفاهيم المذكورة. والمعرفة تغتني، عمومًا، بمثل هذه التمييزات. وإذا كان معيار المعرفة أو اليقين عند ديكارت هو الوضوح والتميز، فإن مثل هذه التمييزات تجعل المعرفة أو اليقين أوضح وأقوى. فقد نعترف بالأفضلية المعرفية لشخصٍ ما، لكن من دون أن يعني ذلك اعترافًا بأفضليته الأخلاقية. والاعتراف بحق فكرةٍ ما في الوجود، مثلًا، لا يعني الاعتراف بأحقية هذه الفكرة أو أنها تجسِّد حقًّا ما...إلخ.
وبما أن العزيز أحمد ذكر لينين، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن فلسفة الاعتراف أضافت بعدًا مفتقدًا في التحليل الماركسي أو اليساري التقليدي الذي يركِّز على البنية التحتية والاقتصاد وعلاقات الإنتاج والمسائل المادية إلخ، ولا يرون في الاعتراف، بوصفه حبًّا، عنصرًا مهمًّا من عناصر العدالة التي يتحدثون عنها ويسعون إليها.
ففلسفة الاعتراف تتناول جوانب معنويةً: مثل الحب، والتقدير، والاحترام. وهي جوانب لم تكن موضع اهتمامٍ (كبيرٍ) من قبل اليساريين/ الماركسيين.
د. أحمد برقاوي:
فكرة الاعتراف ليست مطلقة، هناك جملة من الشروط والأسباب التي قد تلغي الاعتراف، وقد تكون الأسباب ذاتية أو موضوعية إلى آخره. لكن هذا يعني أن الاعتراف يبقى مرتبطًا بحقل الحق: لماذا أربط بين الحق والاعتراف؟ لأنه يبقى في حقل الحق أن أعترف أو لا أعترف، حتى لو كنت مخطئًا.
على المستوى الفردي، الذات؛ على المستوى الجماعي، على مستوى الدولة، والسلطة، والمؤسسات. أنتِ تعملين في مؤسسة، وهذه المؤسسة مليئة بالناس، وبينك وبينهم علاقات يومية. وينبغي أن يكون هناك حق الاعتراف بين أفراد المؤسسة، فهذه قضية مهمة جدًّا، خاصة في العالم العربي.
د. حسام الدين درويش:
تقصد بحق الاعتراف، الحق في أن أعترف أو لا أعترف؟
د. أحمد برقاوي:
هذه حالة متعينة. فلسفيًّا، الاعتراف بالحق، وهذا كتبته في مقال آخر، حيث لا يكون مقصوده إيذاء الآخر. وبالتالي، أنا حر في أن أعترف أو لا أعترف دون أن يكون مقصودي إيذاء الآخر. وبالمناسبة، الأكاديمية الفرنسية لم تعترف بدريدا.
د. حسام الدين درويش:
طرحت العزيزة ميادة سؤالًا عن حدود الاعتراف. وأنت هنا أشرت إلى حدٍّ من تلك الحدود: عدم إيذاء الآخر. مثلًا إذا كان هناك ثقافة تبيح ضرب الأبوين للطفل، ضربًا مبرحًا أو غير مبرحٍ، فمن الممكن المجادلة في عدم أحقية المطالبة بالاعتراف بحق الأبوين في القيام بهذا الضرب. ومن المرجح أن عدم الاعتراف أفضل أو أقل سوءًا من الاعتراف، هنا.
د. ميادة كيالي:
من يحدد ذلك؟ من يساعد الذات أو الفاعل على نيل الاعتراف؟ هل يكفي فعل اعترافٍ واحد لتهيئة المسار، أم إن ثمة تراكمًا مؤسسيًّا وثقافيًّا مطلوبًا؟ وهل ينبغي أن نتحدث عن معايير موضوعية للاعتراف (أصالة الفكرة، قيمة المنهج، أثر العمل) أم إن الاعتراف أحيانًا منتج علاقات سلطوية ورمزية لا علاقة لها بالمعايير
د. أحمد برقاوي:
أنا والمؤسسة؛ أنا لا أعترف بك أنك كاتبة مهمة، لكنني لا أذهب لأفتنك، وأقول: هذه ليست كاتبة، ولا تنشروا لها هذا المقال؛ فهذا السلوك صار عدوانيًّا. والاعتراف من شأنه أن يخفف من العدوانية بين البشر، وبين الشعوب.
كانت لدينا ندوة عن شجاعة الحقيقة. الغربي صعب أن يعترف بك؛ لأنه هو الفيلسوف ولديه مركزية أوروبية، بينما نحن لا نملك هذه المركزية تجاههم؛ لأننا نعترف بأهميتهم. بالمناسبة، أنا تعاملت معهم أيضًا كمركز، وهم أطراف، كرد فعل على مركزيتهم. مع أنني أعترف بهم، لكن لم أقصد أن أرى نفسي عليهم، بل أردت أن أقول لهم إننا أيضًا ننطوي على إمكانية الاعتراف من قبلكم. لكن هذه قضية تاريخية. وحتى الآن، نحن لا نعترف بالسود ولا بالزنوج.
د. ميادة كيالي:
أتساءل عن العلاقة التحليلية بين هذه المفاهيم: هل التسامح هو مجرد سلوك أخلاقي مؤقت، أم إنه يعكس ترتيبًا سياسيًّا؟ هل التعايش من دون اعتراف يبقى حالة هشة (وجود متسامح معه من دون اعتراف حقيقي به)؟ أم إن الاعتراف هو الأسمى؛ لأنه يثبت الحقّ في الوجود والاختلاف؟
د. أحمد برقاوي:
التعايش بلا اعتراف غير ممكن؛ كيف تريدين أن تتعايشي مع الناس دون أن تعترفي لهم بالحق، هذا غير ممكن إطلاقًا. أما فكرة التسامح، فهي فكرة أخلاقية، بينما الاعتراف ليس فكرة أخلاقية. الاعتراف وجودية في حقل العلاقات بين الناس، حيث تعترف الأطراف بعضها ببعض. التسامح ممكن أن يكون، لكن أنا مع دولة التسامح، لا مع فكرة التسامح الأخلاقي. دولة التسامح هي الدولة التي تساوي بين جميع الناس، بغض النظر عن كذا وكذا.
د. حسام الدين درويش:
حسب المفهوم التاريخي للتسامح، أفترض أن الاعتراف يحلّ محل التسامح؛ لأن التسامح قائم على علاقات القوة: أنا أقوى منك، فأنت لا حق لك عندي، لكن مع ذلك أسمح لك بالوجود. أما الاعتراف، فهو إقرار بالحق في الوجود. فالتسامح كان، سابقًا، يتعلق بإرادة السلطة أو الأقوى الذي يرتئي لأسبابه الخاصة أن يسمح للمختلف بالوجود من دون أن يكون الاعتراف لذلك المختلف بأنه له حقٌّ أصيلٌ بالوجود يؤسس لذلك التسامح، ومن دون أن يؤسس ذلك التسامح لذلك الحق ولذلك الاعتراف به.
د. أحمد برقاوي:
لذلك ارتبط التسامح بالمفهوم الديني؛ بمعنى أنه التسامح الديني يقتضي التسامح مع المختلف بناءً على المرجع الديني، مثل النبي أو إله.
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، ويمكن ملاحظة أن فيلسوف التسامح، جون لوك، نظَّر لضرورة عدم تسامح الدولة مع الكاثوليك ومع الملحدين؛ وسوَّغ ذلك بأنه لا يمكن الوثوق بهذين الطرفين؛ لأن الطرف الأول لديه ولاء لطرفٍ خارجيٍّ، الفاتيكان/ البابا، في حين أن الطرف الثاني، الملحدون، يفتقر إلى الأخلاق؛ لأنهم من دون دين، وبالتالي لا يمكن الوثوق بهم أو التسامح معهم.
لهذا السبب، أرى أن الفكرة أو القيمة الأساسية التي ينبغي أن تسود على مستوى الدولة والمجتمع، حيال الاختلافات عمومًا، هي فكرة/ قيمة الاعتراف؛ أي الاعتراف أو الإقرار بحق كل الناس بأن يكونوا مختلفين؛ والحديث عن الإقرار بحق الاختلاف؛ يعني القبول بحقيقة موضوعية، وليس إعطاء هبة أو منحة من طرفٍ لآخر.
د. أحمد برقاوي:
في حقل الاختلاف والاعتراف، أنا لا أُعاقَب، لكنّني عوقبت بحق عدم الاعتراف وعدم الاختلاف.
د. حسام الدين درويش:
ثمة سؤال طرح ويتعلق بمسألة التسامح والاعتراف والفعل، إلى أي حدّ يمكننا أن نتسامح مع المختلف؟ ومن الإجابات التي تلقي مزيدًا من الضوء على مسألة "حدود التسامح" أو "حدود الاعتراف" القول إن التسامح ضروريٌّ ومطلوبٌ، دائمًا، إلا مع عدم التسامح؛ أي ينبغي عدم التسامح مع عدم التسامح، وفي ما عدا ذلك ينبغي التسامح. وقد يكون الحال ذاته في خصوص الاعتراف، حيث ينبغي الاعتراف بحق الآخر في الوجود، شر ط ألا يتضمن وجود الآخر إنكارًا لحقنا في الوجود.
د. أحمد برقاوي:
شخص احتلّ أرضك، كيف تتسامح معه؟
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، هذا مثال مناسبٌ لهذا السياق. ولهذا هناك تشديدٌ على أن التسامح في حد ذاته، ليس قيمة أخلاقية، وليس مبدأ أخلاقيًّا؛ وإنما قيمةً مشتقةً؛ أي إن أخلاقية التسامح تعتمد على مدى اتسامه بالعدل والإنصاف. ومن هنا تأتي ضرورة معرفة سبب التسامح، ومضمون التسامح، وغاية التسامح، مع من نتسامح. فالتسامح مع ظالم احتل أرضي، ويهاجمني، ويعتدي عليّ، ليس فضيلةً اخلاقيةً بالضرورة.
د. ميادة كيالي:
حقيقة الجلسة كانت لطيفة، ونأمل أن يكون هذا الحوار بدايةً لنشاطات كثيرةٍ نأمل ونسعى للقيام بها: ندواتٍ وحوارات وفعاليات فكرية مختلفة.
د. أحمد برقاي:
شكرًا لك، شكرًا لك.
د. ميادة كيالي:
العفو، والشكر لك، دكتور أحمد، ولك دكتور حسام، ولكل المتابعات والمتابعين. ولنتّفق على أنّ الاعتراف أمر ضروري وجوديًّا واخلاقيًّا. ولدى كلّ إنسان حقٌّ مبدئيٌّ في أن يُعترف به.
د. أحمد برقاوي:
أصلًا اجتماعُنا هذا هو ثمرة وعينا بالاعتراف.
د. حسام الدين درويش:
تمامًا، والاعتراف ممارسة، وليس مجرد وعيٍ نظريٍّ.
د. أحمد برقاوي:
ونحن مختلفون، واختلفنا.
د. ميادة كيالي:
من حقنا كنساء أن يعترف بنا، من حقنا
د. أحمد برقاوي:
بالتأكيد لا خلاف بيننا في هذا الخصوص.
د. حسام الدين درويش:
جميلٌ ومفيدٌ هذا الحوار، في الاختلاف وفي الاتفاق، على حدٍّ سواء. وأشكر العزيزة ميادة كيالي على تنظيم هذه الجلسة الحوارية والسير بها بمنتهى السلاسة. وأشكر العزيز أحمد برقاوي الذي سبق له أن كتب تقديمًا لكتابي "في فلسفة الاعتراف ..." وغمرني بلطف كلماته.






