من قضايا تجديد الفكر الإسلاميّ في تونس: قراءة في كتاب "الجمود والتجديد في قوّتهما" للطاهر الحدّاد


فئة :  قراءات في كتب

من قضايا تجديد الفكر الإسلاميّ في تونس: قراءة في كتاب "الجمود والتجديد في قوّتهما" للطاهر الحدّاد

"نعم يصحّ أن نجمد في فهمنا للأشياء ولكن لا يصحّ أن تجمد الأشياء فهي ومن ضمنها نحن دائما نسير" الطاهر الحدّاد

يُعدّ الطّاهر الحدّاد (1899 ـ 1935) واحدًا من مجموعة كبيرة من رجال الفكر والشّعراء والكُتّاب الّذين تركوا أثرًا جليلًا في الأدب وتاريخ الفكر في تونس. وما يميّز فكر هذا الرّجل كونه آمن بالإصلاح الاجتماعيّ واعتبره شرطًا من شروط النّهضة ومقتضًى من مقتضيات التّنوير والتحرّر في العالم الإسلاميّ، في وقت كان فيه المجتمع التّونسيّ يرزح تحت هيمنة العقل الأصوليّ المغلق الّذي يأبى التحرّر ويرفض النّهوض، ولعلّ أعمق تعبيراته نجدها ماثلة إلى يوم النّاس هذا.

لقد كان الحدّاد جادّا في طرح مواقفه من نصوص التّراث الّتي جعلها الكثيرون مُتّكأً لهم يُسيطرون من خلالها على حياة المسلم في كلّ جزئيّاتها، فلم يتركوا مجالاً من مجالات الحياة إلّا وكان لهم فيه رأي. فضلًا عن كونه امتلك الجرأة في إبداء الرّأي وعدم التردّد في كشف المغطّى وإثارة المسكوت عنه والانفكاك من أسر الأُطر المغلقة الّتي تتحمّل في رأيه وزر التخلّف والانحطاط بما أشاعته من اعتقادات عطّلت العقل عن التّفكير والنّظر وغلّبت الأيدي عن الفعل والحركة[1]. ولأنّ "الفطام عن المألوف شديد والنّفوس عن الغريب نافرة" كما قال الغزالي (ت505 هــ / 1111 م) لم يترك معاصرو الحدّاد وقتًا إلّا وحاربوه فيه معتبرين أنّ مشروعه الإصلاحيّ زندقة يُراد بها حرب هذا الدّين وتعويضه بالمدنيّة الغربيّة.

وعلى قدر وضوح فكر الطّاهر الحدّاد وقع التّعتيم على اهتماماته الفكريّة، فلم تتعرّض له الدّراسات المُتعلّقة بالتّجديد في البلدان العربيّة عمومًا ــ إن سمح التّعميم ــ والبلاد التونسيّة على وجه الخصوص، غير أنّ التّجاهل الّذي لاقاه الحدّاد والمضايقات الّتي تعرّض لها بسبب مواقفه انحصرا في السّنوات الأخيرة من عمره، ولا سيما بعد صدور مصنّفه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" (1930) الّذي أثار غضب رجال الدّين في تونس وفقهاءها.

بالإضافة إلى هذا المنجز الثّقافيّ، برزت في المدّة الأخيرة على السّاحة الثقافيّة والأكاديميّة نسخة لمخطوط كانت قد تركها الحدّاد قبل وفاته عند أحد مقرّبيه، فتولّى "مجمع بيت الحكمة" برئاسة الدّكتور عبد المجيد الشّرفي تحقيقها ومن ثمّ نشرها خلال السّنة الجارية 2018، وهو كتاب صغير الحجم ـ مقارنة بالأثر الأوّل ـ يحتوي على 37 صفحة وقد وُسم بــ "الجمود والتّجديد في قوّتهما". وفيه قد جمع الحدّاد بين النّقد والتفكّه على ما آل إليه الفكر الدّيني من جمود وانحطاط في تلك الفترة (ثلاثينيات القرن الماضي) وفي ذلك يقول الأستاذ الشّرفي: "و سيكتشف القارئ »للجمود والتّجديد في قوّتهما« أسلوبًا جديدًا للحدّاد لا يخلو من السّخرية. ولئن بدا لأوّل وهلة في استعراض المُؤلّف لحجج الجامدين أنّها حُجج قويّة دامغة فإنّ تقديم حجج المُجدّدين إثرها لا يترك مجالًا للشكّ في أنّ ما بدا في أوّل الأمر قويّا أوْهَى في الحقيقة من بيت العنكبوت".[2]

1- مفهوم الشّريعة بين التصوّر الأصوليّ والقراءة المتجدّدة:

إذا سلّمنا بأنّ الهدف الأسمى للشّريعة الإسلامية هو تصريف مصالح النّاس واستقرارهم وإقامة الحياة بينهم، وتنظيمها بناءً على تعاليم الإله أو من أوكل إليه البلاغ، فإنّه من غير المعقول الاعتقاد في ذات الوقت بأنّ أحكام تلك الشّريعة ثابتة لا مُتغيّرة، وأنّها مُقدّسة لا تُمسّ ولا تُجسّ، بل إنّ الأمر على غير ذلك فالشّريعة الإسلاميّة كما يراها الطّاهر الحدّاد يُمكن أن تُساير الزّمان والمكان فلكلّ ظرف تقديره ولكلّ حادثة حُكمها. والشّريعة إذا سارت على هذا النّهج يجب لنجاحها أن تشتمل على عنصر التّجديد وإلّا تخلّفت وأصبحت في عداد التّاريخ ولم تصلح لكلّ زمان ومكان بقدر ما تصلح لفئة معيّنة، ولذلك فقد كان الحدّاد محقّا في قوله: "إنّ الدّين عقائد وعبادات تعبّر عن صلة العبد بالله، فهي باقية ما بقيت تلك الصّلة. أمّا الشّريعة، فهي وسيلة لتوجيه مصالح النّاس وحاجاتهم في الحياة الدّنيا. فهي تسير معها إيجابًا وسلبًا ويستحيل أن يكون المراد منها مجرّد التّقديس المعنويّ دون مراعاة اطّراد المصلحة في تطبيق نصوصها الجزئيّة".[3]

غير أنّ الذهنيّة الأصوليّة في تونس كما صوّرها الحدّاد أخذت "الشّريعة" على أنّها شكل من الأشكال المحسوسة الّتي ينبغي صيانتها والمحافظة عليها من الضّياع والتّلف؛ ذلك لأنّ هذا الشّكل في اعتبار السّلفيين يرمز إلى دين الأمّة وثقافتها إن فرّطوا فيه فقدوا بذلك عناصر هويّتها، وهم في ذلك غير آبهين بالتطوّر الّذي مسّ كلّ جوانب الحياة، فبقوا أسرى لتراث أسلافهم أوفياء لقيم الماضي. ولئن كان هذا التصوّر السلفيّ لمفهوم الشريعة في ظاهره يحيل على التديّن والانشداد للموروث الإسلامي، فإنّ في باطنه حياد عن قيم الإسلام ذاتها، إذ يرى الحدّاد أنّ الإسلام إنّما جاء ليخدم مصالح المسلمين في كلّ الأوقات وجميع العصور وليكون عونا لهم وسندا ولو كان الإسلام جامدا فعلا ولا يأبى الثّبات لزال واضمحلّ المسلمون من زمن بعيد، هذه الفكرة يُوضّحها في عبارة يجلوها قوله: "إنّ الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان، فهو لا يُعارض الحياة ما تطوّرت أشكالها وحاجاتها. وإذا كان التطوّر من أخصّ نواميس الله في الطّبيعة فليس من المعقول ولا من الممكن أن يسنّ للنّاس شريعة لا تسير مع هذا النّاموس الإلهي إلّا إذا كان يُريد محقهم من الوجود بعكوفهم على هذه العقيدة".[4]

ومن الأدلّة الدّامغة على أنّ الحدّاد لا يتكلّم من فراغ، وإنّما هو عالم بمقاصد الشّريعة وأغراضها ومراميها، هو ما حفل به القرآن من آيات تدعو المسلم إلى التطوّر والنّهوض وليس أدلّ على ذلك من قوله تعالى:

"إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ "[5]

"ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ".[6]

إنّ هاتين الآيتين الكريمتين كافيتان للتّدليل بأنّه ليس لنا خيار غير التقدّم ومُجاراة الأمم الحيّة، وهذا الأمر مسؤوليّة رجال الدّين قبل غيرهم من أهل التخصّصات الأخرى، إلّا أنّ الأمر حال دون ذلك، فأصبح التقدّم في نظرهم بدعةً تتعارض مع صورة الدّين الميكانيكيّ الصّارم الّذي سكبوه في أذهانهم في شكل قوالب جاهزة غير قابلة للتغيّر والتمطّط. فأضحى الدّين نتيجة لذلك عبارة عن إشارات تحمل قواعد صارمة "افعل" "لا تفعل" "حلال" "حرام" "مباح".... والحال أنّ هذه ليست طبيعة العلوم الإنسانيّة الّتي ينتمي إليها الدّين، والّتي تتميّز بهامش كبير من الـتّأويل والاحتمال، يقول الحدّاد: "كلّ أمم العالم الحيّة اليوم قد عرفت كيف تفهم الشّيء في عمومه كما تفهم أجزاءه فتصل إلى حقيقته، أمّا نحن فلا نفهم هذه الحقيقة الخالصة وبقينا كعامّة أجدادنا لا تسع عقولنا غير الأجزاء الصّغيرة في الشّيء والنّتيجة الحاصلة اليوم أنّنا نتطوّر إلى أسفل ضدّ ما يُريده الإسلام".[7]

2- في أنّ العقلانيّة شرط من شروط التجديد ومتمّم له:

العقلانيّة (Rationalisme) مصطلح مشتقّ من "العقل"، وهو في اصطلاح الفلاسفة "نظريّة فلسفيّة تجعل من العقل أساس كلّ معرفة ممكنة، واستتباعًا لذلك، فإنّ العقل هو الوحيد الّذي يحمل في ذاته إمكانيّة التعرّف على الأشياء والوقائع".[8] ولئن لم يُضمر الطّاهر الحدّاد في كتابه الّذي بين أيدينا ذكر مفهوم العقلانيّة، فإنّه لا شكّ قد صرّح في مواقع متفرّقة فيه بضرورة إعمال العقل والإعلاء من شأنه ذلك، لأنّه مناط التّكليف. ولأنّ الإنسان هو خليفة الله في الأرض "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ [9]" كان لزامًا عليه أن يكون أهلا لهذا التّكليف الإلهي، وهذا لا يكون إلّا بضرورة إعمال العقل والتّفكير الإيجابي من أجل الوصول إلى المقاصد العليا للشّريعة، باعتبارها الهدف المأمول من الإسلام. ورغم أنّ الحدّاد كان على يقين تامّ بأنّ للعقل حدودا في فهم وتصوّر بعض الأشياء، إلّا أنّه يبقى عنده من أثمن الوسائل الّتي يمكن أن نتجاوز بها الموجود نحو المنشود "ولا شيء أصلح للعمل في هذه الوظيفة (التّكليف) غير العقل الّذي وهبه الله للإنسان قائدًا ومرشدًا وأناط به تحمّل التكليف بالواجبات والمسؤوليّة فيها، وهو بما يصيب ويُخطئ أفضل عند الله والنّاس أجمعين من التّقليد الأعمى الّذي إن يكن في حقّ وصواب، فلا تلبث الأيّام أن تُفسخه إلى تقاليد سخيفة".[10]

3- التّأويل ضرورة حياتيّة:

يُعرّف ابن رشد (ت 595 هـ - 1198 م) التّأويل بأنّه "إخراج دلالة اللّفظ من الدّلالة الحقيقيّة إلى الدّلالة المجازيّة من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشّيء بشبيهه أو سببه[11]"؛ أي بشرط أن تكون الدّلالة المجازيّة موافقة للكتاب والسنّة مثل قوله تعالى: "يخْرجُ الْحيّ منَ الْمَيتِ"[12]، إن أراد بها إخراج الطّير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المُؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا.[13]

أمّا الطّاهر الحدّاد، فهو يرى في كتابه أنّ للتّأويل دورا مُؤثّرا بوصفه المسلك الّذي نلجأ إليه في إخضاع الأحكام الشرعيّة الّتي حواها القرآن لتحكُّمات المعقول؛ أي من أجل فهم النصّ بوصفه خطابا. ولمّا كان كلّ خطاب حمّال أوجه كان الجُهد الفكريّ في كلّ قراءة يكمن في الكشف عن المعنى الخفيّ من المعنى الجليّ، [14] وأنّ حقيقة الخطاب لا تكمن في المنطوق الظّاهر، بل في المسكوت عنه ولا في البحث عن صحّة الأفكار أو فسادها بقدر ما تهتمّ بتفهّم مظاهر التّعارض والاختلاف[15]. ولعلّ الهدف من تسلّح الحدّاد بمنطق التّأويل هو إصراره على تجاوز الاجتهادات الفقهيّة والتّشريعات العربيّة الإسلاميّة الّتي بدلا من أن تأخذ بغائيّة أحكام الشّريعة ومقاصدها أخذتها بحرفيّتها وأخرجتها عن المنطق وجعلتها ديمومة سرمديّة. ومن هنا استحال التّأويل إلى أداة ملحّة نتيجة التطوّر والصيرورة اللّذين شهدتهما الحياة الإنسانيّة جمعاء، فنضطرّ حسب الحدّاد إلى قراءة القديم على ضوء الجديد لما في ذلك من فوائد تعود بالنّفع على حياة الأمّة، يقول: "إنّ تأويل النصّ يحمله على أحوال دون أحوال متى تعذّر تنفيذه بالحرف على ظاهره، أمر لابدّ أن نعترف به لفائدة حياتنا الّتي جاء الشّرع حافظا لها ومُعينا".[16]

4- الدّعوة إلى حريّة الفكر: التعدّديّة الفكريّة هل تُؤدّي ضرورة إلى الصّراع؟

إنّ الحقبة التّاريخيّة الّتي عاشها الحدّاد والبعض من أصدقائه الّذين يُشاركونه التوجّهات والخيارات الفكريّة، هي حقبة تميّزت بتكبيل الفكر وتعطيل الاجتهاد. فكلّ من خرج عن فكر الجماعة صُنّف متمرّدا وعاصيا، وكلّ من أخضع المُسلّمات للتقصّي والبحث والزّحزحة والتّفكيك صار هذا الإخضاع كُفرا، وهو أمر لا تقبله المُؤسّسة الدينيّة في تونس الّتي رسّخت في مختلف شرائح المجتمع – بما في ذلك الطّبقة السياسيّة – فكرة أنّها تُمثّل الحقيقة المُطلقة. وتبعا لذلك صار لدينا في تونس صراع بين مستويين: مستوى يُمثّله الحدّاد الإنسان الخاضع في تفكيره لمُؤثّرات البيئة والتطوّرات الخارجيّة الأوروبيّة الآخذة بخناقنا[17] على حدّ تعبيره، ومستوى ثان تمثّله المُؤسّسة الدينيّة الّتي لا تستهوي غير الأفكار الميّتة ولا تروم التحرّر الفكريّ. يُعلّق الأستاذ فتحي المسكيني على هذا النّوع من التّنافس بقوله: "كلّ تفكير حرّ هو منافسة على تمثيل الحقيقة في ثقافة ما، وهي منافسة تتمّ دوما مع الشّريعة السّائدة؛ أي مع الشّكل القانونيّ السّائد لحراسة مؤسّسة الحقيقة، وهو أمر لا يتحقّق أبدا إلّا بقدر ما تنجح تلك الشّريعة هي بدورها في تطوير جهاز العقل داخلها. ولذلك، فإنّ العقل ليس حرّا بالضّرورة لكنّه جهاز مُؤسّساتي دوما".[18]

ونتيجة لتمسّك الحدّاد بمواقفه تجاه قضايا التّشريع والمرأة في تونس إيمانا منه بأنّ البلاد التونسيّة لا يمكن أن تتحرّر إطلاقا وتلتحق بركب الأمم المتقدّمة دون تحرير المرأة، وإذا أضفنا إلى ذلك مواقفه الواضحة والصّريحة من رجال الدّين في تونس ومرجعيّتهم المفترضة في التعبّد برأي الفقهاء وتوسيعهم لمفهوم الحُكم رغبة منهم في السيطرة على حياة المسلم في كلّ تفاصيلها. نتيجة لكلّ هذا كفّرته المُؤسّسة الدينيّة واتّهمته بالإلحاد والزّندقة وجرّدته من شهادته العلميّة وتمّ طرده طردا تعسّفيّا من الجامعة آنذاك، بل وزادت الزّيتونة في تعميق اضطهاده، فأصدرت ثلاثة كتب تردّ فيها على ما جاء في كتابه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع"، كتاب أوّل وُسم بـ "الحداد على امرأة الحدّاد" لمحمّد الصّالح بن مراد، وكتاب ثان هو "سيف الحقّ على من لا يرى الحقّ" لعمر البرّي المدني، وكتاب ثالث هو "شمول الأحكام الشرعيّة لأوّل أمّة وآخرها" لمحمّد بشير النّيفر. وتضمّنت هذه المُصنّفات ردودا عنيفة غير متسامحة شيطنت الرّجل وشهّرت بفكره، فكان الردّ من الحدّاد بأن علّق على ذلك معتبرا أنّ ما صدعوا به ما هو إلّا عداوة للفكر وبُغضا له "و ليس من سبب في نموّ تأخرّنا وبعد نهضتنا عن نهضة الأمم الّتي ظهرت بعد الحرب الكبرى مظهر الكرامة والاستحقاق إلّا استمرارنا على بغض الفكر وعداوة الحريّة وقتل مواهبنا بهذا الاستعداد الفاسد الّذي يملأ حياتنا بالنّفاق تظاهرا بالصّلاح، ويُخيف المّفكّر من التّشهير به في بلاده فيُمسي خائبا مدحورا ممنوعا من خبزه أو من ثرائه الّذي يُنميه".[19]

ولا يذهبنّ في البال أنّ تلك الأدبيّات الّتي احتوتها كتب المُنافسين في الردّ على الحدّاد قد أحبطت من عزيمته، بل بالعكس زادته إصرارا وتواصل جهده ولم ينضب عطاؤه وبقي من أشرس المدافعين عن حريّة الفكر والرّأي. فالحدّاد لا يهمّه أن يكون فقيها في الدّين بدفاعه عن حريّة الفكر فيحلّ محلّ الآخرين، إنّما غرضه من ذلك إزاحة العراقيل من سبيله للتمكّن من تحرير أفكاره والتخفّف من أثقال الماضي وأوزاره، لأنّ الله حسب الحدّاد لم يمنح النّاس عقولهم عبثا ولم يُكلّفهم التدبّر إلّا وهو يعلم أنّهم بطبيعتهم معرضون للخطأ والصّواب حين يُفكّرون ويتدبّرون[20]. ولم يكتف الحدّاد بهذا فحسب، بل شيّد بقيمة "الحُريّة" في فهم الأشياء والتّعامل مع الحاضر المُغاير مُؤكّدا على دورها في نجاح أيّة أمّة، ولذلك ينبغي أن نُربّي عليها أبناءنا منذ الصّغر وأن نُمارس تلك الحريّة الفكريّة على مرآهم ومسامعهم يقول: "...إلّا أنّ مبدأ هذه الأشياء (نجاح الأمّة الإسلاميّة) حريّة الفكر الّتي يُثمرها التّعليم الصّحيح ويزيدها رسوخا، والّتي يكفي أن نُسلّم بها جدلا حتّى لا نُتّهم بمعاداة الحريّة، بل يجب أن نُربّي عليها أبناءنا منذ الخلق ونُعاملهم بمقتضاها، فنُحيي هذه الحريّة فيهم بما نقول وما نعمل أمامهم".[21]

5- هشاشة التّعليم الزيتوني:

إنّه لا يخفى على ذي بال وبصيرة مرّ بذهنه على المنهاج العلميّ الزّيتونيّ اندراجه ضمن نسق ذهنيّ استهلاكيّ ينزع في صميمه إلى الاحتباس التّاريخيّ والاتّكال على آثار القدامى تأخذها مسلّمات خالصة تكاد تحلّ محلّ مصادر التّشريع الأولى، ومن ثمّ زفّها خاما سرابا إلى عطاشى العلم من ناشئتها الثقافيّة، كلّ ذلك في سياق تعليميّ تعليبيّ بالأساس يجازف بملكة الإبداع العقليّ ويعرض عن ثقافة التّجديد والتّطوير. وهذا النّمط المنهجيّ فارقت فيه مؤسّسة الزّيتونة دورها التعليميّ إلى درجة التّرسيب التاريخيّ وإنّنا نحسب هذه الحجّة سارية الدّلالة على رُوّاد هذه المؤسّسة حتّى اليوم بدليل شحّ إضافتهم العلميّة على الإرث الفكريّ الإسلاميّ وتعاظم نفوذ الفكر الاستشراقيّ في التهام الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ناهيك عن تفوّق مدرسة الحداثة والقرآنيّين من حيث التّمحيص والبحث الدّقيق في المادّة الثقافيّة الإسلاميّة إذ يكاد الأخيرون يسحبون بساط المُدوّنة الفكريّة الإسلاميّة من تحت أقدام الأُسرة الزّيتونيّة فيما ظلّ رموز هذه الأخيرة فالتين من سوح التصنيع الفكريّ، فحسبك أن تنصت إلى الحدّاد، وهو يقول: "إنّ أولئك الدّارسين يقرؤون علوم الأقدمين كأمانة يتقبّلونها منهم ليُؤدّوها سالمة إلى من بعدهم كما تسلّموها ويكون لهم فضل التّبليغ، فلا أدب ولا شعر ولا تشريع إلّا صدى لعصور سلفت. وإذا احتاجت الأمّة إلى مواهب جديدة في هذه النّاحية فتلك خُرافة لا يصدق بها عاقل لأنّ الأوّلين لم يتركوا مجالا للآخرين... هذا هو المعهد والنّاس راضون بالموجود أو تحسينه في التّقارير والتّراتيب المجبرة، ولا يشعر بالتّعاسة هنا إلّا أولئك التّلاميذ الّذين يتحمّلون كثيرا ولا يحصلون ما يُعوّض عليهم أتعابهم".[22]

ثمّ إنّ من المفارقات الأخرى الّتي أوردها الحدّاد في كتابه هو انزياح المؤسّسة القرآنيّة عن مهمّتها التكوينيّة العلميّة الّتي أُوكلت إليها، فتهاوت إلى ثقافة الاتّجار والتكسّب وتكريس ثقافة الاقتصاد ومنطق "الأجر قبل المعلومة"، وهي فلسفة دأب عليها رموز هذه المدارس القرآنيّة لتقتات منها وتتقاضى أجر خمولها وإجحافها في حقّ من تكبّد عناء السّفر لرحلة العلم ومشقّات طريقه ولسنا نعلم هنا تموضع خطبهم عن أدبيّات الأمانة والأخلاقيّات الإسلاميّة الأصيلة في من يدّعي تبليغها للنّاشئة العلميّة، هنا يلهج الحدّاد بالقول: "و هذه المدارس القرآنيّة عندنا لم تزد قوّة من عهد تأسيسها، وهي في حقيقتها مشاريع لمعاشات من يشتغل بها أكثر منها مشاريع لتعليم أبناء الأمّة".[23]

و لم يكتف الجامدون في تخلّفهم عند هذا الحدّ، بل سطوْا على المنجز العلميّ الحضاري البشريّ بما يحمله من إرث كان للعلماء الدّور الكبير في سطوعه. فصارت العلوم الرياضيّة في المعهد الزّيتوني خاضعة لطبيعة النّصوص الدينيّة مُتأسلمة معها. وهذا التأسلم[24] الّذي مسّ علوم الرّياضيات في نظر الحدّاد لا يخلّف جيلا مبدعا ولا يُنتج كوادر علميّة نوعيّة مُسلّحة بعلوم العصر بقدر ما ينتج أجيالا تجترّ ثقافة القدامى ضمن منهج قائم على التّلقين قوامه "بضاعتكم رُدّت إليكم" ممّا حدا به إلى القول: "وها هو ذا المعهد الزّيتونيّ يعيش اليوم في فوضى لا حدّ لها، والحرب قائمة بين العلوم الرياضيّة الّتي تُقرأ بالمعهد والعقليّة التاريخيّة لأهله، تلك العقليّة الّتي جعلت العلوم الرياضيّة في المعهد أشبه ما يكون بالأسماء الّتي جُرّدت من المعنى فأصبح كلّ ما في هذا المعهد تمثيلا لعصور خلت كالأصنام في المتاحف الأثريّة[25]"، وذلك على خلاف المؤسّسات التعليميّة الغربيّة الّتي أسّست لثورة علميّة ومعرفيّة انطلقت بفضل جهود رجالات الكنيسة أنفسهم الّذين أسّسوا جامعات تُدرّس فيها العلوم العقليّة والطبيعيّة كجامعة هارفارد في بريطانيا الّتي بناها القسّ جون هارفارد (1607 - 1638) في القرن 17 ميلاديّا، والّتي تخرج منها أفواج من المُفكّرين والعُلماء في مجال العلوم الرياضيّة والتجريبيّة مقدّمة هذه العلوم على حساب علم اللّاهوت.

6- قضايا المرأة:

تعدّد الزّوجات:

كانت حركة الإصلاح الّتي قام بها الحدّاد ترمي إلى تقويم الفساد الّذي طرأ على الأخلاق في المجتمع الإسلاميّ عموما، وفي المّجتمع التّونسيّ خصوصا. وإذا كانت الأسرة عماد المُجتمع فقد اتّجه مُفكّرنا إلى إصلاح نظام الأسرة فكانت مُشكلة تعدّد الزّوجات - وهي مشكلة تمسّ بالأساس جانب المرأة - من المُشكلات الّتي حاول حلّها حلّا يُلائم الإصلاح المنشود في مطابقته لمقاصد الشّريعة الإسلاميّة.

ومن المُسلّم به أنّ الإسلام قد أباح تعدّد الزّوجات وأنّ القرآن حدّد عددهنّ بأربع إذ قال: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا"[26]. غير أنّ الباحث هنا يكشف عن وجود اختلاف وتناقض كبيرين في فهم هذه الآية بين تيّار محافظ يعتبر أنّ ما جاءت به خادم لمقصد الشّريعة لا معطّل له، وأنّ للتعدّد فوائد سبق لابن عاشور (1879 - 1973) أن عدّدها في قوله: "شرّع اللّه تعدّد النّساء للقادر العادل لمصالح جمّة: منها أَنَّ في ذلك وسيلةً إلى تكثير عدد الأُمَّة بازدياد المواليد فيها، ومنها أنَّ ذلك يُعين على كفالة النِّساء اللاَّئي هنَّ أكثر من الرِّجال في كلِّ أُمّة؛ لأنَّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذُّكورة، ولأنَّ الرِّجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشَّدائد ما لا يعرض للنِّساء، ولأنّ النّساء أطول أعمارًا من الرّجال غالبا، بما فطرهنّ الله عليه، ومنها أنّ الشّريعة قد حرّمت الزّنا وضيّقت في تحريمه لما يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن تُوسّع على النّاس في تعدّد النّساء لمن كان من الرّجال ميّالا للتعدّد مجبولا عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطّلاق إلّا لضرورة[27]"، وبين تيّار إصلاحيّ حداثيّ يتزعّمه الحدّاد في تونس وبعض النّخب المُثقّفة في مصر، وقد قدّم هؤلاء المُصلحون قراءة جديدة للآية تخالف ما درجت عليه القراءة الأصوليّة وتعيد الاعتبار في ذات الوقت للمرأة المستباحة باعتبارها كائنا اجتماعيّا. فقالوا بأنّ الآية الكريمة بعيدة كلّ البعد عن إفادة أنّها مسوقة لتحديد عدد الزّوجات الجائز جمعهنّ، بل هي مسوقة بالذّات وبالقصد الأوّل إلى التضييق على العرب لأنّ ظاهرة تعدّد الزوجات عادة متأصّلة في جاهليّتهم. ومن ثمّة اعتبر الحدّاد أنّ هذه الظّاهرة هي جاهليّة تحتاج إلى اجتثاث وما وجودها في القرآن إلّا دليل على رؤيته الإنسانيّة الشّاملة ورفقه بالجاهليّين وتدرّجه[28] بهم من التعدّد إلى الوحدة. يقول الحدّاد: "ليس لي أن أقول بتعدّد الزّوجات في الإسلام لأنّني لم أر للإسلام أثر فيه، وإنّما هو سيّئة من سيّئات الجاهليّة الأولى الّتي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجيّة"[29].

وزاد الحدّاد في تهكّمه على من قال أنّ للتعدّد حكمة وأنّها سنّة كونيّة قضت بسخاء الطّبيعة على الوجود بالأنثى أكثر من سخائها بالرّجل. فكان للسّخرية الحظّ الأوفر في حديثه عن تعدّد الزّوجات، ولا شكّ أنّه كشف لنا من وراء أسلوبه هذا طبيعة الرّجال الذوّاقين الّذين يتزوّجون كثيرا ويُطلّقون كثيرا لمحض التنقّل في اللذّة والإغراق في الشّهوة معتبرا أنّ هذا الصّنف من الرّجال لا يمكن أن يردعهم أحد عن المُضيّ في جشعهم الشهوانيّ، فيأخذون الشريعة مطيّة لتحصيل مآرب جنسيّة لا غير "تزوّجوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع، والرّجل وحده هو صاحب الحقّ في مراقبة نفسه ليوفي بشرط العدل بينهنّ، ومهما كانت النّتائج فإنّه لا يمكن أن تبلغ بكم إلى منع تعدّد الزّوجات. ومتى سئم أحدكم واحدة أو أكثر من نسائه الأربع استبدلها بمن يستطيب من دون أدنى حرج لأنّ الدّين يُسر لا عُسر".[30]

الطّلاق:

لقد جرت حركة التّاريخ في مسألة الطّلاق في الفقه الإسلاميّ مجرى أصوليّا صرفا ليس يوعز إلّا على إناطة فعل الطّلاق وما يتّصل به من نواميس شرعيّة كالصّداق والنّفقة والحضانة بالرّجل حصرا، بما يُؤكّد سريان المادّة الفقهيّة في المدوّنة الإسلاميّة خاما لا تحتمل التّمحيص، يذكر ذلك عبد الرّحمان الجزيري (1882 - 1941) في "الفقه على المذاهب الأربعة": "قد عرفتُ أنّ الرّجل هو الّذي يملك الطّلاق دون المرأة لأنّ الشّريعة قد كلّفت الرّجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزّوجيّة وكلّفته أيضا أن يبذل لها صداقا قد يكون بعضها مؤجّلا إلى الطّلاق وأن يدفع لها أُجرة حضانة ورضاع إن كان له منها أولاد في سنّ الحضانة والرّضاع. وهذا كلّه يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق. فمن العدل أن يكون الطّلاق بيد الرّجل لا بيد المرأة".[31]

و مازال الفكر الإسلاميّ في هذا الصّدد، محصورا بين أركان هذه القراءة الأصوليّة حتّى انبثقت حملات تجديد حائرة تجاه هذا الديالكتيك الفقهيّ ومحاولة الإعراض عن تعاظمه، منهم الحدّاد الّذي بدوره تعمّد تعرية جوهر الطّرح الأصوليّ والكشف عن أعمدة العيوب المجحفة في حقّ المرأة وذلك بتجريد طالب اللذّة من المُسوّغات الشّرعيّة التاريخيّة الرّائجة. ولعلّ ما يزيد من يقينيّة الحدّاد حنقه المُتجلّي في لهجته الأدبيّة التهكّميّة، ومن الطّبيعيّ هنا أن نُترجم عن قوله كأن نلحظ اهتراء المادّة الفقهيّة بفعل طفرة القراءة الأحاديّة البطريركيّة لمسألة الطّلاق والحاجة الماسّة إلى الإضفاء الاجتهاديّ، يقول: "أمّا الطّلاق، فإنّه ميسور لكم ودائما في انتظار كلمتكم فلا يلزم وجود سبب لذلك ولا الإدلاء به أمام محكمة. وَهَبْهُ كان لمجرّد حبّ التّنويع في اللذّة أو لفظا صدر في حال سكر أو غضب، وهب أنّ الزّواج قد مرّ عليه عشرون أو خمسون سنة وفيه من الذريّة ما يقبح معهم إبرام الطّلاق، وهب أنّ هذا الطّلاق المُتأخّر كان لزواج جديد بعذراء دون العشرين وهو لا يقدر أن يُوفّيها حاجتها في الزّواج سوى بقيّة أيّام من عمره يتمّها عابثا بكبر سنّه وحقّ ذريّته وحقّ زوجه الّتي فارق والّتي أدخلها عروسا. وحتّى إذا ٱعْتُبر هذا العمل غير لائق فلا أحد يجسر على طلب سنّ قانون لمنعه لأنّه يكون بدون شكّ شيطانا رجيما يحاول نسخ الشّريعة وتغيير الواقع".[32]

و قد تزكّى رأي مُفكّرنا بتتويج طرحه من خلال مجلّة الأحوال الشخصيّة في 13 أوت 1956، والّتي أخضعت الطّلاق لرقابة القضاء عبر منطوق الفصل 30 من هذه المجلّة، حيث "لا يقع الطّلاق إلّا لدى المحكمة[33]" كما منحت للزّوجة المُتضرّرة حقّ الطّلاق؛ وذلك في صورة الطّلاق للضّرر، وأيضا منحتها حقّ الطّلاق في صورة التّراضي بين الزّوجين، كذلك حقّ الزّوجة في المطالبة بالطّلاق في صورة الطّلاق إنشاءً، كما منحت للمرأة المُتضرّرة من العلاقة الزّوجيّة وحكم لها من طرف المحكمة بتعويض عن الضّرر الماديّ والمعنويّ النّاجم هذا الطّلاق، وأيضا يُحكم بالتّعويض عن الضّرر المادّي والمعنويّ في صورة الطّلاق إنشاءً. وهذا التّعويض حقّ للمرأة كما وضّحه الفصل 31 من مجلّة الأحوال الشخصيّة، ويتمثّل هذا التّعويض عن الضّرر المادّي بجراية تُدفع لها بعد انقضاء العدّة مُشاهرة وبالحلول على قدر ما اعتادته من العيش في ظلّ الحياة الزّوجيّة.[34]

الميراث:

تُعدّ مسألة المُساواة في الميراث من المسائل الشّائكة في الفكر الإسلاميّ الحديث، ووُسمت بالشّائكة "لأنّ مجرّد الاقتراب منها خاصّة في فترة التّراجع الّتي تعيشها المنطقة العربيّة عن مشروع العدل الاجتماعيّ يُثير كثيرا من الزّوابع ويعرض المجتهد لسيل من الاتّهامات والتّجريح والتّكفير"[35]. وهذا ما حدث بالضبط مع الحدّاد جرّاء مواقفه من الهيمنة الذّكوريّة المُتفشّية في المجتمع التّونسيّ الحديث، وفهمه الخاصّ لمبدأ المساواة بين الجنسين في الميراث.

يرى الحدّاد أنّ الأصوليّين لم يروْا في توريث البنت على النّصف من أخيها أمرًا يتطلّب الاجتهاد أو إعادة النّظر في مختلف أحكام الميراث الّتي جاءت بها الشّريعة واعتبروا أنّ الآية الحادية عشرة من سورة النّساء "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْن"[36]، هي منتهى العدل وأمّ المقاصد. وتبريرهم في ذلك أنّ هذا التّفاوت الّذي نصّت عليه الآية، كان نتيجة لتوزيع الأعباء والواجبات وفق قاعدة الغرم بالغنم. فلمّا كُلّف الرّجل بالإنفاق على الأنثى لم تُكلّف هي بشيء من ذلك الإنفاق، وبالتّالي فإنّ قواعد المساواة تقتضي في نظرهم أن يكون نصيب الذّكر أكثر من الأنثى[37]. وهذه المقاربة تنطوي في رأي الحدّاد على مغالطة منطقيّة، إذ يرى أنّه إذا أردنا فهم المُساواة حقّا كما أقرّها الإسلام فالواجب في ذلك أن نأخذ بعموميّة اللّفظ لا بتخصيص السّبب. والمُساواة مفهوم واسع وغنيّ بالدّلالات كلّها توحي بأن لا فرق بين عباد الله، وأنّ القرآن الكريم ذاته قد خاطب المسلمين والمُسلمات سواء بسواء.

لقد عدّد الحدّاد الآيات القرآنيّة الّتي جعلها منطلقا حصيفا لفهم مبدأ المُساواة في الإسلام ولتجيب في نفس الوقت على سؤال مهمّ: هل من العدل أن يتساوى أفراد المجتمع إناثا وذكورا في كلّ الحقوق والواجبات، بغضّ النّظر عن الجهد والقدرات؟ يقول بأسلوبه المعتاد في التهكّم ناطقا بألسنة الجامدين: "لقد يقول هؤلاء الدسّاسون أنّهم يفهمون المُساواة بين عباد الله في الخليقة والحقوق والواجبات من هذه الآيات القرآنيّة: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ"[38]؛ "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"[39]؛ "الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ"[40]؛ "وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ"[41]؛ "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ"[42]؛ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ"[43]؛ "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"[44] ولكن تعسا لهؤلاء المُضلّلين وتبّت يدا كلّ منهم[45]". وما نفهمه من هذه المُستندات القرآنيّة الّتي استخدمها الحدّاد، أنّه أراد معالجة ظاهرة تفوّق الذّكر على الأنثى في الميراث من داخل الدّائرة الإسلاميّة ذاتها، دون أن يُخرج الآية 11 من سورة النّساء من معقوليّتها الثّقافيّة وذلك إيمانا منه بأنّ ما أُجمل في مكان ما في القرآن فإنّه قد بُسط في موضع آخر.

إنّ العقليّة الذكوريّة في تونس وباقي المجتمعات العربيّة الأخرى، لم تلتزم حتّى بالفرض المُقدّر للمرأة كما جاء في القرآن، وهو نصيب "تدرّج به الإسلام حتّى لا يبلغ الكمال بالمرأة بسرعة خطرة[46]". فحبسوا التّركة على الذّكور من عصبة الهالك بدعوى عدم ذهاب تركته إلى أسرة أخرى وبسبب الخوف على ضياع العقّارات والممتلكات، وهذه عادة ضاربة بجذورها في تاريخ الأديان والثّقافات[47]. فلا غرابة إذا أن تكون هذه العادة سارية في المجتمعات الأبويّة الحديثة، لأنّها تشكّلت في الأذهان عبر القرون قاعدة ثابتة يصعب امّحاؤها هُدرت معها حقوق المرأة، يقول الحدّاد ساخرا: "لقد قالوا إنّ للمرأة في شرعة الإسلام نصيبا مفروضا في الميراث، وما دروا كيف يمكنكم من التخلّص من هذا النّصيب المفروض بتحبيس التّركة على الذّكور. وهذه عادة سائغة منتشرة في البلاد، ولا حرج فيها من جانب الشّريعة ما دامت تقوم لنا برهانا لتقدّم الرّجل على المرأة. أفبعد هذا يُقال إنّ المرأة يمكن اعتبارها يوما إنسانا يساوي الرّجل في الحقوق كما على كلّ منهما واجب؟"[48].

 

قائمة المصادر والمراجع[49]

النصّ التّأسيسي:

-          القرآن الكريم.

المُدوّنة:

-     الحدّاد، الطّاهر، الجمود والتّجديد في قوّتهما، تحقيق عبد المجيد الشّرفي، ط1، قرطاج، المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، 2018

المصادر:

-          الجرجاني، التّعريفات، تحقيق محمّد صديق المنشاوي، ط1، القاهرة، دار الفضيلة، د.ت.

-          الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج4، ط2، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2003

-          ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال، تحقيق محمّد عمارة، ط3، القاهرة، دار المعارف، د.ت.

-          شريعة حمورابي، ترجمة محمود الأمين، ط1، لندن، شركة دار الورّاق للنشر المحدودة، 2007

-          بن شمعون، مسعود حاي، الأحكام الشرعيّة في الأحوال الشخصيّة للإسرائيليّين، ط1، مصر، مطبعة كوهين وروزنتال، 1912، ص24

-          ابن عاشور، التّحرير والتنوير، ج4، تونس، الدّار التونسيّة للنشر، 1884

-          الغزالي، المستصفى في علم الأصول، تحقيق حمزة بن محمّد ظاهر، ج3، ط1، المدينة المنوّرة، كليّة الشريعة، د.ت.

-          مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة.

المراجع العربيّة والأجنبيّة:

-          بوزغيبة، محمّد، نازلة المُساواة في الميراث في تونس، ط1، تونس، مجمع الأطرش للكتاب المُختصّ، 2016

-          حاج حمد، محمّد أبو القاسم، منهجيّة القرآن المعرفيّة: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ط1، بيروت، دار الهادي، 2003، ص31

-          حامدي، امبارك، من إشكاليات العقل والعقلانيّة في الفكر العربيّ المعاصر، ط1، تونس، الدّار التونسيّة للكتاب، 2015

-          الحدّاد، الطّاهر، امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، تقديم محمّد الحدّاد، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2010

-          أبو زيد، نصر حامد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، ط3، الدّار البيضاء، المركز الثّقافي العربيّ، 2004

-     عوض، علي محمّد، وعبد الموجود، عادل أحمد، تاريخ التّشريع الإسلاميّ: دراسات في التّشريع وتطوّره ورجاله، ج1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2000

-          Derrida, Jacques, l'écriture et la différence, ed, Seuil, 1967

-          Ricoeur, Paul, le conflit des interprétations: essais d'herméneutique, ed, Seuil, Paris, 1969

المقالات:

-          دراويل، جمال الدّين، التقدّم وأسسه في فكر الطّاهر الحدّاد، مقال، ضمن مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، العدد 176، تونس، 2006

-     المسكيني، فتحي، محنة ابن رشد، مقال، ضمن صحيفة الاتّحاد الإماراتيّة، 4 أكتوبر 2018، يُنظر في الرّابط التّالي: https://www.alittihad.ae/article/67001/2018/

[1] جمال الدّين، دراويل، التقدّم وأسسه في فكر الطّاهر الحدّاد، مقال، ضمن مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، العدد 176، تونس، 2006، ص ص ص 21ـ22

[2] يُنظر في مقدّمة كتاب »الجمود والتّجديد في قوّتهما«، ص ص5-6

[3] الطّاهر، الحدّاد، الجمود والتّجديد في قوّتهما، تحقيق عبد المجيد الشّرفي، ط1، قرطاج، المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، 2018، ص16

[4] الحدّاد، المصدر نفسه، ص26

[5] الرّعد، الآية 11

[6] الأنفال، الآية 53

[7] الحدّاد، المصدر نفسه، ص ص27-28

[8] يُنظر في: امبارك، حامدي، من إشكاليات العقل والعقلانيّة في الفكر العربيّ المعاصر، ط1، تونس، الدّار التونسيّة للكتاب، 2015، ص23

[9] البقرة، الآية30

[10] الحدّاد، المصدر نفسه، ص20

[11] أبو الوليد، بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال، تحقيق محمّد عمارة، ط3، القاهرة، دار المعارف، د.ت، ص32

راجع كذلك ما يقوله الغزالي في تعريف التّأويل من أنّه "عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظنّ من المعنى الّذي يدلّ عليه الظّاهر ويُشبه أن يكون كلّ دليل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز". (يُنظر في: أبو حامد، الغزالي، المستصفى في علم الأصول، تحقيق حمزة بن محمّد ظاهر، ج3، ط1، المدينة المنوّرة، كليّة الشريعة، د.ت، ص88)

[12] الرّوم، الآية19

[13] محمّد السيّد الشريف، الجرجاني، التّعريفات، تحقيق محمّد صديق المنشاوي، ط1، القاهرة، دار الفضيلة، د.ت، ص46

[14] Paul, Ricoeur, le conflit des interprétations: essais d'herméneutique, éd, Seuil, Paris, 1969, p16

[15] Jacques, Derrida, l'écriture et la différence, éd, Seuil, 1967, PP55-64

[16] الحدّاد، المصدر نفسه، ص21

[17] الحدّاد، المصدر نفسه، ص37

[18] فتحي، المسكيني، محنة ابن رشد، مقال، ضمن صحيفة الاتّحاد الإماراتيّة، 4 أكتوبر 2018، يُنظر في الرّابط التّالي: https: //www.alittihad.ae/article/67001/2018/

[19] الحدّاد، المصدر نفسهّ ص31

[20] الحدّاد، المصدر نفسه، ص20

[21] الحدّاد، المصدر نفسه، ص31

[22] الحدّاد، المصدر نفسه، ص ص 34-35

[23] الحدّاد، المصدر نفسه، ص36

[24] يُعرّف محمّد أبو القاسم حاج حمد (1941 - 2004) أسلمة المعرفة بقوله: "أسلمة المعرفة تعني فكّ الارتباط بين الإنجاز العلميّ الحضاريّ البشريّ والإحالات الفلسفيّة الوضعيّة بأشكالها المختلفة، وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجيّ ومعرفي دينيّ غير وضعيّ. فأسلمة المعرفة تعني أسلمة العلم التطبيقيّ والقواعد العلميّة أيضا وذلك بفهم التّماثل بين قوانين العلوم الطبيعيّة وقوانين الوجود المُركّبة على أساس القيم الدينيّة نفسها".

يُنظر في: محمّد أبو القاسم، حاج حمد، منهجيّة القرآن المعرفيّة: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ط1، بيروت، دار الهادي، 2003، ص31

[25] الحدّاد، المصدر نفسه، ص ص 33-34

[26] النّساء، الآية 3

[27] محمّد الطّاهر، بن عاشور، التّحرير والتنوير، ج4، تونس، الدّار التونسيّة للنشر، 1884، ص 226

[28] لم تكن هذه المسألة الوحيدة الّتي تدرّج فيها الإسلام بالجاهليّين. فالمُطّلع على أحكام القرآن يدرك مدى مرونتها في التّعامل مع الجاهليّين في مسائل متعدّدة يطول شرحها، ولنقتصر هنا فقط على "مسألة تحريم الرّبا" وموقف الإسلام منها. حيث تذكر المصادر أنّ الآيات القرآنيّة المتعلّقة بتحريم الرّبا قد نزلت تباعًا وفق أربع مراحل هي كالآتي:

مرحلة1: نزلت الآية الكريمة "وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ" (الرّوم، الآية39) وتحمل في طيّاتها معاني تُفيد أنّ الرّبا لا ثواب له عند الله.

مرحلة2: نزلت الآيتان الكريمتان "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النّساء، الآيتان 160-161) وفيهما تحريم بالتّلويح لا بالتّصريح حيث قصّتا علينا سيرة اليهود الّذين جرّم الله عليهم طيّبات أُحلّت لهم.

مرحلة3: نزلت الآية الكريمة "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰافًا مُّضَٰاعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران، الآية130) وفيها نهي صريح عن الرّبا الفاحش الّذي يتضاعف أضعافا مضاعفة.

مرحلة4: أخيرا نزلت الآية الكريمة "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ ...." (البقرة، الآية275) وفيها تحريم للرّبا تحريما قاطعا وكُليّا وذلك بعد أن انتصر الإسلام وقويت شوكته.

يُنظر في: علي محمّد، عوض وعادل أحمد، عبد الموجود، تاريخ التّشريع الإسلاميّ: دراسات في التّشريع وتطوّره ورجاله، ج1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2000، ص104

[29] الطّاهر، الحدّاد، امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، تقديم محمّد الحدّاد، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2010، ص62

[30] الحدّاد، الجمود والتّجديد في قوّتهما، ص11

[31] عبد الرّحمانّ، الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج4، ط2، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2003، ص327

[32] الحدّاد، المصدر نفسه، ص12

[33] انظر الفصل 30 من مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة:

[34] الفصل 31 من مجلّة الأحوال الشخصيّة المُنقّح بالقانون عدد 07 لسنة 1981 المُؤرّخ في 18 فيفري 1981

[35] نصر حامد، أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، ط3، الدّار البيضاء، المركز الثّقافي العربيّ، 2004، ص300

[36] النّساء، الآية11

[37] محمّد، بوزغيبة، نازلة المُساواة في الميراث في تونس، ط1، تونس، مجمع الأطرش للكتاب المُختصّ، 2016، ص41

[38] الانفطار، الآية6، 7، 8

[39] التّين، الآية4

[40] طه، الآية50

[41] فُصّلت، الآية46

[42] البقرة، الآية228

[43] الحُجرات، الآية13

[44] النّجم، الآية39

[45] الحدّاد، المصدر نفسه، ص ص14-15

[46] الحدّاد، امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، ص15

[47] اتّخذت شريعة حمورابي (ت 1750 ق.م) موقفا من توريث البنت فأخرجتها من عداد الورثة وفي نفس الوقت حاول المُشرّع إيجاد الصيغة القانونيّة الملائمة لضمان حقّها في الانتفاع الّذي هو عبارة عن هديّة يُصطلح عليها "بالشّيرقتيوم" تتلقّاها من والدها تعجيلا لحصّتها في الميراث عند زواجها. وهذا الإقرار نجد مرجعيّته المُفترضة في المادّتين 183 و184: "إذا قدّم الأب إلى ابنته الّتي هي زوجة جهازا وكتب لها عندما أعطاها إلى زوج رقيما مختوما، فبعد أن يموت الأب لا يحقّ لها أن تتقاسم ثروة بيت الأب... وإذا لم يُقدّم لها جهازا ولم يُعطها إلى زوج فبعد أن يذهب إلى أجله فيجب على إخوتها أن يُقدّموا لها جهازا يتناسب مع ثمن حصّة أبيها". أمّا في اليهوديّة فقد حدّدت شريعتهم نصيبا للبنات من ميراث أبيهنّ في حال وجود الذّكر الوارث، غير أنّ هذا النّصيب لا يُعتبر ذمّة ماليّة مُستقلّة يتصرّفن فيه كيفما شئن إمّا بالبيع أو التملّك أو الإيجار وغير ذلك، بل هو عبارة عن قيمة ماليّة قدّرت بعشر مال المُتوفّى تُقسّم عليهنّ عند الزّواج أو تُستخرج لهنّ إذا لم يبلغن سنّه يقول ابن شمعون في الأحكام الشرعيّة: "على الأخوة إعالة البنات حتّى يبلغن أو يتزوّجن ولهنّ في الميراث قدر العشر يتّفق عليهنّ حتّى يبلغن أو يُدفع لهنّ عند الزّواج".

راجع في هذا الصّدد: * شريعة حمورابي، ترجمة محمود الأمين، ط1، لندن، شركة دار الورّاق للنشر المحدودة، 2007، ص54

* مسعود حاي، بن شمعون، الأحكام الشرعيّة في الأحوال الشخصيّة للإسرائيليّين، ط1، مصر، مطبعة كوهين وروزنتال، 1912، ص24

[48] الحدّاد، الجمود والتّجديد في قوّتهما، ص13

[49] رتّبنا المصادر والمراجع ألفبائيّا دون اعتبار "ابن" و"الــ" و"أبو"