ماذا لو نزل الإسلام في اليونان أو الرومان؟


فئة :  مقالات

ماذا لو نزل الإسلام في اليونان أو الرومان؟

في سياق تمييزه بين الجوهري والعرَضيّ في الدين بعد سجال النبي الكريم مع عصره (جدلية الوحي والوعي) يتساءل المفكر الإيراني عبدالكريم سروش عمّا إذا كانت إعدادات الرسالة «كاللغة العربية وثقافتها ووعي الناس آنذاك ونوعية معارفهم والنمط الاقتصادي وأساليب حياتهم ومألوفاتهم والخزين اللغوي والمفاهيمي الشائع بينهم...»؛ قد شكّلت «أعراض» الدين دون أنْ تُشكّل «جوهره» ومحتواه؟ ويميل سروش إلى أنّ هذه الإعدادات هي إعدادات متغيّرة من ثقافة إلى أخرى، وليست من ذاتيات الدين، على الرغم من أنها أضافتْ على جسد العقيدة والفكر، وخلعتْ عليهما نواقصها وكمالاتها.

ويذهب سروش إلى حدّ القول إنه «لا جدال في أنّ الإسلام لو نزل في اليونان أو الهند أو بلاد الروم بدل الحجاز لكانتْ عرَضيات الإسلام اليوناني والهندي، المتغلغلة إلى أعماق طبقات النواة المركزية، تختلف اختلافــــاً كبيــراً عن الإسلام العــــربيّ، ولوفّرتْ الفلسفــــة اليونانية المتينة على سبيل المثال، أدوات لغوية ومنهاجية مفرداتية خاصة لنبيّ الإسلام تغيّر معالم خطابه. كما أنّ الإسلام الإيراني والهندي والعربيّ والإندونيسي (والتركيّ) اليوم، بعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطاً من الإسلام يختلف بعضها عن بعض، في شكل يمتد إلى أعماق الوعي والثقافة الدينية».

وهذا الفهم يفيد عند قراءة تلك الأعراض عبر اكتشاف مدى قدرتها على الخروج من دلالاتها الضيقة إلى محيط عالميّ، ومن ظرفها التاريخي إلى رحابة المستقبل، بما يؤكد فكرة التنوع والتعدد.

ويشير القاضي المصري عبدالجواد ياسين إلى أنّ العقل الفقهي السلفيّ تغلغل فيه المنطق اللغوي إلى أبعد مدى، فنظر إلى «النص» من منظور كونه بالدرجة الأولى «بناء» من الألفاظ ينبغي «بيانها»، ما أفضى في النهاية إلى الإحساس بمحدودية النص حيال الزمن، عبر ثبات اللغة التي كانت أول العلوم والمعارف تأصيلاً وتقعيداً وحصراً معجمياً، وكان الاكتفاء بعرْض أيّ لفظ على لغة الأعراب فقط لإعطائه المشروعية والصحة، مرادفاً لجمود اللغة مع الوقت عن ملاحقة التطور وقصورها عن مواجهة الواقع المتغيّر في الزمان. ولمّا كان هذا الواقع المتغيّر جزءاً من كينونة «النص» ذاتها، كان لا بد من أنْ تقف اللغة ذات لحظة وقد قصُرتْ عن مواجهة «النص».[1]

وبعد أنْ يؤكد ياسين أنّ «المزاج» العقلي العربيّ، كان مزاجاً لغوياً بطبيعته، يدلّ على ذلك أنّ العرب حين أنشأوا العلوم بدأوا بعلوم اللغة، ولم ينظّروا لـ «أحكام النص»، وإنما بدأوا بالتنظير لـ «بنيان النص» في ألفاظه وتراكيبه... بعد هذا يتساءل ياسين: «لو استعرنا بدلاً من العقل العربي ذي المزاج اللغوي مثيله اليوناني بنزعته «التجريدية» أو مثيله الروماني بطابعه «الحقوقي»، وافترضنا أياً منهما في مواجهة نص كالقرآن، فهل كنّا سنجد أنفسنا حيال الكيفية نفسها في التعامل، وفي الأولويات نفسها في الترتيب؟

وهل كان العقل اليوناني يؤخّر النظر في هذا النص بحثاً عن المبادئ العقلية والقيم الكلية والنظرية المعرفية؟

وهل كان سيعطي لبنيان النص، إذا أعطى ـ بمثل هذا السخاء العربي، الذي استنفد معظم الطاقة الحيوية في العقل العربي؟

ثم هل كان العقل الروماني، يتأخر قرناً أو قرنين، قبل أنْ يستخرج من هذا النص منظومة «قانونية» لأحكام الفروع، ونظرية «دستورية» في الحكم ونظام الدولة، مثلما تأخر العقل العربي الذي لم يبدأ في «التنظير» للخلافة إلا قرب منتصف القرن الهجري الثاني (مع اشتداد الخلافات السياسية بين السنة والشيعة) ولم يفرغ من هذا «التنظير إلا مع الأشعري عند نهايات القرن الثالث؟».[2]

وتقعيد اللغة وتبويبها معجمياً أبقاها قاصرة عن مرونة النص القرآني ورحابته ورحابة اللغة الشائعة بين الناس، وهذا ترك أثراً واضحاً في العقل الفقهي، فكان «القياس» و «الإجماع» تضييقاً لدائرة «المباح»، أي افتئاتاً على «الحرية الإنسانية». وقد تمّ على يد الإمام الشافعي، المنظّر الأول للعقل الأصولي الفقهي المسلم، تحويل الفقه إلى دين وشرع يحكم الحياة اليومية للإنسان بكل تفاصيلها. وقد رأى محمد شحرور أنّ الشافعي اختزل الإسلام في شكل خطير ومخِلّ عبر «اختزالات» متعددة، فاختزل التاريخ بالسنوات الأولى العشر للرسول في المدينة المنورة، واختزل الجغرافيا، حيث إنّ كل ما حدث في المدينة المنورة خلال هذه السنوات، يجب أنْ يُفرض على العالم كله. واختزل مشاكل العالم، حيث إن كل ما سيحدث في العالم لاحقاً قد حدث مثله في المدينة المنورة، ومن هنا جاء القياس. وأخيراً تم اختزال البشرية في بضعة آلاف من الصحابة الكرام والمسلمين الذين عاشوا مع الرسول عليه السلام أو بعده في المدينة المنورة.

ولقد فتــح علم اللسانيات الحديثة والعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة وعلم الأديـــان المقـــارن آفاقـــاً واسعة لمقاربة النص الديني مقاربة أكثر عمقاً وشمولية ودقة. ويردّ الباحث المصري نصر حامد أبو زيد[3] على من يقول إن المعاني التي طرحها السلف هي الصائبة؛ لأنهم كانوا أقدر على الفهم من الأجيال التالية، ولأنهم أكثر تقوى ممن جاء بعدهم بقوله: «إن ادعاء أن السلف كانـوا أكثر فهماً ادعاء يفترض أن المعرفة لا تتقدم، وهو إضافة إلى ذلك يتجاهل حقيقة أن فكر السلف متاح لنا، إضافة إلى أن ما يمنحنا إياه الزمن من تراكم معرفيّ لم يكن متاحاً للسلف، ويظل سؤال «التقوى» مطلباً علمياً ومعرفياً أخلاقياً ومن الصعب اختصاره في المعنى الكلاسيكي».

هذا الجهد الفكري في التمييز بين «الجوهري» و«العرضي» في الدين (الإسلام) ومقاربة العلاقة بين الثابت والمتغير، و«النص الخالص» والزمن المتغيّر، والسعي لفهم الدين كعامل تقدم لا يصادم العصر والحريات، تتسع في المحيط العربي حالياً، لتشكّل مدرسة تتمايز كثيراً عن المدرسة التقليدية، لكن مدرسة الجوهري والعرضي والتأويل العقلاني لم تصل في الانتشار والحضـــور إلى درجة التفــــوق علــــى الفهم السلفي، الذي يجد منابع قوته في المناهج الدراسية وخطبة الجمعة ومنابر المساجد ومعظم وسائل الإعلام الرسمية خاصة، وكل هذا محرومة منه المدرسة التي يمثلها عبدالكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومحمد أبو القاسم حاج حمد ومحمد أركون وعبدالجواد ياسين ومحمد شحرور وخليل عبدالكريم ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، ممن يحاولون تخليص «النص» مما ليس منه، ومن الروافد والمصادر غير النصيّة التي اكتسبت عبر قوّة الموروث والتاريخ صفة «النص» أو «المرجعية»، وهي ليست في الأساس سوى وجهة نظر في النص لا تكتسب أية قدسية، ولو كانت راجحة الصلاح، لما ضيّقتْ رحابة «النص» وإمكاناته، وجعلتنا نطلب الفتوى في كل شيء، وكأن الحياة بحاجة إلى فتوى لكي تُعاش؟!


[1] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، ص 48

[2] المصدر السابق.

[3] نصر حامد أبو زيد، الفزع من التأويل العصري للإسلام، مجلة الديمقراطية، القاهرة،

http://democracy.ahram.org.eg/UI/Front/InnerPrint.aspx?NewsID=233