مَلكة جَمال المحجبات: شكل مختلف للدخول في الحداثة أم احتجاج عليها؟


فئة :  مقالات

مَلكة جَمال المحجبات: شكل مختلف للدخول في الحداثة أم احتجاج عليها؟

قبل أيام فازت الطالبة النيجيرية أوبابييي عائشة أجيبولا، البالغة من العمر 21 سنة، بلقب "ملكة جمال المسلمات"، وهي مسابقة تقام للمرة الأولى.

وإذ يبدو هذا الخبر خبرا ترفيهيا ومسليا يجد مكانه في الصفحة الأخيرة من الصحف، أو في أبواب الفن والترفيه والتسلية والمنوعات، فإنه في الحقيقة ينطوي على الكثير من الدلالات والمعاني التي تفتح بابا واسعا للنقاش والجدل الفكري الجادّ.

وعلى حين يتراءى في الانطباع الأوليّ أن مسابقة "ملكة جمال المسلمات" ردّ مضادّ على مسابقة "ملكة جمال العالم"، فإن مشابهة الفكرة والخضوع لمنطقها يعيد من جديد إنتاج الديني وحداثته، ويقيم بالتالي علاقة عضوية ما بين الديني والعلماني، ويؤسس في المحصلة إلى أن قراءة الدين والتدين من الصعب فصلها عن قراءة العلمانية والعلمنة، وأن أنماط التدين لا تتحدد بمعزل عن أنماط العلمانية وصيرورات العلمنة والحداثة.

وقد نقلت لنا "وكالة الصحافة الفرنسية" أن الطالبة النيجيرية الحائزة على اللقب، والتي فازت برحلة إلى مدينة مكة "قد اجشهت بالبكاء، شأنها في ذلك شأن كل الفائزات بمسابقات الجمال في العالم، عند إعلان فوزها من قبل لجنة التحكيم".

في كتابه "الجهل المقدّس: زمنُ دينٍ بلا ثقافة" أقام الباحث الفرنسي أوليفييه روا مقاربته على القول إنّ ثمة رابطة وثيقة بين العلمنة والانتعاش الديني، ورأى بأن الأخير قد يكون احتجاجا على حداثة مستلبة أو وهمية أو كشكل مختلف للدخول في الحداثة، وهو ما يبيح القول إن العلمنة تصنع الديني أيضا.

مسابقة ملكات الجمال في أساسها احتفاء بالجمال: مكشوفا كان أم مستورا، هي احتفاء بالشخصي والفردي والمستقلّ، احتفاء بالأنا وزهوها بتميزها عن الآخر وخصوصيتها المادية والمعنوية في الآن ذاته. لعل هذا يحرّض على التساؤل: ألا يتم هنا استدخال الديني في "لبرلة" غير خافية؟ ألا يكمن في تضاعيف مسابقة المحجبات اعتداد بالجسد أكثر من الاعتداد بالحجاب في الحقيقة؟ أليس ذلك ما يجعلها حدثا واستثناء؟ وهل الثقافة الدينية الرائجة قابلة لإعطاء المرأة وجسدها حيّزا ليكون ميدان تسابق وتنافس حتى لو كان هذا الجسد محجبا، وكانت مكافأة فوزه بمعايير الجمال رحلة إلى مكة المكرّمة؟

الخبر الصحفي حول المسابقة قال لنا: إن المتسابقات تمّ اختيارهن ضمن معايير التقوى والقناعة بلبس الحجاب والالتزام ببرنامج ديني يبدأ صباحا بتلاوة القرآن والصلاة والرياضة، لكنّ الصور التي نقلتها لنا شاشات التلفزة والمواقع الإلكترونية، كشفت لنا عن كواليس خبيرات التجميل والمكياج، وهنّ يزيّن ويهندمن العارضات المحجبات، وهي صور ولقطات يحضر فيها الاكتراث بالجسد والتبرّج والزينة، وكأنه اعتراف بأن هذا من لزوميات الجمال وأساسيات مسابقات الجمال، وكأنه امتثال من نوع ما لصورتها المتراكمة وتفاصيلها المعروفة.

مسابقة جمال المحجبات ربما تعني الاستجابة إلى سطوة الموضة بما هي تنميط، وهي في المحصلة الأخيرة استجابة لمنطق "العولمة" القائم على التهجين وتعزيز المشترك والتخفيف من الاختلافات والتنوعات، بالرغم من أن هذه المسابقة في ظاهرها تتقدم على أنها "مختلفة" وأن الحجاب ليس عائقا، وهذا المنطق الظاهري يقول في أعماقه إن الحجاب هنا يطرح نفسه على أنه منسجم مع "العولمة" وأسلوبها وأشكال تعبيرها، وأنْ تكون ملكة الجمال محجبة ومسلمة لا ينفي المنطق المعولم، مثلما لا ينفي منطق الاستهلاك المعولم الكامن في "الموبيل" مثلا، في حال وضعنا الأدعية الدينية والأناشيد وآي القرآن أو الآدان بديلا مفتاحيا للموبيل عن رنات الموسيقى والنغمات والأغاني وسوى ذلك. ولنا أنْ نتساءل أيضا: أليست الفردية الأنثوية حاضرة بكل قوتها في هذه المسابقة المحجبة؟ أين توارى مبدأ مداراة الفتنة الأنثوية فيما تستهدف المسابقة تظهيرها والتدقيق في انطباقها مع المعايير، وهو تدقيق وسيلته النظر، بل إمعان النظر وكثرته لا قلته أو غضه؟

وإذا استعرنا لغة أوليفييه روا هل يجوز لنا القول إن مسابقة المحجبات قد تكون شكلا مختلفا للدخول في الحداثة، وتأثرا بمنطقها المعلمن أساسا؟ أم أنها، في الوجهة الأخرى، استكمال لوعي ديني مأزوم ومرتبك يميل لصناعة نمط من التدين غير مثقف بسبب تمكّن نوازع الضدية تجاه الغرب فيه، حيث هذا الغرب هنا هو صاحب فكرة ملكة جمال البكيني واللباس السافر؟

لا شك في أن في المسابقة خروجا على فكر ديني سائد، يعزّز باستمرار الروادع الذاتية ويكاد يصادر الفردي والشخصي، أو يبقيهما، في أحسن الأحوال، في دائرة الظل والمواربة والتنحي. والواقع أن في المسابقة إعلانا وإشهارا، وهُما، على ما نعرف ونفهم، معاكسان لفكرة ومضمون الحجاب القائم في الأساس والاسم والمعنى على الحجب والتواري، ولعل هذا ما دفعنا إلى الكلام عن وعي ديني مأزوم ومرتبك ومشوش ومتردد أمام خيارات الحداثة والعصر، ويحاول التعويض عن عدم اتساقه الذاتي أمامهما بالاتجاه إلى وعي ضدي أو تشدد ديني يُعنى بالشكل، وينهض على تشييء الإيمان، الأمر الذي يجعل الإيمان غير متصالح مع المعرفة، والتدين خاليا من الثقافة، وهي أصولية تنداح في خطّ العولمة وموجتها، وتستعين بتقنياتها وأدواتها في التوسع والانتشار والترويج لذاتها، وتكثير مناصريها الطامحين لمواجهة حداثة ٍ ليست من صنعهم وعالمٍ غريبٍ عليهم، لكنه يبقى يستهويهم ويجذبهم، وهذا مصدر الأزمة في وعيهم؛ أيْ مصدر تشددهم، حيث التشدد الديني والأخلاقي يعلن عن هويته ويستعير اتساقه المزعوم أو الموهوم بالسعيّ اللحوح للخروج على قوة إغراء الحداثة والعولمة واجتذاب الدين لساحتهما، ومنعه أكثر فأكثر من تفسير العديد من الظواهر التي كانت حكرا عليه وخاضعة لتفسيراته وتأويلاته ورواياته.

لا أدري إذا كان صحيحا أن التدين الشكلاني غير المعتصم بالمعرفة والثقافة، والإيمان العميق في الحقيقة، معنيّ ومهجوس أكثر من غيره من أنماط التدين الأخرى الأكثر نضجا وعمقا بمسألة إسباغ الأسانيد الدينية على الدنيوي والزمني اللذين يفقدانها مع تقلّص الحقول التي يحتكرها الدين. ولا أدري كذلك إنْ كان التدين الشكلاني هو تبرّم من ثقافة دنيوية استهلاكية تنميطية، تسود المجتمعات العربية والمسلمة، وتفتقر إلى العمق والإقناع، وإلا كيف نفسّر انتعاش هذا التدين الشكلاني مع ضمور الرواية والشعر والسينما والمسرح والفنون التشكيلية في المجتمعات العربية والمسلمة؟ هل ذلك سبب ونتيجة في الوقت نفسه؟. إنها فنون وآداب تخاطب العقل وتعِدُ بالمعنى والجدوى وتأكيد الفاعلية الدنيوية، وإذا ما اضمحلت وتقهقرت وانحطت تلك الفنون والآداب، فإن من الطبيعي أن يتقدم التدين الشكلاني ليسدّ الفراغ: فراغ المعنى والاعتصام بفاعلية دينية مبتورة عن سياقها الإنساني والأخلاقي والحضاري والالتجاء إلى التوسّل باتّساق ما، حتى لو كان هشّا وموهوما وواجما .

في عصر الهويات، ربما يمكن إدراج مسابقة جمال المحجبات في إطار محاولات التعاطي مع الدين بوصفه "هوية اجتماعية" تتحقق وظيفتها عبر ما تتوافر عليه من آليات الدفاع والتكيّف. لكنّ هذا غير قادر على معالجة ما ينتجه التدين الشكلاني من تأزم وارتباك وتناقض، منبعه الانخراط المادي مع عالم يعترف هذا الشكل من التدين بأنه "قرية صغيرة" لكنه (أي التدين الشكلاني) لا يلبث أنْ يتذكر وجوب الاحتماء من فتنة هذا العالم وإغراءاته، فتراه يعزل نفسه معنويا عن العصر وشروطه، فيقع في الازدواجية ويفتقد الاتساق الذاتي الذي هو شرط شارط لأي قيمة أو سلوك لكي يكون عاما ومنضبطا وجاذبا للمحاكاة، وهي صفات لازمة أيضا لكوننة القيم والسلوكيات وأنسنتها.

وإذْ يحلو للبعض النظر إلى مسابقة ملكة جمال المحجبات على أنها لحظة تعبير عن العودة إلى الذات، فإن ما يغيب هنا هو أن الذات في حقيقتها ومحصلتها النهائية ذاتيات متكاثرة ومتنوعة، والهوية تعبير عن وعي يُكسى بالأسانيد الدينية، ويُحاط بالشعائر والطقوس والرمزيات التي يحتاجها لكي تضفي عليه الصدقية والمشروعية، وهذا الوعي لا يتشكّل إلا وفق نظرة هذه الذات/ الذاتيات إلى العالم والمحيط والعصر، وتلك النظرة المشتقة من الثقافة هي ما يصنع الوعي الديني بأنماطه المختلفة، وكلما كانت الثقافة هوياتية كان الوعي الذي تصنعه مأزوما، لأن فكر الهوية عماده النظرة إلى العالم والعصر بارتياب وتوجس وقلق وعدم رضا، وتشدده ينبع من عدم اتساقه واضطرابه تجاه واقع لا يصنعه، ولا يملك تكفيرا تجاهه وتجاه الانخراط في عالم غير وفيّ، برأيه، للهوية التي يتنبناها، سوى الإمعان في طهورية تعزز الانفصال عن الواقع والعصر؛ للتوهم بأن التقوى والإيمان في هذا الواقع نادر وقليل، وعليه يكون الانفصال حماية للذات التي تضطر في الوقت ذاته إلى الانخراط المادي في ذاك الواقع، الأمر الذي يحوّل الانفصال المعنوي انفصاماً، يسعى لابتكار الحجج واعتساف التسويغات والتأويلات التي تُسعف في استجلاب الاتساق إليه، ومن ذلك استدعاء فكرة الغرباء والدين الذي يعود غريبا كما بدأ، وهو وعي لا يجد له مناصاً سوى الاحتجاج، سلماً أو عنفاً، على الحداثة، حين لا تُسعفه بضاعته على الدخول فيها، أو تقديم بديلٍ أفضل منها يقدّم للإنسان حريةً أكثر ومساواةً أكثر وعدلاً أكثر وعقلانيةً وإبداعاً أكثر.