أزمة العلمانية في الهند
فئة : ترجمات
أزمة العلمانية في الهند
كتابة: ديمتري أبراموف
ترجمة: رسلان عامر
تتناول هذه المقالة([1])مشكلة تطور اتجاهات الأزمة للعلمانية الهندية، وتبحث في أسباب صعوبة الحوار بين الطوائف وتقليص المساحة العامة للتسامح، واعتمادًا على أمثلة المساعي الأخيرة لحل مشكلة كشمير واعتماد "قانون المواطنة"، يحاول المؤلف تقييم التأثير المتبادل للوعي الذاتي العلماني لدى الهنود والديناميات الدينية على العمليات السياسية، كما تقيم الورقة تأثير أيديولوجية هندوتفا([2]) على تراجع درجة العلمانية في الهند الحديثة ودور المنظمات الإثنوقومية (ethno-nationalist) الهندوسية "سانغ باريفار" في زيادة "زعفرنة"([3]) سياسة البلاد.
****
في مقال لـ أ. ف. راشكوفسكي (E.B.Rashkovsky)، تم التعبير عن فكرة أن أحد أهم الموضوعات ذات الصلة بدراسة الديناميات الدينية في العالم الحديث هو موجة التناوب بين "الطفرات الدينية" و"صعود وهبوط العلمنة"[1]، وباتصال مباشر مع فرضية الطابع الموجي، ينشأ عدد من الأسئلة الإضافية، وسوف أذكر اثنين منهم فقط، الأول يتعلق بربط أزمة العلمانية بالأزمة العامة للقيم الليبرالية في العالم، فالانبعاثات المفاجئة لمهجورات الوعي، بما في ذلك السياسية منها، والتعصب وكراهية الأجانب والعنصرية الثقافية والشوفينية الجندرية، تقابل أحيانا بأشكال غير متناسبة، وليست أقل وحشية من الرفض من قبل أتباع الأفكار الليبرالية؛ والثاني يتعلق بمدى قدرة العلمانية، بالشكل الذي تظهر به في مجتمع معين، على تحقيق الأهداف المحددة للمصالحة الاجتماعية. إن خصوصيات الثقافة السياسية وقدرتها على فهم مفاهيم أساسية مثل العلمانية والتعددية الثقافية والتقبل والتعددية والتسامح الديني لا تحدد فقط آفاق مجتمع معين على طريق التحديث الخاص به، بل تحدد أيضا مصير هذه المجتمعات ككل.
الاتجاهات العلمانية سادت في جميع أنحاء العالم حتى الربع الأخير من القرن العشرين، ومن الثورة الإسلامية في إيران (عام 1979)، التي يمكن عدّها نقطة تحول في تاريخ انتشار وتطور أفكار العلمانية السياسية في العالم، إلى اتجاهات الأسلمة في تركيا، التي تثير احتجاج من هم قلقين للغاية من خطر فقدان إرث الثورة الكمالية، العلمانية تمر بأزمة، ودول مثل باكستان (عام 1947) أو بنغلاديش (في 1971)، تبنت دساتير علمانية بعد حصولها على الاستقلال، لكنها ابتعدت تدريجياً عن مبادئ العلمانية.
في عام 1956 أعلنت باكستان نفسها جمهورية إسلامية، وفي يونيو 1988، أعلن رئيس بنغلاديش حسين إرشاد الإسلام دين الدولة من خلال اعتماد التعديل الثامن للدستور، وفي الآونة الأخيرة، كان هناك تهديد للتحولات العلمانية لعصر نهرو في الحياة السياسية في الهند، وهناك تآكل في مفهوم العلمانية، والسياسات الثقافية والتاريخية لليمين الهندوسي خلال فترة قيادة ناريندرا مودي للبلاد بعيدة كل البعد عن مبدأ التسامح.
غالبا ما تكون النزاعات التي نعتبرها دينية دنيوية تماما بطبيعتها، على الرغم من أنها لا تندلع إلا عند إلباسها ملابس دينية، وتجربة المواجهات في الشرق الأوسط هي مثال نموذجي على مثل هذا الصراع؛ وفي السياسة الداخلية الهندية، جزء مهم من الاشتباكات ما بين الجماعاتية هي مثال على هذا النوع من الصراعات، وهي ناجمة عن الأنشطة السياسية المتعمدة المزعزعة للاستقرار للمنظمات الإثنوقومية التي تسعى إلى "هَونَدة" (Hinduization) الدولة، والمواجهة التي يتكرر اشتعالها بين الهند وباكستان بشأن كشمير هي مثال سياسي خارجي على مثل هذا الصراع.
على مستوى المجموعات الصغيرة، غالبا ما يكون للاشتباكات الطائفية بين المسلمين والهندوس أبعاد اقتصادية، بما في ذلك حسد أصحاب أعمال هندوس أقل نجاحا لجيران مسلمين أكثر نجاحا، وقد أصبحت مثل هذه الصراعات أكثر تكرارا بعد النجاحات الأولى للإصلاحات الهندية التي قام بها مانموهان سينغ في التسعينيات، والتي ساهمت في زيادة انفتاح اقتصاد البلاد[2]، وبدأ المسلمون، الذين يعانون من ضائقة اقتصادية في الهند، في التفاعل بشكل أكثر نشاطًا، على سبيل المثال، مع العمالة والمبيعات وأسواق رأس المال العربية، ما أتاح لهم أفضليات كبيرة في التفاعل مع رفقائهم المؤمنين، وخلف العديد من تهديمات (pogroms) المتاجر والمحلات والمنازل المملوكة للمسلمين في أيوديا (1991) أو غوجارات (2002)، كان هنا رجال أعمال هندوس محليون ينتظرون منذ فترة طويلة ذريعة لتسوية حسابات قديمة.
والسلطات مطالبة بنزع سلاح الأطراف المتصارعة، وابتكار طرائق لضمان تعايش المجتمعات في حالة "سلام سيئ"، وممارسة سيطرتها اليقظة على الهدوء الخارجي غير المستقر، لكن مسار تهدئة المجتمعات المضطهدة من خلال أشكال مختلفة من الدعم الاجتماعي على أسس دينية أو طائفية أو أسس تقليدية أخرى، مثل "سياسة التمييز الإيجابي"[3]، بينما تساعد المحرومين، هي في نفس الوقت، تزيد من مخاطر اغترابهم وانقسامهم .
الفكرة العلمانية في الهند
كانت إحدى أهم المشاكل التي واجهتها الدولة الهندية الفتية فور حصولها على الاستقلال في عام 1947هي التفاعل والمعارضة من جانب الجماعات الدينية العديدة في الهند، والتي تم تعريفها على أنها طائفية، وتتجلى حدتها الخاصة في الصدام بين الهندوس والمسلمين، أكثر الجماعات عددا وتأثيرا في الهند، وعوائق بناء العلاقات بين هذه الجماعات لها جذور تاريخية عميقة، ويبدو الحوار بينها أكثر صعوبة[3].
كان أتباع العلمانية السياسيون في البلاد، الذين يمثلهم تاريخيًّا "المؤتمر الوطني الهندي" (INC)، يفقدون سلطتهم تدريجيا على خلفية فضائح الفساد؛ وأهداف وغايات سياسة العلمانية التي أعلنها المؤتمر الوطني الهندي لبناء المجتمع المدني، حيث تفسح فيه الهوية الدينية أو الطبقية أو القبلية أو اللغوية أو أي هوية تقليدية أخرى الطريق أمام هوية مدنية مشتركة، لا يجد التعاطف والتفهم الكافيين بين سكان الهند؛ وإعادة إحياء وتجديد الجوهر الدلالي للعلمانية في إطار مناقشة مفتوحة، يتحاشاها قادة المؤتمر الوطني الهندي خشية فقدان وحدة المواقف داخل التحالف التقدمي المتحد (UPA)، الذي يرأسونه، إضافة إلى عدم الرغبة في تنفير الناخبين المؤيدين للهندوسية.
على النقيض من علمانية المؤتمر الوطني الهندي، فإن حزب بهاراتيا جاناتا الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي مودي يؤيد باستمرار إيديولوجية هندوتفا الإثنوقومية الموالية للهندوسية، ويعمل حزب بهاراتيا جاناتا كطليعة سياسية لـ "عائلة" "سانغ باريفار"([4]) المترامية الأطراف من المنظمات القومية، التي يقودها "راشتريا سوايامسيفاك سانغ-RSS" (أي "اتحاد الخادمين المتطوعين للأمة- ر.س.س")([5])؛ وكمنظمة سياسية، تم حظر ر.س.س بسبب تورط أعضائه في اغتيال م. ك. غاندي، وبعد رفع الحظر عنه بعد عام، اضطر ر.س.س إلى البدء في طرح نفسه حصريا على أنه "منظمة ثقافية" للهندوس، لكن في الواقع، بعد أن ترأس ر.س.س سانغ باريفار، غطى ر.س.س تدريجيا جميع مجالات حياة البلاد تقريبا بعمله الأيديولوجي.
أصبح أنصارُ "الهيمنة الثقافية للهندوسية"، نشطاءُ "حزب بهاراتيا جاناتا" و"فيشوا هندو باريشاد- "VHP -(مجلس الهندوس العالمي)، وهو هيكل آخر لسانغ باريفار، المبادرين والمشاركين الرئيسين في أعمال العنف في مدينة أيوديها (أوتار براديش)، التي أدت في ديسمبر 1992 إلى تدمير مسجد بابور، المزار القديم للمسلمين، وبعد عقد من الزمان، في عام 2002، خلال فترة ولاية ناريندرا مودي كرئيس وزراء ولاية غوجارات، وقعت مذابح دموية ضد المسلمين في هذه الولاية الشمالية الغربية، ارتكبتها نفس المنظمات الهندوسية، مما أسفر عن مقتل الآلاف من المسلمين في الولاية، ولم يتم التحقيق بشكل كامل في هذا العمل المتمثل في "الانتقام والترهيب" ضد المسلمين حتى الآن، بما في ذلك ما يتعلق بأنشطة الشرطة وغيرها من وكالات إنفاذ القانون التابعة للدولة، والتي كانت في ذلك الوقت تابعة مباشرة لمودي.
اختبار صلابة العلمانية الهندي
في مطلعي 2019-2020 خضعت سياسة العلمانية في الهند لاثنين من الاختبارات، حيث قررت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا، بتشجيع فوز ساحق في الانتخابات الوطنية، عدم إهمال الوعد الانتخابي لزعيم حزبها ورئيس الوزراء المعاد انتخابه ناريندرا مودي بحرمان ولاية جامو وكشمير (J&K) من الوضع الخاص الممنوح لها بالمادة 370 من الدستور الهندي، وتم تحويل هذه الولاية إلى منطقتين اتحاديتين: "جامو وكشمير" و"لاداخ"، وكان مودي قد أعلن لأول مرة عن نيته دمج ولاية جامو وكشمير في الهند على أساس مشترك خلال الحملة الانتخابية الأولى في عام 2014، لكن المشروع لم يصل حينها إلى مرحلة التنفيذ.
حتى إلغاء المادة 370 من دستور الهند في 31 أكتوبر 2019، كانت ولاية جامو وكشمير تتمتع بحق خاص في نقض دخول القوانين الهندية حيز التنفيذ في أراضيها، باستثناء مسائل السياسة الخارجية والدفاع والاتصالات، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع الخاص لكشمير يعني وجود علمها وحتى دستور للولاية؛ وقد كان إدراج مقاطعة جامو وكاشمير في جمهورية الهند، وفقًا لغالبية قيادة البلاد في أواخر الخمسينيات، بما في ذلك رئيس الوزراء الأول ج. نهرو، غير ممكن دون منحها السلطات الخاصة التي أصر عليها آخر حاكم مستقل لها كإمارة، المهراجا هاري سينغ، وهكذا، في عام 1957، حصلت إمارة جامو وكشمير السابقة على استقلال ذاتي كبير، لكنها أصبحت جزءًا من الهند، وليس باكستان، وحدود الهند، التي تمر عبر أراضي الإمارة السابقة، لا يزال حتى الآن يمثلها خط فصل القوات عند نهاية الحرب الهندية الباكستانية الأولى، ولا يعترف بها القانون الدولي على هذا النحو.
كان إجراء تهنيد جامو وكاشمير، الذي قدمه مودي في أواخر عام 2019، يعني نقلها إلى السيطرة المباشرة للحكومة المركزية في شكل منطقتين اتحاديتين، وكان الهدف منه قطع العقدة الكشميرية القديمة، ويمكن وصف رد فعل المسلمين في الهند على حرمان كشمير من وضعها الخاص (كولاية)، والذي جاء مفاجئا لغالبية السكان، في طيف من الحياد إلى الموافقة، وقد كان الاستثناء الوحيد هو الجزء الراديكالي من المجتمع الكشميري المسلم، وخاصة النخبة فيه.
بدا الموقف اللامبالي في الغالب للمسلمين الهنود تجاه حرمان كشمير من وضع الحكم الذاتي واضحاً بشكل خاص على خلفية حدث مهم آخر للسياسة العلمانية للهند، ألا وهو الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد بسبب اعتماد قانون تمييزي لتبسيط الحصول على الجنسية الهندية للاجئين غير المسلمين من الدول المجاورة، حيث يمنح "قانون المواطنة"، الذي دخل حيز التنفيذ في 10 يناير 2020، العفو للمهاجرين غير الشرعيين الذين فرّوا إلى الهند قبل عام 2015 من ثلاث دول مجاورة: أفغانستان وبنغلاديش وباكستان، وتبسّط الوثيقة منح الجنسية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والجاينيين والبارثيين والسيخ؛ أي في الواقع لجميع المتقدمين، باستثناء المسلمين.
إن فرز الجماعات على أساس ديني لمنحهم الأفضليات يتعارض مع المبدأ العلماني المنصوص عليه في دستور الهند، وعلى الرغم من حقيقة أن المسلمين في البلدان المشار إليها يميلون بشكل عام إلى الاضطهاد، وأن الجماعات المذكورة أعلاه ضحايا ومنفيون، إلا أن تصنيف مجموعات اللاجئين لمنحهم مزايا خاصة في الحصول على الجنسية أغضب معظم الهنود، وقد أظهر سكان الولايات الشمالية الشرقية من البلاد، قلقًا خاصا، حيث يمكن للوضع القانوني للمواطنين الجدد في الهند، في رأيهم، تشويه التكوين العرقي والديني التقليدي للسكان، وقد اتخذ استياء الهنود شكل احتجاجات جماهيرية بفضل قادة المؤتمر الوطني الهندي المعارض، الذي لطالما كان يبحث عن طريقة ليعرّف عن نفسه بصوت عال على جبهة الدفاع عن حقوق الأقليات الهندية، أي هناك حيث يستطيع تقليديا أن يكون منافساً قويًّا وغير مريح لليمين الهندوسي.
تهدف القرارات الأخيرة لحكومة حزب بهاراتيا جاناتا حول "تهنيد" كشمير أو إضفاء الشرعية على اللاجئين غير المسلمين من البلدان الحدودية إلى تحقيق مجموعة كاملة من الأهداف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبعضها هو محاولة لحل مشاكل التنمية الملحة: تسريع النمو الاقتصادي للمنطقة، إطلاق إصلاحاتها الهيكلية، محاربة الفساد، أو تحرير سوق الأراضي الذي طال انتظاره، فيما تتجه الأهداف الأخرى إلى إنجاز مهام جدول أعمال الحزب الخاص به لضمان أهداف الهندوتفا، فتحرير سوق الأراضي، التي فرضت الإدارة البريطانية الحظر على بيعها لغير المقيمين في كشمير في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى أهداف إدراجها في التداول العام، يجب أن يساهم في تآكل أماكن الإقامة المحكمة للجماعة الدينية الإسلامية بسبب تدفق الناس من مناطق أخرى من البلاد، ومهام مماثلة تتبع فصل منطقة لاداخ، حيث يشكّل البوذيون اللامائيون الموالون للحكومة الفيدرالية وحدهم حوالي نصف السكان.
كان منح كشمير سلطات حكم ذاتي خاصة، وفقًا لمودي، خطأً فادحا من قيادة البلاد أثناء تشكيلها، كما صرح مرارا وتكرارا، وقد اعتقد الجناح اليميني الهندوسي، ليس بدون أساس، أن مسار نهرو لتسوية الخلافات الإقليمية عن طريق تقديم التنازلات تم اختياره فقط بسبب الوفاة المبكرة لفالابهاي باتيل، زعيم الجناح المحافظ في المؤتمر الوطني الهندي، الذي لم يكن يخشى حل الخلافات الإقليمية من موقف القوة، أما تأكيدات مودي بأن جانو وكشمير ستعود إلى وضع الولاية في المستقبل، فتبدو غير مقنعة للمسلمين المحليين بشكل خاص على خلفية دعوة رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الهندية، الجنرال بيبين راوات، لإنشاء معسكرات "نزع تطرف" (deradicalization) على الفور في كشمير على غرار "معسكرات إعادة تربية" الأويغور في الصين.
مسألة الحوار المدني
الديناميات الدينية متأصلة في الثقافة السياسية الهندية بعمق لدرجة أن أيّ قرار اجتماعي وسياسي مهم تقريبا يؤثر على المصالح المباشرة والقيم والمعاني الأبدية والقبَلية لمواطنيها على مستوى الفرد والجماعة، وبالنسبة للهندي الانتماء الديني أو الطبقي هو أساس هويته، والقرارات السياسية التي يتخذها، كقاعدة عامة، تستند إلى رأي جماعته وقادتها، لذلك فالعلمانية في فهم غالبية المواطنين الهنود لا تتضمن المطلب الحتمي لفصل مجالات الدين والسياسة.
فيما يتعلق بما سبق، يكتسب التفسير الثلاثي للديناميكيات الدينية لـ إ. ب. راشكوفسكي طابعا خاصًّا في الحالة الهندية، فبادئ ذي بدء، إن ثالوث الدولة والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني في النسخة الهندية ليس من السهل تقسيمه كما هو الحال في المجتمع الغربي ما بعد العلماني، فالمجتمع المدني الهندي بكامله عمليا ينقسم إلى مجتمعات دينية، وتبدأ الهوية المدنية السياسية المشتركة في التنافس في ذهن الهندي مع هوياته وقيمه التقليدية.
لقد ارتكب مجتمع الخبراء السياسيين في الهند الخطأً مرتين: ففي البداية، قاموا بالإجماع تقريبا بتقييم قرار مجلس وزراء مودي بإلغاء الوضع الخاص لكشمير بوصفه محفوفًا بانفجار اجتماعي لا مفر منه، وفي الوقت نفسه فشلوا في توقع شدة الرد العام السلبي على القرار بشأن "قانون المواطنة"، وفيما يتعلق بهذه السابقة، يبرز سؤال طبيعي: لماذا تبين أن التواصل الرجعي (feedback) بين الدولة والمجتمع المدني، وبين الدولة والجماعات الدينية في البلاد كان صعبا، وكان رد الفعل على المبادرات الحكومية متوقعا بشكل سيء؟
أعتقد أنه في الآونة الأخيرة لم تبذل جهود كافية من قبل جميع الأطراف المعنية لاستئناف الحوار مع المجتمع المدني والبحث عن أشكال مثمرة من التواصل الرجعي، فالعديد من قرارات قيادة البلاد فيما يتعلق بالمجال الديني والتفاعل بين الطوائف تنحدر دون مناقشة شاملة، وفي المجتمع، في المقابل، يمكن ملاحظة الإرهاق والانزعاج عند مناقشة القضايا الأكثر إلحاحا في العلاقات العلمانية، لاسيما في البيئة العاطفية للطبقة الوسطى الجديدة وفئة الشباب.
حاول العالم البرتغالي من أصل هندي، أميت سينغ، إيجاد طرق للإجابة على هذا السؤال ونشر نتائج دراسة اجتماعية مبنية على مسح للطلاب في مدينة فاراناسي[3[، أقدم مركز روحي مقدس لدى الهندوس، وبشكل متواز، تم استطلاع آراء طلاب من كلية هندوسية وجامعة إسلامية تقعان بالقرب من بعضهما البعض، واتضح أن غالبية الطلاب مؤيدون لفكرة أن الحق في حرية التعبير يجب ألا يكون مطلقًا، وبرأيهم، يمكن للدولة أن تحد من حرية التعبير لحماية انسجام المجتمع في المجالات الثقافية والدينية، وبادئ ذي بدء، لا ينبغي الاستهزاء بالرموز الدينية الرئيسة أو إهانتها.
أعلن الطلاب الهندوس أنه لا توجد قيم يمكن للمرء أن يسخر من أجلها من الرموز المقدسة للهندوسية، مثل "البقرة المقدسة" و"مياه الغانج"، فيما اعتبر الطلاب المسلمون أنه من غير المقبول تبرير الإهانة للنبي محمد والقرآن بالدفاع عن القيم العلمانية أو فكرة التسامح، وكشف الاستطلاع أنه في أحكام الطلاب من المسلمين والهندوس على حد سواء، على الرغم من الطبيعة العلمانية للمؤسسة التعليمية للأخيرين، الهوية الدينية هي السائدة، وقد فضل غالبية المستطلَعين بناء اختياراتهم الأخلاقية على القيم الدينية، وفي صورتهم للعالم، تبين أن مبادئ العلمانية وحقوق الإنسان وحرية التعبير أقل أهمية، وكانوا على استعداد لتبرير رقابة الدولة من أجل حماية الانسجام الديني وقيمة السلم العام.
تثير نتائج الاستطلاع القلقَ بشأن تقليص المساحة العامة للحوار وعدم استعداد جزء كبير من المجتمع لسماع رأي مخالفيهم، والخطاب العلماني في الهند يحتاج إلى "إعادة تشغيل" شاملة وتجديد لجوهره الدلالي، وتقليص مساحة الحوار الصريح بين الدولة والمجتمع المدني والجماعات الدينية هو أمر محفوف بالانتفاضات الاجتماعية العاطفية، التي تبعد خطوة واحدة عن أعمال العنف، والتاريخ القريب يظهر أن الأشكال العفوية من الاحتجاج المدني على الأراضي الهندية، تحت ستار الشعارات العلمانية، يمكن أن تندمج مع كراهية الأجانب تجاه اللاجئين أو أن تستخدمه المعارضة لأغراض سياسية خاصة بهم.
العلمانية والهندوسية السياسية
مجموعة أخرى من الأسباب التي أدت إلى أزمة العلمانية في الهند، يربطها العديد من الباحثين بشعبية القيادة السياسية لناريندرا مودي، والتي لا يمكن تفسيرها إلا جزئيا من خلال نجاحه على طريق تحديث الهند، وغالبا ما يتم تنفيذ الإصلاحات المؤسسية والهيكلية الاقتصادية الليبرالية، بما في ذلك التغييرات الدستورية، بأساليب قريبة من الاستبداد وتحت الشعارات القومية الهندوسية، وتحت القيادة السياسية لحزبه بهاراتيا جاناتا وبمشاركة نشطة من ر.س.س، الذي أصبح مودي عضوا فيه في سن الثامنة، تتم عملية "زعفرنة ناعمة" تدريجية للحياة السياسية في الهند.
يبدأ التلقين العقائدي للهندوس بالتعليم العام المبكر في المدارس، والذي يصبح بالتدريج الناشر والمروج الرئيس لإيديولوجية هندوتفا للجيل الناشيء، ومن الخطوات الأولى، تتم المطابقة بين تاريخ الحضارة الهندية وتاريخ البراهمانية في أذهان أطفال المدارس، وبالإضافة إلى المدارس الابتدائية التي يمولها سانغ بريفار، والتي تعد الناشر الرئيس للكراهية بين الطوائف والتعصب الديني، فإن العديد من المدارس والكليات الحكومية تقع "تحت وصايتهم"، وتقوم هذه المدارس الحكومية بتدريس دورات إلزامية في علم التنجيم الفيدي والشريعة الفيدية الأساسية، وقد تم إدخال الدورات الإلزامية في مادة الوطنية في الجامعات الحكومية والكليات العلمية والمهنية، كما أن حكومة حزب بهاراتيا جاناتا تمول بنشاط المهرجانات الثقافية الهندوسية من أموالها.
في موازاة ذلك، يتم تنفيذ العمل الأيديولوجي على الذاكرة التاريخية[4]، حيث تتم "زعفرنة" البحث العلمي، وهذا اتجاه مهم في إدخال أفكار هندوتفا في النسخة الرسمية المعترف بها من التاريخ، كما أن مراكز البحوث التاريخية والثقافية الهندوسية وبرامج ر.س.س. تربط العديد من المؤسسات العلمية والتعليمية المؤثرة ببعضها البعض([6])، ويتم كذلك إنشاء مؤسسات ومشاريع بأكملها، مثل حضارة "حضارة إندوس ساراسواتي" (Indus Saraswati Civilization) أو "علم الآثار والتقاليد" (Archeology and Tradition)، تحت رعاية ر.س.س. حصريا لتطوير وجهة نظر "صحيحة أيديولوجيا" لتاريخ الهند.
تُستخدم وسائل الإعلام أيضا لنشر وجهات النظر والثناء غير النقدي على طريقة حياة الهندوس، والهدف هو توجيه الثقافة الهندية بشكل تعدّ فيه في الغالب هندوسية، وموصوفة من منظور الآراء والأفكار البراهمانية حولها فقط على أساس الملاحم القديمة والأساطير والمرويات القديمة؛ ولا يمكن إلا أن تثير القلق حالات الرقابة الإيديولوجية على الأفلام والبرامج الثقافية التي أصبحت أكثر تواترًا في السنوات الأخيرة، وكذلك المنشورات في الصحافة عن الموقف غير الصحيح، من وجهة نظر النشطاء المؤيدين للهندوسية، من التاريخ المؤسطر للهند[5].
في عام 2017، حول فيلم "بادمافاتي" (Padmavati) للمخرج الهندي س. ل. بهانسالي نشأ وضع ملتهب بالعواطف الجادة، وتوعد المتطرفون الهندوس علانية بتشويه المخرج، وحتى قتله هو وممثلة الدور الرئيس ديبيكا بادكون لتشويهها "التاريخ الحقيقي للأمة الهندوسية"، وفي الواقع، لا يفسر مخرج الفيلم إلا بشكل رومانسي أسطورة قرون وسطى من القرن الرابع عشر، ولا يمكن للمرء أن يتحدث عن "التاريخ الحقيقي" في هذا السياق على الإطلاق، وهذا ليس هو الحال الذي يهدد فيه مجهولون الفنانين، فأحد أعضاء حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، المنسق الصحفي الرئيس في ولاية هاريانا، سوراج بال آمو، وعد علنا بتقديم 100 مليون روبية (أكثر من 1.5 مليون دولار) لقتلة محتملين، وعلى الرغم من أن حزب بهاراتيا جاناتا أدان في وقت لاحق هذا البيان، إلا أن القضية ذات معنى.
إحدى ضحايا هذه الدعوات المعادية لما هو أجنبي في عام 2017 كانت غاوري لانكش، الصحفية المعروفة بانتقادها للقومية الهندوسية الراديكالية، التي نددت في عام 2003 بمحاولات ر.س.س. هَونَدة مزار صوفي (أي جعله هندوسيا)، وفي عام 2012، أثناء مشاركتها في الاحتجاجات في مانجالور وانتقاد التمييز الجنسي الهندوسي، قالت غاوري لانكش أن الهندوسية ليست ديانة، ولكنها "نظام هرمي اجتماعي تعتبر فيه النساء مواطنات من الدرجة الثانية"، وقد قُتلت لانكش في 5 سبتمبر 2017 بالقرب من منزلها، وتم منحها بعد وفاتها جائزة آنا بوليتكوفسكايا لمعارضتها التمييز الديني والطبقي، وكذلك لدفاعها المستمر عن حقوق المرأة الهندية.
بين الشباب الهنود، هناك زيادة ملحوظة في الإحجام والخوف من التطرق إلى الموضوع المؤلم المتمثل في التناقضات بين الجماعات التي تنشأ على أساس الاختلافات في الأديان، والرموز الدينية، وقضايا الطبقة، وطرائق الحياة التقليدية، مما يؤدي إلى مزيد من العزلة الجماعوية ونمو كره الأجانب والريبة، وفي الوقت نفسه، لدى قطاعات واسعة من الهنود، تجذرت فكرة ربما قد انعكست بشكل غير كامل، لكنها واضحة، عن عدم مقبولية التمييز ضد أي مجموعة إثنوقومية على أسس دينية.
كان تقدم الهند على طريق التحديث والنمو الاقتصادي قادرا على تلطيف الزوايا الحادة للتفاعلات بين الأديان، ولكن ظهرت مشكلة تعميق التنمية غير المتكافئة، التي هي نفسها قادرة على خلق صراعات جديدة؛ والأساس الموثوق به للتغلب على التناقضات العرقية والاجتماعية والثقافية يمكن ويجب أن يكون سياسة بناء تسلسل هرمي حقيقي للهويات يرتبط بالهوية العلمانية المدنية العامة باعتبارها جوهر قيمته، ويمكن تعزيز سياسة الهوية هذه من خلال النقاش العام المفتوح.
ولا ينبغي أن تخدم الهوية الدينية أو غيرها من الهويات التقليدية أغراض التعبئة السياسية، ولا ينبغي أيضا أن تشكك الدولة في الهوية الهندية المشتركة اعتمادا على الوضع السياسي الحالي؛ والنموذج الثلاثي لوصف العلاقات الدينية، المقترح للمناقشة من قبل إ. ب. راشكوفسكي (الدولة - المؤسسات الدينية - المجتمع المدني)، قادر على تسليط الضوء على سمات التفاعل المميزة للهند بين المؤسسات المكونة لها، كما ويجدر التأكيد على الدور المتزايد لـ "الشارع" كردة فعل في العلاقة مع الدولة في سياق تقلص مساحة الحوار العام ونمو الميول الاستبدادية في الحكم.
أما بالنسبة إلى الأسئلة التي طرحت في بداية المقال، ففي رأينا، هناك علاقة غير مباشرة، لكنها مع ذلك واضحة، بين تقلص مساحة العلمانية في الهند وأزمة القيم الليبرالية، وهناك تسارع ملحوظ في عملية تآكل القيم العلمانية للتسامح وتقبل الاختلاف الديني في مجال التعليم والإعلام.
في الوقت نفسه، يبدو أن ردّ الفعل الشعبي الحاد، بما في ذلك احتجاجات الشوارع، يمكن أن يوفر ردود فعل كافية للدولة حتى تستجيب في شكل إيجاد توازن للمؤسسات السياسية، والآمال بتحقيق توازن في النظام الحزبي ترتبط في المقام الأول بالتوجه المستجد للاستعادة التدريجية لسلطة حزب المؤتمر الوطني الهندي في الدورة الانتخابية الحالية؛ فالمؤتمر الوطني الهندي، بعد أن تولى تاريخياً مهمة قائد الأفكار العلمانية، يحاول استعادة قيادته في بناء أمة مدنية في الهند؛ وعلى أي حال، يبدو أن تعليق "تدحرج" العواطف القديمة وكراهية الأجانب، وتطوير المؤسسات وأشكال الحوار المدني، هو أحد الاحتياجات الملحة للهند اليوم.
قائمة المراجع:
1- راشكوفسكي إ.، الدين والسياسة والديناميات الحضارية لعالم اليوم، مجلة "الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية"، 2021، الجزء 65، العدد4، ص 123-131
2- أبراموف د. ملامح النموذج الهندي للتنمية: الخبرات ووجهات النظر، مجلة "الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية"، 2020، الجزء64، العدد 5، ص 109-117
3- سينغ أ. الصراع بين حرية التعبير والدين في الهند - دراسة حالة، مجلة "العلوم الاجتماعية"، 2018، عدد 7
4- روجر جي، قوى الطائفية في الهند، شمشون برابهاكار، اللعبة المشتركة بين الدين والسياسة والطائفية في الهند، BTESSC/SATHRI، بنغالور 2004، ص 2642
5- غلوشكوفا آ. ب.، الهند: ظاهرة إعلامية لـ "المشاعر المصابة" كمشروع سياسي، مجلة" العلوم السياسية"، 2013، الإصدار2، ص 4880
*
ملاحظة من المترجم:
يجدر التنويه أن الإشارات ذات الأقواس المربعة [] في متن النص، هي من وضع المؤلف، وهي تحيل إلى قائمة المراجع المدرجة في نهاية المقالة.
أما الحواشي المرجعية ذات الأقواس المعقوفة ()، فهي من وضع المترجم، باستثناء الحاشية الأخيرة منها (السادسة)، التي وضعها المؤلف أيضا.
[1] - هذه المقالة من كتابة ديمتري بوريسوفيتش أبراموف، وهو باحث أول في "معهد بريماكوف للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية" الموسكوفي التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وهي منشورة في عام 2021 في العدد 4 من الجزء 65 من مجلة "الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية".
[2] - الهندوتفا (Hindutva): أي "الهُنودة"، ويقابلها بالإنكليزية "Hinduness"، هي إيديولوجية قومية يمينية متطرفة، وضع أسسها فيناياك دامودار سافاركار (Vinayak Damodar Savarkar) في عام 1923، وهي معتمدة من قبل حزب بهاراتيا جاناتا و"مجلس الهندوس العالمي"(VHP) وتجمع "سانغ باريفار"، وسواهم، وهي تؤمن بفكرة "الأمة الهندوسية"(راشترا- Hindu) الإثنودينية.
[3] - الزعفرنة: (Saffronization): يأتي هذا المصطلح من ارتباط لون الزعفران (saffron colour) بالهندوسية، وهو يشير إلى سياسات الحكومات القومية الهندوسية في الهند التي تسعى إلى فرض أجندة هندوسية قومية سياسية في مجالات الحياة المختلفة كالمدارس والمناهج والإعلام، وسواها، ويمكن اعتبار هذا المصطلح رديفا لمصطلح "الهَونَدة"(Hinduization).
[4] - سانغ باريفار (Sangh Parivar): تسمية شاملة تدل على مجموعة المنظمات القومية الهندوسية المولدة من قبل ر.س.س. (منظمة التطوع الوطنية) والتابعة لها، ومنها حزب بهاراتيا جاناتا، ووفقا لبعض المصادر يشير اسمها إلى أنها "عائلة ر.س.س".
[5] - ر.س.س. (RSS) هي اختصار لتسمية (Rashtriya Swayamsevak Sangh) الهندية، التي تترجم في بعض الترجمات العربية والإنكليزية بـ "منظمة التطوع الوطنية" (National Volunteer Organisation)؛ وهي منظمة قومية هندوسية يمينية شبه عسكرية متطرفة، وهي سلف العديد من المنظمات القومية الهندوسية، وهدفها نشر عقيدة الهندوتفا، وقد تم حظرها رسميا ثلاث مرات بعد الاستقلال، أولاها عام 1948 عند اغييال غاندي على يد عضوها السابق ناتورام جودسي؛ ثم أثناء حالة الطوارئ (1975-1977)؛ وثالثها بعد هدم مسجد بابري عام 1992
[6] - كالمجلس الهندي للبحوث التاريخية (Indian Council of Historical Research)، والمعهد الهندي للدراسات المتقدمة في شيملا (Indian Institute of Advanced Studies in Simla)، ولجنة المنح الجامعية (University Grants Commission) وغيرها الكثير- المؤلف.