إدارة التمدن في ضوء "جذوة المقتبس"


فئة :  مقالات

إدارة التمدن في ضوء "جذوة المقتبس"

-1- ذكر صاحب "جذوة المقتبس" في ترجمة أبي عمر أحمد بن محمد بن سعدي أنه تحدث عند وصوله إلى القيروان من ديار المشرق إلى أبي محمد بن عبد الله بن أبي زيد[1] عمّا شاهده هناك من مجالس أهل الكلام، وقال: حضرتها مرتين، ثم تركتها ولم أعد إليها. فقيل: ولمَ؟ قال: أما أوّل مجلس حضرته، فرأيته مجلسا قد جمع الفِرَق كلها: المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر، ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس من أية فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما على أقدامهم حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غصّ المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتجّ علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيّهم، فإنّا لا نصدّق بذلك ولا نقرّ به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون: نعم، لك ذلك. قال أبو عمر: فلما سمعتُ ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي: ثَم مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم سواء، فقطعت مجالس أهل الكلام، فلم أعد إليها.

فقيل لأبي عمر: ورضي المسلمون بهذا من الفعل والقول؟ قال: هذا الذي شاهدته منهم.

فقال ابن أبي زيد: ذهب العلماء، وذهبت حُرمة الإسلام وحقوقه، وكيف يبيح المسلمون المناظرة بين المسلمين والكفار؟ وهذا لا يجوز أن يُفعل لأهل البدع الذين هم مسلمون ويقرّون بالإسلام، وبمحمد عليه السلام، وإنما يُدعى من كان على بدعة من منتحلي الإسلام إلى الرجوع إلى السنة والجماعة، فإن رجع قُبل منه، وإن أبى ضربت عنقه؛ وأما الكفار، فإنما يُدعون إلى الإسلام، فإن قبلوا كفّ عنهم، وإن أبوا وبذلوا الجزية في موضع يجوز قبولها كف عنهم، وقُبل منهم؛ وأما أن يناظروا على أن لا يُحتج عليهم بكتابنا، ولا بنبيّنا، فهذا لا يجوز، فإنا لله وإنا إليه لراجعون[2].

-2- إذا اعتمدنا رواية صاحب "جذوة المقتبس" وأقررنا بأن هذا كان شأن النخبة العالمة من أهل إفريقية في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي وكان هذا شأن واقع الاختلاف بين علماء بلاد المشرق، فإن السؤال الذي يتبادر هو: فيم استطاعت نخبنا وعلماؤنا، اليوم، مغربا ومشرقا أن تؤثر في طبيعة بنية ذلك الواقع الثقافي والفكري الذي ميّز القرون السالفة؟

واقع الحال، مغربا ومشرقا، يثير قلقا حقيقيا فيما انتهينا إليه هنا وهناك في خصوص موضوع الاختلاف وكيفية قبول التعدد الفكري والمذهبي والديني وفي القدرة على تمثله وإدارته وحسن تفعيله. ولعل أفضل من صوّر ما آل إليه اليوم واقع اختلاف النخب مغربا ومشرقا هو الشاعر الفلسطيني المتميز "تميم البرغوثي" حين قال:

ساعتان رمليتان

كلٌّ تتهم الأخرى بأنها مقلوبة

وتدعوها أن تعتدل مثلَها

ويدٌ واضحة جدا

تقلبهما معا في نفس اللحظة

ومن موقعيهما الجديدين

تستمر كلٌّ منهما في اتهام الأخرى.

ما يتبين من خلال رصد حال واقع "التعدد" في مجال النخب والمثقفين في الوطن العربي المعاصر، يؤكد أنه آل إلى تدابر وتنافٍ مرعبين.

ما أتاح "الربيع العربي" كشفه في أجزاء من بلاد المغارب من تعثر بيّنٍ أكّده ما يجري حاليا هنا وهناك في بلاد المشرق من تدمير وهمجية باسم الإسلام، فكان في جوهره تعرية فاضحة لعقم ثقافي وفكري فضلا عن السياسي. أجلى صور هذا العقم ما قام به مسلحو تنظيم "الدولة" من تحطيم لآثار آشورية وأخرى تاريخية في متحف مدينة الموصل الخاضعة لسيطرتهم. لقد حطموا تلك التماثيل مدّعين الحرص على التنزيه التوحيدي وللقضاء على مداخل الشرك لكنهم كانوا في ذات الوقت يستعملون صورا، فينشرونها بقوة أعتى للترهيب والإخضاع. لذلك حُق التساؤل عن هذا المنطق الذي يزعم حماية التنزيه والتوحيد، فيُحطَّم تماثيل مستعملا في ذلك صورا هي أشد تأثيرا في فاعليتها الاستلابية من أي تماثيل قديمة؟

ذلك هو عقم المفارقة التي نعيشها اليوم، والتي تبدو معها مآسي القرن الرابع أهون لأن ما نشهده اليوم هو إعادة إنتاج ذلك الواقع القديم في أشد صوره بؤسا وأشنع تعبيراته تدميرا لإنسانية المسلمين.

-3- اللافت للنظر في هذه المفارقة العقيمة أن هذا "التمركز المرَضي على الذات"، نجده قد استشرى وأضحى مخترقا لعموم الفضاء العربي الإسلامي الذي كان طوال التاريخ القديم والوسيط موطنا للنبوءات والتعدد والتثاقف؛ أي عنصرا حافزا على التمدّن والارتقاء. ما يفزع اليوم، بعد أن تأججتْ الخطابات التعبوية المنغلقة التي لا تُعنى إلاّ بترسيخ الاعتقاد لدى المناصرين والأتباع بامتلاك البديل الجاهز ونسبته إلى النفس والعمل على فرضه. هو اختفاء شبه كامل لروح الشرق الإنساني التي ورد ذكرها في "جذوة المقتبس" التي تنتظمها روح "إدارة التمدّن" لتستفحل مكانها مهالك "إدارة التوحش".

هذا ما أفضى بعموم المسلمين إلى حالة سوء الظن بالناس وبـالمختلف خاصة، فتراجعت قابليتهم للإنصات وللحوار، وغدت قراءة الأفكار والأحداث بموضوعية أمرا نادرا هذا فضلا عن الإعراض عن المراجعات والمقاربات النقدية بادعاء الحرص على وحدة وهمية للمسلمين.

السؤال الذي يتبادر إلى الطرح يتعلق بهذا الاندحار المريع، وكيف ساهمت النخب العربية فيه، رغم كل إمكانيات التطور الفكري والعلمي التي تحققت لها في مجالات المعرفة والوعي والتواصل؟

للإجابة يمكن أن نسارع بالعودة ثانية إلى أبيات "تميم البرغوثي" وقوله:

ويدٌ واضحة جدا

تقلبهما معا في نفس اللحظة

إن ما لا تخطئه العين هو ما تبذله السياسات الاستعمارية القديمة والجديدة بما تمتلكه من وسائل التحكم والتسلّط والنفوذ لتحقيق مصالحها في بلاد العرب، مغربا ومشرقا مستفيدة في غالب الأحوال من نتائج الأعمال الدراسية الدقيقة التي يسهم فيها باحثون مختصّون أخضعوا واقع البلاد العربية تاريخا ومؤسسات وفكرا وتراثا إلى تحاليل استقصائية عميقة ومركزة.

لكن الذي نعتبره أهمّ في مساعي تلك اليد التي لا تخطئها العين وفي ما تستند إليه من مقولات بعض "المستشرقين" القدامى والمحدثين عن المنطقة العربية هو التمثّل المتواصل لقسم من نخبنا المحليّة لتلك الطروحات والسير بها حثيثا، وكأنها حقائق لا يتطرق إليها شك ولا منجاة لنا خارجها. أخطر مآلات اختيار هذا الصنف من النخب مغربا ومشرقا هو اعتقاد جازم بأن هذه البلاد في نهاية المطاف فاقدة لأية خصوصية تاريخية أو فكرية أو مدنية بما يؤدي موضوعيا إلى اعتبارها مجالا جغرافيا خالصا وبؤرة صراع بين القوى الكبرى على الثروة والطاقة التي تتوفر عليها[3].

-4- عند إيلاء المقولة التي تجعل "العالم العربي" مجالا جغرافيا مفتوحا على مصراعيه ما تستحقه من النظر يتضاءل إشكال اليد الخارجية التي تسعى للهيمنة والتسلط لما يتبيّن من كون خطورتها تتناسب طردا مع غلبة إيديولوجية "التصحير الذاتي" على شؤون الفكر والثقافة والمجتمع. لقد تمكّنت اليد الخارجية أن تكون لها صولات كاسحة في عموم البلاد العربية بعد أن هيمنت على فضائنا الحديث مقولات "التمركز الثقافي" الذي قامت بإعادة إنتاجه وتبيئته ذهنية محلية إقصائية انفردت بالقرار وبالفعل. من ثم كانت نتيجة ثقافة التمركز والتسلط أن آلت أحوال مجتمعاتها إلى صورة بلاد "عاصمتها" أقرب إلى صحراء بلقع ممتدة لا تحمي ولا تضيف ولا تُبدع.

الإشكال الحقيقي أن "سياسات التمركز والتفرّد" في البلاد العربية الحديثة والمعاصرة قد تعيّنت في ثقافة المُنْـبَتِّ التي لم تعمل، خاصة في مرحلة العولمة، وفي ما تلاها من المسيرات الثورية الناشئة في البلاد العربية، على توفير الشروط الأفضل للتحرر المسؤول من أجل الانعتاق من تبعية الذهن الوثوقي والاستلاب التصحيري.

من هنا تتبيّن الحاجة المتأكدة إلى ثقافة تواجه حالة "التصحّر الذاتي" ذلك الذي يسميه برهان غليون "التخفيض الثقافي" الذي تفاقمت آثاره السلبية نتيجة عولمة تسعى لمركزة العالم حول قطب واحد وبما تعمل على إحداثه من تمايز ثقافي تتكوّن من جرائه شبكات للتضامن والاندماج في ثقافة النخبة العالمية على اتساع الأرض. مقابل هذا التشكّل تتفاقم حالة التردّي التي تعتري الثقافات الوطنية نتيجة نزع النخب من ثقافاتها الخاصة وإعدادها للاندماج في الأنساق المعولمة بما يفضي إلى انهيار الثقافات الوطنية وتحوّلها إلى مستوى الثقافات الشعبية نتيجة إفراغها من كل طاقات الفاعلية والتجدد والنجاعة العلمية والاجتماعية والسياسية[4].

هو الإخفاق التاريخي الذي تتعطل معه "الذات الثقافية- المجتمعية" المتمثلة في البنى والمنظومات المنتجة للفرد والواقع. هذا ما يتكشّف في مختلف البلاد العربية من مأزق وجود ذاتَيْن: واحدة تقليدانية لها ردود فعل خائفة من الحداثة ومن الانضواء في السياق الوطني الجامع وغير إيجابية والثانية تحديثية مراهنة على النموذج الحديث الغربي لا تأخذ منه سوى نمط العيش دون الأخذ بشروطه، مثل هذا الوضع يتطلب معالجة للذات الثقافية التي هي ذات مركبة ومعقدة وإشكالية بامتياز.

هذا ما يجعل العمل على استعادة "الذات التاريخية الثقافية" فاعليتها رهانا ثلاثي الأبعاد: بعدٌ قيمي فيه تركيز لتربية جديدة قائمة على قيم الإنصات والتعدد والتفوّق في المستويين الوطني والإنساني. إلى جانب ذلك بعد منهجي يتعيّن بتحرّي ضرورة تجاوز الخطاب الوثوقي الاستقطابي الذي يُستشفّ من رواية "جذوة المقتبس" ذلك لأننا لن ننال احترام العالَم وتقديره إلا إذا كانت نظرتنا إليه أشد اتساعا وتمثلا وفاعلية.

أخيرا، يتحدد البعد الثالث في الرهان المجتمعي- الثقافي الذي يتحقق بإقدار النخب والمثقفين الجدد على صناعة رأي عام متضامن ومتيح لتعاقد جديد واندماج وطني معاصر واع بخصوصياته ومجدد لها، وهو ما لا يتأتى إلا بالارتقاء بالثقافات الوطنية لتفعّل في حقول العلم والفكر والإبداع.


[1] هو ابن أبي زيد المعروف بالقيرواني (310 – 386 / 922-992م) من أعلام المذهب المالكي ومصنّف كتاب "النوادر والزيادات" و"الرسالة" ومختصر "المدونة" لسحنون بن سعيد.

[2] الحميدي: جذوة المقتبس في علماء الأندلس، تحقيق: إبراهيم الأبياري. دار الكتب الإسلامية/ دار الكتاب المصري/ دار الكتاب اللبناني، القاهرة/بيروت، الطبعة الثانية 1983، الجزء الأول، ص ص 175- 176 (بتصرف).

[3] لعل أبرز الأمثلة على ذلك ما قام به الاستشراق الأمريكي المصطفّ مع اليمين المحافظ الجديد في العقدين الأخيرين وبخاصة ما كتبه "برنارد لويس" عن العرب وعن الخطر الذي يمثلونه على الحضارات القائمة وعن ضرورة إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية.

[4] راجع حوارية برهان غليون وسمير أمين: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفكر دمشق، 2002