النظرية السوسيولوجية عند هابرماس؛ قراءة في المجال السياسي العربي


فئة :  مقالات

النظرية السوسيولوجية عند هابرماس؛  قراءة في المجال السياسي العربي

النظرية السوسيولوجية عند هابرماس؛

قراءة في المجال السياسي العربي

تسعى النظرية السوسيولوجية عند هابرماس إلى تصور الكيفية التي يكون فيها النظام الاجتماعي ممكناً، حيث يرى هابرماس أن النظام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة العلمانية يرتكز في المقام الأول على العقلانية التواصلية([1]) المنتجة للفعل التواصلي الذي يتم تنسيقه بواسطة ادعاءات الصلاحية، وعلى الخطاب اللذين يساعدان معاً في تأسيس الاندماج والتعايش الاجتماعي والحفاظ عليه؛ أي إنهما يوفران المادة اللاصقة التي تجمع بين أجزاء المجتمع. ويفعل هابرماس ذلك عن طريق نظرية تتألف من جزأين يدعم كلاً منهما الآخر، يقعان تقريباً في المجلد الأول والمجلد الثاني من "نظرية الفعل التواصلي". الجزء الأول مفاهيمي في المقام الأول. يقدم هابرماس تمييزاً قاطعاً بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي أو الاستراتيجي، ثم يحاول أن يبرهن على أن الثاني يعول على الأول. أما الجزء الثاني، فهو عبارة عن علم وجود اجتماعي، وهي نظرية للهيئة التي عليها المجتمع ومكوناته المتشكل منها، كما يذهب هابرماس إلى أن المجتمعات الحديثة تتكون من نطاقين أساسيين من النشاط الاجتماعي، العالم المَعيش والنظام (الأنساق)([2])، وهما نظيران ومحلان للفعل التواصلي والأداتي على الترتيب.

يرى يورغن هابرماس Jürgen Habermas (1929- ) الفيلسوف والمنظّر السوسيولوجي الألماني المعاصر من خلال نظريته حول الفعل التواصلي Theory of Communicative Action المرتكزة على العقلانية التواصلية، التي تمارسها ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات، تؤدي حكماً إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه؛ وذلك بفضل قدرة الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها.

ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادعاءات الصلاحية للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل تبريرها أو الدفاع عنها بالحجج العقلانية، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، مما يؤدي إلى اختلال التواصل أو توقف، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها؛ ومعنى ذلك أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار.

بذلك يعتمد هابرماس على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية (الصدق، والمصداقية، والحقيقة)([3]) تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها، مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار، كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. وهذا يعني أن اللغة أداة للتواصل والتفاهم الإنساني وليست للسيطرة والخداع، لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: هل النظرية السوسيولوجية التي قدمها هابرماس نظرية نقدية؟

تتمظهر أهداف هابرماس الأساسية في "نظرية الفعل التواصلي" من خلال تقديم بديل أكثر نفعاً، وسليم تجريبياً، ومتسق منهجياً للنظرية النقدية لكلٍ من أدورنو هوركهايمر، ولذا، فإن نظريته الاجتماعية مصممة حيث تكون نظرية نقدية. ولكن من أي جانب؟ ينكر بعض المحللين النقديين أن نظرية هابرماس السوسيولوجية نقدية من الأساس، فهم يرون تحليله قد أسهب في التبرير لنظام الاقتصاد المختلط ودولة الرفاه المؤسسية، واعتذاراً لديمقراطية وسط اليسار الاجتماعية الألمانية. ووجهة النظر هذه ليست متشددة وحسب، بل خاطئة أيضاً. فنظرية هابرماس عن استعمار العالم المَعيش تقدم لنا أجوبة أصيلة ومتعمقة ودقيقة عن السؤال التشخيصي: (ما الذي يعيب المجتمع الحديث؟ ولماذا؟) وتسلط الضوء على قضايا اللامعيارية والتغريب والتشظي الاجتماعي التي أصابت المجتمع الحديث.

وعلى النقيض من نموذج نقد الإيديولوجية، لا تستخدم نظرية هابرماس السوسيولوجية الاستراتيجية الانهزامية التي تنسب الأخطاء المتفشية واللاعقلانية إلى الفاعلين كتفسير مفترض لعلة قبولهم مؤسساتٍ وممارسات اجتماعية غاشمة وتأييدهم إياها. بدلاً من ذلك، ينسب إليهم هابرماس غايات استراتيجية وأداتية([4]) كامنة أو خفية متأصلة في النظام. وتصمد الأنظمة الاجتماعية الغاشمة، ليس لأن الأفراد تلتبس عليهم مصالحهم الشخصية، ولكن لأن أفعالهم تتسم بأنماط راسخة مسبقاً ومعقدة من الاستدلال الأداتي. ونظراً لانعدام الشفافية المتأصل في الأنظمة الاجتماعية، تتجاوز أهمية الأفعال قدرة الفاعلين على فهمها وتحمل مسؤوليتها.

هل نظرية هابرماس السوسيولوجية نقدية انطلاقاً من كونها تستطيع تقديم علاجٍ؟ ربما يكون هذا السؤال خاطئاً. فهابرماس يقدم نظرية اجتماعية، والنظريات لا تصف علاجات. بالطبع إذا صحت النظرية، فمن الرائع أن تقي العالم المَعيش من الاستعمار عن طريق احتواء نظامي المال والسلطة، لضمان وجود نطاقات كافية للحياة الاجتماعية حرة وغير مُسَوَّق لها لإحداث التكامل الاجتماعي وطَمْر نظامَيِ المال والسلطة. الإجابة ليست إلغاء الأسواق والإدارة (ممثلة في الاقتصاد والدولة)، بل احتواؤهما. ولكن، من غير الواضح كيف يمكن، إذا صح ذلك مطلقاً، تحقيق ذلك عملياً؟ ومن غير الواضح هُوية أو ماهية الملزم بتحقيقه. (من اللافت للنظر أن هابرماس يرى المهمة سياسية أكثر من كونها اجتماعية، وما خلص إليه لا يختلف عن "التحول البنيوي"، حيث عقد آماله على التحرر في ضوء إعادة إحياء الفضاء العام). في "نظرية الفعل التواصلي"، يتحرى هابرماس الصراحة في تقييمه بأنه ما من فاعل، سواء بصفة جمعية أو فردية، يستطيع أن يضطلع بالمهمة. فالدولة، بقدر ما هي ليست جامدة بفعل الاقتصاد، جزء من النظام، ومن ثم فهي واحدة من مصادر المشكلة لا الحل. ويطرح هابرماس ما يأمل أن يمتلكه من إصلاح في نظام دولة رَفَاه ديموقراطية، بقدر ما يمكن أن يتأثر بالمعتقدات الأخلاقية للأفراد، وجماعات الاحتجاج السلمية الموجهة سياسياً.

وتكمن المشكلة في أن مثل هذه الجماعات - التي يطلق عليها أحياناً (الحركات الاجتماعية الجديدة) - لا سلطة بيديها فعلياً. وإذا اكتسبت سلطة سياسية، بانتخابها لتتولى مقاليد الحكم، فقد يستحوذ عليها ببساطة النظام الإداري والسياسي. الوسيلة الوحيدة للإصلاح الاجتماعي التي تحددها نظرية هابرماس واهية، ومن المستبعد أن تُوقِف عملية الاستعمار، ناهيك عن إلغائها. ومن بين الاختلافات الكثيرة، يستطيع المرء أن يستشف هنا صدى للتشاؤم الذي يلازم النقد الاجتماعي لهوركهايمر وأدورنو.

هل هذه دلالة على أن النظرية السوسيولوجية لهابرماس ليست نقدية بالقدر الكافي، أم ببساطة علامة على أنه صادق وواقعي في تقييمه بأنه في العالم الرأسمالي المعاصر لن يقف الكثير في طريق التوسع الذي لا يتوقف للأسواق والإدارة؟ فيما يتعلق بالنقطة الأولى، ينكر هابرماس أن النظريات يمكن، أو حتى يحتمل، أن تكون نقدية بالمعنى الماركسي لإشعال فتيل ثورة. لدى هابرماس مفهوم أبسط بكثير لما يمكن توقع تحقيقه من وراء النظرية الاجتماعية. فالنظريات السوسيولوجية ليست هي نفسها محركات التغيير الاجتماعي، بل إنها تقدم ادعاءات بصحة الحقيقة. عملياً، النظريات السوسيولوجية في أحسن الأحوال هي أدوات تشخيصية مفيدة تساعدنا في التمييز بين النزعات الضارة والتقدمية في المجتمع الحديث. وبالطبع، يريد هابرماس أن يضع نهاية للاضطهاد الاجتماعي، ويمكن فهم حياته وأعماله في ضوء هذه الغاية. يظل هابرماس راديكالياً وإصلاحياً، لكنه واقعي ويعرف أن أغلب ما يمكن أن تحققه نظريته الاجتماعية مباشرة هو مساعدتنا في فهم أسباب الاضطهاد الاجتماعي.

يمكن اعتبار نظرية هابرماس السوسيولوجية غير نقدية من منظور مختلف؛ وذلك لأنه يُعرِض عمداً عن توجيه أي انتقادات أخلاقية صراحة للمجتمع الحديث. على سبيل المثال، يحجم هابرماس عن القول إن توسع السوق يُحيل الناس إلى أفراد قساة القلب ينصب اهتمامهم على أنفسهم وذواتهم، يرون الغير وسائل وحسب لتحقيق غاياتهم الشخصية. وثمة سبب وجيه لذلك، فنظرية هابرماس السوسيولوجية، شأنها شأن النقد المتأصل لدى أدورنو وهوركهايمر، من المفترض أن تكون مختلفة عن النقد الأخلاقي. من المفترض أن تكون نظريته منفتحة فيما يتعلق بأسسها المعيارية، على ألا تعول على نظرية أو مفهوم أخلاقي مسبق عن الخير. إن انتقادات هابرماس من هذا المنطلق للمجتمع الحديث وظيفية لا أخلاقية أو خلقية. الاستعمار مؤذٍ؛ لأنه يعوق القدرة الوظيفية الخيّرة للعالم المَعيش، ويحرم المجتمع منافع التواصل والخطاب ممثلةً في المعاني والمواقف المشتركة، والنظام الاجتماعي، ومشاعر الانتماء، والاستقرار الاجتماعي، وما إلى ذلك.

بناءً على ما تقدم، ولأن أفكار هابرماس عن التواصل والخطاب تتسم بالثراء البالغ معيارياً، فإن تحليله يصطبغ دوماً بصبغة أخلاقية. يعتمد الفعل التواصلي على "الإدراك المتبادل" لادعاءات الصلاحية. وفي العالم المَعيش، نجد أن آلية الكلام المُنَسِّقة للفعل تُجبِر الأفراد على أن يضعوا في اعتبارهم غيرهم من المتكلمين والمستمعين والفاعلين وأسبابهم. ويتألف الخطاب من قواعد تضمن الاحترام المتساوي للآخرين جميعاً والتضامن الكلي بينهم. إن مُثل المساواة والكلية والشمولية راسخة في الأنشطة التواصلية في العالم المَعيش، والفاعلون، بحكم تواصلهم وحسب، يلتزمون بها. ومن ثم، فإن الإدماج الاجتماعي في العالم المَعيش نوع من التهذيب الأخلاقي، وهي عملية الاعتياد على التصرف بما يتفق مع هذه المُثل. وفي المقابل، فإن الأنظمة تغرس العادات الأداتية لمعاملة الآخرين، باعتبارها سبلاً لتحقيق غايات المرء، وتعزز اللامبالاة فيما يتعلق بغايات الآخرين. وهنا، لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من التفكير في ملاحظة أدورنو بأن عدم اكتراث الطبقات المتوسطة ولا مبالاتها كانا "المبدأ الذي من دونه لم تكن أحداث معسكر أوشفيتز ستقع قط". الفارق الأساسي هو أنه، بحسب تقييم أدورنو، كان عدم اكتراث الناس ولا مبالاتهم اللذان أفضا في نهاية المطاف لقسوة بعضهم تجاه بعضٍ، كانا تبعةً غير مقصودة للجانب السلبي للتحكم الذاتي العقلاني والاستقلال الأخلاقي الكانطي. يرى هابرماس أن ظاهرة شبيهة تنتج عن الآثار المفسدة للأخلاق والناجمة عن استعمار النظام للعالم المَعيش، لا من داخل الخلقية نفسها. ومحصلة كل ذلك أن استعارة هابرماس الطبية "الآفات الاجتماعية" لها ميزة خلقية ضمنية وغير معلنة. ظاهرياً، تنص نظريته على أن استعمار العالم المَعيش يصيب المجتمع بخلل وظيفي. وباطنياً، فهي تشير إلى أن هذا الخلل الوظيفي سيُسْفر عن ظهور أشخاص فاسدين أخلاقياً.

- مفهوم التواصل الهابرماسي والمجال السياسي العربي: من خلال استخلاص نظرية هابرماس السوسيولوجية حول التواصل والاعتراف بالآخر. نجد أن تجاوز مشكلة العنف والصراع الاجتماعي، لحماية الاندماج والتضامن والتعايش الاجتماعي، عنده تتطلب تواصلاً سياسياً لا يمكن إنجاحه إلا من خلال توافر فضاء عام سليم ديمقراطي يضمن حرية التعبير، وفعلاً تواصلياً سليماً يضمن التفاهم، عبر احترام شروط معيارية خاصة بالتواصل بين الذوات.

لكن السؤال المفصلي الذي يطرح نفسه علينا هل يمكن تطبيق التجربة التواصلية الهابرماسية بشروطها ومعاييرها ومبادئها في المجتمعات العربية؟ في حقيقة الأمر تعيش تلك المجتمعات عنفاً وإرهاباً بكافة أشكاله المختلفة، القائم بين تيارات ومذاهب لها مرجعياتها الإيديولوجية المتناقضة والمتنافرة، مع العلم أن كل تيار يعتقد جازماً بأنه هو من يمتلك الحقيقة، وهو صاحب الرأي الصحيح، وهو أيضاً من تتوافر فيه الشروط المثالية لإدارة وحكم المجال السياسي والسيطرة عليه واستبعاد الآخرين.

يتمظهر هذا الصراع والعنف بين المتدينين والعلمانيين في ظل أنظمة سياسية ديكتاتورية تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم من خلال محاولتها الدائمة والمستمرة التحريض على الصراع والتصادم وشراء الولاءات تطبيقاً لمبدأ فرق تسد، ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة مع بعضها البعض مما يسهل التعامل معها والسيطرة عليها.

إن الحل حسب هابرماس هو فتح نقاش عمومي بين الطرفين مع الاعتراف لهما بالحرية في التعبير، لكن لتحقيق التوافق يجب ترجمة وجهات النظر الدينية إلى لغة دنيوية، وفي المقابل، على المواطنين العلمانيين من جهتهم أن يمارسوا نقداً ذاتياً، فالطبائع المدنية الديمقراطية لا يمكن أن تفرض على جميع المواطنين، إلا إذا مر المتدينون والعلمانيون من مسلسلات تعلم تكميلية.

كما أن التسامح لا يقتصر فقط على المتدينين فقط، بل وجب على المتدينين أنفسهم أن يتسامحوا مع عقائد أخرى ومن واجب العلمانيين أن يحترموا آراء الآخرين، الذين يحفزهم الإيمان الديني فمن غير المعقول أن نتصور أن يتخلى هؤلاء عن قناعاتهم عند دخولهم المجال العمومي والحل الأفضل هو أن نفكر في شيء شبيه بتلك المثالية الدينية التي بثّت الحياة في حركة الحقوق المدنية (مارتن لوثر كنغ)* في خمسينيات وستينيات القرن العشرين المنصرم والتي تشكل مثالاً للإعجاب على الطريقة التي يمكن بها أن يؤتى بقيمة دينية، كقيمة العدل لمعالجة مشكلات اجتماعية معاصرة.

في حقيقة الأمر وجهت العديد من الانتقادات لهذه الوصفة الهابرماسية، فكيف يمكن للمواطنين المتدينين أن يتخلوا عن قناعاتهم الدينية ليشاركوا في النقاش العام، فمن المعلوم أن المواطن المتدين يحقق وجوده من خلال إيمانه الديني. بناءً على هذا الاعتراض يميز هابرماس بين المواطنين العاديين ورجال السياسة، فرجال السياسة هم المطالبون بالقيام بهذه العملية. يقول هابرماس: إذا قبلنا بهذا الاعتراض – الذي أجده مفحماً – فإن الدولة الليبرالية التي تحمي بشكل علني عبر الحقوق الأساسية الضامنة لحرية التدين، مثل هذه الأشكال من الوجود، لا يمكنها في الوقت نفسه أن تتوقع من كل الأشخاص المؤمنين أن يبرروا أيضاً اتخاذ مواقف سياسية في استقلالية عن قناعاتهم الدينية وعن قناعاتهم المرتبطة بنظرتهم للعالم. هذا المقتضى لا يمكن أن يتوجه إلا لرجال السياسة الذين، في إطار مؤسسات الدولة، يخضعون لواجب الحياد بالنسبة إلى الرؤى المختلفة للعالم، وكذلك بالنسبة إلى كل من يسعى لانتداب عمومي وقدم لأجل ذلك ترشيحه.

كما وقع هابرماس في تناقض واضح بين الاعتراف للمتدينين بالحق في التمسك بمعتقداتهم الدينية في النقاش العمومي، وبين الإدلاء بهذه الحجج مع علمانيين لا يقتنعون بها، ومطالبتهم في الوقت نفسه باتخاذ مواقف في الفضاء العمومي في استقلالية عن قناعاتهم الدينية. كما أن هناك تناقضاً آخر يتعلق بأن هابرماس يطالب بعدم الإقصاء من الفضاء العمومي لأي مواطن مهما كانت قناعته، ولكن في نفس الوقت يؤكد أن المواطنين المتدينين المحترفين للسياسة، هم وحدهم المطالبون بالتخلي عن قناعاتهم الدينية في النقاش العمومي، وتبعاً لذلك هم الأجدر بالتحاور مع العلمانيين. رغم هذه الاعتراضات يبقى الحل الهابرماسي مطروحاً لتلك المجتمعات، في ظل العنف الذي أصبح مهدداً للتماسك الاجتماعي، فعلى الأقل فتح الحوار بين هذه الأطراف في ظل الشروط التي وضعها هابرماس، قد يحد من العنف والصراع لبناء جسور التعايش المشترك والاعتراف بحقوق الآخرين.

تنطلق وجهة نظرنا الأساسية، من واقع ارتفاع صوت العنف في المجال السياسي العربي (خاصة في أحداث عملية التحول الاجتماعي التي شهدتها المنطقة)، مقابل غياب صوت الحوار. والسبب يكمن في بنية اجتماعية وسياسية لا تسمح بالتواصل السليم وفق المقاربة الهابرماسية لأسباب بنيوية تتعلق بالمجتمعات العربية على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي. فالأزمة تكمن في المتحاورين ذاتهم، حيث فشلت كل محاولات الحوار لأسباب ذاتية تتعلق برفض الآخر والتهكم عليه، واستحالة التفاهم معه حول مقومات الدولة المراد تأسيسها.

بناءً على نظرية الفعل التواصلي لهابرماس ومن أجل بناء مجتمع الاندماج والتعايش في المجتمعات العربية، يجب في بداية الأمر توفر فضاء عمومي سليم ديمقراطي، ثم القيام بحوار مستمد من شروط ومعايير التجربة التواصلية لهابرماس من ضمان نجاحه، مما يؤدي التفاهم والتوافق بين أطراف لديها اختلافات مرجعية جوهرية؛ وذلك من خلال إخضاع التعدد الثقافي لمعايير الإدارة التشاورية للدولة عن طريق الحوار، مع البحث الدائم عن التوافقات والتوازنات كلما أختل ميزان القوى بين الثقافات. والمطالبة بمراجعة التراث والتقاليد لنفسها من أجل الانفتاح على الغير، وممارسة النقد الذاتي، وذلك يجعل ثقافة الأغلبية خاضعة للثقافة السياسية حينما تتفاعل لا إكراهياً مع ثقافات الأقليات، فيتحقق التعايش بين الثقافات من خلال الاعتراف المتبادل لكل المواطنين في ثقافة سياسية وحيدة هي الثقافة التشاورية الديمقراطية. ضرورة الوصول دائماً إلى حلول وسطى بين مختلف الثقافات، حلول مبنية على أسس عقلانية ملبية لمصالح الجميع عن طريق النقاش والحوار والمحاججة‏.

أما الواقع، فهو على العكس من ذلك تماماً، فالواقع العربي يعاني من أزمات عديدة على رأسها الديمقراطية والحرية. فقد سادت الأنظمة غير الديمقراطية في الدولة القطرية لما بعد الاستقلال في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وباءت كل محاولات التحديث السياسي بالفشل، فهيمن رأي الزعيم السياسي على الجميع، وانتهكت حرية التعبير وغابت إرادة الشعوب، مع استعمال الآليات الديمقراطية بشكل سطحي وبراغماتي يضمن استمرار الدكتاتورية والنظام القائم.

وتتصف بنية هذه الأزمة بثلاثة أبعاد مترابطة ومتداخلة منها التراكمات التاريخية الموروثة التي تنزع إلى السلطوية الشاملة والتصورات المطلقة، والبعد الإيديولوجي الذي يتخذ من قضية التراث محوراً رئيساً لتفاعلاته، والبعد المؤسسي الذي يلخص التناقضات التنظيمية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً في المجتمعات العربية.

كما عمدت الدولة في ظل هذا المناخ العربي غير الديمقراطي، إلى التضييق على كل محاولات الحوار بين المعارضين، باعتبار أن مصلحتها تكمن في الصراع بينها وليس التوافق والتفاهم. لذلك، فهي لم تتردد في الضغط على المعارضين الإسلاميين وعلى العلمانيين على حد سواء. وما يوضح ذلك أن أغلب الندوات واللقاءات التي تمت بين هذه الأطراف كانت إما سرية وإما برعاية أجنبية. في المقابل، عمد الزعماء إلى إذكاء الصراعات والتطاحنات بين هذه التيارات، وفق مفهوم العصبية الخلدوني.

من خلال ما تقدم، نجد أن المجال السياسي العربي مليء بالعقيدة والإيديولوجيات، التي تجعل الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين عقيماً، فكل متحاور يدخل النقاش بأحكام قيمية مرتبطة بانتماءاته الإيديولوجية، مع رفض التخلي عنها في الحوار، وهو شرط سبق أن وضعه هابرماس لإنجاح العملية التواصلية في المجال العام. وإذا كانت أزمة التواصل السياسي هنا مرتبطة بالمجال الذي يجري فيه الحوار والذي يتسم بغياب الديمقراطية وحرية التعبير، وهيمنة الإيديولوجيات، فإن الأزمة هي أيضاً أزمة ذاتية مرتبطة بالمتحاورين الذين تغلب عليهم الدوغمائية والانغلاق ورفض التسامح وهيمنة الازدراء. والدليل على ذلك، أننا في المجتمعات العربية أمام جدل فكري لا يحترم الآخر، ويستعمل كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل النيل منه، وهو ما أثر في الخطاب الإيديولوجي والسياسي بين الأطراف المتصارعة من مختلف الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية، التي برز فيها هذا الجدل بشكل قوي، ليتحول في العديد من الحالات من عنف لغوي إلى عنف مادي مباشر. وما تشهده الساحات الجامعية في الوطن العربي من عنف بين التيار السياسية هو دليل على ذلك. إنه عصر المواجهة وليس عصر الحوار والتواصل، كما أن الدولة كانت – ومازالت - منقطعة عن المجتمع. لذلك، فإن الصراع بين العصبيات المختلفة هو صراع قبلي، وليس صراعاً جدلياً يؤدي إلى التغير والتقدم بالاعتماد على الجدل والمناقشة. بالإضافة إلى ذلك، نجد أن العصبية الحاكمة استأثرت بالسلطة، وعَدَّت الدولة غنيمة لها ولأتباعها، ولذلك غابت آفاق التطور الاجتماعي؛ لأن هذه العصبيات القبلية لا تتصارع حول مصلحة عامة، بل تستبد بمصالح الجميع. ولما كانت العصبية السياسية نظاماً، فقد فرخت عصبيات أخرى ثقافية وعلمية ومذهبية.

إن غياب الجدل واستمرار الجمود الاجتماعي، بكل أشكاله الثقافية، والسياسية والمجتمعية، وعدم تجاوز المجتمع العربي للتشكيلات المجتمعية التقليدية والثقافية، من عشيرة وقبيلة وطائفة، هي القضايا المحورية التي يدور حولها الفكر الخلدوني، وهي التي جعلت التغير يتمثل في إعادة إنتاج الماضي. والغريب في الأمر هو استمرار هذه التشكيلات الاجتماعية حتى يومنا هذا من خلال الجدل السلبي، بمفهوم تيودور أدورنو، الجدل الذي لا يجدد ولا يغير المجتمع، بل يدمره، جدل في السكون هو ما عبر عنه ابن خلدون.

إن هذا النقد للبنى الفكرية والثقافية والمعرفية جاء إبّان الأحداث الكبرى للسياق الاجتماعي وتفاعلاته، ليبين أن المجتمع العربي على وجه العموم يعاني من إشكاليات بنيوية، بسبب حالة الانغلاق الفكري والمجتمعي، وغياب التجديد البنائي والثقافي والعقلي. لم يشهد هذا المجتمع حركة ثقافية، فيها من القوة، ما يغير مخزونه الثقافي، لذلك ظلت الثقافة التقليدية هي التي تشكل المخزون المعرفي. هذا الركود الثقافي جعل المجتمع لا يتفاعل مع الأزمات والأحداث الكبرى، ويفقد حسه التاريخي؛ لأن التاريخ ليس هو الماضي، بل القدرة على صناعة التاريخ، والقدرة على صناعة التاريخ لا تأتي بالهروب إلى الماضي، بل بمواجهة الحاضر وتحدياته. لذلك افتقرت مجتمعاتنا دائماً إلى الفعل التاريخي وصناعة الحدث، واكتفى بردة الفعل.

كما ذهب وعينا بالحاضر ضحية التقاطع بين الاستبداد الناعم الثقافي، والاستبداد القمعي السياسي. وكيف لا يكون هذا، فالاستبداد ظاهرة ثقافية؛ بمعنى أن الاستبداد صناعة الثقافة الأبوية. كيف يكون الإنسان ديموقراطياً، ما دام لا يتلقى في الأسرة إلا الأوامر والعنف. هذا الاستبداد يجعل الفرد يفقد الحس التاريخي. ولهذا تتميز فترات الانحطاط بفقدان الحدس والحس التاريخيين والاستسلام للدوافع، وردود الأفعال المحضة المباشرة المستحدثة من الخارج أو الداخل، المادية منها والمعنوية. كيف يمكن لنا تطبيق نظرية هابرماس التواصلية؟ ونحن لم ندرك ونعي بعد ممارسة الديمقراطية بشكلها الأولي حتى نتمكن من بناء جسور التعايش فيما بيننا ونعترف بحق الآخر المختلف.

نستنتج من خلال ما تقدم، أننا بحاجة إلى تغيير عظيم يفترض ويتضمن قطيعة تاريخية، أي تصور جديد للتاريخ، يقود إليه، وكل نقد عميق وجذري يتحول بالضرورة إلى إعادة صياغة مفهوم التاريخ فهماً للحاضر واستشراقاً للمستقبل، كما أننا بحاجة أيضاً إلى ترسيخ مفهوم "التعددية" وقبول الآخر والتعايش معه في بنية الوعي العربي، سواء أكانت "تعددية" عرقية بأشكالها المختلفة من اللون أو الأصل أو الجنس والعرق ... إلخ، أو تعددية ثقافية، أو تعددية قبلية وعشائرية، والتي تؤدي فيها اختلاف العادات والتقاليد والخصائص المحلية للشعوب دوراً أساسياً، كما أن هناك اختلافاً في الأديان، أو المذاهب في الدين الواحد. فالتعددية هي أصل في المجتمع الإنساني ومنها المجتمع العربي، حيث يقول سبحانه وتعالى ] وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [ (المائدة: 2). والسؤال المحوري هنا، هو كيف نجعل من التعددية في المجتمع العربي "تنوع"، وجعل العلاقة بين فئات وطوائف وأعراق المجتمع المختلفة علاقة "تعارف" و"تعاون" ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى[(الحجرات: 13)، بدلاً من علاقة "هيمنة" أو "اضطهاد" ومن ثم تطورها إلى علاقات "نزاع وصراع"؛ وبمعنى آخر نجعل الاندماج لطوائف وأعراق المجتمع المختلفة اندماجاً حضارياً وليس قسرياً. ومن هنا، فإن مفهوم "الضابط الحضاري" هو السلوك الإيجابي تجاه التعددية، وبمعنى آخر هو السلوك الحضاري عند الاختلاف مع "الآخر"، سواء من حيث الاستعداد لـ "الاعتراف" أو "قبول" وجود الآخر أو قبول التعايش مع "الاختلاف" الفكري أو السياسي أو العرقي أو الديني مع الآخر. وفي نفس الوقت، الوصول إلى حل الصراعات مع "الآخر" في المجتمع من خلال الوسائل السلمية بدلاً من وسائل العنف والقوة المادية أو المسلحة. وفي الواقع، فإن غياب هذا "الضابط الحضاري" في علاقات طوائف المجتمع العرقية أو الدينية تجاه بعضها البعض في الدولة القطرية العربية، أو في علاقة الأقليات مع السلطة السياسية في الكيانات القطرية العربية، أدى إلى العديد من الصراعات المسلحة في عدد من الدول العربية.

خلاصة عامة، يعد هابرماس علامة فارقة في الحياة الفلسفية الألمانية المعاصرة؛ لأنه رائد الخطاب النقدي، والفلسفي، والسياسي على حد سواء، كما أنه الصوت الأكثر حضوراً وتأثيراً على الحياة الثقافية الألمانية منذ أكثر من 50 عاماً ساعياً إلى تطوير نظرية نقدية تتماشى مع التغييرات التي انتابت الواقع الاجتماعي في المجالات "الاجتماعية، والاقتصادية، والإيديولوجية"، التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة.

كما يعد هابرماس الوريث الرئيس والمعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت، وهو إلى حد ما يتميز بنزعة تفاؤلية مقارنة بأسلافه، مع أنه يشاركهم الاهتمام الشديد بحرية الإنسان، لكنه طور نظاماً آخر- للملفات- ورتبه ترتيباً ثلاثياً، من أشكال المعرفة إلى مراحل التطور الاجتماعي. فانتماء هابرماس لليسار لم يمنعه من انتقاد الماركسية نقداً جذرياً، مزاوجاً بين البنية والفعل في نظرة كلية واحدة، فضلاً عن التقاليد الفكرية التي ينتمي إليها. ومن الملفت للنظر استمرارية دفاعه عن مشروع الحداثة القائم على فكرتي: العقل والأخلاق، (بنظره) مؤمناً بعدم فشله، باعتباره مشروعاً لم ينجز بعد. يبني هابرماس نظريته النقدية على المصالح المشتركة لأعضاء المجتمع الإنساني التي لا تقود للهيمنة، ويراها تتمثل بالسيطرة على العمليات الطبيعية واستغلالها للمصلحة البشرية العامة. أما عن آرائه حول آلية تغيير الواقع وتجاوزه، فإنها تكمن في رفضه تماماً للعنف والثورة والميل إلى الاتجاه الإنساني المسالم الذي يعتمد على النقد العقلي الخالص فاضحاً وناقداً للنظام وموضحاً للحقائق.

 

المراجع المعتمدة:

- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل (نيسان)، 1999

- جيمس جوردن فينليسون: يورجن هابرماس- مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: أحمد محمد الروبي، مراجعة: ضياء وراد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2015

- عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، 2002

- نور الدين علوش: المدرسة الألمانية النقدية- نماذج مختارة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013

- حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر – دراسة تحليلية نقدية في النظرية الاجتماعية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020

- حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثالث، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022

- هشام عمر النور: تجاوز الماركسية إلى النظرية النقدية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2012

- محمد المساوي: السياسة بين التواصل والعنف في المجال السياسي العربي – محاولة للفهم في ضوء نظرية العقل التواصلي لهبرماس، الفصل الثاني من كتاب: العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة- مقاربات سوسيولوجية وحالات، مجموعة مؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الجزء: الأول، بيروت، ط1، 2017

- شريقي أنيسة: أخلاقيات الحوار في الفلسفة الغربية يورغن هابرماس أنموذجاً، رسالة دكتوراه غير منشورة، إشراف: عبد الله موسى، شعبة الفلسفة، قسم العلوم الاجتماعية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الطاهر مولاي سعيدة، الجزائر، 2016- 2017

- أحمد الناصوري: النظام السياسي وجدلية الشرعية والمشروعية، مجلة جامعة دمشق، المجلد: 24، العدد: الثاني، دمشق، 2008

- أبو بكر أحمد باقادر وعبد الله عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006.

- برهان غليون: الوعي الذاتي، المؤسسة للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1992

- دانيلو مارتوشيلي: يورغن هابرماس العقلنة والديموقراطية، ترجمة: إبراهيم بومسهولي، مجلة فكر ونقد، العدد: 41، 12 (سبتمبر) 2001. https: //www.aljabriabed.net/n41_10busamhuli.htm

- Habermas: The Theory of Communicative Action (Reason and The Rationalization of society), Translated by: Thomas Mc McCarthy, Beacon Press, Boston, vol: 1, 1984

([1]) العقلانية التواصلية: هي عقلانية تنظم عملية التفاعل بين أفراد المجتمع وتصوغ فهم الجماعة لذاتها، ويظهر هذا النوع من العقلانية في مجال الأخلاقي والسياسي الذي ينظم الشرائع والمعايير الجاري بها العمل. وفي هذا الجانب نجد أن هابرماس قد تطرق إلى مفهوم العالم المعيش الذي يشكل عملية التفاهم بين الذوات الذي اهتم به هابرماس، حيث خصص له الجزء الثاني من كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، بناءً على أن نظريته في المجتمع لا يمكن أن تقتصر على نظرية الفعل التواصلي دون أن تستمد شرعيتها من العالم المعيش، فيؤكد هابرماس أن هذا العالم عرضة للتغير من خلال تحويل بنية المجتمع ككل. وهكذا يظهر هابرماس كيفية تحول مجلات البحث من العقلانية الأداتية إلى العقلانية التواصلية، فهذه العقلانية التواصلية تظهر من خلال العلاقة التي يقيمها الناس القادرين على الكلام وعلى الفاعلية عندما يتفقون على شيء معين. وبهذا حاول هابرماس جاهداً الانتقال من العقل الأداتي الظاهر بوضوح في المركزية الغربية إلى عقل آخر وهو العقل التواصلي.

([2]) سعى هابرماس من خلال إظهاره لهذه النماذج إبراز الدور التواصلي والتفاعلي للمجتمع داخل العالم المعيش، الذي يهدف من خلاله إلى بناء فضاء عمومي حر وديمقراطي تحكمه أخلاقيات النقاش والحوار المستند على اللغة، إذ ميز هابرماس بين عالميين: العالم المعيش وعالم الأنساق، الأول الذي يخص العالم المعيش الذي تقوم بنياته على اللغة والتواصل، والثاني يخص عالم الأنساق الذي يخضع بالأساس للعقلنة الحسابية التي تتميز بالوظيفة والأداتية. بمعنى أوسع حول مفهوم العالم المعيش: يرى هابرماس أن أي دراسة عن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستغني عن التفكير في اللغة، باعتبارها عنصراً أصلياً مكوناً للشخصية الإنسانية، ولإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية. يستعمل هابرماس مفهوم العالم المعيش لكي يصف عالم الدلالات الأولية التي يبحر فيها الفرد. والحال أن العالم المعيش، في صيغة هوسرل، هو أفق الأشياء، العالم الحاضر دوماً للأشياء التي تعطى في التجربة المباشرة للحياة. أفق حاضر مع بنيته الخاصة به، ومع انسجامه ووحدته الحقيقية، على أسس بعض أشكال السببية المكانية والزمانية الما- قبل علمية. العالم المعيش، الواقعي والما- قبل نظري، يسمح بوجود وقائع أخرى (عالم العلم، عالم الفن) ولكنها وقائع تحيل دائماً، في نهاية المطاف، إلى الواقع الأولي للحياة اليومية. لئن كانت العوالم كلها ذات شكل منسجم، على المستوى الرمزي، فإن الانسجام النهائي لجميع هذه العوالم يحيل، ويستند على الانسجام والدلالات الداخلية للعالم المعيش. تجد هذه الدرجة الأولى في إدراك العالم مكملاً لها في المقصدية، ما دام يتم الافتراض بأن للذات نية في الذهاب إلى الكائنات والأشياء. خاصية المقصدية هي وصف العالم المعيش باعتباره متداخل الذوات وخاضعا لآفاق مختلفة. تبقى تصورات وتفاعلات الفاعلين متجذرة في عالم معيش، ما قبل نظري وأنطولوجي، وهو الأساس اليومي للواقع الذي نرتبط به، قبل أية نظرية أو حتى أي تفكير.

أخيراً، العالم المَعيش هو الوسط الذي يحدث فيه الاستنساخ الرمزي والثقافي للمجتمع، وهو الوسيلة التي يتم من خلالها توريث التقاليد، مع أنها تمر عبر العدسات الناقدة للتواصل والخطاب. في الظروف الطبيعية؛ أي في ظل غياب الاضطرابات الاجتماعية الهائلة، يعمل العالم المَعيش عمل الوسط في نقل كل أشكال المعرفة وتطويرها، المعرفة الفنية والعملية والعلمية والأخلاقية.

([3]) ادعاءات الصلاحية: يرى هابرماس أن هناك ثلاث وظائف للتداوليات الكلية، تتمثل الأولى في وصف شيء ما بواسطة جملة معينة، والثانية في التعبير عن قصد المتكلم، والثالثة في إقامة تذاوتية بين المتكلم والمستمع. وهذه الوظائف الثلاثة تكون متضمنة في كل الوظائف التي يمكن لتلفظ ما القيام به حسب السياقات المختلفة. وهذه الوظائف تقاس بالشروط الكلية للصلاحية المتمثلة: الصدق، المصداقية، الحقيقة وهي كالآتي: المصداقية، يجب على المتكلم ألا يكون مقلاً في حديثه فلا يفهم، ولا ثرثاراً، بل محكم التعبير عن نواياه ومقاصده. الصدق، أن تكون عبارات المتكلم صادقة وغير مزيفة. الحقيقة، أي يجب على المتكلم أن يكون استخدم العبارات والكلمات متطابقاً ولا يخرج عن السياق المتعارف عليه في لغة المجتمع الذي ينتمي إليه المتكلم؛ بمعنى آخر يتعلق هذا الافتراض بمضمون القول الذي يضمن وظيفياً وصف حالة واقعة موجودة وغير مستوحاة من الخيال، أو بالقدر الذي يتضمن فيه وقائعها ومن ذلك حقيقة الأقوال التقريرية. ولعل عبارة فيتجنشتاين الشهيرة: "العالم مجموع الوقائع، لا الأشياء" تؤكد هذا المنحى الجديد.

([4]) العقل الأداتي Instrumental Reason: يقصد بالعقل الأداتي نوعاً من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث وهو ما وصفه هربرت ماركيوز بالتفكير ذو البعد الواحد، ويتضح ذلك في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراجماتية.

يتضمن مصطلح (الأداتية) مضمونين: فهو أسلوب لرؤية العالم، وأسلوب لرؤية المعرفة النظرية. بحيث إن رؤية العالم بوصفه أداة تعني اعتبار عناصره أدوات نستطيع بواسطتها تحقيق غاياتنا، والمثال على ذلك، أنا لا انظر إلى الشجرة لما يجلب جمالها لي من رضى، بل أراها خشباً يمكن أن يحول إلى ورق يطبع عليه كتابي الذي أقوم بتأليفه.... وبإمكاننا أيضاً النظر إلى المعرفة باعتبارها أداة ووسيلة لتحقيق غاية. وربما تكون هذه الفكرة أصعب كثيراً لأنها تتخلل ثقافتنا لدرجة أن أي وجهة نظر أخرى لا ترى في المعرفة أداة يصعب تصورها.

* مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King)‏ 1968- 1968، كان زعيماً أمريكياً من أصول إفريقية، مناضلاً سياسياً إنسانياً، من المطالبين بإنهاء التمييز العنصري ضد السّود في عام 1964 حصل على جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر من يحوز عليها. اعتبر مارتن لوثر كينغ من أهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان. أسس لوثر زعامة المسيحية الجنوبية، وهي حركة هدفت إلى الحصول على الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في المساواة، وراح ضحية قضيته. رفض كينغ العنف بكل أنواعه، وكان بنفسه خير مثال لرفاقه وللكثيرين ممن تورطوا في صراع السود من خلال صبره ولطفه وحكمته وتحفظه حتى أنه لم يؤيده قادة السود الحربيون، وبدأوا يتحدونه عام 1965. الوفاة، أصيب مارتن لوثر كينغ يوم 4 إبريل (نيسان) 1968 برصاصة من أحد البيض المتعصبين، وهو يستعد لقيادة مظاهرة لإضراب جامعي النفايات في مائة مدينة أميركية. التكريم، حظي كينغ بكثير من التكريم لنضاله، حيث حصل في حزيران (يونيو) 1957 على ميدالية سينغارن التي تعطى سنوياً لمن يقدم مساهمات فعالة في مواجهة العلاقات العنصرية، ومنحته مجلة تايم عام 1963 لقب رجل العام وكان أول زنجي يمنح هذا اللقب. وبعد وفاته منح جائزة الرئاسة للحرية في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر، ومنحه الكونغرس ميداليته الذهبية عام 2004، كما أعلنت أميركا عن يوم مارتن لوثر كينغ عيداً سنوياً، وهو يوم الأثنين الثالث من كانون الثاني (يناير) من كل سنة.